المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٥

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٩

الفصل الثاني

في

تقرير قول من يقول :

العلم بكون المدة والزمان موجودان :

علم بديهي أولي. لا يحتاج فيه

الى الحجة والدليل

اعلم أن المثبتين للمدة فريقان : منهم من يدعى أن العلم بوجوده علم بديهي ضروري ، غني عن البيان والبرهان. ومنهم من حاول إثباته بالبينة والبرهان. أما الفريق الأول فمنهم «محمد بن زكريا الرازي» وقوم آخرون.

أنا (١) وإن كنت ما وجدت لهم إلا ادعاء البديهة والضرورة ، إلا أنّي أقرر تقريرا [أحسن وأكمل ، مما ذكروه (٢)]. وأقول : لهم أن يحتجوا على صحة قولهم بوجوه :

الحجة الأولى : إنا لو فرضنا شخصا غافلا عن وجود الأفلاك والكواكب وعن طلوعها وغروبها ، بأن كان أعمى ، كان جالسا في بيت مظلم ، وقدرنا أنه قصد تسكين الحركات بأسرها حتى الطرف والنفس ، فإن هذا الإنسان يجد المدة أمرا سيالا (٣) يحدث ، ويمر دائما بلا وقوف ولا انقضاء. والعلم بذلك ضروري حتى أنه إذا اعتبر هذه الحالة من البكرة إلى الضحوة ، ثم اعتبرها من الضحوة إلى وقت الظهر ، فإنه مع غفلته عن حركة الشمس والقمر وسائر الكواكب والأفلاك ، يعلم بالبديهة : أن الذي انقضى من البكرة إلى الضحوة ، نصف ما

__________________

(١) آخرون [وقال مولانا الإمام الداعي إلى الله] وأنا ... الخ (ت).

(٢) كاملا تاما (ط ، س).

(٣) مثبتا لا يحدث (ت).

٢١

انقضى من البكرة إلى الظهر. ويعلم بالبديهة : أن علمه بهذا الاعتبار لا يتوقف على علمه بأن فلكا تحرك ، أو كوكبا تحرك. وهذه الاعتبارات تدل على أن العلم بوجود المدة والزمان : [علم بديهي (١)] أولى ، غني عن البيان والبرهان.

الحجة الثانية : إن كل أمر يشير العقل إليه ، سواء كان موجودا أو معدوما ، فإن ذلك الأمر إما أن يعتبر حال حدوثه [وتبدله (٢) أو حال دوامه [واستمراره (٣)]. فإن اعتبرناه حال حدوثه فههنا العقل حكم بإثبات حيز (٤) وزمان ، جعله ظرفا لحدوثه ، [فإن العقل لا بد وأن يقول : إنه إنما حدث في ذلك الزمان الفلاني (٥)] وإن اعتبرناه حال دوامه ، فهذا الدوام لا يعقل منه إلا أنه كان موجودا في الأزمنة المتقدمة مع أنه موجود في الزمان الحاضر. [فأما إذا (٦)] رفعنا اعتبار الزمان والمدة من العقل (٧) فههنا يعجز العقل عن تصور معنى الحدوث ، [وتصور معنى (٨)] الدوام ولما كان هذان المعنيان متصوران [تصورا (٩)] بديهيا وثبت أن تصورهما لا يتقرر إلا عند الاعتراف بوجود الزمان [ثبت أن الاعتراف بوجود الزمان (١٠)] من العلوم البديهية الأولية.

والذي يزيد هذا الكلام تقريرا أن المتكلمين قالوا : العرض لا يبقى زمانين ، والباقي هو الذي [استمر وجوده (١١)] زمانين وأكثر ، فهم لم يعقلوا [البتة (١٢)] معنى الحدوث ، ومعنى البقاء [إلا بسبب (١٣)] المدة والزمان. وهذا يدل على أن العلم بوجود المدة والزمان علم بديهي غني عن الحجة والبرهان (١٤).

__________________

(١) من (ت).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) حال وحيز وزمان (ت).

(٥) من (س ، ط).

(٦) سقط (م).

(٧) من العقل عجز العقل حينئذ عن تصور (ت).

(٨) سقط (س).

(٩) من (س ، ط).

(١٠) من (س ، ط).

(١١) وجد في (س ، ط).

(١٢) من (ت).

(١٣) بالقياس إلى (ت).

(١٤) البينة والتقرير (ط ، س).

٢٢

الحجة الثالثة : على أن العلم بوجود المدة علم بديهي هي : أن نقول : إنا إذا قلنا : إن آدم عليه‌السلام كان قبل محمد عليه‌السلام. فإنا لا نعقل من هذه القبلية إلا أن بينهما مدة مخصوصة وزمانا مخصوصا. وإذا قلنا : الأخوان التوأمان وجودا معا ، لم نعقل من هذه المعية إلا أنهما حصلا في زمان [واحد (١)] ولو رجعت إلى جميع العقلاء الذين بقوا على فطرتهم الأصلية وسلامة عقولهم [الغريزية (٢)] لم يفهموا من هذه القبلية ولا من هذه المعية إلا ما ذكرناه. فعلمنا : أن العلم بوجود المدة والزمان : علم مقرر في بدائه العقول [وغرائز الأذهان (٣)] فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من هذه المعية والقبلية نفس ذاتيهما؟ قلنا : لأنا جعلنا ذاتيهما ووجوديهما موردا للتقسيم لهذه المعية ولهذه القبلية. ومورد التقسيم لما به حصل ذلك التقسيم ، وذلك معلوم بالضرورة.

الحجة الرابعة : إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الجسم [إما أن يكون متحركا ، وإما أن يكون ساكنا ، والمعقول من كونه متحركا (٤)] إنما يكون متحركا إذا حصل في مكان، بعد أن كان حاصلا في غيره ، وهذه البعدية إشارة إلى أن هذا الجسم كان حاصلا في غيره ، ثم حصل في زمان آخر في حيز آخر ، وهذا يدل على أنه لا يمكن تعقل معنى الحركة والتغير إلّا بعد الاعتراف بوجود المدة والزمان. وأما السكون فالمعقول منه هو استمرار الجسم في الحيز الواحد زمانا طويلا. وهذا أيضا إشارة إلى وجود المدة والزمان ، ولما كان العلم بحقيقة الحركة وبحقيقة السكون علما بديهيا أوليا وثبت أن العلم بهما لا يتقرر إلا عند التسليم بوجود المدة والزمان ، وثبت أن الذي يتوقف عليه [التصديق البديهي (٥)] أولى أن يكون أوليا ، ثبت : أن العلم بوجود المدة والزمان علم بديهي.

__________________

(١) سقط (س).

(٢) سقط (ط ، س).

(٣) من (ت).

(٤) سقط (ط ، س).

(٥) من (س ، ط).

٢٣

الحجة الخامسة : إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الموجود ، إما أن يكون قديما أو محدثا ، ثم إنه لا نعقل من القديم إلا أنه الذي لا أول لوجوده ، ولا نعقل من الحادث إلا أنه الذي يحصل لوجوده أول ، ثم إذا فسرنا قولنا : بأنه لا أول لوجوده : وهو أنا إذا اعتبرنا حالة في الأزمنة السالفة ، فإنا لا نصل عقولنا إلى زمان إلا وقد كان موجودا قبله. وإذا فسرنا الحادث : بأنه الذي لوجوده أول لم نفهم منه ، إلا أن عقولنا تنتهي إلى وقت ، يحكم عقلنا بأنه حدث فيه. فثبت : أن صريح العقل حاكم بأن الشيء إما أن يكون قديما ، وإما أن يكون محدثا ، وثبت أنه لا يمكن تصور معنى القديم ومعنى المحدث إلا عند الحكم بوجود [المدة (١)] والزمان ، وذلك يفيد أن العلم بوجود المدة والزمان علم بديهي.

الحجة السادسة : إن صريح العقل حاكم بأنه يمكن قسمة الزمان إلى السنين ، وقسمة السنين إلى الشهور ، وقسمة الشهور إلى الأيام ، وقسمة الأيام إلى الساعات ، ويعلم بالضرورة أن الساعة جزء من اليوم ، [الذي هو جزء من الشهر (٢)] ، الذي هو جزء من السنة ، التي هي جزء من المدة. والعلم بحصول هذه التقديرات والتقسيمات ، علم ضروري. والعلم بكون بعضها أقل من بعض ، أو أكثر من بعض علم ضروري. ومن المعلوم بالضرورة: أن المحكوم عليه بقبول هذه التقسيمات مغاير للسواد والبياض والحجر والمثلث ، وأن ذلك الأمر ما لم يكن متحققا في الأعيان ، امتنع كونه موردا لهذه التقسيمات [في الأعيان (٣)] ، فثبت : أن العلم بوجود الزمان ، [والمدة (٤)] علم بديهي.

الحجة السابعة : إن كل أحد يعلم بأن هذه المدة قصيرة ، وأن تلك المدة طويلة. فإنه يقال بقي إلى وقت الظهر زمان طويل ، ثم يقال بعد ذلك : إنه لم

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (ط) ، (س) ..

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) سقط (س).

٢٤

يبق من تلك المدة إلا القليل. والعلم بحصول هذه الأحوال علم بديهي ، ومتى كان العلم بصفة الشيء بديهيا ، كان العلم بأصل وجوده أولى أن يكون بديهيا. فثبت : أن العلم بوجود المدة والزمان علم بديهي. ولا يقال : لم لا يجوز أن يقال : هذه القلة ، وهذه الكثرة ، أمران اعتباريان لا حصول لهما إلا في الأذهان [والخيال (١)؟ لأنا نقول : هذا الفرض الذهني ، إن كان مطابقا للأمر الخارجي ، فقد حصل المطلوب ، وإن لم يكن مطابقا كان فرضا كاذبا ، وحكما باطلا ، وكان جاريا مجرى ما إذا فرضنا هذا الحجر ياقوتا ، مع أنه في نفسه ليس كذلك ، ومعلوم أن تقسيم الزمان بالأجزاء العظيمة والصغيرة ، ليس من هذا الباب. فبطل قول من قال : إنه محض الفرض والاعتبار.

الحجة الثامنة : إن جميع الجهال [والعوالم (٢)] ، يؤرخون ويعلمون أن السنين تتوالى وتتعاقب ، ويميزون ببدائه عقولهم بين الماضي المستقبل والحال ، وهذه فالصفات لا شك أنها صفات المدة [والصفة (٣)] إذا كانت معلومة بالضرورة ، كان الموصوف أولى أن يكون كذلك.

واعلم أن هذه الوجوه [التي ذكرناها (٤)] متقاربة ، وهي بأسرها دالة على أن العلم بوجود المدة ضروري.

الحجة التاسعة : إنا قد نحكم على حركتين بأنهما ابتدأتا معا ، وانقطعتا معا ، ويكون علمنا بهذه المعية في الابتداء وفي الانقطاع : علما ضروريا. وقد نقول في حركتين أخريين : إن إحداهما ابتدأت قبل الأخرى ، وانقطعت قبلها وبعدها. وعلمنا بهذا التقدم والتأخر علم ضروري ، ثم لا نعقل من هذه المعية إلا أنهما حصلا في زمان واحد ، ولا نعقل من هذا التقدم والتأخر إلا أن أحدهما حصل في الزمان السابق على زمان حدوث هذا المتأخر. وكل ذلك يدل على أن العلم بوجود المدة والزمان علم بديهي.

__________________

(١) سقط (ط) ، (س) والأذهان (س) والذهن (ت).

(٢) سقط (ط) ، (س) ويعرفون (ت).

(٣) سقط (ت).

(٤) سقط (م).

٢٥

الحجة العاشرة : إنا نحكم حكما بديهيا بأن هذه الحركة أبطأ من [تلك (١)] الأخرى. مثل قولنا : إن دبيب النملة أبطأ من طيران الطائر ، ثم إنه [لا (٢)] يمكننا تفسير الحركة البطيئة ، والحركة السريعة ، إلا بأنا نقول : السريعة هي التي تقطع مسافة مساوية لمسافة البطيئة في زمان أقل من زمانها ، أو التي تقطع مسافة أطول من مسافة البطيئة في زمان مساوي لزمانها ، فلما ثبت أن العلم بكون الحركة بطيئة وسريعة علم بديهي ، وثبت أنه لا يمكن فهم تصور ماهية الحركة السريعة وماهية الحركة البطيئة ، إلا بعد الاعتراف بوجود المدة والزمان ، علمنا : أن العلم بوجود المدة والزمان علم بديهي.

واعلم أنا قد نبهنا بهذه الوجوه العشرة التي ذكرناها على كثير من الوجوه المغايرة لها ، مع أن في الواحد منها كفاية في إثبات هذا المطلوب.

[ولما ثبت أن العلم بوجود المدة والزمان علم بديهي أولى. نقول (٣)] : هذه المدة لا يجوز أن تكون عبارة عن حركة الفلك ، ولا عبارة عن صفة من صفات شيء من حركات الفلك ، ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : إن الإنسان الأعمى الجالس في البيت المظلم ، المراقب لكيفية انقضاء المدة والزمان ، يعلم أن مقدار ما مضى من المدة من الوقت الفلاني ، كم هو بالتقريب؟ من غير اعتبار حال حركة الشمس والقمر والكواكب والأفلاك ، وهذا العاقل يجد المدة تمضي وتمر مرورا دائما من غير وقوف البتة. وأنه كالنهر الجاري ، والعاقل إذا اعتبر حال نفسه ، وجد أن الأمر كما ذكرناه ، وجدانا ضروريا ، إلا إذا كان نائما أو مصروف الفكر إلى غير هذا الاعتبار ، ولو أنه توهم الفلك معدوما ، وتوهم الشمس والقمر وجميع الكواكب

__________________

(١) سقط (س).

(٢) من (ت).

(٣) ما بين القوسين من (ت) وفي (ط ، س) إذا ثبت هذا الأصل فنقول :

٢٦

معدومة ، وتوهم جميع المتحركات ساكنة ، وفرضنا أن هذا الإنسان غفل عن جميع المتحركات ، لوجد عقله جازما بمرور هذا الشيء الذي سميناه بالمدة. بل نقول : لو فرضنا رجلا أصم أعمى من أول الخلقة ، بحيث ما أبصر شيئا من الكواكب والأفلاك ولم يسمع أن الله خلق هذه الأشياء البتة. ثم فرضنا أن هذا الإنسان تكلف تسكين النفس والطرف والحدقة فإنه عند هذه الأحوال يجد هذه المدة أمرا ثابتا مستمرا في الذهن والعقل ، وكل ذلك يدل على أن العلم بوجود هذه المدة : علم ضروري وأن العلم بأن هذه المدة موجودة أمر مغاير لحركات الأفلاك والكواكب أيضا : علم ضروري (١).

الحجة الثانية : إن العقل بحكم الفطرة الأصلية ، لا يستبعد أن ينقلب الجزء المتقدم من الحركة الفلكية متأخرا ، والجزء المتأخر متقدما ، فإن الفلك لما تحرك (٢) من المشرق إلى المغرب كانت حركته في الربع الشرقي متقدمة على حركته في الربع الغربي ، ولو أنا فرضنا أن هذا الفلك بعينه ، كان يتحرك من المغرب إلى المشرق ، لكانت حركته في الربع الغربي متقدمة على حركته في الربع الشرقي. فعلمنا : أن العقل بفطرته الأصلية لا يستبعد أن يفرض الجزء المتقدم من الحركة الفلكية متأخرا ، والجزء المتأخر متقدما.

وأما الجزء المتقدم من الزمان ، فإن العقل بفطرته الأولية البديهية ، يستبعد أن يفرضه متأخرا ، والجزء المتأخر يستبعد أن يفرضه متقدما. فثبت : أن هذه المدة ليست نفس الحركة ، ولا عارضا من عوارضها ، ولا لاحقا من لواحقها.

الحجة الثالثة : إنه يمكننا أن نتشكك في أن هذه الحركة الفلكية ، هل كانت حاصلة قبل هذا الوقت بمائة ألف سنة؟ فإن القائلين بحدوث العالم يمكنهم أن يتشككوا في حصول الحركات الفلكية قبل هذا [الوقت (٣)] بمائة

__________________

(١) العبارة مصححة من (ط) ، (س) وأمر ساقطة من س.

(٢) كانت حركته (ت).

(٣) من (س).

٢٧

ألف سنة ، أو أقل أو أكثر. وأما المدة فإنه لا يمكننا أن نتشكك في أنه هل [حصل (١)] قبل هذه الساعة الحاضرة مدة متقدمة عليها بمائة ألف سنة؟ ولما أمكن التشكك في الحركة، ولم يمكن التشكك في المدة علمنا أن المدة غير الحركة ، وغير جميع الصفات الفلكية.

الحجة الرابعة : إن أعظم الدوائر الفلكية هي المنطقة ، وأما الدوائر الموازية لها فكل ما كان منها أقرب إلى المنطقة ، كانت حركته أسرع ، وما كان منها أبعد من المنطقة كانت حركته أبطأ. فظهر أن الحركات اليومية الحاصلة في الدوائر الفلكية (٢) المتوازية ، والموازنة للمنطقة الفلكية كثيرة ومختلفة بالسرعة والبطء ، فلو كان الزمان عبارة عن حركة الفلك ، لما كان جعله عبارة عن حركة بعض تلك الدوائر ، أولى من جعله عبارة عن حركات سائر الدوائر. فإما أن يكون عبارة [عن الكل (٣)] فحينئذ يلزم أن يكون هذا اليوم الواحد لا يكون يوما واحدا بل أياما كثيرة حصلت معا ، بحسب تلك الدوائر المتوازية ، وذلك لا يقوله عاقل. أو يقال : إنه ليس شيء منها نفس المدة والزمان ، بل المدة والزمان أمر مغاير لها ، مقدر لها بأسرها. وذلك هو المطلوب.

ومما يقوى هذا الكلام : أن صريح العقل ناطق بأن حركات كل تلك الدوائر واقعة في زمان واحد ، فالعقل حكم بأن تلك الحركات بأسرها واقعة في زمان واحد ، وإن ذلك الزمان ظرف لها بأسرها ، [ووعاء لها بأسرها (٤)] ، وذلك يوجب القطع بأن الزمان مغاير للحركة.

الحجة الخامسة : إن الحركة توصف بالسرعة والبطء ، والزمان لا يوصف [بذلك (٥)] ، فإنه لا يقال : هذا الزمان أبطأ من ذلك الزمان ولا أسرع منه.

__________________

(١) من (ت).

(٢) الحركة (ط ، س).

(٣) الدوائر المتوازية الموازية ... الخ (س).

(٤) من (ط ، س).

(٥) سقط (م).

٢٨

وأيضا : فإن سرعة الحركة وبطأها ، إنما يعقلان بسبب المدة والزمان ، فإنه يقال : الأبطأ هو الذي يقطع مثل ما قطعه السريع في زمان أطول ، أو يقطع أقل مما قطعه السريع في [مثل (١)] زمان السريع ، والأسرع ما يكون بالضد منه ، وكل ذلك يدل على أن الزمان غير الحركة.

الحجة السادسة : إنه يمكننا تعقل أفلاك كثيرة في الخلاء الذي لا نهاية له ، بحيث يكون كل واحد منها خارجا عن الآخر ، وغير متعلق به. فعلى هذا التقدير يمكننا تصور حركات كثيرة [معا (٢)] بحيث لا تكون منها تبعا للأخرى. ونعلم بالبديهة : أنه لا يمكننا تعقل حصول زمانين معا ، فالحركة غير الزمان.

الحجة السابعة : يمكننا أن نقول : هذه الحركة بجميع صفاتها ، حصلت في هذا الزمان ، ولم تحصل في الزمان المتقدم. ولا يمكننا أن نقول : حصلت هذه الحركة في نفسها ، أو في صفة من الصفات القائمة بها ، [أو في حركة أخرى ، أو في صفة من الصفات [القائمة (٣)] بها [أو في حركة أخرى (٤)] ، وكل ذلك يدل على أن الزمان غير الحركة ، وغير جميع الصفات القائمة بالحركة.

الحجة الثامنة : إنه يمكننا أن نتصور زمانا خاليا عن الحركة. مثلا : إذا توهمنا أن الله سبحانه أعدم الفلك ، وأعدم جميع الكواكب عند قيام القيامة ، ثم إنه تعالى ترك [هذه الأشياء (٥)] على العدم المحض مدة مديدة إلى أن يعيدها ، ويعيد الخلائق في موقف القيامة. فالمدة المتوسطة بين أول زمان الإعدام ، وأول زمان الإعادة لا شك أنها تكون مدة مخصوصة ، والعقل يمكنه فرض تلك المدة أقل ، أو أكثر ، أو أنقص ، أو أزيد ، ففي هذا الفرض قد فرضنا جميع الحركات معدومة ، وهذا الفرض ليس فرضا معلوم الامتناع بالبديهة

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (س).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(٥) سقط (ط) ، (س) وفيهما : تركها على العدم.

٢٩

بل هو أمر ممكن بحسب العقل ، ولذلك فإن جمهور أرباب الملل والأديان جازمون به. ومن المعلوم أن الذي يكون معلوم البطلان بالبديهة ، لا يمكن إطباق الخلق العظيم عليه. فثبت : أن رفع كل الحركات [عن العقول والأذهان غير ممتنع (١)] فوجب الجزم بأن المدة أمر مغاير للحركة ، ولجميع صفات الحركة. وهو المطلوب.

الحجة التاسعة : إنا لا نعقل ماهية الحركة ، إلا إذا عقلنا كون المتحرك حاصلا في حيز ، [بعد أن كان حاصلا في حيز (٢)] آخر. ولذلك فإن جميع العقلاء لا يفهمون من الحركة : [إلا (٣)] الانتقال من حيز إلى حيز آخر ، فيكون الحصول في الحيز الثاني واقعا بعد الحصول في الحيز الأول. وهذه البعدية ليست إلا البعدية الزمانية. فثبت : أنه لا يمكن تعقل ماهية الحركة ، إلا بعد تعقل ماهية المدة والزمان. وأما تعقل المدة والزمان فإنه غني عن تعقل ماهية الحركة. بدليل : أنا لما فرضنا أن الله تعالى أعدم الفلك ، وأعدم الكواكب ، وأعدم كل الحركات ، ففي هذه الحالة لم يقدر عقلنا وفكرنا أن يحكم ببطلان المدة ، بل حكمت الفطرة الأصلية ، بأنه لا بد وأن يكون وقت الإعدام مغاير لوقت الوجود. وأيضا : فقد بينا أن حالنا نكون غافلين عن الفلك والشمس والقمر ، وسائر الكواكب فإنا نجد في عقلنا أمرا ممتدا مستمرا ، يحدث منه شيء فشيء ، كأنه الماء السيّال الجاري ، أو كأنه خيط ألقي على طرف سيف ، ثم جرّ. فإن الخيط يلاقي حدّ السيف جزءا فجزءا ، فكذا هاهنا.

الحجة العاشرة : إن القائلين بحدوث الفلك ، بل القائلين بحدوث جميع الأجسام ، سلموا أن حدوثه قبل أن حدث : ممكن. وهذا يدل على شهادة فطرتهم الأصلية بأنه لا يعقل حدوث شيء ، إلا في مدة وزمان.

وتمام التقرير في هذا الوجه : إن من القائلين بحدوث العالم ،

__________________

(١) على العقول والأذهان يمنع (ت).

(٢) سقط (ط).

(٣) من (س).

٣٠

[منهم (١)] من قال : إن العالم قبل حدوثه كان ممكن الوجود. ومنهم من قال : كان ممتنع الوجود. وعلى التقديرين فقد عقلوا قبل حدوث الفلك والكواكب والعالم قبلا وبعدا ، وذلك يدل على أن جزم العقل بوجود هذه المدة جزم بديهي ، وإن هذا القبل والبعد إنما يحصل بشيء سوى الحركة الفلكية (٢).

الحجة الحادية عشر : إنا إذا فرضنا أوّلا للحركة ، فإنه لا يلزم من مجرد فرض أول للحركة ، حصول حركة قبل تلك الحركة ، لأنه لا يستبعد في العقل أن يكون الشيء ساكنا ثم يتحرك. وأيضا : إذا فرضنا آخرا (٣) للحركة ، فإنه لا يلزمنا من مجرد هذا الفرض إثبات حركة بعد تلك الحركة ، لأنه لا يستبعد في العقل أن يكون الشيء متحركا ، ثم يصير ساكنا.

أما إذا فرضنا المدة أولا ، لزمنا من مجرد هذا الفرض ، إثبات مدة قبل تلك المدة ، لأن المدة لا يكون لها أول ، إلا إذا كان عدمها قبل وجودها ، وتلك القبلية لا يمكن حصولها ولا تعقلها ، إلا بسبب المدة. فثبت : أنا متى فرضنا للمدة أوّلا ، فإنه يلزم من مجرد هذا الفرض كونها موجودة قبل ذلك الأول ، وكذلك إذا فرضنا للمدة آخرا فإنه يلزم من مجرد فرض انقطاع المدة ، كونها موجودة بعد ذلك الانقطاع ، لأنه لا يحصل لها انقطاع ، إلا إذا حصل عدمها بعد وجودها ، وهذه البعدية لا يمكن تعقلها إلا عند حصول المدة ، فثبت : أن فرض أول وآخر للحركة ، لا يوجب إثبات حركة قبل ذلك وبعد ذلك الآخر ، وذلك يدل على أن المدة شيء مغاير للحركة ولجميع صفاتها وأحوالها.

فظهر بهذه البراهين القاهرة : أن الزمان والمدة لا يمكن أن يكون عبارة عن [مقدار (٤)] الحركة الفلكية ، وإذا بطل هذا بطل أيضا : أن يكون الزمان عبارة عن صفة من صفات تلك الحركة ، وحالة من أحوالها. وبهذا يظهر فساد

__________________

(١) (م).

(٢) حركة الفلك (م).

(٣) أجزاء (ت).

(٤) من (ط) ، (س).

٣١

قول من يقول : إنه عبارة عن مقدار حركة فلك معدل النهار ، لأن مقدار تلك الحركة عبارة عن صفة من صفاتها ، وحالة من أحوالها وذلك مما أبطلناه. فثبت بهذا : أن المدة موجود قائم بنفسه مستقل بذاته ، وأنه لا تأثير للحركة الفلكية في وجود المدة والزمان البتة ، وإنما تأثيرها في تقدير هذه المدة بالأجزاء والأبعاض. ومثاله : تقدير الليل والنهار بالفنجانات ، وصندوق الساعات ، فإن تلك الآلات لا تأثير لها في إيجاد الزمان والمدة ، وإنما تأثيرها في تقسيم الليل والنهار بالساعات والأجزاء ، فكذلك تأثير الحركة الفلكية ليس في تكوين المدة وإيجادها ، بل في تقسيمها بالأجزاء والأبعاض ، وهي : السنون والشهور والأيام والساعات.

فهذا تقرير مذاهب هؤلاء الذين يقولون : العلم بوجود المدة وبكونها أمرا مغايرا للحركة الفلكية ، ولجميع أحوال هذه الحركة : [علم ضروري] (١).

__________________

(١) أمر بديهي ضروري (ت).

٣٢

الفصل الثالث

في

تقرير الدلائل التي عول عليها من قال :

العلم بوجود الزمان : كسبي استدلالي

اعلم أن الذي حصلناه في هذا الباب من كلام المتقدمين ، ومن أنفسنا حججا (١) أربعة :

الحجة الأولى (٢) : وهو دليل الإمكانات ، وهو الذي ذكره الشيخ في الشفاء والنجاة، وعليه تعويل الأكثرين.

وتقريره : أن نقول : كل حركة تفرض في مسافة ، على مقدار من السرعة [وأخرى معها على مقدارها من السرعة (٣)] وابتدأتا معا ، وتركتا معا ، فإنهما يقطعان المسافة معا. وإن ابتدأت إحداهما ولم تبتدئ الأخرى [معها فإن (٤)] إحداهما تقطع من المسافة أقل مما تقطعه الأخرى ، وإن ابتدأ معها بطيء واتفقا في الأخذ والترك ، وجد البطيء قد قطع أقل ، والسريع قد قطع أكثر ، وإذا كان كذلك ، كان بين أخذ السريع الأول وتركه : إمكان قطع مسافة بعينها ، بسرعة معينة ، أو أقل منها ببطء معين ، وبين أخذ السريع الثاني وتركه إمكان أقل من ذلك بتلك السرعة المعينة بحيث يكون هذا الإمكان جزءا

__________________

(١) طرقا : الأصل.

(٢) الطريق الأول : الأصل.

(٣) من (ط).

(٤) معها ولكن تركتا معا فإن (م).

٣٣

من الإمكان [الأول (١)] وإذا كان كذلك كان هذا الإمكان قابلا للزيادة والنقصان ، فوجب كونه أمرا [موجودا لا محالة] (٢).

فإن قال قائل : إنكم في مشرع هذا الاستدلال فرضتم ثلاثة أشياء :

أولها : الحركتان المتساويتان في السرعة والبطء ، المتساويتان في الأخذ والترك. وزعمتم: أنهما لا بد وأن يتساويا في مقدار المسافة.

وثانيهما : الحركتان المتساويتان في السرعة والبطء ، المختلفتان في وقت الأخذ ، المتساويتان في وقت الترك. زعمتم : أن هذا السريع الثاني لا بد وأن يقطع مسافة أقل مما قطعه السريع الأول.

[وثالثها : الحركتان المتساويتان في الأخذ والترك المختلفتان في السرعة (٣)] والبطء. زعمتم : أن البطيء لا بد وأن يقطع أقل مما قطعه السريع. فما الفائدة في هذا البرهان من الوجوه الثلاثة [من الفرض (٤)؟] قلنا : الفائدة فيها : هي أن بالفرض الأول ، ثبت وجود هذا الأمر الذي سميناه بالزمان ، وبالفرض الثاني ثبت أن هذا الإمكان [مساوي (٥)] لنفس الحركة ، ولنفس بطئها وسرعتها ، ولنفس مقدار المتحرك (٦). وبالفرض الثالث ثبت أن هذا الإمكان أمر مغاير لمقدار المتحرك ، ولمقدار المسافة. وعند هذا يحصل تمام المقصود.

وبيان هذا الكلام : أنا إذا فرضنا أولا (٧) وجود حركتين متساويتين في البطء والسرعة ، متساويتين في الأخذ والترك. وزعمنا : أنه متى كان الأمر كذلك ، وجب حصول التساوي في مقدار المسافة ، فعند هذا يظهر أنه حصل

__________________

(١) من (ط) ، (س).

(٢) وجوديا (ت) لا محالة سقط (ط ، س).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (ط).

(٥) مساوي (ت) مغاير (س ، ط).

(٦) الحركة (ت) المتحرك (س).

(٧) من (س).

٣٤

بين أخذ هذا السريع وتركه ، إمكان قطع مثل هذه المسافة بمثل هذه السرعة ، وأن في مثل هذا القدر من الإمكان ، وبمثل هذه السرعة ، لا يمكن أن يزاد على هذه المسافة ، ولا أن ينقص منها ، فهذا الإمكان له في نفسه خصوصية ، ولا يقبل حركة بهذا القدر من السرعة ، إلا في مثل هذا القدر من المسافة (١) ، ولا يقبل الأزيد منها ، [ولا بمثلي الأقل منها (٢)] ، فهذا الإمكان له في حد ذاته خصوصية وحقيقة ، باعتبارها حصل له هذا الامتياز والاختصاص. وأما الفرض الثاني وهو [وجود (٣)] حركتين متساويتين في السرعة والبطء ، مختلفتين في الأخذ ، متساويتين في الترك ، فههنا السريع الثاني (٤) يقطع من المسافة ، أقل.

وغرضنا منه أمران :

الأول : إن الإمكان الذي يحصل فيه هذا السريع الثاني ، جزء من الإمكان الذي يحصل فيه السريع الأول ، فيكون هذا الإمكان قابلا للتطبيق وللزيادة والنقصان ، فوجب كونه موجودا قابلا للمساواة والمفاوتة.

والثاني : إن هذا السريع الأصغر مشارك للسريع الأكبر في كونه حركة ، وفي كونها سريعة ، وفي مقدار المتحرك. وخالفها في مقدار هذا الإمكان. وما به المشاركة غير ما به المباينة ، فيثبت أن هذا الإمكان يجب أن يكون أمرا مغايرا لنفس ماهية الحركة ، ومغايرا لبطء الحركة ولسرعتها ، ومغايرا لمقدار جوهر المتحرك.

وما الفرض الثالث وهو وجود حركتين مختلفتين في السرعة والبطء ، متساويتين في الأخذ والترك. فاعلم : أن غرضنا من هذا الفرض : بيان أن هذا الإمكان مغاير لمقدار المتحرك ، ولمقدار المسافة ، وذلك لأنه ظهر بهذا

__________________

(١) السرعة (س).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (م).

(٤) الثاني (ط) الأصغر (ت).

٣٥

الفرض أن البطيء والسريع ، إن اشتركا في مقدار المسافة ، اختلفا في مقدار هذا الإمكان. وإن اشتركا في مقدار هذا الإمكان اختلفا في مقدار المسافة ، وذلك يوجب القطع بأن مقدار هذا الإمكان أمر مغاير لمقدار المسافة. فثبت أن بسبب هذه الأمور الثلاثة من الفرض ، ظهر أن هذا الإمكان [أمر (١)] موجود مقداري ، وأنه مغاير لنفس مقدار المتحرك ، ولنفس مقدار المسافة ، ولنفس الحركة ، ولكون الحركة سريعة أو بطيئة. وذلك هو المقصود. وهذا تقرير تمام هذه الحجة.

والاعتراض عليها من وجوه :

السؤال الأول : (٢) إنكم بنيتم هذه الحجة على أمور ثلاثة :

فأحدها : أن هاهنا حركة سريعة وحركة بطيئة.

وثانيها : أن هاهنا حركتين يبتدئان معا ، وينقطعان معا.

وثالثها : أن هاهنا حركتين تبتدئ إحداهما بعد الأخرى. ومن المعلوم : أن هذه الأمور الثلاثة لا يمكن اعتقاد حصولها إلا بعد الجزم بوجود الزمان. أما الأول : فلأن السريع هو الذي يقطع مثل ما قطعه البطيء في زمان أقل أو أزيد مما قطعه البطيء في زمان مساوي، وأما البطيء فبالعكس من هذا الذي قلناه. ومعلوم : أن هذه الأحوال لا يتقرر ثبوتها إلا بعد تسليم وجود الزمان. وأما الثاني : وهو قولنا : في الحركتين إنهما يبتدئان معا ، وينتهيان معا. فمعناه : أن ابتداء وجودهما ، وانتهاء وجودهما يكون في آن واحد ، لكن الآن لا يعقل ، ولا يوجد إلا بعد تعقل الزمان. وأما الثالث : وهو أن تبتدئ إحدى الحركتين بعد الأخرى ، فمعلوم أنه لا يمكن تصور معنى القبلية والبعدية ، إلّا بعد وجود الزمان.

إذا عرفت هذا فنقول : وجود الزمان إما أن يكون غنيا عن الاستدلال ،

__________________

(١) سقط (س).

(٢) زيادة.

٣٦

أو محتاجا إلى الاستدلال. فإن كان الأول كان الخوض في هذا الدليل غنيا عنه ، وإن كان الثاني فنقول : إنكم إنما بينتم وجود الزمان بهذه المقدمات.

وقد بينا أنه لا يمكن إثبات هذه المقدمات إلا بعد العلم بوجود الزمان ، فيلزم الدور ، ومعلوم أنه باطل.

لا يقال : وجود أصل الزمان معلوم بالبديهة ، فأما بيان ماهيته على التفصيل فذاك معلوم بالاستدلال ، ونحن إنما أثبتنا بهذا الدليل تفصيل ماهيته ، وحينئذ يسقط الدور. لأنا نقول : إن هذا القدر الذي سبق ذكره من الاستدلال ، لا يدل على بيان ماهيته المعينة وحقيقته المخصوصة ، بل لا دلالة فيه إلّا على كونه أمرا موجودا في الأعيان ، وحينئذ يعود الدور المذكور.

والسؤال الثاني على هذا الدليل : إن من مذهبكم أن المحكوم عليه بالزيادة والنقصان، لا بد وأن يكون موجودا. وبه أجبتم عن دليل من استدل على أن للحركات أولا بسبب كونها قابلة للزيادة والنقصان ، ثم إن من المعلوم من الأمور المنقضية ، التي لا ثبات لأجزائها ، ولا استقرار لأقسامها ، وإذا كان كذلك ، فحينئذ لا يصح الحكم عليه بالزيادة والنقصان في نفس الأمر. بل غاية ما في الباب : أن الأمر الممتد المرتسم منه في الوهم ، يمكن الحكم عليه بالزيادة والنقصان ، وأما الأمر الممتد من الزمان ، فلا وجود له البتة في الأعيان. وإذا ثبت هذا فنقول : الأمر الذي تريدون إثباته وهو وجود الزمان في الأعيان فإنه لا يمكن الحكم عليه بكونه قابلا للزيادة والنقصان. والذي صدق عليه هذا الحكم ، وهو الأمر المفروض في الذهن فإنه لا يدل على كون الزمان موجودا في الأعيان. فثبت أن هذه الحجة مغالطة.

والسؤال الثالث : هذا الدليل معارض بأمور :

أحدها : إن ما ذكرتموه معارض بنفس الزمان (١) ، فإن بين ابتداء كل زمان وبين انتهائه ، إمكانا يتسع بمثل ذلك المقدار ، ولا يمتلئ بما هو أصغر

__________________

(١) الإتيان (ت) الزمان (ط) ، (س) ويمكن أن تقرأ الإمكان.

٣٧

منه ، ولا يتسع لما هو أعظم منه ، وإمكانا آخر أقل منه ، ولا يتسع لذلك الزمان ، ولا لما هو أعظم منه ، ويمتلئ ببعضه ، وإذا كان كذلك لزم أن يكون للزمان زمان آخر ، إلى غير النهاية. فإن قلتم : إن ذلك من عمل الوهم وحكم الخيال. فقولوا بمثله في الحركة إذا لا فرق.

وثانيها : إن ما ذكرتموه معارض بجانب المستقبل ، وذلك لأن من هذه الساعة الحاضرة إلى الغد ، حصل إمكان (١) يتسع لمقدار من الحركة الموصوفة بمقدار معين من السرعة أو البطء ، ولا يمتلئ بالأقل منه ولا يتسع للأعظم منه ، وإمكان آخر أصغر منه. فهذا يقتضي أن يكون الزمان الذي سيجيء غدا ، حاصلا الآن ، وحاضرا في هذا الوقت. ومعلوم أن ذلك باطل. فإن قالوا : الحاضر في الحال إنما هو إمكان وجود تلك الحركات المستقبلية ، لا وجود شيء آخر يكون وعاء لها وظرفا لها. فنقول : فلم لا يجوز أن يكون الحال في الماضي مثل ما ذكرتموه في المستقبل؟

وثالثها : أن نقول : إن بين طرفي الطاس ، إمكانا يتسع لمقدار معين من الأجسام ولا يمتلئ بأقل من ذلك القدر ، ولا يتسع للأزيد منه ، فوجب أن يكون ذلك الإمكان الذي يتسع لذلك القدر من الجسم أمرا موجودا. وذلك يوجب عليكم الاعتراف بوجود أبعاد قائمة بذواتها تكون هي أمكنة لهذه (٢) الأجسام. فإن قالوا : ذلك الإمكان عبارة عن إمكان وجود تلك الأجسام في أنفسها ، لا عن إمكان وجود شيء يكون ذلك الشيء ظرفا لتلك الأجسام ووعاء لها. فنقول : فلم لا يجوز أن يكون الحال فيما ذكرتم ، كالحال هاهنا؟

وهو أن يقال : الإمكان الذي ذكرتم إشارة إلى إمكان وجود تلك الحركات المختلفة في أنفسها ، فأما إثبات أمر آخر ظرفا لتلك الحركات ووعاء لها. فهذا ممنوع.

الحجة الثانية لهم في إثبات الزمان : التمسك بطريقة القبلية والبعدية ،

__________________

(١) حصل المكان يتسع المقدار (ت).

(٢) من (س).

٣٨

واعلم (١) أن القوم ما لخصوا هذه الطريقة تلخيصا شافيا مرتبا ، وأنا أقررها على الوجه الصحيح المعلوم ، فأقول : لا شك أن الأب موجود قبل وجود الابن ، فهذه القبلية إما أن تكون نفس وجود الأب وعدم الابن ، أو أمرا زائدا على ذلك. والأول باطل لوجوه :

أحدها : أنه يصح تعقل ذات [كل (٢) واحد منهما مع الذهول عن هذه القبلية ، وهذه البعدية وهذه المعية. والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم.

وثانيها : إن هذه القبلية والبعدية : نسبة مخصوصة بين هاتين الذاتين. والنسبة بين الشيئين مغايرة لهما.

وثالثها : إن المحكوم عليه بأنه قبل (٣) قد وجد قبل المحكوم عليه بأنه بعد ، والقبل من حيث إنه قبل ، لا يبقى بعد البعد ، من حيث إنه بعد.

ورابعها : إن الأشياء المختلفة [في الماهية (٤)] قد تكون متشاركة في كون كل واحد منها قبل أشياء ، فإن والد الفرس قبل ولده ووالد الحمار قبل ولده ، ووالد الإنسان قبل ولده. فالفرس والحمار والإنسان ماهيات مختلفة ، وهي مع اختلافها متشاركة في كون كل واحد منها قبل ولده.

وإذا ثبت هذا فنقول : اختلافها في الماهية ، مع اشتراكها في المفهوم من القبلية ، يدل على أن كونها قبلا وبعدا [أمور (٥)] مغايرة لتلك الماهيات المخصوصة. وأيضا : فالأشياء المتشاركة في تمام الماهية قد تكون مختلفة في القبلية والبعدية ، وذلك مثل الأب والابن ، فإنهما مع اشتراكهما في تمام الماهية قد اختلفا بحسب القبلية والبعدية. والتقريب معلوم.

وخامسها : أن القبل من حيث هو قبل ، مضاف إلى البعد من حيث هو

__________________

(١) واعلم أنهم (ت ، م).

(٢) من (س).

(٣) قبل قد يبقى بعد المحكوم (ط) ، (س).

(٤) من (ط) ، (س).

(٥) سقط (م).

٣٩

بعد ، والشيء المحكوم عليه بهذه القبلية جوهر قائم بنفسه غير معقول الماهية بالقياس إلى غيره ، والشيء الذي يكون محكوما عليه بأنه مقول بالماهية بالقياس إلى غيره ، مغاير للشيء الذي يكون محكوما عليه بأنه غير معقول الماهية بالقياس إلى غيره ، وذلك يقتضي أن تكون القبلية والبعدية أمورا مغايرة لتلك الذوات.

وسادسها : أن الإله تعالى كان موجودا قبل هذا الحادث اليومي ، ويكون أيضا موجودا عند دخول هذا الحادث اليومي في الوجود ، وسيبقى أيضا بعد انقضائه وفنائه. إذا ثبت هذا فنقول : ذات واجب الوجود لذاته قد تواردت عليها هذه القبليات والبعديات والمعيات. فلو كانت هذه المفهومات نفس الذات ، لزم وقوع التبدل في ذاته (١). وذلك محال.

فثبت بهذه الوجوه الستة : أن المفهوم من القبلية والبعدية والمعية أمور مغايرة لنفس الذات والحقيقة. وإذا ثبت هذا فنقول : هذا المفهوم الزائد إما أن يكون عدما محضا ، وإما أن يكون أمرا موجودا. والأول باطل لأن كونه قبل غيره نقيض لقولنا : إنه ليس قبله ، والمفهوم من عدم القبلية عدم محض ، ونقيض العدم ثبوت. فظهر أن القبلية والبعدية : أمران زائدان على الذات ، وهما وصفان ثابتان موجودان. وإذا ثبت هذا فنقول : إما أن تكون هذه المعاني من الأمور الثابتة التي لا حصول لها إلا في الذهن ، وإما أن يقال : إنها موجودة في الأعيان. والأول باطل ، لأن الذي لا ثبوت له إلا في الذهن يكون جاريا مجرى [قولنا (٢)] الخمسة زوج ، فإن هذا المعنى وإن كان يوجد في الفرض الذهني ، والاعتبار الفكري ، إلا أن العقل جازم بأنه لا وجود له في الخارج البتة ، لكن كون الأب قبل الابن ، ليس من هذا الباب. فثبت : أن هذه القبلية والمعية والبعدية مفهومات زائدة على الذوات ، ومعان موجودة في الأعيان ، كما أنها موجودة في الأذهان. ثم نقول : هذه القبليات والبعديات إما أن تكون من الأمور التي توجد مستقلة بأنفسها ، قائمة بذواتها ، غنية عن

__________________

(١) قديم (ت).

(٢) من (س).

٤٠