المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٥

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٩

الفصل الثالث

في

أن المكان هل يعقل أن يكون

في أن المكان هل يعقل أن يكون بعدا قائما بنفسه أم لا؟

احتج (١) «أرسطاطاليس» وأتباعه على فساد هذا المذهب بوجوه ونحن نذكرها ، ونبحث فيها على سبيل الإنصاف :

فالحجة الأولى : أنهم قالوا : إن كان المكان بعدا ، لزم من حصول المتمكن في المكان، تداخل البعدين ، ولكن تداخل البعدين محال ، فالقول بأن المكان هو البعد يجب أن يكون محالا. أما بيان الشرطية : فهو أن المتمكن إذا حصل في المكان ، ففي هذه الحالة إما أن يبقى البعدان معا ، أو يعدما معا ، أو يبقى أحدهما ، ويعدم الآخر.

أما القسم الثاني : وهو أنهما يعدمان معا ، فهذا باطل. وإلا لزم أن يكون المتمكن المعدوم حاصلا في المكان المعدوم (٢) وأنه محال.

وأما القسم الثالث : فهو أيضا باطل ، وإلا لزم أن يكون المتمكن المعدوم ، حاصلا في مكان موجود أو بالعكس. وذلك أيضا باطل [ولم بطل (٣)] هذان القسمان ، بقي القسم الأول وهو أن يكون كل واحد منهما

__________________

(١) هل يعقل أن يكون أبعادا مستقلة بأنفسها ... الخ (م ، ت).

(٢) مكان معدوم (م).

(٣) سقط (م).

١٢١

موجودا. ثم نقول : إما أن يقال : إنهما في هذه الحالة صارا متحدين ، أو ليس الأمر كذلك. والأول باطل ، لأنهما حال الاتحاد ، إن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد. وإن عدما وحدث شيء ثالث ، فلم يكن هذا اتحادا ، بل عدما للأولين ، وحدوثا للثالث. وإن بقي أحدهما وعدم الثاني ، فالاتحاد هاهنا أيضا محال. لأن المعدوم والموجود لا يكونان شيئا واحدا. ولما بطل القول بالاتحاد ، ثبت أن كل واحد من ذينك البعدين ، أعني بعد المتمكن وبعد المكان ، يكون باقيا حال ذلك النفود. فصح ما ذكرنا : أنه لو كان المكان بعدا ، لزم من حصول المتمكن في المكان تداخل البعدين.

وأما بيان المقام الثاني وهو أن القول بتداخل البعدين محال. فقد احتجوا عليه بوجوه خمسة :

الوجه الأول : قالوا : إذا كان البعدان موجودين فهما أزيد من البعد الواحد ، وكل ما هو أزيد من الواحد ، فهو أعظم ، فذلك المجموع أعظم من الواحد ، فيلزم أن يكون مجموع البعدين [المتداخلين أعظم من الواحد ، لكن ليس الأمر كذلك ، لأن مجموع هذين البعدين (١)] ليس إلا الذي بين النهايات ، وذلك هو بعينه قدر كل واحد منهما ، فليس المجموع أعظم من الواحد. هذا خلف.

ولقائل أن يقول : هل تزعمون أن القول بتداخل البعدين معلوم الامتناع بالبديهة ، أو تزعمون أنه لا يعلم امتناع ذلك إلا بالدليل؟ فإن كان الحق هو الأول ، فاتركوا ذكر هذه الدلائل ، واقتصروا على ادعاء البديهة ويرجع حاصل هذا الكلام إلى ادعاء أن مذهب القائلين بأن المكان هو البعد ، مذهب معلوم البطلان ببديهة العقل ، ومعلوم أن ذلك باطل. لأن المعلومات البديهية لا يجوز وقوع الاختلاف فيها بين العقلاء. وأيضا : فالقائلون بالبعد ، يقولون : مذهبنا معلوم الصحة ببديهة العقل ، وذلك لأنا نعلم بالضرورة أن بين طرفي الطاس

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

١٢٢

فضاء ممتدا ، وأن الماء حيث حصل في داخل الطاس ، فإنما حصل واستقر في ذلك الفضاء. قالوا : ومن نازع في ذلك ، فقد نازع في أجلى العلوم الضرورية. إذا عرفت هذا فنقول : فحينئذ دعواكم في حصول العلم الضروري بفساد (١) هذا المذهب يصير معارضا لدعواكم في حصول العلم الضروري بصحة (٢) هذا المذهب ، وإذا تعارضا تساقطا ، فحينئذ يجب ترك دعوى الضروري ، ويجب الرجوع فيه إلى الاستدلال. وإن كان الحق هو الثاني ، وهو أن القول بتداخل البعدين لا يعلم امتناعه إلا بالدليل. فنقول : فعلى هذا التقدير تصير الحجة التي ذكرتموها ساقطة ضعيفة. وذلك لأن قولكم : البعدان المتداخلان ، لا بد وأن يكونا أزيد من البعد الواحد. إن عنيتم به : أنه لا بد وأن يكونا أزيد من الواحد في العدد. فهذا مسلم. وكيف لا نقول ذلك ، وعندنا : أن البعدين المتداخلين بعدان؟ ومن المعلوم بالضرورة : أن البعدين أزيد من البعد الواحد في العدد. وإن عنيتم به : أنه لا بد وأن يكون المجموع أزيد من الواحد في المقدار. فهذا غير مسلم ، لأن الزيادة في المقدار إنما تحصل عند عدم المداخلة بالكلية ، لأن المعقول من التداخل هو أن تصير ذات كل واحدة منهما سارية في ذات الأخرى [سريانا (٣)] بالتمام ، بحيث [تكون (٤)] الإشارة إلى كل واحدة منهما عين الإشارة إلى الأخرى. وحصول هذا المعنى يمنع من حصول الزيادة في المقدار. فيثبت أن قولهم: البعدان المتداخلان لا بد وأن يكونا أزيد من البعد الواحد في المقدار ، مما لا يمكن إثباته ، إلا بعد بيان أن تداخل البعدين ممتنع. فلو بينا امتناع تداخل البعدين ، بقولهم : المتداخلان لا بد وأن يكونا أزيد من البعد الواحد في المقدار ، لزم الدور. وأنه باطل قطعا (٥).

السؤال الثاني : وهو أن مثل هذا الإشكال لازم على أصحاب

__________________

(١) بصحة (م).

(٢) بفساد (م).

(٣) سقط (ط).

(٤) من (س).

(٥) ساقط (م).

١٢٣

أرسطاطاليس ، فإنهم قالوا : «المتماسان [هما اللذان (١)] طرفاهما معا في الوضع» أي في الإشارة الحسية.

قال الشيخ في الشفاء : «المتماسان هما اللذان تقع الإشارة الحسية على طرفيهما معا» فأقول : لنفرض سطحا ماسّ سطحا ، فههنا يلزم أن يكونا طرفاهما (٢) معا ، يعني : الخطان اللذان هما نهايتهما يكونان معا في الوضع. فنقول : هذان الخطان إما أن يكونا باقيين حال حصول هذه المماسة أو لا يكونان باقيين. فإن لم يبقيا بل حدث خط واحد يكون هو بعينه مشتركا فيه بين ذينك السطحين. فهذا يكون اتصالا لا مماسة. وقد فرضنا أن الحاصل هو المماسة لا الاتصال. وأيضا فقول الشيخ : «المتماسان هما اللذان طرفاهما معا في الوضع» يقتضي أن يكون طرفاهما باقيين [حال التماس (٣)] وذلك يمنع من القول بأنهما عدما وحصل طرف واحد مشترك فيه بين السطحين.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الطرفان باقيان. فإما أن يقال : نفد أحدهما بالكلية في الآخر أو لم ينفد. فإن لم ينفد أحدهما في الآخر كان أحدهما مباينا عن الآخر. فيلزم أن لا تكون (٤) الإشارة إلى أحدهما ، عين الإشارة إلى الآخر ، مع أنّا قد فرضناهما متماسين. هذا خلف. وأما إن قلنا : إن أحد هذين الخطين قد نفد بكليته في كلية الخط الآخر. فإما أن يكون مقدار هذا المجموع أزيد من مقدار الواحد أو لا يكون. فإن كان الأول فحينئذ لا تكون كلية أحد هذين الخطين نافدة في كلية الخط الآخر ، وقد فرضنا الأمر كذلك. وهذا خلف.

وإن كان الثاني فقد حصل هاهنا مقداران ونفد أحدهما في كلية الآخر. مع أنه لم يصر مقدار المجموع أزيد من مقدار الواحد ، وإذا عقلنا ذلك في هذه الصورة ، فلم لا يجوز مثله في بعد المتمكن وبعد المكان؟ وهذا سؤال قوي على

__________________

(١) سقط (س).

(٢) طرفاهما ، وهما الخطان (م).

(٣) من (ط ، س).

(٤) فلا تكون (م).

١٢٤

قانون قولهم. ولهم عنه عذر سيأتي ذكره بعد ذلك مع الجواب. إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني من الوجوه التي استدلوا بها على أنه يمتنع تداخل البعدين : قالوا : المشاهدة دلت على أن هذه الأجسام المحسوسة متمانعة من التداخل ، فهذا الامتناع إما أن يكون لأجل المادة أو لأجل البعد ، أو لأجل المركب. والقسم الأول وهو أن يكون هذا الامتناع بسبب المادة. هو باطل لوجهين :

الأول : إن معنى قولنا : الجسمان يمتنعان من التداخل ، هو أنه يجب أن يكون كل واحد منهما متفردا (١) بحيز آخر. وهذا المعنى إنما يعقل فيما يكون لذاته المخصوصة يقتضي الاختصاص بحيز معين وجهة معينة. والمادة من حيث هي هي ليس لها امتداد ولا وضع ولا حيز ، وإلا لكانت مادة الجسم [نفس الجسم (٢)] وهو محال. وإذا لم يكن للمادة حيز البتة ، امتنع كونها علة. لوجوب أن يكون حيزها [غير حيزها (٣)] وإذا ثبت هذا ، ظهر أن علة امتناع التداخل ليست هي المادة ، وظهر بهذا أن علة امتناع التداخل ليست إلا الحجمية والمقدار. فإنها هي التي يكون لها اختصاص بالوضع والحيز.

الوجه الثاني : إنا إذا أخذنا جسما يكون هو في نفسه متصلا واحدا مثل الماء الواحد فهو لا محالة ذو مادة بالفعل ، فإذا انفصل ذلك الجسم فإنه يحصل لكل واحد من ذينك القسمين مادة على حدة ، ثم إذا اتصلا مرة أخرى فإنه لا بد وأن تصير المادتان واحدة. إذ لو بقيت مادة كل واحد منهما ممتازة عن مادة القسم الآخر ، لكانت الصورة الحالة في إحدى المادتين ، مغايرة بالفعل للصورة الحالة في المادة الأخرى. وعلى هذا التقدير يكون كل واحد من القسمين ممتازا عن الآخر امتيازا بالفعل. وذلك يمتنع من القول بأنهما بعد الاتصال صارا شيئا واحدا. مع أنا قد فرضنا أن الأمر [صار (٤)] كذلك. وإذا ثبت هذا ،

__________________

(١) مفردا لحيز (م).

(٢) سقط (ط).

(٣) من (س ، ط).

(٤) سقط (ط) ، (س).

١٢٥

فنقول : إن قولنا : إن ذينك الجسمين صارا جسما واحدا ، إنما يصح القول به إذا اعتقدنا أن مادة كل جسم (١) صارت ملاقية بالأثير (٢) لمادة الجسم الآخر ، وزال التباين بينهما. وذلك يدل على أن المادة ليست علة لامتناع التلاقي بالأثير. وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : المقتضي لامتناع التداخل هو البعد مع المادة. فهذا أيضا باطل. لأنا بينا أنه لا [يجوز أن (٣)] يكون للمادة أثر في هذا الباب.

ولما بطل هذا ثبت أن المقتضى لهذا الامتناع ليس إلا طبيعة البعد. وذلك يوجب القول بأن الأبعاد متمانعة من التداخل لمجرد أنها أبعاد. وذلك هو المطلوب.

ولقائل أن يقول : هذه الحجة أيضا ضعيفة من وجهين :

الأول : إنكم إنما علمتم امتناع التداخل في هذه الأجسام الكثيفة. فنقول : الأجسام بأسرها متساوية في طبيعة البعد والامتداد ، ومتباينة في الرقة والكثافة. وما به المشاركة غير ما به المباينة. فكثافتها أمر زائد على طبيعة البعد والمقدار. إذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : المانع من المداخلة ومن النقود ومن التلاقي بالأثير ، هو كونها كثيفة. وإذا كان كذلك، فالبعد المسمى بالفضاء المحض ليس فيه شيء من الكثافة أصلا ، فلا جرم لم يكن النفوذ فيه ممتنعا؟

وحاصل الكلام : بأن التقسيم الذي ذكرتم. وهو أن المانع من المداخلة. إما المادة أو البعد أو مجموعها : تقسيم منتشر غير منحصر في النفي والإثبات. فلم يلزم من بطلان بعضها أن يكون الباقي صحيحا ، بل لعل الصحيح قسم ثالث غير ما ذكروه وهو الكثافة التي ذكرناها؟ ثم نقول : الذي يدل على أن تعليل هذا الامتناع بالكثافة غير مستبعد. هو أنا نشاهد أن الجسم

__________________

(١) جسم (م).

(٢) بالأسر (م) ويمكن نطقها الأثير في (س).

(٣) سقط (ط).

١٢٦

كلما كان أكثف ، كان أقوى وأكمل في ممانعة النافد ، فيغلب على الظن أن المانع من النفود هو الكثافة. فالفضاء المجرد لما يحصل فيه شيء من الكثافة أصلا. وجب أن لا يمنع من المداخلة والنفود البتة.

والثاني : إنا بينا أن السطحين إذا تماسا ، فطرف كل واحد منهما صار بكليته نافدا في طرف الآخر. ولو كانت طبيعة البعد مانعة من النفود والتداخل لما كان الأمر كذلك. [والله أعلم (١)].

الوجه الثالث من الوجوه التي استدلوا بها على امتناع تداخل الأبعاد أن قالوا : إذا نفد [بعد (٢)] المتمكن في [بعد (٣)] الفضاء. فهذان البعدان ماهيتان متساويتان في تمام الماهية. لأنه لا ماهية للبعد والامتداد سوى أنه كذلك. وهذا القدر أمر مشترك فيه بين جميع الأبعاد [والامتدادت (٤)] إذا ثبت هذا فنقول : إنهما حال التداخل إما أن يبقى كل واحد منهما ممتازا عن الآخر (٥) بهويته المعينة. أو لا يبقى هذا الامتياز. والقسمان باطلان. فالقول بتداخل الأبعاد باطل. إنما قلنا : إنه يمتنع بقاء كل واحد منهما [ممتازا (٦)] عن الآخر [بهويته المعينة وشخصيته المعينة (٧)] وذلك لأن ذلك الامتياز إما أن يحصل بنفس الماهية ، أو بلوازم الماهية أو بعوارض الماهية. والكل باطل. إنما قلنا : إنه يمتنع أن يحصل الامتياز بنفس الماهية. لأنا بينا : أن الماهية ماهية واحدة في جميع الصور. وما يحصل به التساوي لا يكون سببا لحصول الامتياز. وإنما قلنا : إنه يمتنع حصول الامتياز بلوازم الماهية [لأن لوازم الماهية (٨)] مشترك فيها بين جميع أفراد الماهية ، والأمر المشترك فيه بين جميع الأفراد يمتنع أن يكون سببا

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (س).

(٣) سقط (س).

(٤) سقط (ط).

(٥) عن الآخر بهويته المعينة ، أو لا يكون كذلك والقسمان ... الخ (م).

(٦) سقط (س).

(٧) سقط (س).

(٨) سقط (م).

١٢٧

لامتياز بعض الأفراد عن بعض. وإنما قلنا : إنه يمتنع حصول الامتياز بالعوارض ، وذلك لأن هذين البعدين لما نفدت كلية [أحدهما (١)] في كلية الآخر ، وكان كل واحد منهما مساويا [للآخر (٢)] في تمام الماهية [لماهية الآخر (٣)] فكل عارض يفرض كونه عارضا لأحدهما ، فإنه لا بد وأن [يكون (٤)] ممكن العروض للآخر ، لكونهما متساويين في تمام الماهية. وأيضا : فكل عارض يفرض كونه عارضا لأحدهما [فإن نسبته إلى أحدهما كنسبته إلى الآخر ، لكون كل واحد منهما مساويا للآخر في تمام الماهية ، ولكون كل واحد منهما مساويا بتمامه في تمام الآخر. وإذا كان كذلك فكل عارض يفترض كونه عارضا لأحدهما (٥)] فهو بعينه يكون عارضا للآخر. وإذا كان كذلك فحينئذ يكون ذلك العارض مشتركا بينهما ، وكل ما كان مشتركا بين شيئين ، فإنه يمتنع كونه سببا لامتياز أحدهما عن الآخر. فيثبت أنه لو امتاز بعد المتمكن عن بعد المكان ، لكان ذلك الامتياز إما بالماهية أو بلوازمها أو بعوارضها. وثبت أن الكل محال ، فبطل القول بحصول الامتياز بين هذين البعدين المتداخلين.

وأما القسم الثاني وهو أن يقال : المتمكن إذا حصل في المكان ، ونفد بعده في بعد المكان ، فإنه لا يبقى أحد البعدين ممتازا عن الثاني. فنقول : هذا أيضا باطل. لأن بتقدير أن لا يبقى الامتياز ، وجب أن لا يحصل التغاير ، لأن كل غيرين فلا بد وأن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر ، بكونه هو هو ، وذلك الامتياز في أمر ما ، وفي مفهوم ما ، وحينئذ يعود التقسيم المذكور في أن ذلك الأمر إما الماهية أو لوازمها أو عوارضها ، والكل قد أبطلناه. فيثبت : أنه لو ارتفع الامتياز لارتفع التغاير ، وحينئذ يلزم إما القول بعدم أحد ذينك البعدين ، أو القول بحصولهما مع القول باتحادهما ، وكل ذلك مما قد أبطلناه. فيثبت أن نفود بعد المتمكن في بعد المكان : قول باطل ، ومذهب فاسد. وهذا

__________________

(١) كل واحد مهما (س ، ط).

(٢) من (ط ، س).

(٣) سقط (س).

(٤) من (س).

(٥) سقط (س).

١٢٨

الوجه أحسن الوجوه التي يمكن ذكرها في هذا الباب.

ولقائل أن يقول : السؤال على هذا الدليل من وجوه (١) :

الأول : لا نسلم أن الأبعاد متساوية في تمام الماهية ، وما الدليل عليه؟ وتقريره (٢) : أن الفضاء الذي ندعي كونه مكانا للجسم ، أمر يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه ، والجسم (٣) أيضا أمر يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه ، فطبيعة الفضاء وطبائع الجسم يشتركان [في كون كل واحد منهما قابلا (٤)] لفرض الأبعاد الثلاثة فيه ، لكن قابلية فرض الأبعاد الثلاثة لازم من [لوازم هذه الماهية (٥)] وحكم من أحكامها ، والاشتراك في اللوازم والأحكام لا يدل على الاشتراك في ماهيات الملزومات. لما ثبت أن الأشياء المختلفة في تمام الماهية ، لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم. وإذا ثبت هذا فنقول : هب أن طبيعة الفضاء الذي ادعينا أنه هو المكان ، وطبيعة الجسم الذي ادعينا أنه هو المتمكن ، يتشاركان في كونهما قابلين لفرض الأبعاد الثلاثة ، لكن لا يلزم من هذا القدر استواؤهما بين الحقيقتين في تمام الماهية والحقيقة. وعلى هذا التقدير فإنه يبطل قولكم : إنه يمتنع أن يمتاز أحد البعدين عن الآخر بالماهية ، وإذا بطلت هذه المقدمة ، فقد بطل الدليل الذي عولتم عليه.

لا يقال : البعد امتداد (٦) لا ماهية له إلا مجرد كونه بعدا وامتدادا. وهذا القدر مفهوم واحد والأبعاد بأسرها متساوية في تمام الماهية. فلو كان بعضها مخالفا لبعض ، لكانت تلك المخالفة حاصلة في مفهوم آخر (٧) سوى كونه بعدا.

__________________

(١) وجهين (م).

(٢) وتقرير هذا الكلام (س).

(٣) والأجسام (م).

(٤) متشاركة في كونها قابلة لفرض الأبعاد ... الخ (م).

(٥) لوازمها (م).

(٦) والامتداد (م).

(٧) في مفهوم آخر ، وراء هذا المفهوم ، ثم ذلك المفهوم الآخر لما كان شيئا. مغايرا لطبيعة البعد والامتداد ولم ... الخ (م ، ت).

١٢٩

ولما كان ذلك المفهوم شيئا مغايرا لطبيعة البعد والامتداد ، لم يقدح ذلك في قولنا : إن الأبعاد من حيث إنها هي أبعاد متشاركة في تمام الماهية ، وحينئذ يتم الدليل الذي ذكرناه.

لأنا نقول : السواد والبياض يتشاركان في اللونية ، ويتباينان بخصوص كونه سوادا أو بياضا ، ثم إن هذا لا يوجب أن يصح على لونية السواد ، ما يصح على لونية البياض حتى يلزم صحة أن ينقلب السواد بياضا وبالعكس. فكذا هاهنا.

السؤال الثاني : سلمنا أن الأبعاد متساوية في تمام الماهية. لكن لم لا يجوز أن يقال : إن أعدادها تكون مختلفة في اللوازم؟ أما قوله : «الأشياء المتساوية في الماهية ، يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر» قلنا : هذه المقدمة منقوصة بصور كثيرة.

إحداها : إنه قد ثبت بالبرهان أن قول الموجود. على (١) لذاته ، وعلى الممكن لذاته بحسب مفهوم واحد. فإن الوجود من حيث إنه وجود لا تختلف حقيقته في الواجب [والممكن (٢)] وإذا ثبت هذا فنقول : وجود الله تعالى يكون مساويا [لوجود الممكن ، في مجرد كونه وجودا ، ثم لم يلزم من هذا أن يصح على وجود الله تعالى كل ما يصح على (٣) وجود الممكنات ، وذلك يوجب القدح في قولكم : كل ما صح على الشيء صح على مثله.

وثانيها : إن الجسمية على ما قررتموه طبيعة واحدة. ثم الأشياء التي يصح كونها مقارنة لجسمية العناصر ، لا يلزم صحة كونها مقارنة لجسمية الأفلاك. على أصول الفلاسفة. فكذا هاهنا.

وثالثها : إن النفوس الإنسانية متساوية في تمام الماهية ، ثم لم يلزم من هذا أن يقال : النفس المتعلقة بهذا البدن يصح عليها أن ينقطع [تعلقها (٤)]

__________________

(١) واجب الوجود لذاته (س).

(٢) سقط (س).

(٣) سقط (ت).

(٤) سقط (م).

١٣٠

عن هذا البدن ، وتصير متعلقة بالبدن الآخر ، وكذلك القول في النفس المتعلقة بتدبير البدن الآخر. فكذا هاهنا.

ورابعها : إن الرأس المتصل (١) بهذا البدن الإنساني. مساو للرأس المتصل بالبدن الإنساني الثاني في تمام الماهية. إنما المخالفة لو حصلت ، فإنما حصلت بسبب العوارض الخارجية ، ثم لم يلزم أن يصح على كل واحد من الرأسين ما يصح على الرأس الثاني ، حتى يقال : إنه يصح أن ينفصل كل رأس عن البدن المخصوص ، ويتصل بالبدن الثاني. فيثبت : أنه لا يلزم أن يصح على الشيء ما يصح على مثله.

وخامسها : إن طبيعة الجنس واحدة في الأنواع ، ثم إنه لم يلزم من كون الحيوانية التي في الإنسان قابلة للناطقية ، كون الحيوانية التي في الفرس قابلة للناطقية. لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : الحيوانية من حيث [هي حيوانية (٢)] قابلة لجميع الفصول ، إلا أن الفصل المعين وهو الناطق ، لما أوجب تلك الحيوانية [صارت تلك الحيوانية (٣)] من لوازم الناطق ، لا لأجل أن منشأ اللزوم ، جاء من جانب المعلول ، بل إنما جاء من جانب العلة ، فبهذا الطريق يعقل أن الأشياء المتماثلة في تمام الماهية مختلفة في اللوازم. لأنا نقول : إذا عقلتم هذا المعنى ، بالطريق الذي ذكرتم ، فلم لا يجوز مثله في مسألتنا هذه؟

وسادسها : إن الجسم له وجود ، فإذا حل فيه السواد والحلاوة والحركة ، فلكل واحد من الجسم ، وهذه الأعراض الثلاثة وجود على حدة. فإذا حلت هذه الأعراض في الجسم ، فقد حلت هذه الوجودات الكثيرة في ذات ذلك الجسم ، فيلزمكم هناك اجتماع المتماثلات. فإن قلتم : إن تلك الوجودات وإن كانت متساوية في كونها وجودات ، إلا أنها متباينة بتعيناتها وتشخصاتها ، فلم يلزم حصول الاتحاد وارتفاع الامتياز. فنقول : لم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك في هذه المسألة؟

__________________

(١) المتصلة (م).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (م).

١٣١

السؤال الثالث : لم لا يجوز أن يقال : إنه يحصل الامتياز بسبب الأمور العارضة؟ قوله : «كل عارض يفرض فإن حصوله بالنسبة إلى أحدهما كحصوله بالنسبة إلى الثاني» قلنا : لا نسلم ، وما الدليل على أن الأمر كذلك؟ والذي يؤكد هذا السؤال : أن مذهب الحكماء : أن النفوس الناطقة واحدة بالنوعية وبتمام الماهية. ومذهبهم : أنها باقية بعد المفارقة ، ثم إنهم أوردوا على أنفسهم سؤالا فقالوا : النفوس الهيولانية العارية عن اكتساب المعارف والأخلاق ، إذا فارقت أبدانها ، فهناك لا امتياز بينها وبين غيرها لا في الماهية ولا في لوازمها ، ولا في عوارضها ، وذلك يوجب زوال (١) المغايرة ثم أجابوا عنه ، فقالوا : إنها بعد أن دخلت في الوجود ، وحصل لكل واحد منها تعين وتشخص ، فذلك التعين حصل له لا لغيره ، فهذا القدر كاف في حصوله الامتياز بينها.

إذا عرفت هذا [فنقول (٢)] : نحن نذكر هاهنا أيضا الفضاء الذي هو المكان ، لا شك أن له تعينا وتشخصا باعتباره كان قابلا لتوارد الأجسام عليه ، وهذه الأجسام التي هي الأشياء القابلة للحركة والسكون لا شك أنه حصلت له تعينات وتشخصات ، باعتبارها ، كانت قابلة للحركة والسكون. وإذا كان كذلك فعند نفود أحدهما في الآخر ، لم لا يجوز أن يقال : إنه بقي مع كل واحد منهما ، [تعينه (٣)] الخاص ، وتشخصه الخاص؟ ثم من المعلوم أن تشخصه لا يصير هو بعينه تشخص غيره ، فهذا القدر كاف في حصول الامتياز والمغايرة بين البعد الذي هو المكان ، وبين البعد الذي هو المتمكن ، وعلى هذا التقدير فإنه يسقط ما ذكروه من الحجة.

السؤال الرابع : هب أن أحد البعدين لم يختص بشيء لأجله يمتاز عن الآخر ، فلم قلتم : إن ذلك يمنع من حصول المغايرة والامتياز؟ وبيانه : وهو أنه لو كان تعين الشيء زائدا عليه ، لكانت التعينات متساوية في هذا المفهوم وهو كونها تعينات ، ثم يمتاز كل فرد منها على الفرد الآخر بأمر آخر زائد على

__________________

(١) تمام (م).

(٢) تمام (م).

(٣) سقط (م).

١٣٢

[تلك الماهية (١)] و[حينئذ] يلزم (٢) التسلسل.

السؤال الخامس : إنه ينتقض دليلكم بتداخل النقطتين حال تماس الخطين ، وبتداخل الخطين حال تماس السطحين ، وبتداخل السطحين حال تماس الجسمين. فكل ما هو عذر لكم في هذه المواضع ، فهو عذر لنا في هذا المقام. إلا أنا نقول (٣) : إن عند حصول التماس يعدم الطرفان ، ويحدث طرف واحد مشترك بينهما ، إلا أن هذا يوجب نفي التماس أصلا. وذلك مما لم يقولوا به أصلا [والله أعلم (٤)]

الوجه الرابع من الوجوه التي احتجوا بها على امتناع (٥) أن تداخل البعدين ممتنع. قالوا: لو كان القول بتداخل الأبعاد جائزا ، لم يمتنع نفود عالم الأجسام بكليته في حيز الخردلة الواحدة. ومعلوم أن ذلك باطل. ولقائل أن يقول : أتلزمون علينا إثبات الجواز الخارجي الذي معناه القطع بعدم الامتناع ، أم تلزمون علينا إثبات الجواز الذهني الذي معناه بقاء الذهن مترددا في أنه في نفسه هل هو ممتنع أم لا؟ فإن كان مقصود كم هو الأول ، فما الدليل على أنه لما جاز نفود البعد المتمكن في بعد الفضاء ، الذي هو الحيز والمكان ، وجب القطع بجواز ما ذكرتم؟ والذي يقرر ما ذكرناه. إنكم تحتاجون في [إثبات (٦)] هذه المقدمة إلى بيان أن الأبعاد بأسرها ، متساوية في تمام الماهية ، ثم تحتاجون إلى بيان أن كل ما يصح على شيء ، فإنه [يجب أن (٧)] يصح على مثله ، ثم إلى أنه لم يوجد في أحد الجانبين شرط ، لأجله صح هذا الحكم ، ولم يوجد في الجانب الثاني أمر يمنع من صحة هذا الحكم. والكلام على المقامين الأولين قد سبق في الاعتراض على الوجه الثاني فلا فائدة في الإعادة. وأما إن كان مقصود

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) (ط) ، (س) أن تقولوا (ت ، م).

(٣) يكون نفيا للتماس وذلك ... الخ (ت ، م).

(٤) سقط (م ، ت).

(٥) على أن تداخل الأبعاد ممتنع (م ، ت).

(٦) سقط (ط).

(٧) سقط (ط).

١٣٣

كم إثبات الجواز الذهني ، فهذا أيضا باطل. لأن نفود الأجسام في الأبعاد الكثيفة إما أن يكون معلوم الامتناع بالبديهة [أو لا يكون كذلك. فإن كان معلوم الامتناع بالبديهة (١)] كان حصول كل العالم في حيز الخردلة معلوم الامتناع بالبديهة ، ونفود الأجسام في الفضاء والخلاء غير معلوم الامتناع بالبديهة. وعلى هذا التقدير فإنه لا يلزم [من وقوع الشك في هذه المقدمة الثانية ، وقوع الشك في المقدمة الأولى ، لأن هذه الثانية غير بديهية ، والأولى بديهية.

وأما إن كان نفود الأجسام الكثيفة في الأجسام الكثيفة غير معلوم الامتناع بالبديهة ، فعلى هذا لم يلزم من تجويزه ولا تكونه (٢)] من وقوع الشك في مقدمة كسبيّة نظرية (٣) وقوع الشك في مقدمة [بديهية (٤)] فطرية [وأما إن كان نفود الأجسام الكثيفة غير معلوم الامتناع بالبديهة. فعلى هذا لم يلزم من تجويزه محال. إلا بدليل منفصل وأنتم ما ذكرتموه (٥)] فيثبت : أن هذا النوع من الاستدلال في غاية السقوط.

السؤال الثاني : أن نقول : قد بينا أنه إذا لقى سطح سطحا ، فإن الخط الذي هو طرف أحدهما ، يكون نافدا في الخط الذي هو طرف السطح الثاني ، فإن لزم من نفود بعد في بعد ، ما ذكرتم من المحال ، كان ذلك أيضا لازما عليكم.

السؤال الثالث : أن نقول : إنكم وإن كنتم لا تجوزون نفود بعد في بعد ، لكنكم تجوزون القول بالتخلخل والتكاثف. والمراد من التخلخل هو أن يصير مقدار الجسم أعظم مما كان من غير أن ينضم إليه شيء من خارج ، ومن غير أن يحصل في داخله شيء من الفرج. والمراد من التكاثف هو أن يصير

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(٥) سقط (ط).

١٣٤

مقدار الشيء أصغر مما كان من غير أن ينفصل عنه شيء من الأجزاء ، أو من غير أن يحصل لشيء من أجزائه المنفوشة اكتناز. إذا عرفت هذا ، فنقول : إذا جوزتم هذا ، فجوزوا أن يتخلخل جرم الخردلة ، حتى يصير في العظم مثل كرة الفلك الأعظم [أو أعظم (١)] وجوزوا أيضا أن يتكاثف الفلك الأعظم حتى يصير في الصغر مثل الخردلة أو أصغر ، فإن التزموا تجويز ذلك ، فنحن أيضا نلتزم ما الزموه علينا ، وإن أبوا ذلك أبينا نحن أيضا ما ألزموه علينا. [والله أعلم (٢)].

الوجه الخامس من الوجوه التي تمسكوا بها في بيان أن تداخل الأبعاد : ممتنع. وهو أنهم قالوا : لا معنى للبعد الشخصي إلا البعد الذي بين طرفي هذا الإناء. فلو جاز في العقل أن يقال : البعد الموجود بين طرفي هذا الإناء ، بعدان لا بعد واحد ، مع أن المشار إليه بالحس ليس إلا الواحد ، فلم لا يجوز أن يحصل الشك في أن هذا الشخص الذي هو بحسب الإشارة الحسية واحد. هل هو في نفسه واحد أم لا؟ وحينئذ يلزمنا تجويز أن يقال : هذا الإنسان الذي نراه واحدا بحسب الحس ، لعله لا يكون [في نفسه (٣)] واحدا ، بل يكون ألف إنسان أو أكثر ، ومعلوم أن تجويز ذلك دخول في العته والجنون. ولقائل أن يقول : الاعتراض على هذا الوجه [مثل الاعتراض على الوجه (٤)] الرابع من غير تفاوت أصلا ، فلا فائدة في الإعادة. فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الحجة نفيا وإثباتا. وهي قولهم : لو كان المكان بعدا ، لزم من حصول المتمكن في المكان ، تداخل البعدين. وهذا محال ، فذا محال [والله أعلم (٥)].

الحجة الثانية على إبطال القول بأن المكان هو البعد : أن قالوا : البعد المسمى بالفضاء ، إما أن يكون حالا في مادة ، أو لا يكون حالا في مادة. والقسمان باطلان ، فبطل القول بأن المكان هو البعد.

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (م).

(٥) سقط (م).

١٣٥

أما بطلان القسم الأول. فالدليل عليه : وهو أنه لا معنى للجسم إلا البعد الحال في المادة ، فإن كان الفضاء والخلاء كذلك ، كان جسما. فالقول بأن المتمكن ينفد فيه قول بتداخل الجسمين. وهو محال.

وأما بطلان القسم الثاني. فهو أن على هذا التقدير تكون طبيعة البعد مع جميع ذاتياتها ولوازمها غنية عن المادة ، والغني عن المادة يمتنع أن يعرض له ما يحوجه إلى المادة ، فكان يجب أن لا يكون شيء من الأبعاد حالا في المادة ، فوجب أن لا يكون الجسم الذي هو المتمكن ذا بعد. هذا خلف. ولقائل أن يقول : هذه الحجة إنما تتم لو ثبت أن الأبعاد بأسرها متساوية في الماهية ، ثم ثبت أن كل ما صح على الشيء ، وجب أن يصح على مثله ، وقد تقدم الكلام على هاتين المقدمتين.

الحجة الثالثة في إبطال القول بأن المكان هو البعد : أن قالوا : البعد من حيث إنه بعد ، إما أن يقبل الحركة أو لا يقبل الحركة. فإن كان قابلا للحركة ، فالبعد الذي هو الفضاء ، والمكان ، يجب أيضا أن يكون قابلا للحركة ، وكل ما تحرك فإنما يتحرك من مكان إلى مكان ، فللمكان مكان آخر. والكلام في الثاني كما في الأول ، فيلزم القول بإثبات أمكنة غير متناهية ، يكون كل واحد منها نافدا في الآخر. وذلك محال. لوجوه : أقواها [وأقربها إلى الأفهام (١)] : أن مجموع تلك الأمكنة الغير المتناهية ، والأبعاد المتداخلة الغير المتناهية : أبعاد. وكل بعد فهو قابل للحركة ، فذلك المجموع قابل للحركة. وكل ما كان قابلا للحركة ، فحركته إنما تكون من مكان إلى مكان ، فلمجموع تلك الأبعاد الغير المتناهية مكان. فذلك المكان إما أن يكون بعدا ، وإما أن لا يكون. والأول باطل. لأن ذلك المكان لكونه مكانا لكل الأبعاد يجب أن لا يكون من جنس الأبعاد. لأن كل ما كان ظرفا [ووعاء (٢)] لمجموع أشياء ، كان خارجا عنها ، والخارج عن الشيء لا يكون منه. ولكونه فردا من أفراد الأبعاد ، يجب أن يكون داخلا في جملة الأبعاد ، فلو كان مكان جملة الأبعاد

__________________

(١) وأظهرها (ت) ، م).

(٢) سقط (م).

١٣٦

بعدا ، لزم كونه داخلا في جملة تلك الأبعاد ، وكونه خارجا عن جملتها. وذلك محال. وإما إن كان مكان جملة [تلك (١)] الأبعاد ليس بعدا ، بل شيئا مغايرا للبعد ، فحينئذ يكون المكان الحقيقي أمرا مغايرا للبعد ، وذلك هو المطلوب. وأما إن كان [البعد (٢)] من حيث إنه بعد ، غير قابل للحركة [فنقول : الجسم له بعد ، وبعده غير قابل للحركة (٣)] فوجب أن لا يكون [الجسم (٤)] قابلا للحركة. وذلك باطل فاسد. فيثبت : أن القول بكون المكان بعدا ، يفضي إلى هذين القسمين الباطلين. فكان القول به باطلا.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : البعد المجرد وهو الفضاء غير قابل للحركة ، والبعد الذي يكون في المادة ، وهو بعد الجسم يكون قابلا للحركة لأجل أن الشرط في كون البعد قابلا للحركة ، كونه في المادة؟ نقول : هذا السؤال باطل. من وجهين الأول : سنقيم الدلالة على أن البعد يمتنع أن يقال : إنه حال في محل ، وأنه صفة لشيء آخر. [والثاني (٥)] وهو أنا نقول : هب أن البعد يعقل كونه حالا في محل ، إلا أنا نقول : ذلك المحل من حيث إنه هو ، إما أن يكون [شاغلا للحيز والجهة (٦)] وإما أن لا يكون كذلك ، بل يكون من الموجودات المجردة عن الوضع والإشارة. والأول باطل لأنه يقتضي أن يكون محل البعد بعدا ، فإن افتقر البعد إلى محل ، فليفتقر ذلك المحل لكونه بعدا إلى محل آخر ، ولزم التسلسل ، وهو محال. وأما الثاني فهو باطل أيضا ، لأن كل موجود يكون مجردا عن الإشارة والحيز والجهة ، فإنه يمتنع عليه الانتقال والحركة. لأن الانتقال والحركة عبارة عن الحصول في حيز ، بعد أن كان حاصلا في حيز آخر ، وهذا إنما يعقل في حق الشيء الذي يصح عليه كونه حاصلا في الحيز والجهة ، أما الشيء الذي يمتنع كونه حاصلا في الحيز والجهة ،

__________________

(١) سقط (س).

(٢) من (س).

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) من (س).

(٥) سقط (م).

(٦) ممتدا في الجهات ، شاغلا للأحياز (م ، ت).

١٣٧

فإنه يمتنع كونه قابلا للحركة. فيثبت : أن هذه المادة غير قابلة للحركة [أصلا (١)] وإذا كان كذلك ، فحينئذ يمتنع أن يقال : إن كون البعد حالا في المادة ، شرط لكون البعد قابلا للحركة ، لأن حلول البعد في المادة معناه : أنه قارنه شيء لا يقبل الحركة ، ومقارنة مثل هذا الشيء ، يجب أن يكون مانعا من الحركة ، ولا يعقل كونه شرطا لصحة الحركة. فقد زال هذا السؤال.

واعلم أن [هذه الحجة كلام حسن رتبناه (٢)] نحن للقوم نصرة لمذهب «أرسطاطاليس» وطعنا في قول «أفلاطون» إلا أنها مبنية أيضا على أن الأبعاد متساوية في تمام الماهية ، وأن كل ما صح على الشيء ، فإنه يصح أيضا على مثله. [والله أعلم (٣)]

الحجة الرابعة : هذا البعد المسمى بالفضاء والمكان والحيز ، لا شك أنه يكون قابلا للقسمة ، بحسب الفرض والإشارة. فإنا نقول : من هاهنا [إلى هناك (٤)] ذراع ، ثم من هناك إلى موضع آخر ذراع آخر. ولا معنى للقسمة بحسب الفرض والإشارة إلا ذلك. إذا ثبت هذا ، فنقول : هذه الأجزاء المفترضة في هذا البعد بحسب الإشارة ، إما أن تكون متساوية في تمام الماهية ، وإما أن لا تكون كذلك. فإن كان الأول وجب أن يصح على كل واحد منهما ما صح على الآخر ، وإذا كان كذلك فالجزء الذي حصل فوق ، وجب [صحة (٥)] حصوله تحت ، وبالعكس. وذلك يوجب صحة الحركة والانتقال عليها ، وكل ما يصح عليه الحركة والانتقال ، فله مكان ، فللمكان مكان. وحينئذ تعود المحالات المذكورة. وأما إن كانت تلك الأجزاء المفترضة فيها غير متساوية في تمام الماهية ، فحينئذ يكون هذا الفضاء مركبا من أجزاء مختلفة بحسب الماهية فيكون مركبا ، وكل مركب فإنه ينتهي تحليل تركيبه إلى البسائط ،

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) لهذه الحجة كلاما ، وبيناه (م ، ت).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (م).

(٥) سقط (م).

١٣٨

فهناك أجزاء بسيطة ، وكل جزء بسيط فإن يمينه غير يساره ، فيكون منقسما ، فيكون هذان النصفان [من ذلك الجزء البسيط (١)] متساويين في تمام الماهية ، فحينئذ يصح أن ينتقل كل واحد منهما إلى وضع الآخر وموضعه ، فحينئذ يعود ما ذكرناه من افتقار المكان إلى مكان آخر ، وحينئذ يلزم المحال.

واعلم أن هذه الحجة [قد وضعناها (٢)] للقوم ، إلا أنا نقول : إنها إن صحت فهي توجب جواز الخرق والتفرق والتمزق على جملة الأفلاك ، وذلك يوجب إثبات مكان خارج الفلك المحدب للجهات ، وذلك يوجب إثبات الخلاء خارج العالم ، وذلك يوجب كون المكان بعدا. فهذه مقدمات لا بد من تقريرها.

[أما المقدمة الأولى (٣)] : وهي قولنا : إن هذا الكلام يوجب صحة الخرق والتفرق والتمزق ، على الأفلاك. فتقريرها أن نقول : هذا الفلك المحدد للجهات ، إما أن يكون بسيطا ، وإما أن يكون مركبا. فإن كان بسيطا ، كانت كل قطعة تفرض فيه مساوية في تمام الماهية للقطعة الأخرى ، وذلك يقتضي جواز أن ينتقل كل واحد من تلك [القطع إلى وضع القطعة الأخرى ، وإلى موضعها (٤)] ، وذلك يقتضي جواز التفرق والتمزق [على الفلك (٥)] وهو المطلوب. وأما إن كان هذا الفلك مركبا (٦) [من أجزاء مختلفة الطبائع فنقول : إنه لا بد وأن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء بسيطة ، فنقول : وكل واحد من تلك البسائط فإن يمينه مغايرة ليساره ، وطبيعة كل واحد من هذين القسمين واحدة ، فحينئذ يلزم صحة أن ينقلب كل واحد من ذينك القسمين إلى موضع الآخر ، وإلى وضعه. وذلك يوجب قبول الخرق والتفرق

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) قد تكلفناها نحن (م).

(٣) سقط (م).

(٤) الأجزاء إلى موضع غيره (س ، ط).

(٥) سقط (س ، ط).

(٦) مركبا. ففيه لا محالة أجزاء بسيطة ، ويعود ما ذكرناه. وأما المقدمة الثانية ... الخ (س) وفي (س) بياض. ومن أول : من أجزاء إلى آخر على الفلك : محذوف من (س ، ط).

١٣٩

والتمزق ، فيثبت : أن هذه الحجة توجب صحة الخرق والتمزق على الفلك (١)].

وأما المقدمة الثانية وهي أن صحة الانخراق [على الفلك (٢)] توجب كون أجزائه قابلة للحركة المستقيمة. فهذه أيضا مقدمة جلية. لأن الانخراق لا يتم إلا بتباعد كل واحد من تلك الأجزاء المفترضة في الفلك [عن الآخر (٣)] على نعت الاستقامة.

وأما المقدمة الثالثة وهي في بيان أن ذلك يوجب كون المكان بعدا. فهو أنا نقول : تلك الأمكنة الحاصلة خارج العالم. إن كانت أجساما فحينئذ يعود التقسيم فيها ، وذلك يوجب وجود أجسام لا نهاية لها ، وهو محال. وإن لم تكن أجساما ، وجب كون تلك الأمكنة أبعادا خالية ، وذلك هو المطلوب.

فيثبت : أن الحجة المذكورة إن صحت ، دلت على أن المكان هو البعد.

الحجة الخامسة على أن المكان لا يجوز أن يكون هو البعد :

أن نقول : لو ثبت هذا الفضاء ، لكان إما أن يكون غير متناهي ، وإما أن يكون متناهيا ، والقسمان باطلان ، فكان القول بإثبات هذا الفضاء باطلا. وإنما قلنا : إنه يمتنع كونه غير متناهي ، وذلك لأنا سنقيم الدلائل [القاهرة (٤)] على أن القول بوجود بعد لا نهاية له : محال. وإنما قلنا : إنه يمتنع كونه متناهيا ، وذلك أن كل متناه فإنه يحيط به حد [أو حدود (٥)] وكل ما كان كذلك فهو شكل. ينتج : أن كل بعد متناه ، فله شكل. فنقول : المقتضى لذلك الشكل ، إما أن يكون [هو نفس طبيعة البعد. أو أمرا حالا فيها. أو ما يكون محلا لها. أو ما لا يكون حالا فيها ولا يكون محلا لها. والأقسام

__________________

(١) سقط (س ، ط).

(٢) من (س).

(٣) سقط (س).

(٤) سقط (ط).

(٥) من (س).

١٤٠