المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٥

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٩

المعروض والموصوف ، وإما أن لا تكون كذلك ، بل تكون محتاجة إلى المعروض وإلى الموصوف. والأول باطل بالبديهة ، لأن القبلية والبعدية من باب النسب والإضافات ، وما كان كذلك امتنع كونها جواهر قائمة بأنفسها ، مستقلة بذواتها. فبقي القسم الثاني وهو أنه لا بد من أشياء تكون هذه القبليات والبعديات معارضة (١) لها من حيث إنها هي هي. ثم نقول : إن كل شيء فإنه لا يقبل هذا النوع من النسب والإضافات من حيث هو هو ، فإن الأب من حيث هو جوهر جسماني ، ليس قبل الابن ، ولا من حيث إنه طويل وأبيض وعالم وزاهد. فإذن لا بد من الجزم بوجود أمر تلحقه هذه القبليات والبعديات ، لحوقا بالذات. وذلك الشيء ليس هو الحركة للوجوه الكثيرة التي ذكرناها في الفصل المتقدم.

ونزيد هاهنا كلاما آخر فنقول : إن الجزء (٢) المتقدم من الحركة يمكن تعقله متأخرا وبالعكس. وأما الجزء المتقدم من الزمان فإنه لا يمكن تعقله متأخرا وبالعكس. فثبت : أن هذا الشيء الذي هو المعروض بالذات لهذه القبليات والبعديات موجود ، سيال منقضي لذاته ، وهو شيء مغاير للحركة. ولا نعني بالزمان إلّا ذلك.

والاعتراض عليه :

[السؤال الأول (٣)] لا نسلم أن القبلية والبعدية من المعاني الموجودة. أما قوله : «القبلية نقيض القبلية ، ثم إن اللاقبلية عدم ، ورافع العدم ثبوت». قلنا : يشكل هذا بالإمكان فإنه رافع للامتناع ورافع للوجوب. والامتناع عدم ، والوجوب ثبوت. فيلزم في الإمكان أن يقال : إنه لكونه رافعا للامتناع الذي هو عدم أن يكون (٤) وجودا ، ولكونه رافعا للوجوب الذي هو

__________________

(١) عارضة (س).

(٢) الجزم (م).

(٣) زيادة.

(٤) لا يكون (ت).

٤١

وجود ، أن يكون عدما ، فيلزم في الشيء الواحد أن يكون عدما ووجودا ، وهو محال.

ثم نقول : الذي يدل على أن القبلية والبعدية لا يمكن أن يكونا من الأمور الموجودة : وجوه :

الأول : إن صريح العقل يحكم بأن كل محدث ، فإنه مسبوق بعدمه ، وأن عدمه سابق على وجوده. وهذا يقتضي كون القبلية والسبق والتقدم وصفا للعدم ، وما كان وصفا للعدم ، امتنع أن يكون صفة موجودة ، لامتناع قيام الصفة الموجودة بالمعدوم المحض [والنفي الصرف (١)]. فثبت : أن القبلية والبعدية [ليست (٢)] من الصفات الموجودة.

الثاني : لو كانت القبلية صفة موجودة ، لكانت تلك الصفة الموجودة بالنسبة إلى غيرها ، إما أن تكون قبلا أو معا أو بعدا ، ويلزم التسلسل. لا يقال : لم لا يجوز أن تكون القبلية بالنسبة إلى غيرها ، وإن كانت قبلا ، إلا أن كونها كذلك عين ذاته. لا أنه صفة زائدة على الذات؟ لأنا نقول : إذا حكمنا على القبلية بأنها قبل شيء آخر ، فههنا ذات القبلية هي الموضوع. ثم حكمنا عليها بأنها قبل شيء آخر هو [المحمول (٣)] ، ومحمول القضية غير موضوعها لا محالة. فثبت : أن القبلية لو كانت صفة موجودة لكان كونها قبلا بالنسبة إلى غيرها ، يمتنع أن يكون عين ذاتها ، بل لا بد وأن يكون أمرا [مغايرا (٤)] لذاتها.

الثالث : إن القبلية والبعدية إضافتان. وكل واحدة منهما مقولة بالقياس إلى الأخرى وقد ثبت : أن المضافين يوجدان معا في الأعيان وفي الأذهان. فلو كانا موجودين ، لوجب أن يوجدا معا ، ولو وجدا معا ، لحصل معروضاهما

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) من (ط).

(٣) زيادة.

(٤) من (ط) ، (س).

٤٢

معا ، ضرورة أن الإضافة لا توجد وحدها ، بل إنما توجد عند وجود موصوفها [ومعروضها (١)] ، وحينئذ يلزم أن يقال : والبعد يوجب كونهما موجودين معا. فيلزم أن يقال : الشيء من حيث هو قبل غيره ، يجب أن يكون موجودا معه ، وهو محال.

الرابع : أن نقول : لما ثبت أن المضافين يوجدان معا ، فهذه المعية إن كانت وصفا زائدا عليهما ، كان ذلك الزائد أيضا معهما ، فتكون هذه المعية الثانية زائدة ، ولزم التسلسل. وإن لم يكن وصفا زائدا ، فلم لا يجوز مثله في سائر المعيات والقبليات؟ لا يقال : إن كون المضافين معا ، نفس ذاتيهما. لأنا نقول : إذا قلنا : المضافان يوجدان معا. فهو قضية موضوعها : قولنا المضافان. ومحمولها قولنا يوجدان معا. والمحمول [في كل قضية (٢)] غير الموضوع [لامتناع حمل الشيء الواحد بالاعتبار الواحد على نفسه (٣)]. وعلى هذا التقدير فإنه يبطل هذا العذر. فثبت بهذه الوجه : أن القبلية والبعدية لا يمكن أن يكونا من الصفات الموجودة في الأعيان.

السؤال الثاني : إن هذا الدليل الذي ذكرتم يقتضي إثبات زمان للزمان. وبيانه : وهو أن بعض أجزاء الزمان سابق على البعض ، وظاهر أن ذلك السبق ليس بالعلية ولا بالذات ، لأن السبق الذي يكون بالعلية وبالذات يجوز أن يوجد المتقدم فيه مع المتأخر. والجزء السابق من الزمان يمتنع أن يوجد مع الجزء المتأخر ، بل تقدم الأمس على اليوم كتقدم الجزء السابق من الحركة على الجزء اللاحق منها ، فإن كان هذا النوع من التقدم لا يتقرر إلا مع الزمان ، لزم أن يكون للزمان زمان آخر ، وإلا فجوزوا مثله فيما ذكرتم.

الحجة الثالثة في إثبات الزمان : وهو دليل ، رتبناه للقائلين بإثبات الزمان. فنقول : إنا نعلم بالضرورة : أن هاهنا شيئا ينقسم إلى السنين تارة وإلى

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (ط) ، (س).

٤٣

الشهور أخرى ، وإلى الأيام تارة ، وإلى الساعات أخرى ، والعلم بذلك أجلى العلوم البديهية وأظهرها ، ونعلم أن ذلك الشيء يعد بالسنين ، وأن السنة تعد بالشهور ، وتقدر بها [وأن الشهر يعد بالأيام ويقدر بها. وأن اليوم يعد بالساعات ويقدر بها (١)] وكيف لا نقول ذلك. وكل من له سمة من العقل ، فإنه يعلم أن له من السنين كذا؟ وأن الشهور المنقضية من هذه السنة التي نحن فيها كم هي؟ [وأن الشهور الباقية كم هي؟ وأن الأيام من الشهر كم هي؟ والباقية (كم هي؟] (٢) وأن الساعات المنقضية من هذا اليوم كم هي؟ والباقية كم هي؟.

وإذا ثبت هذا فنقول : قضت بدائه العقول بصحة هذه التقسيمات ، وكل من تشكك في صحتها ، قضى عليه بالجنون التام [والعته الشديد (٣)] ثم نقول : هذا الذي حكم عليه العقل بكونه موردا لهذه التقسيمات. إما أن يكون عدما محضا ، ونفيا صرفا ، وإما أن لا يكون كذلك ، بل يكون موجودا وثابتا ومتحققا ، والأول باطل ، لأن العدم المحض لا يمكن تقسيمه إلى الأجزاء والأبعاض [ولا يمكن وصف تلك الأبعاض والأجزاء (٤)] بأنه أزيد من غيره ، أو أنقص من غيره. ومعلوم أن صريح العقل يحكم بأن السنة أطول من الشهر ، والشهر أطول من اليوم ، واليوم أطول من الساعة. وأيضا : فصريح العقل يقضي على هذا الشيء بأن منه ما مضى ، ومنه ما هو مستقبل. وصريح العقل يقضي بأن الماضي هو الذي كان حاضرا ، وقد انقضى. والمستقبل هو الذي يتوقع حضوره ، ولم يحضر بعد. فلو لم يكن لهذا الشيء حضور وحصول البتة ، لامتنع أن يحكم العقل عليه بكونه ماضيا ومستقبلا ، وحيث حكم صريح العقل عليه بذلك. علمنا أنه ليس عدما محضا [ونفيا صرفا (٥)] ، بل لا بد وأن يكون موجودا. ثم نقول : الموجودات على قسمين : منها ما هو قار

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) سقط (س).

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) سقط (ت).

(٥) سقط (ط ، س).

٤٤

الوجود ، ومنها ما لا يكون كذلك ، والمراد من قولنا : فإن الوجود : هو الذي تكون أجزاؤه حاصلة معا. والمراد من قولنا : غير قار الوجود : ما لا يكون كذلك. فنقول : هذا الشيء الذي يمكن تقسيمه إلى السنين ، والشهور والأيام والساعات ليس من الموجودات التي تكون قارة الوجود ، بدليل أن بديهة العقل حاكمة بأنه لا يوجد جزءان منه [معا (١)] فلا يمكن حصول سنتين معا ولا [حصول (٢)] شهرين ، ولا حصول يومين ، ولا حصول ساعتين معا. ولا يمكن أيضا أن يجتمع في الوجود منها جزءان ، وإن كانا أصغر الأجزاء ، بل كل اثنين يفرضان ، فإنه لا بد وأن يكون أحدهما متقدما على الآخر ، وإنه لا بد عند حصول أحدهما ، أن لا يكون الآخر حاصلا ، وكل ذلك معلوم في البديهة ، بشرط [حصول (٣)] التأمل الصافي ، واستحضار مفهومات هذه الألفاظ في الذهن. فيثبت : أن هذا الشيء المسمى بالمدة والزمان موجود ليس قار الوجود ، لكن ثبت أن الجسم وكمه وكيفه وأينه ووضعه ومضافه وسائر مقولاته ، أمور قارة ، فوجب القطع بأن هذا الشيء المسمى بالمدة والزمان أمر مغاير لهذه الأشياء بأسرها. ثم نقول : هذا الشيء إما أن يكون هو الحركة أو صفة من صفات الحركة ، أو شيء مغاير للحركة ولجميع صفات الحركة. والأول باطل للوجوه الكثيرة التي شرحناها وقررناها في الفصل المتقدم.

والذي نزيده الآن أن نقول : لا معنى للحركة إلا حصولات متعاقبة في أحياز متعاقبة متلاصقة ، ولا معنى لتعاقب تلك الحصولات ، إلا حصول بعضها عقيب البعض في الأزمنة المتوالية ، لكن تواليها في تلك الأزمنة إضافة بينها وبين تلك الأزمنة [والإضافة بينها وبين الأزمنة متأخرة عن تقرر حصول تلك الأزمنة (٤)] فثبت : أن الحركة مفتقرة في تحقق ماهيتها إلى الزمان ، وأما الزمان فإنه غني في ذاته عن الحركة ، لأنه يمكننا فرض مدة خالية عن جميع الحركات

__________________

(١) من (س).

(٢) من (م).

(٣) سقط (س).

(٤) من (ط) ، (س).

٤٥

وجميع التغيرات ، وهذا يوجب القطع بأن الزمان أمر مغاير للحركة.

وأما بيان أنه (١) لا يجوز أن يكون الزمان عبارة عن صفة من صفات الحركة : فهو أن صفة الحركة مفتقرة في تحققها إلى حصول الحركة ، فلو كان الزمان عبارة عن صفة من صفات الحركة ، لكان الزمان مفتقرا في تحقق ماهيته إلى تحقق الحركة. لكنا قد بينا : أن الحركة مفتقرة في تحقق ماهيتها إلى تحقق الزمان ، فيلزم الدور وهو محال. وأيضا : فقد بينا : أن الزمان غني [في تحقق ماهيته (٢)] عن الحركة ، لكن كل ما كان من صفات الحركة ، فهو مفتقر في تحقق حقيقته إلى الحركة. ينتج : أن الزمان والمدة يمتنع أن يكون عبارة عن صفة من صفات الحركة. فثبت : أن الزمان موجود غير قار الذات (٣) وثبت : أنه ليس بحركة ولا صفة من صفات الحركة ، بل هو كالظرف [والوعاء (٤)] للحركات والتغيرات. ولا نريد بالزمان الذي حاولنا إثباته إلا ذلك.

واعلم أنا كنا ألزمنا على الدليلين الأوليين افتقار الزمان إلى زمان آخر ، إلى غير النهاية ، فيجب أن يعلم هاهنا : أن ذلك السؤال غير لازم على هذا الدليل. وذلك لأنا هاهنا ادعينا حصول العلم الضروري ، بحصول شيء يقسم إلى السنين والشهور والأيام والساعات ، ثم بينا أن ذلك الشيء ليس كذا ولا كذا ، فثبت أنه شيء آخر وهذا الكلام إنما يلزم عليه إثبات زمان للزمان ، لو حكمت فطرة العقل بأن الشيء الذي سميناه بالزمان له ظرف آخر ، ولما لم يحصل هذا المعنى في بداءة العقول ، بل بديهة العقل دافعة لذلك ، علمنا : أن هذا السؤال غير لازم على هذا الوجه.

الحجة الرابعة في إثبات الزمان : [أن نقول : اعلم (٥)] أنا قبل الخوض في المقصود نقدم مقدمة نافعة لنا في هذا المطلوب ، وهي في البحث عن حقيقة

__________________

(١) أن الزمان لا يجوز (س).

(٢) سقط (ط ، س).

(٣) الوجود (س).

(٤) من (ط ، س).

(٥) سقط (س).

٤٦

التوقيت. فإن الرجل قد يقول لغيره : آتيك إذا طلعت الشمس ، وآتيك إذا جاء الربيع. وتحقيق هذا المعنى : إن مجيء الرجل مجهول ، وطلوع الشمس معلوم ، فيقرن هذا المجهول بذلك المعلوم ليصير ذلك المجهول بسبب هذا الاقتران معلوما ، ولهذا المعنى قال أهل التحقيق: «التوقيت عبارة عن قرن متجدد موهوم ، بمتجدد معلوم ، إزالة للإيهام».

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن البديهة الصحيحة ، والفطرة الأصلية حاكمة بصحة هذا التوقيت ، وعليه مدار الأمر في التواريخ المستقبلة ، فإنها عبارة عن تعريف وجود الأشياء التي تكون مجهولة الوقوع ، بالأوقات المعلومة المستقبلة. وكذا القول في التواريخ الماضية ، فإنها عبارة عن تعريف وقوع الأشياء (١) التي يكون وقوعها مجهولا بالأوقات المعلومة الماضية.

إذا عرفت هذا فلنبحث عن معنى قولهم : آتيك إذا طلعت الشمس. فإنه لا معنى (٢) لهذا الكلام إلا أن القائل يقول : آتيك في الوقت الذي تطلع فيه الشمس ، وهذا تصريح بإثبات وقت واحد بعينه يحصل فيه مجيء هذا القائل ، ويحصل فيه طلوع الشمس. فنقول : ذلك الوقت الذي حكمت الفطرة السليمة. بجعله ظرفا لهذا المجيء ، ولطلوع الشمس. إما أن يكون شيئا باقيا ثابتا ، أو شيئا سيالا منقضيا ، والأول باطل ، وإلا لكان حاصلا في الحال ، فوجب أن لا يكون منتظرا ولا مستقبلا. وبديهة العقل حاكمة بأن ذلك الوقت غير حاضر في الحال بل هو منتظر الوجود. فثبت أنه أمر سيّال. ثم ذلك السيال إما أن يكون [شيئا (٣)] من جنس حركات الأفلاك والكواكب ، أو صفة من صفاتها ، أو يكون موجودا مغايرا لهذين القسمين. والأول باطل ، لأن ذلك الوقت شيء حكمت الفطرة السليمة بكونه ظرفا للحركة الفلكية ، وظرف الحركة الفلكية لا يكون نفس الحركة الفلكية ، فإنه لما قال : آتيك إذا طلعت الشمس. فمعناه : آتيك في الوقت الذي يكون ظرفا لطلوع الشمس. وأما

__________________

(١) الأشياء المجهولة الوقوع (م ، ت).

(٢) لا نفهم (ط) ، (س).

(٣) سقط (س).

٤٧

القسم الثاني : وهو أن يكون ذلك الشيء صفة من صفات الحركة الفلكية ، فهو أظهر فسادا ، لأن ذلك الشيء ظرف للحركة الفلكية ، والحركة الفلكية [جارية مجرى الظرف (١)] بجميع صفاتها ونعوتها ، فلو كان الظرف شيئا من صفات تلك الحركة ، لزم كون (٢) الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد ظرفا له ومظروفا له. وهو محال. وأيضا : فلو قال قائل : إنه تعالى يفعل الفعل الفلاني عند وقوف الأفلاك والكواكب عن حركاتها ، لم يكن هذا الكلام كلاما معلوم الفساد والبطلان في بديهة العقل. فلو كان هذا الظرف شيئا من الحركات الفلكية (٣) أو شيئا من أحوال تلك الحركات. لكان هذا الكلام مقطوع الفساد في بديهة العقل. لأن حصول الحادث لا في وقت معين : معلوم الامتناع في البديهة. وأيضا : فلا حال من أحوال الحركة الفلكية ، ولا صفة من صفاتها ، إلا وصريح العقل يحكم بأنها وقعت في الوقت الفلاني. في الماضي ، أو سيقع في الوقت الفلاني في المستقبل.

فثبت بما ذكرنا : أن ذلك الظرف ليس هو الحركة الفلكية ، ولا صفة (٤) من صفاتها. فثبت : وجود موجود سيّال ، ليس هو الحركة الفلكية ولا صفة من صفاتها. وذلك هو الزمان.

فإن قيل : إنكم بنيتم هذا على أن المراد من قول القائل : آتيك عند طلوع الشمس ، هو آتيك في الوقت الذي تطلع فيه الشمس. ونحن لا نرضى بهذا التفسير ، بل نفسره بوجه آخر فنقول : المراد منه آتيك إتيانا مقارنا لطلوع الشمس ، أو مع طلوع الشمس. وعلى هذا التقدير فإنه يبطل ما ذكرتم. وأيضا : فهذه الحجة مبنية على كلام يذكره أهل العرف ، ومثل هذا مما لا يلتفت إليه.

والجواب عن الأول : إن تلك المقارنة والمعية [ليست في الماهية (٥) ولا في

__________________

(١) من (س).

(٢) لزم كون كل واحد منهما ظرفا للآخر (م ، ت) وفي (ط) ظرفا للآخر.

(٣) الفلكية حاصلة حال كونها معدومة محال في العقول وأيضا ... (ت ، م).

(٤) شيء (س).

(٥) سقط (ط).

٤٨

أمر آخر ، بل لا معنى لتلك المقارنة والمعية ، إلا حصولهما في وقت واحد وزمان واحد ، وحينئذ [يرجع (١) كل ما ذكرناه.

والجواب عن السؤال الثاني : أن نقول : المناظرات لا معنى لها إلّا تركيب علوم ضرورية ، لغرض استنتاج المطالب المجهولة الفطرية (٢) منها ، وذلك لا يتم إلا عند الاعتراف بصحة القضايا البديهية. وهذه المسألة لما تأملنا علمنا : أن صحة هذا التوقيت أمر تحكم به جميع العقول السليمة ثم لما تأملنا ، علمنا : أن صحة هذه المقدمة البديهية ، توجب القول بوجود الزمان بالطريق الذي لخصناه. فكان هذا الكلام من أظهر الدلائل ، وأقوى البراهين في إثبات هذا المطلوب. وبالله التوفيق.

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) النظرية (س)

٤٩
٥٠

الفصل الرابع

في

البحث عن ماهية الزمان

الذي ذهب إليه «أرسطاطاليس» وارتضاه المعتبرون [من أتباعه (١)] كأبي نصر الفارابي ، وأبي علي بن سينا : أنه مقدار حركة الفلك الأعظم. وقال : [الشيخ (٢)] أبو البركات البغدادي [صاحب المعتبر (٣)] : إنه مقدار امتداد الوجود. وقال قوم [آخرون (٤)] : إنه عبارة عن نفس حركة الفلك الأعظم. وقال آخرون : إنه لا معنى للزمان إلا مجرد التوقيت على ما فسرناه وكشفنا عن معناه. وقال آخرون : كما أن النقطة تفعل بحركتها الخط فكذلك الآن يفعل بحركته الزمان. وكما أن النقطة إذا فعلت بحركتها الخط كانت واصلة [لأحد قسمي ذلك الخط بالقسم الثاني. وإذا وقفت تلك النقطة كانت فاصلة لذلك الخط وقاطعة له (٥)] فكذلك الآن ، إذا فعل بحركته الزمان ، كان آنا واصلا (٦) وإذا فرض حدوثه في الزمان المتصل كان آنا فاصلا. وقالت طائفة (٧) عظيمة من قدماء الحكماء : الزمان جوهر أزلي واجب الوجود لذاته ، ولا تعلق

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(٥) من (ط) ، (س).

(٦) فاصلا (ت ، م).

(٧) وقال قوم عظيم (س).

٥١

له في ذاته ، ولا في وجوده ، لا بالفلك ولا بالحركة ، وإنما الفلك بحركته يقدر أجزاؤه كما أن الفنجانة تقدر بسبب أحوالها المختلفة أجزاء الليل والنهار. ثم قالوا : هذا الجوهر القائم بالنفس ، إن حصل فيه شيء من الحركات ، ويقدر امتداد دوامه بسبب تلك الحركات سمي زمانا ، وأما إن خلى عن مقارنة الحركات ولم يحصل فيه شيء من التغيرات فهو المسمى بالدهر والأزل والسرمد.

فهذا تفصيل مذاهب الناس في هذا الباب.

ولنتكلم الآن في أن الزمان هل يعقل أن يكون مقدارا للحركة الفلكية كما هو قول «أرسطاطاليس» وأتباعه؟.

فنقول : هذا المذهب عندنا باطل. ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : إن الحركة الفلكية الأولى ، لما افتقرت إلى الزمان. فذلك الافتقار إما أن يكون لا لأجل كونها حركة ، وإما أن يكون لأجل كونها حركة ، [والقسمان باطلان ، فبطل القول بكون الزمان مقدارا للحركة. وإنما قلنا : (١) إن] القسم الأول باطل ، لأن الحركة من حيث إنها حركة عبارة عن الانتقال من حال إلى حال [آخر (٢)] وإذا كان كذلك فالحركة من حيث إنها حركة لا تقرر ماهيتها ، ولا تحصل حقيقتها ، إلا عند حصول تعاقب القبليات والبعديات. وهذا المعنى لا يحصل إلا بسبب الزمان [فثبت أن الحركة (٣)] من حيث هي حركة مفتقرة إلى الزمان ، وإذا ثبت هذا ، فحينئذ لم يكن حصول الزمان لبعض الحركات ابتداء ، وللباقي بالتبعية ، أولى من العكس. لأن جهة الاقتضاء لما لم تكن إلا [مجرد (٤)] كونها حركة ثم إن هذا المعنى أمر مشترك فيه بين الكل على السوية ، كانت جهة الاقتضاء ، حاصلة في الكل على السوية ،

__________________

(١) من (ط) ، (س).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (م) ، (ت).

(٤) من (ط) ، (س).

٥٢

وعلى هذا التقدير فيمتنع أن يتخصص به بعض الحركات دون البعض ، وحينئذ إما أن [يجب أن (١)] يحصل لكل حركة زمان على حدة ، أو يحصل للكل زمان [واحد (٢)] بعينه ، أو لا يحصل الزمان لشيء منها. والقسم الأول باطل من وجهين :

أحدها (٣) : إن على هذا التقدير يلزم أن لا تكون هذه الساعة الواحدة ساعة واحدة ، بل تكون ساعات كثيرة بعد الحركات الموجودة في العالم الأعلى ، والعالم الأسفل ، ومعلوم أن ذلك باطل ، فإنا نعلم [بالضرورة (٤)] أن هذه الساعة ليست إلّا ساعة واحدة.

والثاني : إن تلك الأزمنة لما وجدت معا ، فمعيتها لا بد وأن تكون لزمان آخر محيط بها ، وذلك محال ، لأنه يؤدي إلى (٥) التسلسل. وأيضا : فبتقدير تسليم جواز التسلسل فالمحال لازم ، لأن الأمر الذي لأجله حصل اجتماع كل الأزمنة ، لا بد وأن يكون محيطا بجميعها ، والمحيط بجميع الأزمنة ، وجب أن لا يكون زمانا. لأنا قد حصرنا الأزمنة بأسرها في ذلك المجموع ، فالمحيط بها الخارج عنها ، لا بد وأن يكون (٦) زمانا ، لكن [قد ثبت أن الشيء (٧) الذي يقتضي المعية والقبلية والبعدية هو الزمان ، فذلك الخارج يجب أن يكون زمانا [وأن لا يكون زمانا (٨) وهذا خلف. محال.

وأما القسم الثاني وهو أن يحصل زمان واحد قائم بجميع الحركات. فهذا أيضا محال. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن حلول العرض الواحد في المحال الكثيرة محال.

والثاني : إنه إذا عدمت حركة ، فقد عدم مقدارها ، والحركة الثانية التي هي باقية موجودة ، يكون مقدارها أيضا موجودا ، فلو كان مقدار جميع الحركات

__________________

(١) من (س).

(٥) يلزم (ت ، م).

(٢) من (م).

(٦) وأن لا يكون (ت).

(٣) أحدها (ت ، م).

(٧) من (ط) ، (س).

(٤) من (ط) ، (س).

(٨) من (ط).

٥٣

مقدارا واحدا بالعدد ، لزم كون الشيء الواحد موجودا معدوما معا. وهو محال.

والثالث : إن الحركات المختلفة تكون مقاديرها مختلفة. فلو كان مقدار جميع الحركات شيئا واحدا مع أنها مقادير مختلفة لزم أن يكون الشيء الواحد وحده بحسب الشخص. تكون له حقائق مختلفة. وذلك محال. وأما القسم الثالث : وهو أن [يقال : إن (١)] الشيء الذي هو زمان لجميع الحركات ، لا يكون عارضا لشيء من الحركات ، بل يكون مباينا عنها بأسرها [إلا أن الحركات تقع فيها وتتقدر بها. فهذا هو المطلوب. وعند هذا يظهر فساد (٢)] قول من يقول : الزمان عرض قائم بحركة الفلك الأعظم ، بل هو تصريح بأن الزمان غني عن كل الحركات. وهو المطلوب.

وهذا الكلام قوي في إثبات هذا المطلوب.

واعلم أن الشيخ الرئيس ذكر هذه الحجة في الشفاء لا على هذا الوجه [التام في التقرير والتحرير ، لكن] (٣) ذكرها ناقصة مشوشة. ثم إنه أجاب عنها ، [في فصل آخر(٤)] ونحن ننقل جوابه بلفظه ، ثم ننظر فيه على سبيل الإنصاف : [أنه هل يكفي في دفع هذا الكلام أم لا؟ (٥)] قال : في [كتاب (٦)] الشفاء : «والذي قيل : أنه إن كان للزمان وجود ، وجب أن تتبع كل حركة [زمان فتكون كل حركة (٧)] تستتبع زمانا. فالجواب عن ذلك : أنه فرق بين أن يقال : إن الزمان مقدار لكل حركة ، وبين أن يقال : إن ذات الزمان البتة (٨) متعلقة بكل حركة ، وأيضا فرق بين أن يقال : إن ذات الزمان متعلقة بالحركة على سبيل العروض لها ، وبين أن يقال : إن ذات الحركة متعلق بها الزمان على سبيل أن الزمان يعرض لها. أما الأول فلأنه ليس من شرط ما تقدر الشيء أن يكون عارضا له وقائما به ، بل ربما قدر المباين بالموافاة والموازاة لما

__________________

(١) من (س).

(٥) سقط (ط) ، (س).

(٢) من (س ، ط).

(٦) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (س ، ط).

(٧) من (ط) ، (س).

(٤) من (ط ، س).

(٨) إن آنيته متعلقة (م ، ت) وإن البتة (س).

٥٤

هو مباين له ، وأما الثاني فلأنه ليس أمر إذا تعلق ذات شيء بطبيعة شيء ، يجب أن لا تخلو طبيعة الشيء عنه. ونحن إنما تبرهن لنا من أمر الزمان أنه متعلق الحركة وهيئة لها. ومن أمر الحركة : أن كل حركة فإنها متقدرة بزمان ، وليس يلزم من هذين أن تكون كل حركة ، فإنه يتعلق بها زمان يخصها ، ولا أن كل ما قدر شيئا فهو عارض له ، حتى يكون لكل حركة زمان عارض لذاتها بعينه ، بل الحركات التي لها ابتداء وانتهاء لا يتعلق بها الزمان. نعم إن وجد الزمان لحركة على صفة يصلح أن يتعلق بها وجود الزمان تقدر به سائر الحركات ، وهذه الحركة يجب أن تكون حركة يصح عليها الاستمرار ، ولا يحصل لها بالفعل أطراف» ثم [إن الشيخ الرئيس (١)] أطنب في الكلام [وطول (٢)] إلى أن قال : «فالزمان وجوده متعلق بحركة واحدة يقدرها ، ويقدر أيضا سائر الحركات ، وذلك كالمقدار الموجود في جسم ، فإنه يقدره ويقدر أيضا ما يحاذيه ويوازيه» هذا نص كلامه.

وأقول : [حاصل (٣)] هذا التطويل (٤) يرجع إلى حرف واحد ، وهو أنه : لم لا يجوز أن يقال : الزمان عبارة عن مقدار حركة معينة ، ثم إن تلك الحركة تتقدر بذلك المقدار ابتداء، ثم بواسطة تقدر تلك الحركة بذلك المقدار تتقدر أيضا سائر الحركات بذلك الزمان؟ فهذا هو الحاصل من هذه الكلمات الطويلة.

واعلم أنا حررنا ذلك الدليل بحيث لا يتوجه عليه هذا السؤال ، وذلك لأنا بينا أن افتقار الحركة إلى الزمان ، ليس لكونها حركة مخصوصة ، بل لكونها حركة فقط. وهذا المعنى أمر مشترك فيه بين جميع الحركات. وحينئذ يلزم أن يقال : إن جهة الاقتضاء والافتقار حاصلة في جميع الحركات على السوية من غير

__________________

(١) من (ط) ، (س).

(٢) سقط (م) ، (ت).

(٣) سقط (ط).

(٤) التأويل (ط).

٥٥

تفاوت أصلا ، ومتى كان الأمر كذلك ، امتنع أن يقال : إن ذلك الزمان حصل لبعض تلك الحركات دون البعض.

واعلم أن غرضنا من نقل كلام الشيخ أن نبين : أنا إنما حررنا ذلك الدليل على وجه لا يتعلق به كلام الشيخ ولا يقدح فيه. ثم إنا بعد التنبيه على هذا المقصود ، نبين أن هذا الكلام الذي ذكره مختل من وجه آخر. وتقريره : أن المعقول من مقدار الحركة [هو مقدار امتداد الحركة (١)] لأنا إن لم نفسر مقدار الحركة بهذا المعنى ، لم يتلخص من قولنا : مقدار الحركة مفهوم ملخّص معين ، وإذا عرفت هذا فنقول : [المفهوم من امتداد وجود الشيء بقاؤه واستمراره ودوامه. إذا ثبت هذا فنقول (٢) :] من المعلوم بالضرورة أن دوام وجود الشيء يمتنع أن يكون موجودا مباينا عنه ، حاصلا في غيره. وذلك لأن الناس اختلفوا في أن بقاء الشيء واستمراره ، هل هو صفة زائدة على وجوده أم لا؟ فمنهم من نفى كونه صفة زائدة ، ومنهم من أثبتها. وكل من قال بذلك قال : إن تلك الصفة حاصلة في ذلك الشيء ، ويمتنع كونها حاصلة في شيء آخر ، وليس في العقلاء واحد يجوز أن يقول : إن دوام وجود الشيء لا يكون حاصلا فيه بل في غيره ، وإذا ثبت أن دوام وجود الشيء يجب أن يكون فيه لا في غيره ، فمقدار هذا الدوام لا معنى له إلا كيفية من كيفيات هذا الدوام ، فكانت هذه الكيفية ـ بامتناع المباينة ـ أولى.

فثبت بما لخصناه : أنا متى فسرنا الزمان بمقدار الحركة (٣) كانت بديهة العقل حاكمة بأن مقدار كل حركة يجب أن يكون قائما بتلك الحركة ، وأنه يمتنع أن يحصل هناك مقدار واحد يكون قائما بواحد منها ، وتكون سائر الحركات في أنفسها خالية عن مقاديرها. أما قول الشيخ : «إن المقدار الموجود في جسم يقدره [ثم تتقدر (٤)] سائر الأجسام بواسطته» فنقول : هذا مغالطة محضة ،

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م). (س).

(٣) العبارة من (ط).

(٤) من (ط).

٥٦

وذلك لأنه [لما كان (١)] لكل كل واحد من تلك الأجسام مقدار على حدة ، فكذلك هاهنا وجب أن يكون لكل واحد من هذه الحركات مقدار على حدة.

وعلى هذا التقدير : إذا قلنا : الزمان عبارة عن مقدار الحركة ، لزم القطع بحصول الأزمنة الكثيرة دفعة واحدة ، وحينئذ تعود المحاولات المذكورة.

فإن قال قائل : هذا الكلام إنما يلزم ، إذا قلنا : الزمان نفس مقدار الحركة ، ونحن لا نقول [بذلك بل نقول إن (٢)] لكل واحد من الحركات مقدار خاص بها على حدة. وهاهنا شيء آخر مباين عن الكل ، هو المقتضى لحصول تلك المقادير ، وذلك الشيء هو الزمان. فنقول : هذا مدفوع من وجهين :

الأول : إن مذهبكم أنه لا حقيقة للزمان إلّا مقدار الحركة ، فلما أبطلنا عليكم هذا الكلام ، تركتم في هذا السؤال ، ذلك المذهب ، وقلتم : الزمان عبارة عن [المعنى (٣)] المقتضي لمقدار الحركة. ومن المعلوم أنه فرق بين مقدار الحركة وبين المعنى المقتضي لمقدار الحركة. فإن قلتم : الزمان معنى يقتضي مقدار الحركة ، كان هذا تركا لقولكم : إن الزمان هو مقدار الحركة.

والوجه الثاني في دفع هذا الكلام : هو أنا قلنا : إنه لا معنى لمقدار حركة الفلك ، إلا امتداد دوامها وامتدادها. ومعلوم (٤)] أن دوام الشيء الذي يكون ممكن الوجود لا يكون إلّا لدوام علّته الموجدة له ، فيلزمكم على قولكم أن تقولوا : إن الزمان عبارة عن الموجود الواجب لذاته الذي هو السبب الأول ، والعلة الأولى. وذلك باطل. والله أعلم.

الحجة الثانية في إبطال قول من يقول : الزمان عبارة عن مقدار حركة الفلك :

أن نقول : إنا قد ذكرنا أنه لا يعقل من قولنا : الزمان مقدار الحركة ، إلا

__________________

(١) سقط (س).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط).

(٤) سقط (ط ، (س).

٥٧

أنه مقدار امتداد الحركة. إذا عرفت هذا. فنقول : امتداد الحركة لا وجود له في الأعيان ، وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون مقدار ذلك الامتداد أمرا موجودا في الأعيان ، أما بيان أن امتداد الحركة لا وجود له في الأعيان فهو أن الحركة عبارة عن حصولات متعاقبة في أحياز معاقبة ، ومن المعلوم بالبديهة أنه لا وجود لمجموع تلك الحصولات في الأعيان ، وإنما الموجود منها حصول واحد في آن واحد ، ثم ينقضي ويحصل بعده مثله. فثبت : أن امتداد الحركة لا وجود له في الأعيان.

فإن قالوا : الحركة عبارة عن كون الجسم متوسطا بين المبدأ والمنتهى ، بحيث لا يكون حاله في آن من الآنات المفروضة في تلك المدة مشابها لحاله قبل ذلك ولا بعده ، وهذه الحالة باقية مستمرة. وذلك يدل على أن امتداد الحركة أمر موجود في الأعيان فنقول : الذي يحصل في الأعيان هو الحصول في هذا المعين ، ثم في حد آخر معين. وهكذا على التعاقب والتوالي ، وذلك يدل على أن امتداد الحركة لا حصول له في الأعيان ، وأما بيان أنه متى كان الأمر كذلك ، امتنع أن يكون لمقدار ذلك الامتداد وجود في الأعيان ، فالدليل عليه : أن مقدار هذا الامتداد صفة من صفات هذا الامتداد ، والموصوف إذا كان ممتنع الوجود في الأعيان ، فالصفة أولى بأن تكون ممتنعة الوجود في الأعيان ، فثبت بهذا الذي بيناه : أن مقدار الحركة يمتنع أن يكون موجودا في الأعيان. لكن الشيخ بين بالدلائل : أن الزمان موجود في الأعيان. ينتج أنه لا شيء من الزمان عبارة عن مقدار الحركة.

الحجة الثالثة في إبطال هذا المذهب : أن نقول : الزمان لو كان عبارة عن مقدار الحركة ، لكان الزمان صفة من صفات الحركة [وكل صفة فهي (١)] محتاجة إلى الموصوف ، [ينتج أن الزمان يجب أن يكون محتاجا إلى الحركة (٢)] لكن الحركة محتاجة إلى الزمان ، لأن كل حركة فهي انتقال من حالة إلى حالة

__________________

(١) من (ط) ، (س).

(٢) من (س).

٥٨

أخرى وزمان الحالة المنتقل عنها يجب أن يكون مغايرا لزمان الحالة المنتقل إليها ومتى كان الأمر كذلك ، لم تتقرر ماهية الحركة إلا عند تقرر الزمان ، وتعاقب أجزائه. وحينئذ يلزم احتياج كل واحد منهما إلى الآخر ، وذلك هو الدور الباطل [المحال (١)].

الحجة الرابعة : إن كل عاقل يعلم بالبديهة أن الحركة اليومية ، سواء كانت حركة فلكية أو عنصرية ، فإنها إنما حصلت بذاتها ، وبجميع صفاتها في هذا اليوم ، فلو كان هذا اليوم عبارة عن صفة من صفات بعض هذه الحركات ، لكان ذلك حكما بأن تلك الصفة حصلت في نفس تلك الصفة ، وكان ذلك قولا بحصول الشيء في نفسه ، وأنه باطل [محال] (٢).

الحجة الخامسة : لو كان الزمان مقدارا للحركة ، لكنا متى فرضنا عدم الحركة ، وجب أن يتعذر علينا فرض وجود الزمان ، لكن التالي باطل ، فالمقدم مثله [باطل (٣)] بيان الشرطية : أن فرض وجود مقدار الحركة ، مع أنه لا وجود للحركة : محال في العقول. كما أن فرض وجود مقدار الجسم ، مع أنه لا جسم : محال في العقول.

وبيان بطلان التالي من وجهين :

أحدهما : إنا بينا أنا متى فرضنا كون الفلك والشمس والقمر [وسائر الكواكب واقفة (٤)] ساكنة وبالغنا في تسكين كل الحركات حتى النفس والطرف [وغيرهما (٥)] ، فإنا نجد في صريح العقل وجود شيء يمر كالماء السيّال ، والعلم به ضروري بعد الاعتبار.

وثانيهما : إنا إذا فرضنا عدم الفلك والشمس والقمر ، وعدم حركاتها فلا بد وأن يقع عدمها بعد وجودها ، وهذه البعدية بالزمان ، فالذهن حال ما فرض

__________________

(١) من (ط).

(٢) سقط (ط).

(٣) من (ط) ، (س).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(٥) سقط (س).

٥٩

عدم جميع الحركات ، [فإنه قد (١)] تعذر عليه الانفكاك من الاعتراف بوجود الزمان.

الحجة السادسة : الزمان واجب الوجود لذاته ، وذلك يمنع من كونه متعلقا بالحركة ، [ويمنع من كونه (٢)] صفة من صفات الحركة. بيان الأول : أنه لو لم يكن واجب الوجود لذاته ، لصح طريان العدم عليه ، وكل ما صح عليه ذلك فإن بتقدير طريان العدم عليه ، يكون عدمه بعد وجوده. وهذه البعدية ، هي البعدية الزمانية. فثبت : أن الزمان موجود ، يلزم من فرض عدمه ، من حيث إنه هو : محال. وذلك لأن فرض عدمه يوجب فرض وجوده ، وذلك يوجب الجمع بين النقيضين. وهو محال. وكل ما كان كذلك فهو واجب [الوجود (٣)] لذاته ، ينتج : أن الزمان واجب الوجود لذاته.

وإذا ثبت هذا فنقول : لو كان الزمان صفة للحركة ، ومقدارا لها ، لكان الزمان مفتقرا إلى الحركة ، والمفتقر إلى الغير ، ممكن لذاته ، فيلزم أن يكون الواجب لذاته ، ممكنا لذاته. وذلك (٤) محال. وأيضا : فالذي يفتقر إليه الواجب [لذاته (٥)] أولى أن يكون واجبا لذاته ، فيلزم أن تكون الحركة واجبة الوجود لذاتها ، فوجب كونها غنية عن المحل والموضع. وذلك محال.

الحجة السابعة : إن بديهة العقل كما حكمت بصحة أن يقال : الجسم [تحرك من هذه الساعة الفلانية ، فكذلك حكمت بصحة أن يقال : الجسم (٦)] سكن من هذه الساعة إلى الساعة الفلانية ، وذلك يقتضي الجزم بأن نسبة الزمان إلى الحركة وإلى السكون على السوية ، وإذا كان كذلك ، امتنع أن يقال : الزمان مقدار الحركة. فإن قالوا : السكون إنما يتقدر بالزمان على

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (س).

(٣) من (ط) ، (س).

(٤) وهذا خلف (ت ، م).

(٥) من (ط).

(٦) سقط (م).

٦٠