المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٥

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٩

[والأقرب (١)] من هذه الأقوال : أن يقال : دلت الدلائل على أن واجب الوجود لذاته واحد [وثبت (٢)] أن واجب الوجود لذاته ، واجب [الوجود (٣)] من جميع جهاته ، وذلك ينافي كونه سبحانه موردا للتغيرات والتبدلات [لكن (٤)] المدة [والزمان (٥)] مورد للتغيرات [والتبدلات (٦)] بحسب توارد القبليات والبعديات عليه ، فلم يكن واجب الوجود لذاته [من جميع جهاته ، فلم يكن واجب الوجود بحسب ذاته (٧)] بل كان ممكن الوجود لذاته. وأما الإله فهو الموجود المقدس عن التغيرات ، العالي عن أن يلحقه [شيء (٨)] [ما (٩)] بالقوة. فهذا هو الذي به نقول ، وعليه نعوّل. والله الهادي (١٠)

__________________

(١) والأصوب (م).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط).

(٤) من (ط).

(٥) سقط (ط).

(٦) من (ط).

(٧) سقط (ط) ، (س).

(٨) زيادة.

(٩) من (س).

(١٠) بعدها : المسألة الأولى في تحقيق الكلام في الآن. وفيه مسائل (سقط (ت).

٨١
٨٢

الفصل السابع

في

تحقيق الكلام في الآن

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في إثبات وجود الآن :

اعلم : أنه لا بد من الاعتراف بوجود شيء يكون حاضرا في الحال. ويدل عليه وجوه:

الأول : إن الماضي والمستقبل كل واحد منهما عدم محض ، فلو كان الحاضر أيضا عدما محضا ، لما تقرر الحصول والوجود أصلا (١) فكان هذا قولا بأنه لا وجود لشيء من الأشياء ، ولا حصول [لأمر من الأمور (٢)] وذلك جهالة.

الثاني : إنه لا شك في حصول أمور يحكم العقل عليها بكونها ماضية وبكونها مستقبلة ، والمعقول من الماضي هو الذي كان حاضرا ثم مضى ، والمعقول من المستقبل هو الذي يتوقع حضوره ، ولكنه لم يحضر. فلو كان حضوره ممتنعا ، لكانت صيرورته ماضيا ومستقبلا أيضا ممتنعا. ولما لم يكن كذلك ، علمنا أنه لا بد من الاعتراف بالحال الحاضر.

__________________

(١) أيضا (ط).

(٢) من (ط) ، (س).

٨٣

الثالث : إنه لا نزاع في أنا نشاهد أشياء ، مشاهدة حقيقية. ونجد من أنفسنا آلاما ولذّات. فهذا الذي نشاهده إنما نشاهده في الحال ، لأن الذي مضى ولم يبق تمتنع مشاهدته، والذي هو مستقبل ولم يحضر تمتنع أيضا مشاهدته. فعلمنا أن هذه الوجدانيات والمشاهدات إنما حصلت في الحال ، لا في الماضي ولا في المستقبل.

واعلم : أن القول بأنه لا بد من الاعتراف بكون [الحال (١)] الحاضر موجودا ، أظهر وأجلى من أن يفتقر فيه إلى بيان وبرهان. وإنما ذكرنا هذه الوجوه مبالغة في البيان.

المسألة الثانية : في بيان أن الآن الحاضر لا يقبل القسمة :

وقبل الخوض في تقرير المطلوب ، لا بد من تقديم مقدمة. وهي في بيان أن كون الشيء منقسما [يقع (٢)] على وجهين :

الأول : أن ينقسم الشيء بحيث يحصل لجميع أجزائه [وأقسامه (٣)] وجود معا. وذلك مثل انقسام الجسم ، فإنه حال انقسامه ، يكون كل واحد من أجزائه حاصلا مع حصول الجزء الآخر.

والثاني : أن ينقسم الشيء بحيث يمتنع أن يحصل بعض أجزائه حال حصول الجزء الآخر. وهذا مثل انقسام الزمان والحركة. وذلك لأن الزمان الممتد من أول اليوم إلى آخره يقبل القسمة إلى الأجزاء. ولكن أي جزء فرض ، فإنه [يمتنع حصوله ، حال حصول الجزء الآخر منه (٤)] والعلم بذلك ضروري بعد التأمل واستحضار تصورات هذه الألفاظ.

إذا عرفت هذا فنقول : الآن الحاضر غير قابل للقسمة بالوجه الثاني

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (ط).

(٣) أحدهما (م ، ت).

(٤) سقط (ط).

٨٤

[وذلك لأن خاصية القسمة بالوجه الثاني (١)] هو أن لا يكون أحد الجزءين موجودا عند وجود الجزء الآخر منه ، فلو كان الآن الحاضر منقسما على هذا الوجه ، لكان عند دخول نصفه الأول في الوجود ، لم يكن النصف الثاني منه موجودا ، وعند دخول النصف [الثاني (٢)] منه في الوجود يكون (٣) النصف الأول قد فات وزال. فعلى هذا التقدير لا يكون لذلك المجموع وجود البتة. فيثبت : أن كل ما كان منقسما على هذا الوجه لم يكن لمجموعه وجود [البتة (٤)] وهذا ينعكس انعكاس النقيض ، أن كل ما كان لمجموعه وجود ، فإنه لا يكون منقسما على هذا الوجه [والله أعلم (٥)].

المسألة الثالثة في أن الآن كيف يكون فاصلا (٦) باعتبار ، وواصلا باعتبار آخر؟

اعلم : أنا ذكرنا أن مذهب أرسطاطاليس وأصحابه : أن الزمان كم متصل. وإذا كان كذلك فنقول : كل كم متصل فإنه يقبل الفصل. ولا معنى للفصل إلا حصول طرف بالفعل لذلك الشيء ، وهذا يقتضي أن الزمان شيء يمكن أن يحصل له طرف (٧) بالفعل [لذلك الشيء. وهذا يقتضي أن الزمان شيء يمكن أن يحصل له طرف بالفعل (٨)] ثم إن هذا الطرف قد يكون واصلا وقد [يكون فاصلا (٩)] وهذا الكلام إنما ينكشف بالمثال. فنقول: [كل نقطة تحدث في الخط ، فإنها تكون فاصلة ، ثم بعد ذلك قد تكون واصلة ، وقد لا

__________________

(١) فرض وأنه يكون ممتنع الحصول والوجود عند كون الجزء الآخر حاصلا وموجودا والعلم ... الخ (م ، ت).

(٢) سقط (ط).

(٣) زيادة.

(٤) سقط (ط).

(٥) من (ط).

(٦) حاصلا (م ، ت).

(٧) ظرفا بالفعل (م) ظرفاه (ت).

(٨) سقط (س).

(٩) وقد لا يكون (م ، ت).

٨٥

تكون. أما القسم الأول (١)] فإذا حدثت نقطة في خط بحيث لا ينفصل بسببها أحد قسمي ذلك الخط عن القسم الآخر منه ، فإنه ليس هناك إلا أنه حدثت نقطة بالفعل. وتلك النقطة كما أنها نهاية لأحد قسمي ذلك الخط ، فهي بعينها بداية للقسم الآخر منه. فهذه النقطة تكون فاصلة لذلك الخط باعتبار ، وواصلة باعتبار آخر. أما أنها فاصلة فذلك لأن ذلك الخط كان قبل حدوث هذه النقطة فيه : خطا واحدا ، وعند حدوث هذه النقطة فيه : انقسم بقسمين. وأما أنها واصلة. فلأن تلك النقطة أوجبت اتصال أحد قسمي هذا الخط بالقسم الثاني منه. فهذا هو بيان كون النقطة [المعينة (٢)] الواحدة فاصلة باعتبار ، وواصلة باعتبار آخر.

وأما القسم الثاني : [وهو أن تكون النقطة فاصلة ولا تكون واصلة (٣)] فمثاله : إذا انقطع أحد نصفي الخط عن النصف الآخر. فإن تلك النقطة التي هي نهاية أحد القسمين لم توجب اتصال ذلك القسم بالقسم الآخر.

وإذا عرفت هذه المقدمة فنقول : [قد دللنا على (٤)] أن الآن الحاضر [لا بد وأن (٥)] يفصل الماضي [عن المستقبل. لأنه نهاية للماضي وبداية (٦)] للمستقبل ، فيكون هذا الآن فاصلا (٧) [لكنك قد عرفت أن الطرف الفاصل قد يكون واصلا وقد لا يكون. فنقول: هذا الآن الفاصل يستحيل أن (٨)] لا يكون واصلا ، لأنه إنما لا يكون واصلا لو انقطع الزمان ولم يكن بعده شيء آخر. وذلك محال. لأنه لو عدم [الزمان (٩)] لكان عدمه بعد وجوده : بعدية

__________________

(١) من (ط) ، (س).

(٢) من (ث).

(٣) وهو الطرف الذي يكون فاصلا ولا يكون واصلا البتة (م ، ت).

(٤) سقط (ط).

(٥) حد (م ، ت).

(٦) من (ط).

(٧) فهذا الآن فاصل ويجب أن يكون واصلا لأنه إنما لا يكون واصلا (س).

(٨) من (ت).

(٩) سقط (ط).

٨٦

بالزمان. والبعدية بالزمان لا تحصل إلا عند حصول الزمان. وذلك محال. وإذا ثبت هذا ظهر أن كل آن يحدث ، فإنه فاصل باعتبار وواصل باعتبار. أما إنه فاصل [فلأنه (١)] فصل الماضي عن المستقبل ، وأما إنه واصل فلأنه أوجب اتصال الماضي منه بالمستقبل. فيثبت : أن كل آن يفرض في الزمان ، يكون فاصلا باعتبار ، وواصلا باعتبار آخر [والله أعلم (٢)].

المسألة الرابعة في الفرق بين الآن المتأخر عن وجود الزمان وبين الآن المتقدم على وجود الزمان :

هذا [البحث (٣)] أيضا من تفاريع مذهبهم في أن الزمان كم متصل [فنقول : الزمان كم متصل (٤)] وكل كم متصل فإنه قابل لانقسامات لا نهاية لها ، وتلك الانقسامات غير حاصلة بالفعل ، وإلا لزم أن يحصل في الزمان المحدود الطرفين أجزاء غير متناهية بالفعل ، وذلك محال. بل [نقول (٥)] الزمان متصل واحد [في نفسه (٦)] فإذا عرض له سبب [يوجب انفصاله (٧)] حدث الانفصال فيه بالفعل. وذلك الانفصال هو الآن. فهذا الآن شيء يوجد بعد وجود الزمان ، فيكون هذا الآن متأخرا في الوجود عن الزمان.

وأما الآن المتقدم في الوجود على وجود الزمان. فتقريره أن نقول : كما أن النقطة تفعل بحركتها وميلانها الخط ، فكذلك الآن يفعل بسيلانه الزمان ، فهذا الآن يكون متقدما في الوجود على وجود الزمان. وأقول : إن قولهم : إن الآن شيء غير منقسم ، وإنه يفعل بسيلانه الزمان : تسليم لكون الآن شيئا قائما بنفسه ، مستقلا بذاته. ثم إنه يفعل بسيلانه الزمان ، وذلك بعينه رجوع الى

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(٥) سقط (م).

(٦) سقط (ط).

(٧) سبب منفصل (ت ، م).

٨٧

مذهب أفلاطون من أن الزمان جوهر قائم بذاته ، ثم إنه تحصل له نسب متعاقبة متوالية إلى الحوادث. فيكون هذا (١) اعترافا بأن الحق في تقرير المدة والزمان : ما ذكره أفلاطون. لا ما ذكره أرسطاطاليس.

__________________

(١) هذا اختيارا لقول أفلاطون ، واعترافا بسقوط قول أرسطاطاليس (م ، ت).

٨٨

الفصل الثامن

في

تحقيق الكلام في الدهر والسرمد.

والفرق بينهما وبين الزمان

ذكر الشيخ الرئيس في أكثر كتبه : أن اعتبار أحوال التغيرات [مع المتغيرات (١)] هو

الزمان ، واعتبار أحوال الأشياء الثابتة مع الأشياء المتغيرة هو الدهر ، واعتبار أحوال الأشياء الثابتة (٢) هو السرمد. وهذا هو الذي رأيناه في كتبه ، وما وجدنا له مزيد بيان ، وشرح لهذه الأقسام. ويجب البحث هاهنا عن سؤالين (٣) :

[السؤال (٤) الأول : أن الشيخ لم يبين أن هذا الذي سماه بالدهر والسرمد ، هل هو نفس هذه النسب المخصوصة أو هو أمر [آخر (٥)] يقتضي حصول هذه النسب؟ فإن كان الأول ، فلم لا نقول في الزمان [بمثل هذا القول؟] (٦) وهو أنه لا معنى للزمان إلا نفس هذه القبليات والبعديات والمعيات من غير إثبات أمر آخر؟ ولم زعم : أن الزمان موجود يقتضي حصول هذه النسب ، ولم يقل : الدهر موجود يقتضي حصول هذه النسبة المخصوصة؟ وما

__________________

(١) من (ط).

(٢) الفانية (م ، ت) والأشياء سقط (م).

(٣) أمور [الأصل].

(٤) زيادة.

(٥) سقط (ط).

(٦) بمثله (م ، ت).

٨٩

الفرق بين البابين؟ وإن كان الثاني وهو أن يقال : إن المسمى بالدهر والسرمد موجود مخصوص ، يقتضي حصول هذه النسب. فكان من الواجب عليه أن يبين أن ذلك الشيء جوهر أو عرض؟ وإن كان جوهرا ، فهو من الجواهر الجسمانية أو من الجواهر [الروحانية (١)] المجردة؟ وإن كان عرضا فهو من أي أجناس الأعراض؟ فإن هذه الكلمات لا تصير معلومة مفهومة ، إلا بهذا الطريق.

السؤال الثاني : أن يقال : إنك زعمت : أن نسبة الثابت إلى المتغير هو الدهر. فنقول : هذا الذي سميته بالدهر ، هل هو في نفسه ثابت مستقر ، أو هو في نفسه متغير سيال؟ فإن كان ثابتا فالثابت هل يجوز جعله سببا لحصول النسب المتغيرة أو لا يجوز؟ فإن جاز فلم لا يجوز أن يقال : المقتضى لحصول نسب بعض المتغيرات إلى بعض شيء ثابت في ذاته ، كما هو قول «أفلاطون» وإن لم يجز هذا ، فكيف جعلتم هذا الشيء المسمى بالدهر مع كونه [ثابتا (٢)] سببا لحصول النسب الواقعة بين الأشياء الثابتة ، وبين الأشياء المتغيرة؟ وذلك لأن هذه النسب تكون متغيرة [لا محالة (٣)] فإذا كان الدهر ثابتا ، والثابت لا يجوز جعله سببا للنسب المتغيرة ، لزم امتناع كون الدهر سببا لحصول الأشياء المتغيرة؟ وذلك لأن هذه النسب تكون متغيرة [لا محالة (٤)] فإذا كان الدهر ثابتا ، والثابت لا يجوز جعله سببا للنسب المتغيرة ، لزم امتناع كون الدهر سببا لحصول هذه النسب المتغيرة ، وأما ان المسمى بالدهر أمرا متغيرا في ذاته ، فالشيء المتغير في ذاته ، هل يمكن جعله سببا لحصول النسبة مع الأشياء الثابتة ، أو لا يمكن؟ فإن أمكن فلم لا يكون الزمان كافيا في ذلك حتى لا يحتاج إلى إثبات هذا [الشيء المسمى (٥)] بالدهر ، وإن لم يمكن فكيف جعلتم الدهر المتغير في ذاته ، سببا لحصول النسبة إلى الأشياء الثابتة؟

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (س).

(٣) من (ط).

(٤) من (ط).

(٥) من (ط ، س).

٩٠

قال الشيخ في كتاب عيون الحكمة : «الدهر في ذاته من السرمد ، وهو بالقياس إلى الزمان دهر» وأقول : معناه : إن الدهر في ذاته شيء ثابت غير متغير إلا أنه إذا نسب إلى الزمان الذي هو موجود متغير في ذاته ، سمي دهرا. وهذا تصريح بأن الدهر ثابت في نفسه وذاته ، إلا أنه مع كونه كذلك ، فإنه يقتضي حصول هذه النسب المتغيرة.

وفي هذا اعتراف بأن الشيء قد يكون ثابتا في ذاته ، ومع ذلك فإنه يقتضي تقدير الأحوال المتغيرة بالمقادير المخصوصة. إذا عرفت هذا فنقول : إن هذا عين مذهب أفلاطون ، وهو أن الزمان جوهر قائم بنفسه مستقل بذاته ، إلا أنه يقتضي تقدير هذه الأحوال المختلفة ، وقد ثبت أن الناصرين لمذهب أرسطاطاليس في أن الزمان مقدار الحركة ، لا يمكنهم التوغل في شيء من مضايق المباحث المتعلقة بالزمان ، إلا عند الرجوع إلى قول أفلاطون.

وأقول : قد ذكرنا : أن الأقرب عندنا في المدة والزمان هو مذهب أفلاطون. وهو أنه موجود قائم بنفسه مستقل بذاته ، فإن اعتبرنا نسبة ذاته إلى ذوات الموجودات [القائمة المبرأة (١)] عن التغير ، سميناه بالسرمد ، وإن اعتبرنا نسبة ذاته إلى ما قبل حصول الحركات والتغيرات ، فذاك هو الدهر الداهر ، وإن اعتبرنا نسبة ذاته إلى كون المتغيرات مقارنة [له حاصلة (٢)] معه فذاك هو الزمان [وبالله التوفيق (٣)].

__________________

(١) الدائمة المبرأة (م ، ت).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط) ، (س).

٩١
٩٢

الفصل التاسع

في

شرح خواص الماضي والحاضر والمستقبل

وهي أمور عشرة :

الخاصية الأولى : من الناس من قال : الماضي متقدم على الحال ، والحال متقدم على المستقبل. ومنهم من قال : بل المستقبل متقدم على الحال ، ثم الحال على الماضي.

واعلم أن كل واحد من هذين القولين صواب باعتبار [وخطأ باعتبار (١)] آخر. وشرح هذا الكلام يستدعي تقديم مقدمة :

فنقول مثلا : الماضي يعتبر من وجهين :

الأول : أنه ذلك الشيء الذي حكم عليه بكونه ماضيا.

والثاني : مجرد وصف كونه ماضيا. ولا شك في أن أحد هذين المفهومين ، مغاير للآخر. إذا عرفت هذا فنقول : إما أن نعتبر الماهية المحكوم عليها بكونها ماضية أو حاضرة أو مستقبلة ، وإما أن نعتبر نفس هذا الوصف. أعني مجرد كونه ماضيا وحاضرا ومستقبلا ، فإن اعتبرنا الأول كان السابق هو الماضي ، ثم الحال ، ثم المستقبل. لأن الداخل في الوجود أولا

__________________

(١) من (ط).

٩٣

هو (١) الماضي. ثم الحال ثم المستقبل. وأما إن اعتبرنا وصف كونه ماضيا وحاضرا. ومستقبلا. فههنا ينعكس الأمر ، فالمتقدم هو وصف كونه مستقبلا ، ثم يتلوه صيرورته حاضرا ، ثم يتلوه كونه ماضيا.

والدليل عليه : وهو أن الشيء الذي لم يوجد ، وكان بفرضية أنه سيوجد ، فعند كونه كذلك يكون مستقبلا ، فإذا حصل صار حاضرا ، فإذا انقضى وانقرض فإنه يصير ماضيا. فيثبت : أن الشيء في المرتبة الأولى يكون مستقبلا [ثم يصير حالا (٢)] ثم بالأخيرة يصير ماضيا.

الخاصية الثانية : المستقبل يصير حالا أولا ، ثم يصير ماضيا ، وأما الماضي فإنه لا يصير حالا البتة ولا مستقبلا ، وأما الحال فإنه يمكن أن يصير ماضيا لكنه لا يمكن أن يصير مستقبلا. وأما المستقبل فإنه يصير حالا أولا ، ثم [يصير (٣) ماضيا ثانيا.

الخاصية الثالثة : إن الماضي يصير في كل وقت أبعد مما كان قبله و[والمستقبل يصير في كل وقت أقرب مما كان قبله (٤)] والعلم بذلك بديهي ، ونظم بعض الشعراء هذا المعنى في مدح [واحد (٥)] فقال :

فلا زال (٦) ما تهواه أقرب من غد

ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس

الخاصية الرابعة : إن كل ما كان متقدما في الماضي ، فهو أبعد عن الماضي مما كان متأخرا [وفي المستقبل بالعكس. لأن كل ما كان متقدما في المستقبل ، فإنه أقرب إلى الحال مما كان متأخرا (٧)].

الخاصية الخامسة : أن نقول : المناسبة بين الحال وبين المستقبل ، أشد

__________________

(١) في الوجود أولا (ت).

(٢) فإذا حصل صار حاضرا (م ، ت).

(٣) من (ط).

(٤) من (م) ، (س).

(٥) سقط (ط).

(٦) ما هو آت [الأصل].

(٧) سقط (ط) ، (س).

٩٤

من المناسبة بين الحال وبين الماضي. وذلك لأن الحال موجود بالفعل. والمستقبل [وإن كان غير موجود بالفعل إلا أنه (١)] موجود بالقوة. أما الماضي فإنه غير موجود لا بالفعل ولا بالقوة ، لا سيما إذا قلنا : إعادة المعدوم ممتنعة. ولهذه الدقيقة وضع أهل اللغة العربية لفظ المضارع مشتركا بين الحال والاستقبال ، وما أثبتوا هذا الاشتراك بين الحال وبين الماضي.

الخاصية السادسة : إن المتقدم بالذات وبالعلية ، لا يصير متأخرا البتة. وبالعكس. أما المتقدم بالزمان فإنه قد يصير [هو بعينه (٢)] متأخرا بالزمان ، كالأب فإنه متقدم على الابن بالزمان ، ثم إنه قد يبقى بعد موته ، فيصير متأخرا عنه بالزمان [أما المتأخر بالزمان (٣)] فإنه يمتنع أن يصير متقدما بالزمان على ما كان متقدما عليه. وذلك ظاهر.

الخاصية السابعة : [أن نقول (٤)] التقدم بالعلية والتقدم بالزمان لا يجتمعان البتة ، لأنه لما ثبت أن العلة التامة في جميع الأمور المعتبرة في العلية ، يمتنع تخلف المعلول عنها ، لزم أن يقال : إنه حيث حصل التخلف لم تكن العلة علة تامة في العلية. فيثبت : أن التقدم بالعلية ، والتقدم بالزمان لا يجتمعان البتة. أما المتقدم بالطبع مع التقدم بالزمان ، فقد يجتمعان فإن الواحد متقدم على الاثنين بالطبع ، وقد يكون متقدما عليه أيضا في الزمان.

الخاصية الثامنة : قالوا : الزمان متحرك لا يسكن البتة ، والمكان ساكن لا يتحرك البتة ، ولما كانت الحركة أشرف من السكون ، لا جرم كان الزمان أشرف من المكان. ولهذا السبب قال الشيخ في خطبته المشهورة : «والمكان يلي الزمان وجودا ، ويجده أوائل علل الزمان تحديدا».

الخاصية التاسعة : الفرق بين المكان والزمان : أن الجزء الواحد من

__________________

(١) وإن لم يكن موجودا بالفعل. لكنه (م ، ت).

(٢) سقط (س).

(٣) من (ط) ، (س).

(٤) من (ط) ، (س).

٩٥

المكان لا يحصل فيه متمكنان البتة ، وأما الجزء الواحد من الزمان ، فإنه يمكن أن يحصل فيه حوادث غير متناهية.

الخاصية العاشرة : إن الحركة لها تعلق بالمكان ، وتعلق بالزمان. وذلك لأن الحركة عبارة عن الانتقال من حيز إلى حيز آخر. وأيضا : فلا بد وأن يكون وقت حصول الجسم في الحيز الأول ، مغايرا لوقت حصوله في الحيز الثاني. فيثبت : أن ماهية الحركة لها تعلق شديد بالمكان والزمان. فيجب أن يعتبر : أن أيهما أقدم؟ فنقول : يشبه أن يكون تعلقها بالزمان أقدم. وذلك لأن جميع أنواع الحركة متعلق بالزمان ، فإن الحركة في الكيف لا تنفك عن الزمان. وهي غنية عن المكان. فيثبت : أن تعلق الحركة بالزمان أشد من تعلقها بالمكان.

[ونقول (١)] اعلم أنه بقي من مباحث هذا الباب سؤالات :

السؤال الأول : إن المتقدم بالزمان هو الذي يكون موجودا في زمان ، ولا يكون المتأخر عنه موجودا في ذلك الزمان ، ثم يجيء زمان آخر يحصل فيه كل واحد منهما معا ، وإذا عرفت هذا فلقائل أن يقول : هذا الشيء المحكوم عليه بالتقدم [الزماني (٢)] إما أن يصير موصوفا بهذا التقدم الزماني في الزمان [الأول ، وهو الزمان الذي كان موجودا فيه مع عدم هذا المتأخر ، أو يصير موصوفا بهذا التقدم الزماني في الزمان (٣)] الثاني وهو الزمان الذي حصل فيه المتقدم والمتأخر معا. والأول محال ، لأن التقديم من باب المضاف ، فما لم يوجد الغير ، لم يكن هو متقدما عليه. فالزمان الذي لم يحصل فيه التأخر ، امتنع أن يصير الشيء موصوفا بكونه متقدما فيه. والثاني أيضا محال ، لأن الزمان الذي حصل فيه المتأخر يكون ذلك المتقدم حاصلا مع ذلك المتأخر ، في ذلك الزمان. فعلى هذا التقدير يكون حصولهما في ذلك الزمان موجبا للمعية والاعتبار ،

__________________

(١) ثم اعلم (م ، ت).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (م).

٩٦

[والذي يكون موجبا للمعية (١)] يمتنع أن يكون هو بعينه موجبا للتقدم ، لأن المعية منافية للتقدم. فيثبت : أنه لم يحصل لهذا المتقدم إلا هذا الزمان ، ويثبت : أن كل واحد منهما ينافي حصول التقدم ، فوجب أن لا يصح الحكم على الشيء بكونه متقدما على الغير بالزمان.

فهذا هو تقرير هذا الشك.

وجوابه : أن التقدم بالزمان لا حصول له إلا في الأذهان. وذلك لأن عند حصول الابن يعتبر الذهن أن الأب كان موجودا قبله. فمن هذا الاعتبار يحصل التقدم الزماني.

السؤال الثاني : إن التقدم والتأخر مضافان ، والمضافان معا. فالتقدم مع التأخر والمعية ينافي التقدم. والحاصل أن كونه متقدما على الغير ، يوجب كونه مع ذلك الغير ، [وكونه معه (٢)] ينافي كونه متقدما عليه. ينتج أن كونه متقدما على الغير ، ينافي كونه متقدما على الغير. وذلك باطل.

والجواب : إن ذات الأب متقدمة على ذات الابن. أما كونه متقدما على الابن فإنه مقارن لكون الابن متأخرا عنه. ولما حصل التغاير في الاعتبار ، زال التنافي.

السؤال الثالث : المعدوم قبل دخوله في الوجود يصدق عليه أنه سيوجد ، ثم إذا صار موجودا ، فإنه يزول عنه وصف أنه سيوجد ، فهذا وصف قد عدم بعد حصوله ، فيكون وصفا موجودا. لكنه إنما حصل قبل دخوله في الوجود ، فيلزم قيام الصفة الموجودة بالموصوف المعدوم ، وأنه محال. وأيضا : أنه إذا وجد وحضر ، ثم فني وعدم بعد ذلك ، فإنه يحصل له وصف كونه ماضيا. وهذا الوصف مغاير لتلك الماهية المخصوصة. بدليل : أن الماهيات المختلفة قد تكون متشاركة في صيرورتها ماضية ، والشيء الواحد يتوارد عليه وصف كونه مستقبلا وحاضرا وماضيا. وكل ذلك يدل على أن وصف كونه ماضيا مغاير لتلك الذات

__________________

(١) والاعتبار الموجب للمعية (س).

(٢) سقط (ط ، س).

٩٧

المخصوصة. وهذا الوصف لا شك أنه وصف موجود [بدليل (١)] أنه حصل بعد أن لم يكن حاصلا ، لكن هذا الوصف إنما يحصل للشيء بعد صيرورته معدوما ، فيلزم قيام الصفة الموجودة بالمعدوم المحض ، وهو محال.

والجواب : من الناس من قال : المحكوم عليه بأنه سيوجد ، أو بأنه كان موجودا : هو الصورة الذهنية الحاضرة في العقل. وهي موجودة لا معدومة. ولقائل أن يقول : الصورة الذهنية حاضرة ، والحاضر من حيث إنه حاضر لا يكون ماضيا ولا مستقبلا. والحاصل : أن المحكوم عليه بأنه ماضي وبأنه مستقبل ، إما أن يكون موجودا حاضرا أو لا يكون. فإن كان حاضرا لم يكن ماضيا ولا مستقبلا ، وإن لم يكن حاضرا كان معدوما في الحال. ووصف كونه ماضيا ومستقبلا موجود (٢) في الحال. فيلزم قيام الصفة الموجودة بالمعدوم المحض والنفي الصرف. وهو محال. والأقرب أن يقال : كونه ماضيا ومستقبلا ليسا صفتين موجودتين [والله أعلم (٣).

__________________

(١) لأجل (م) بدليل (ط) ، (س).

(٢) حاضرا (م) موجود (ط).

(٣) من (ط).

٩٨

الفصل العاشر

في

أن الزمان محدث أو قديم

اتفق جمهور الفلاسفة على قدم الدهر والمدة. واتفق المتكلمون على حدوثه. أما الأولون فهم فريقان : منهم من زعم أن العلم الضروري حاصل بأنه لا يقبل العدم البتة ، ولا يتمكن العقل من تصور رفعه وعدمه. ومنهم من أثبت قدمه بالحجة والدليل.

أما الطائفة الأولى : فقالوا : إنما قلنا : إن العلم الضروري حاصل بامتناع عدمه [وارتفاعه (١)] لوجوه :

الأول : إنا متى اعتقدنا أنه كان معدوما ثم حدث ، فلا بد وأن نعتقد عدما مستمرا من الأزل إلى وقت حدوثه ، وتعقل الدوام والاستمرار لا يمكن إلا عند إثبات مدة مستمرة ، لأنه لا معنى لذات المدة إلا ذلك الدوام السيال المتحرك (٢) فيثبت : أنه لا يمكن تصور عدمه إلا مع فرض وجوده ، وما كان كذلك ، كان عدمه ممتنعا في العقول لذاته.

الثاني : إنا متى تصورنا أنه كان معدوما. فقد تصورنا أن عدمه سابق على وجوده ، وذلك السبق لا معنى له إلا المدة والزمان. فيثبت : أن العقل لا يتمكن من تصور عدمه.

__________________

(١) سقط (ط ، س).

(٢) المستمر (م ، ت).

٩٩

الثالث : إنا متى قلنا : إنه كان معدوما أو سيصير معدوما. فلفظ كان ، وسيكون ، لا بد وأن يشير إلى مدة ماضية ، وإلى مدة [لاحقة] (١) آتية. وقول من يقول : إن هذا لضيق العبارة كلام فاسد ، بل هذا لأجل أن العقل لا يتمكن من فرض عدمه ، والفهم لا يمكنه التعبير عن تقدير عدمه. وكل ذلك لأجل ما ادعينا أن تقدير عدمه (٢) وفرض رفعه ، مما يأباه صريح العقل والفهم.

وأما الطائفة الأخرى : وهم الذين يثبتون كون المدة قديمة بالحجة والبينة ، فقد ذكرنا في كتاب القدم والحدوث : الوجوه التي ذكروها وعولوا عليها. فلا فائدة في الإعادة.

واعلم أن القائلين بقدم الدهر فريقان : منهم من يقول : المدة جوهر قائم بالنفس ، ولا يتوقف وجوده على وجود الحركة. ومنهم من يقول : المدة عبارة عن مقدار الحركة. أما الأولون فإنهم قالوا : إنه لا يلزم من قدم [الدهر قدم (٣)] الحركة البتة ، بل الدهر جوهر ثابت في ذاته ، فإن لم يقارنه شيء من الحركات والتغيرات والحوادث لم يحصل هناك إلا الدوام الواحد ، والاستمرار الواحد. ثم إن العقول البشرية قاصرة عن تصور كيفية ذلك الدوام ، وذلك لأن الذي وجدناه من عقولنا وأفهامنا أمران : أحدهما : الدوام بحسب تعاقب الحوادث ، ومجيء الحادث بعد الحادث وحضور الوقت [بعد الوقت (٤). وهذا إنما يتحقق بسبب [تغير (٥)] القبليات بالبعديات. فالدوام الخالي عن شوائب التغير مما لا يصل العقل إليه. والثاني : إن كل دوام نعقله ، فإنما نعقله في وقت معين ، وكل ما كان كذلك فهو محدود متناهي ، فالذي لا نهاية له لا يتصوره العقل البتة ، وأما إذا حصل في المدة أحوال متلاصقة ، وتغيرات

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) تقدير دفعه وعدمه مما يأباه (م ، ت).

(٣) من (م).

(٤) من (ط).

(٥) من (س).

١٠٠