المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٥

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٩

الفرع الثالث : اتفق القائلون بإثبات هذا الخلاء ، على أن حصول هذا الخلاء خارج العالم غير متناه.

وزعم «أرسطاطاليس» [وأصحابه (١)] أن ذلك محال. واحتج الأولون بأنه لو تناهى هذا الخلاء ، لما بقي في الخارج عنه امتياز طرف عن طرف ، وجانب عن جانب. وذلك محال. وحجة «أرسطاطاليس» : أن القول بوجود أبعاد غير متناهية : محال.

واعلم أن الكلام في تلك الدلائل سيأتي بالاستقصاء.

الفرع الرابع : ظهر من المباحث المذكورة في أمر المكان والحيز والجهة : أن إله العالم يمتنع أن يكون مختصا بشيء من الأمكنة. وتقريره من وجوه :

الأول : أنه لو وجب حصول الإله في حيز وجهة ، لكان وجود الإله مفتقرا إلى ذلك الحيز ، لكنا بينا أن الخلاء متشابه الأجزاء ، وحصول الحيز خاليا عن الجسم : معقول. فعلى هذا يكون ذات الإله محتاجا إلى ذلك الحيز ، وذلك الحيز يكون غنيا عنه وعن سائر الممكنات ، فيكون الإله ممكنا لذاته ، مفتقرا إلى غيره ، ويكون ذلك الحيز واجبا لذاته ، غنيا عن الغير. وكل ذلك : محال.

الثاني : أنه لو حصل في هذا الفضاء ، وفي هذا الخلاء ، لكان إما أن يقال : إنه حصل في جميع جوانب هذا الخلاء ، أو في جانب معين منه. والأول : محال. لأنه يقتضي كونه منقسما (٢) مركبا. وأيضا : فيلزم أن تكون ذاته مخالطة لجميع المحدثات [والممكنات (٣)] وهو باطل. والثاني محال. لأنا بينا أن هذا الخلاء متشابه الأجزاء ، وما كان في الأزل جانب منه موصوفا بالفوقية ، وجانب آخر [موصوفا (٤)] بالتحتية. وحينئذ يكون حصول ذاته في

__________________

(١) سقط (م).

(٢) منقسما متحركا منقضا وأيضا ... الخ (م ، ت).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (م).

١٨١

بعض جوانب هذا الخلاء [دون البعض (١)] رجحانا لأحد طرفي الممكن من غير مرجح. وهو محال.

الوجه الثالث : [وهو أنا نقول (٢)] : المكان والجهة والحيز ، إما أن يكون عبارة عن البعد ، أو عن السطح. فإن كان الحيز عبارة عن البعد ، فحينئذ يلزم افتقار ذات الله تعالى إلى [ذلك البعد مع كون ذلك البعد غنيا عن ذات الله (٣)] وتلزم المحالات المذكورة. وإن كان [الحيز والجهة (٤)] عبارة عن السطح [المحيط (٥)] فحينئذ لا يتقرر خارج العالم لا خلاء ولا ملاء ولا حيز ولا جهة. وحينئذ يمتنع حصول ذات الله فيه ، فيبقى أنه سبحانه لو كان في حيز وجهة ، لكان حاصلا داخل العالم ، ولكان جسما ممدودا متناهيا ، أحاطت به كرة العالم. وذلك محال [والله أعلم (٦)].

الفرع الخامس : من الناس من قال : امتياز اللطيف عن الكثيف ، إنما حصل بسبب مخالطة الخلاء. فالأجزاء التي يتولد منها الجسم المخصوص ، إن كانت بحيث تخالطها أجزاء الخلاء ، فهو الجسم اللطيف ، وإن كان لا يخالطها أجزاء الخلاء فهو الكثيف. ثم كلما كانت مخالطة الخلاء أكثر ، كانت اللطافة أكثر. والأرض لم تخالطها أجزاء الخلاء ، فلا جرم كانت في غاية الكثافة. والماء يخالطه أجزاء الخلاء ، فلا جرم حصلت اللطافة فيه. وأما الأجزاء الهوائية فمخالطة الهواء (٧) لها أكثر ، فلا جرم كان الهواء ألطف من الماء. وكذلك القول في النار. ثم في الأفلاك.

الفرع السادس : من الناس من قال : إن الخلاء حصل فيه قوة جاذبة للأجسام. قال: ولهذا السبب يكون الثقل هاويا نازلا ، لأن القوة الجاذبة

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (ط).

(٣) إلى تلك الجهة ، واستغناء تلك الجهة عن ذات الله (م ، ت).

(٤) سقط (م).

(٥) من (س).

(٦) سقط (م).

(٧) الخلاء (م ، ت).

١٨٢

الحاصلة في الخلاء تجذب ذلك الجسم إلى نفسها فإذا وصل إليه ، فالقوة الجاذبة الموجودة في الخلاء [المتصل بالخلاء (١)] الأول تجذبه إلى نفسه. وهكذا إلى آخر المرتبة. وهذا القول : باطل. لأن الخلاء لو حصل فيه قوة جاذبة للجسم إلى نفسه ، لكان عند وصول الجسم إليه ، وجب أن يمسكه عند نفسه ، وأن لا يمكنه من أن يفارقه وينفصل عنه. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، بطل هذا الكلام.

وليكن هاهنا آخر كلامنا في الزمان والمكان.

ولنختم هذا الفصل بتحميد لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب [رضوان الله عليه (٢)] قال : «لم يخل منه شيء فيدرك بأبنيته ، ولا له شبح مثال فيوصف بكيفيته ، ولم يغب عنه شيء فيعلم بحيثيته. مباين لجميع ما أحدث في الصفات ، وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات ، وخارج بالكبرياء والعظمة من جميع تصرف الحالات. محرم على نوازع ثاقبات الفطن تحديده ، وعلى غوامض ثاقبات الفكر تكييفه ، وعلى غوائص سانحات النظر تصويره. لا تحويه الأماكن لعظمته ، ولا تذرعه المقادير لجلالته. ممتنع على الأوهام أن تكتنهه وعلى الأفهام أن تستغرقه ، وعلى الأذهان أن تمثله. قد يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول ، ونضبت عن الإشارة إليه بالاكتناه بحار العلوم ، ورجعت بالصغر عن السمو إلى وصف قدرته لطائف الفهوم. واحد لا من عدد ، دائم لا بأمد ، قائم لا بعمد. ليس بجنس فتعادله الأجناس ، ولا بشبح فتصارعه الأشباح. ولا كالأشياء ، فتقع عليه الصفات. قد ضلت العقول في أمواج تيار إدراكه ، وتحيرت الأوهام عن الإحاطة بذكر أزليته ، وحصرت الأوهام عن استشعار وصف قدرته ، وغرقت الأذهان في لجج أفلاك ملكوته ، مقتدر بالآلاء ، ممتنع بالكبرياء ، متملك على الأشياء. فلا دهر يخلقه ، ولا وصف يحيط به. قد خضعت له الرقاب الصعاب في محل تخوم

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (م) وفي (ت) فقال عليه‌السلام يا من لا يخلو ... الخ.

١٨٣

قرارها ، وأذعنت له رواصن الأسباب في منتهى شواهق أقطارها. يستشهد بكلية الأجناس على ربوبيته ، وبعجزها على قدرته ، وبفطورها على قدمه ، وبزوالها على بقائه. فلا إليه حد منسوب ، ولا له مثل مضروب ، ولا شيء عنه محجوب. تعالى عن ضرب الأمثال ، وصفات المخلوقات ، علوا كبيرا».

[قال (١) مولانا الداعي إلى اللّه ، رحمة اللّه عليه] : يا إله العالمين. إنك ذكرت في كتابك الكريم :(قُلْ : لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلْ : لِلَّه) (٢) فيثبت بهذا البرهان الباهر ، والدليل القاهر : أن المكان والمكانيات منقادة لك بالخضوع والخنوع ، معترفة لك بالفقر والخشوع ، منادية على أنفسها بالذل والصغار والعجز والافتقار. ثم قلت :(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (٣) فأظهرت بهذا السر المكتوم ، والأصل المعلوم : أن الزمان والزمانيات [تحت خلقك وتقديرك وإبداعك وتدبيرك. فالمكان والمكانيات والزمان والزمانيات (٤)] كلها ناطقة بشواهد مجدك وعظمتك ، معترفة بوجوب وجودك وقدمك. فالزمان بحركته دل على أنك منزه عن الحركات ، والمكان بسكونه اعترف بأنك متعالي عن السكنات ، فتعاليت في كنه أزلك عن لواحق الأضداد ، وعلائق الأنداد. لأنك فرد لا كالأفراد ، وواحد لا كالآحاد ، ومتعالي عن علائق عالم الكون والفساد. يا سابق الفوت ، ويا سامع كل صوت ، ويا محيي العظام الرميمة بعد الموت. أسألك بحق وجوب وجودك ، وكمال جودك : أن لا تجعلني من جنات رحمتك من المحرومين والمردودين ، وأن تفيض على جسدي وروحي قطرة من قطرات فيض فضلك. يا أرحم الراحمين ، ويا أكرم الأكرمين [والحمد للّه رب العالمين. وصلوات اللّه على سيدنا محمد النبي ، وعلى آله الطيبين الطاهرين أجمعين (٥)].

__________________

(١) ويقول العبد الضعيف ، مصنف هذا الكتاب : محمد الرازي ـ غفر اللّه له (ط ، س).

(٢) الأنعام ١٢.

(٣) الأنعام ١٣.

(٤) سقط (م ، ت).

(٥) من (م ، ت).

١٨٤

[قال مصنف الكتاب ـ قدس الله روحه ـ في آخر هذا المكتوب : تم هذا الكتاب ليلة السبت السابع عشر من جمادى الأولى سنة خمس وستمائة. والحمد لله كما يستحقه(١)].

تم الجزء الخامس من كتاب «المطالب العالية من العلم الإلهي» ويليه الجزء السادس وهو «في الهيولى».

__________________

(١) من (س).

١٨٥
١٨٦

الجزء الخامس فهرس

المقالة الأولى

في الكلام في الزمان............................................................ ٥

الفصل الأول :

في تقرير دلائل القائلين بنفي الزمان.............................................. ٩

الفصل الثاني :

في تقرير قول من يقول : العلم بكون المدة والزمان موجودان : علم بديهي أولي. لا يحتاج فيه إلى الحجة والدليل      ٢١

الفصل الثالث :

في تقرير الدلائل التي عول عليها من قال : العلم بوجود الزمان : كسبي استدلالي..... ٣٣

الفصل الرابع :

في البحث عن ماهية الزمان................................................... ٥١

الفصل : الخامس :

في التفحص عما قيل من أن الزمان كم متصل. وبيان أن ذلك ليس بحق............ ٦٩

الفصل السادس :

في تتبع سائر المذاهب والأقوال في ماهية الزمان................................... ٧٥

١٨٧

الفصل السابع :

في تحقيق الكلام في الآن...................................................... ٣

الفصل الثامن :

في تحقيق الكلام في الدهر والسرمد. والفرق بينهما وبين الزمان..................... ٩

الفصل التاسع :

في شرح خواص الماضي والحاضر والمستقبل....................................... ٩٣

الفصل العاشر:

في أن الزمان محدث

الفصل الحادي عشر :

في تفسير الألفاظ المذكورة في هذا الباب وهي : المدة ، والزمان ، والوقت ، والسرمد ، والأزل ، والأبد ، والنهار ، والليل ، واليوم ، والساعة ، والحين ، والأجل ،................................................ ١٠٣

المقالة الثانية

في تحقيق القول في المكان................................................. ١٠٩

الفصل الأول :

في تفصيل مذاهب الناس فيه................................................ ١١١

الفصل الثاني :

في ابطال قول من يقول : الخلاء والفضاء عدم محض ونفي صرف................. ١١٥

الفصل الثالث :

في أن المكان هل يعقل أن يكون بعداً قائماً بنفسه ام لا؟........................ ١٢١

الفصل الرابع :

في تقرير الوجوه التي عليها يعول من يعتقد أن المكان هو البعد.................... ١٤٣

الفصل الخامس :

في بيان أن الخلاء ممتنع الوقوع أو ممكن الوقوع؟................................ ١٥٥

١٨٨

الفصل السادس :

في حكاية دلائل نفاة الخلاء والجواب عنها احتجوا بوجوه......................... ١٦٧

الفصل السابع :

في تفاريع القول بالخلاء...................................................... ١٧٩

فهرس المواضيع............................................................. ١٨٧

١٨٩