المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٥

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٩

بأسرها باطلة. إلّا قولنا : المقتضى لذلك الشكل المعين ما يكون (١)] محلا لذلك البعد. فنقول : إنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون المقتضى لذلك الشكل ، هو نفس طبيعة البعد والمقدار. وذلك لأن الجزء [المفروض من (٢)] ذلك البعد ، مساو للكل في الطبيعة والماهية (٣) فيلزم أن يكون شكل الجزء مساويا لشكل الكل [وذلك باطل (٤)] وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون المقتضى لذلك [الشكل (٥) أمرا حالا في ذلك البعد. وذلك لأن ذلك الحال إن كان من لوازم الطبيعة المقدارية ، عاد ما ذكرناه من أنه يلزم كون الجزء مساويا للكل في الشكل ، وإن لم يكن من لوازمها ، امتنع كونها علة للشكل الذي هو من لوازمها ، لأن المفارق يمتنع كونه علة للصفة اللازمة. وإنما قلنا : إن المقتضى لذلك الشكل [يمتنع أن يكون (٦)] أمرا مغايرا لنفس المقدار ، ولما يكون [حالا فيه ولما يكون (٧)] محلا له. وذلك لأن المباين إما أن تكون نسبته إلى هذا البعد المسمى بالفضاء ، وإلى جميع أجزائه على السوية ، وإما أن لا يكون. فإن كان الأول فحينئذ يكون اختصاص هذا البعد ، بهذا الشكل [المعين (٨)] دون سائر الأبعاد رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح ، وهو محال. وإن كان الثاني فحينئذ اختصاص هذا البعد المسمى بالفضاء. بما لأجله صار أولى بقبول هذا الشكل من ذلك المفارق؟ إن كان لأجل مفارق آخر عاد الكلام فيه. ولزم التسلسل. وإن كان لا لهذا السبب ، فحينئذ يعود الأمر إلى أن اختصاصه بتلك الأولوية ، إما أن يكون لذاته ، أو لما يكون حالا فيه ، أو لما يكون محلا له ، أو للمباين. ولما بطلت هذه الأقسام الثلاثة ، ثبت أن اختصاص ذلك البعد المخصوص ، بذلك الشكل المخصوص ، إنما كان لأجل

__________________

(١) سقط (م) ، (ت) وفي النص : لذلك الشكل المعين ما يكون.

(٢) سقط (ط).

(٣) الطبيعة المقدارية (م).

(٤) هذا خلف (م).

(٥) سقط (م).

(٦) من (س ، ط).

(٧) من (س ، ط).

(٨) من (س ، ط).

١٤١

ما يكون محلا له ، ومادة له. وهو المطلوب. فإن قالوا : فمادة الكل مساوية لمادة [الجزء (١)] فيعود الاشتراك المذكور. فنقول في الجواب : إن ذلك البعد لما كان حالا في تلك المادة ، وكانت تلك المادة موصوفة بصفات ، لأجلها كانت مستعدة لقبول ذلك الشكل من واهب الصور ، لا جرم حصل ذلك الشكل دون سائر الأشكال. فيثبت بمجموع ما ذكرنا : أن كل بعد فهو متناهي [وكل متناهي (٢)] مشكل ، وكل متشكل فإنما حصل له شكله المعين بسبب المادة ، وهذا ينتج أن كل بعد فإنه لا يوجد إلا إذا كان حاصلا في المادة. وإذا ثبت هذا كان القول بوجود البعد المجرد محالا [وذلك هو المطلوب (٣)].

ولقائل أن يقول : أما دليلكم على وجوب تناهي الأبعاد فسيأتي البحث عنه [على الاستقصاء. ثم لئن (٤)] سلمنا ذلك ، لكنا نقول : لم لا يجوز أن يكون متناهيا؟ قوله : «إن كان متناهي فهو مشكل ، وكل مشكل فتشكله لا بد وأن يكون لأجل مادته» قلنا : لا نسلم. ولو كان الأمر كذلك ، لعاد الاشتراك المذكور ، لأن مادة الجزء ، مساوية لمادة الكل. أما قوله : «سبب الشكل المعين صفات قائمة بالمادة ، أعدت تلك المادة لقبول ذلك الشكل المعين» فنقول : فإذا عقلتم ذلك ، فلم لا يجوز أن يقال : الطبيعة المقدارية وحدها من غير أن يكون لها مادة ، كانت موصوفة بصفات مخصوصة ، لأجلها صارت مستعدة لقبول ذلك الشكل المعين ، وعلى هذا التقدير فتستغني الطبيعة المقدارية عن الحلول في المادة. وحينئذ يبطل قولكم : «إن كل ما كان بعدا ومقدارا ، فإنه لا بد وأن يكون حالا في محل».

وليكن هاهنا آخر كلامنا في نقل دلائل الطاعنين في أن المكان هو البعد. والله أعلم(٥).

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) من (ط ، س).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (ط).

(٥) وليكن هاهنا آخر الكلام في البحث عن دلائل الطاعنين (م ، ت).

١٤٢

الفصل الرابع

في

تقرير الوجوه التي عليها

يعول من يعتقد أن المكان هو البعد

اعلم (١) : أن القائلين بهذا المذهب فريقان : منهم من يدعي العلم الضروري بأن المكان ليس إلا هذا الفضاء ، وإلّا هذه الأبعاد المجردة. ومنهم من يثبت هذه الدعوى بالحجة والبرهان.

أما الفريق الأول : فتقرير كلامهم أن يقال : إنا نعلم بالضرورة أن الجسم. يمكن أن يشار إليه بأنه حصل هاهنا ، ويمكن أن ينتقل من هناك إلى هاهنا ، وبالعكس. فوجب علينا أن نبحث أن المشار إليه بأنه هاهنا [وهناك (٢)] هل هو نفس الجسم (٣) [الحاصل هاهنا وهناك ، أو هو أمر مغاير لذات ذلك الجسم؟ أما القسم الثاني فهو المطلوب (٤)] وأما القسم الأول فهو باطل [وتقريره (٥)] من وجوه :

الأول : إنا نشاهد أن هذا الجبل حاصل هاهنا بعينه ، فإذا فرضنا أن ذلك الجبل انقلع من تلك الجهة ، ومن ذلك الحيز ، فبعد انقلاع ذلك الجبل

__________________

(١) التي عليها يعول من قال إن المكان (ط ، س).

(٢) سقط (م ، ت).

(٣) نفس الجسم ، أو أمر زائد عليه؟ وأما القسم الأول ... الخ (س ، ط).

(٤) أو أمر زائد عليه؟ (س ، ط).

(٥) من (م ، ت).

١٤٣

من هناك ، بقيت تلك الجهة ، وتلك المكانات ، كما كانت ، وما بطلت وما عدمت. حتى إنهم لو بنوا دارا في ذلك الحيز ، صار يحكم كل عقل سليم ، بأن هذه الدار حصلت في الجهة التي كان ذلك الجبل ، حاصلا فيها. وذلك يدل على أن الحيز والجهة ، أمر مغاير للجسم ، الذي كان حاصلا فيه.

الثاني : إنه لما ثبت أن القبلة هي الكعبة ، فعند هذا قالت الفقهاء : لو انهدمت الكعبة ، ونقل من هناك [ما كان (١)] من الخشب والحجر والتراب بالكلية ، ولم يبق إلا الفضاء الصرف ، كانت القبلة ليست إلا ذلك الفضاء. ولو اعتقد معتقد بتجويز حصول الخلاء في داخل العالم ، لقال بأن القبلة هو ذلك القدر من الخلاء المعين ، ومن الفضاء المعين. ومن اعتقد أن الخلاء محال ، وأن الملاء واجب فإنه لا بد ، وأن يعتقد أن عند [خراب (٢)] ذلك البناء ، لا بد أن ينتقل إليه هواء ، حتى لا يحصل الخلاء. ثم إن القبلة ليست هي (٣) ذلك الهواء [لأن ذلك الهواء (٤)] قد ينتقل عن ذلك الحيز. ويتبدل بهواء آخر ، والقبلة ليست إلا تلك الجهة ، وإلا ذلك الحيز. وهذا يدل على أن العقول السليمة ، والفطرة الصحيحة ، شاهدة بأن الجهة والحيز ، أمر مغاير للأجسام المنتقلة المتحركة.

الوجه الثالث في بيان أن الأبعاد الممتدة التي هي الأحياز والجهات مغايرة لذوات الأجسام هو : أن المشار إليه بأنه هاهنا أو هناك ، أمر معلوم الثبوت بالضرورة ، وحصول الجسم هاهنا وهناك غير معلوم الثبوت بالضرورة ، لأنه ما لم يدل الدليل على امتناع الخلاء ، لم يجب حصول الجسم هاهنا وهناك ، وما كان معلوم الثبوت بالضرورة مغاير لما ليس معلوم الثبوت بالضرورة. وذلك يقتضي أن الأبعاد الممتدة التي هي الأحياز والجهات أمور مغايرة لأبعاد الأجسام [وامتداداتها (٥)].

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م).

(٣) ليست إلا ذلك (م).

(٤) سقط (ط).

(٥) سقط (س).

١٤٤

الوجه الرابع : وهو أنه يمكننا أن نتصور جسما لا يماسه جسم ، ولا يحيط به جسم ، ولا يمكننا أن نتصور جسما لا يصدق عليه أنه هاهنا أو هناك. فوجب أن يكون المعنى المشار إليه بقولنا هاهنا وهناك : أمر مغاير لكون الجسم ممسوس جسم آخر ، أو كونه بحيث يحيط به جسم آخر.

الوجه الخامس : هو أنا نقول : بأن الماء في الكوز ، لا بمعنى كون الماء ساريا في جسم الكوز ، بل بمعنى كون الماء مماسا (١) بسطحه سطح الكوز. وصريح العقل حاكم بأن الماء حاصل في الفضاء المفترض بين طرفي الكوز بدليل : أن ذلك الفضاء باقي بعينه [واحد بشخصه (٢)] ثم تارة يحصل فيه الماء ، وأخرى يخرج منه الماء ، وينتقل إليه الهواء ، وثالثا يبقى الفضاء خاليا عن كل الأجسام عند من كانت الدلائل القطعية عنده على صحة القول بالخلاء ، وذلك يدل على أن ذلك الامتداد أمر مغاير لامتداد الأجسام الحاصلة في ذلك الفضاء (٣).

الوجه السادس : هو أن المشار إليه بقولنا هاهنا وهناك : لا يقبل الانتقال والحركة. فإنه من المستحيل في بديهة العقل أن ينتقل هاهنا إلى هناك ، وأن ينتقل هناك إلى هاهنا. أما الجسم الحاصل هاهنا والجسم الحاصل هناك ، فإنه قابل للانتقال. فلما كان المعنى المشار إليه بقولنا هاهنا وهناك : لا يقبل الانتقال البتة ، وكان الجسم الحاصل هاهنا [والجسم الحاصل (٤)] هناك ، قابلا للانتقال. علمنا : أن المشار إليه بقولنا هاهنا وهناك : مغاير للجسم الذي يقبل الانتقال.

فهذه تنبيهات دالة على أن العلم الضروري حاصل بأن هذه الأحياز والجهات والمحاذيات أبعاد ممتدة ، وأنها مغايرة لأبعاد الأجسام المتحركة المتنقلة

__________________

(١) مماسا لسطح الكوز (س).

(٢) سقط (س ، ط).

(٣) البعد (م ، ت).

(٤) سقط (س).

١٤٥

ولو عرضت هذه الوجوه على جميع العقلاء لقضت عقولهم السليمة بأن الأمر كما ذكرناه ، ولخصناه [والله أعلم (١)].

وأما الفريق الثاني وهم القائلون بأن العلم بوجود هذه الأبعاد علم استدلالي :

فقد احتجوا عليه من وجوه :

الحجة الأولى : لو لم يكن المكان عبارة عن البعد ، بل كان عبارة عن السطح ، لزم الحكم على الساكن حال كونه ساكنا بأنه متحرك ، ولزم الحكم على المتحرك حال كونه متحركا ، بأنه ساكن. ولما كان ذلك باطلا ، وجب أن يكون المكان : عبارة عن البعد القائم بنفسه ، لا عن السطح الحاوي.

أما بيان أنه يلزم الحكم على الساكن حال كونه ساكنا بأنه متحرك. فتقريره : أنا لو فرضنا طائرا واقفا في الهواء ، والهواء يجري عليه ، أو حجرا واقفا في الماء ، والماء يجري عليه. فههنا [لا شك (٢)] أن هذا الطير واقف في الهواء ، وهذا الحجر واقف في الماء ، مع أنه في كل آن ، ينتقل من مماسة سطح إلى سطح آخر. فلو كان المكان عبارة عن السطح الحاوي ، لكانت الحركة عبارة عن الانتقال من سطح إلى سطح آخر ، ولما حصل هذا الانتقال في هذه الصورة من سطح إلى سطح آخر ، لزم أن يكون هذا الجسم متحركا مع أنه ساكن في الحقيقة.؟؟؟ ما ذكرنا : أنه لو كان المكان عبارة عن السطح ، لزم الحكم على الجسم الساكن ، حال كونه ساكنا بأنه متحرك. ومعلوم أن ذلك باطل. فعلمنا : أن المكان لا يجوز أن يكون عبارة عن السطح. أما إذا قلنا : إن المكان عبارة عن البعد الخالي ، والفضاء الصرف ، لم يلزم ذلك. لأن ذلك الجسم لما كان واقفا في ذلك الفضاء ، وفي ذلك الخلاء ، لا جرم كان ساكنا لا متحركا. فإن قيل : إن عنيت بكون ذلك الطير ساكنا في الهواء ، وكون ذلك الحجر واقفا في الماء : أن مسامتته مع الأجسام الساكنة باقية. فالأمر كذلك.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (س).

١٤٦

إلا أن السكون بهذا التفسير غير مشروط بكونه في نفسه ساكنا. ألا ترى أن الصندوق إذا وضع فيه جسم ، وفرضنا هوى ذلك الصندوق مع كل ما فيه ، فإن مسامتة تلك الأجسام الموضوعة في الصندوق مع جوانب ذلك الصندوق باقية غير متغيرة ، مع أن ذلك الصندوق، وكل ما فيه متحرك. فعلمنا : أن مسامتة ذلك الطير ، وذلك الحجر مع سائر الأجسام ، لا يمنع من كونه في نفسه متحركا. وإن عنيت بكونه ساكنا أنه بقي في ذلك الفضاء الذي هو حاصل فيه ومداخل له. فهذا الكلام إنما يتم بعد ثبوت القول بالفضاء ، فلو أثبتنا القول بالفضاء بهذه المقدمة لزم الدور وهو محال.

والجواب : أما أن الطير قد يقف في الهواء ، مع أن الهواء يمر عليه ، والحجر قد يقف في الماء مع أن الماء يجري عليه. فذلك معلوم بالضرورة ، والمنع من كونه ساكنا في هذه الحالة مكابرة في البديهيات.

وأما تفسير السكون ببقاء المسامتات فهو باطل. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن الجسمين المتساويين في الثقل والحجم والشكل ، إذا ابتدا بالنزول من رأس الجبل في هواء صاف لا تفاوت فيه البتة ، فههنا يبقى سمت كل واحد منهما مع الآخر ، من أول هذه الحركة إلى آخرها. فههنا المسامتة باقية مع كون كل واحد منهما متحركا ، فعلمنا : أنه لا يمكن تفسير كون الجسم ساكنا ببقاء مسامتته مع غيره.

الثاني : إن الفلك الحاوي ، والفلك المحوي ، إذا كانا يتممان الدورة في مدة واحدة ، فهناك لا يتغير شيء من المسامتات الحاصلة بين الأجزاء المفترضة في كل واحد منهما ، مع كون كل واحد منهما متحركا في نفسه.

الثالث : إن الجسمين متى بقيا في ذاتيهما [على السكون. كان سكونهما في ذاتيهما(١)] علة لبقاء المسامتة الحاصلة بينهما ، وذلك لأن سكونه في ذاته أمر حاصل له في ذاته ، وأما مسامتته مع غيره فهي أمر يحصل له بالنسبة إلى غيره.

__________________

(١) سقط (م) ، (ت).

١٤٧

وما [ثبت (١)] للشيء [بذاته (٢)] قبل ما يثبت له بسبب غيره ، كان سكونه في ذاته أمرا مغايرا لبقاء مسامتاته مع غيره.

الرابع : إنه يمكننا أن نعقل كون الشيء ساكنا في ذاته ، مستقرا في حيزه الذي هو فيه ، حال كوننا غافلين عن كل ما سواه. وأما بقاء مسامتته مع غيره ، فهذا لا يمكن [تعقله إلا (٣) مع] تعقل غيره. فعلمنا : أن كونه ساكنا في ذاته أمر مغاير لبقاء مسامتاته مع غيره.

وأما قوله (٤) : إنه لو كان المكان عبارة عن السطح ، لزم أن نحكم على المتحرك حال كونه متحركا بكونه ساكنا. فتقريره : أنا إذا وضعنا شيئا من الدقيق في جراب. فعند القائلين بأن المكان هو السطح [يكون مكان ذلك الدقيق هو السطح (٥)] الباطن من ذلك الجراب ، المماس للسطح الظاهر من ذلك الدقيق. فإذا فرضنا أنه نقل ذلك الجراب من «الريّ» إلى «خراسان» فقد انتقل ذلك الدقيق من بلد إلى بلد ، مع أن المماسة الحاصلة بين ذينك السطحين باقية ثابتة غير متغيرة. فلو لم يكن المكان إلا السطح ، لوجب الحكم على ذلك الدقيق بأنه بقي ساكنا ، مع أنا نعلم بالضرورة أنه انتقل من «الري» إلى «خراسان» وذلك باطل.

فإن قالوا (٦) : إن ذلك الدقيق الذي في ذلك الجراب ، لا نقول : إنه متحرك بالذات، بل نقول : إنه متحرك بالفرض. فالجواب أن نقول : إن قول القائل هذا الجسم متحرك بالفرض : لفظة [مبهمة (٧)] لا بد من البحث عن معناها. فنقول : لا شك أنا حين جعلنا هذا الدقيق في الجراب ، حين كنا في «الري» فقد كان هذا الدقيق حاصلا في الري ، فإذا جئنا بذلك الجراب إلى «خراسان» فلا شك أن ذلك الدقيق حصل في «خراسان» فذلك الدقيق الذي كان في «الري» إما أن يقال : إنه في نفسه لم ينتقل ولم يتحرك ، بل بقي

__________________

(١) من (س ، ط).

(٥) سقط (ط ، س).

(٢) من (س ، ط).

(٦) فإن قيل (س).

(٣) سقط (ط).

(٧) من (س).

(٤) قولنا (م).

١٤٨

كما كان. وإما أن يقال : إنه انتقل وتحرك. والأول مكابرة ، فإن هذا الدقيق كان حاصلا في «الري» والآن حصل في «خراسان» فكيف يعقل أن يقال : لم ينتقل ولم يتحرك؟ فيثبت : أنه انتقل في نفسه وتحرك في ذاته ، وظاهر أنه لم ينتقل عن ذلك السطح الذي كان محيطا به في «الري» لأنه حال ما حصل في «خراسان» يقع السطح من ذلك الدقيق ، مماسا للسطح الباطن من الجراب. فعلمنا : أن المكان الحقيقي الذي يسكن فيه ذات الجسم ، ويتحرك عنه وإليه : هو الفضاء المذكور ، والخلاء الموصوف (١) حتى يقال : إن ذات الدقيق انتقل من ذلك الفضاء الذي كان في «الري» إلى الفضاء الحاصل ب «خراسان» وذلك هو المطلوب.

الحجة الثانية : إنا نعلم بالضرورة : أن بين طرفي الطاس امتدادا مخصوصا ، وبعدا معينا. فذلك البعد والامتداد ، إما أن يكون هو بعد الجسم الحاصل بين طرفيه ، وإما أن يكون بعدا آخر مغايرا له.

والأول باطل لوجوه :

أحدها : إنا سنقيم الدلالة على أن الخلاء ممكن الوقوع ، وبتقدير وقوع الخلاء يكون ذلك البعد والامتداد حاصلا ، مع عدم الأجسام التي يصح عليها الحركة والسكون. وذلك يدل على أن ذلك البعد مغاير للبعد الحاصل في الأجسام.

وثانيها : هب أن الملاء واجب الحصول ، إلا أن حصوله غير معلوم بالبديهة ، بل هو معلوم الثبوت بالدلائل الدقيقة ، والوجوه الغامضة فقبل العلم بتلك الدلائل يكون وجود تلك الأجسام غير معلوم ، لكنا بينا أن وجود البعد الممتد بين طرفي الطاس [معلوم بالبديهة ، والشيء الواحد لا يصدق عليه كونه معلوما بالبديهة ، وغير معلوم بالبديهة. وهذا يدل على أن ذلك البعد الممتد بين طرفي الطاس (٢)] العلوم ثبوته بالضرورة ، مغاير للأجسام الحاصلة بين طرفي الطاس.

__________________

(١) المذكور (س).

(٢) سقط (ط) ، (س).

١٤٩

وثالثها : إن البعد الممتد بين طرفي الطاس المعين ، بعدا واحدا بالشخص لا يتبدل ولا يتغير. وأما الأجسام الحاصلة في داخل الطاس ، فإنها أجسام مختلفة متعاقبة. فإن الطاس تارة يكون مملوءا بالماء ، ثم إن الماء يخرج ويدخل فيه الهواء ، ثم إن ذلك الهواء قد يخرج ويحصل عقيبه هواء آخر. فالحاصل أن البعد الممتد بين طرفي الطاس بعد واحد بالشخص ، باقي بعينه ، لا يتبدل ولا يتغير. وأما الأجسام التي تحصل في داخل ذلك الطاس ، فإنها أجسام [متبدلة متعاقبة (١)] والشيء الواحد بالشخص المصون عن التبدل والتغير ، مغاير للشيء الذي لا يكون باقيا ، بل يكون متبدلا متغيرا. وذلك يدل على أن ذلك البعد الممتد بين طرفي الطاس ، مغاير للأجسام الشاغلة لتلك الأحياز.

الحجة الثالثة : لو كان المكان عبارة عن السطح الحاوي ، لزم القول بأن المكان قد يزداد حال بقاء المتمكن في ذاته بحاله ، ويلزم أيضا أن يقال : المكان يبقى كما كان حال انتقاص ذلك المتمكن ، ويلزم أيضا أن يقال المكان قد يزداد حال ما ينتقص المتمكن ، وكل ذلك باطل ، فالقول بأن المكان هو السطح باطل.

فهذه إلزامات ثلاثة : أما الإلزام الأول : فبيانه في صورتين :

الصورة الأولى : إن الجسم الواحد إذا جعل قطعا كثيرة ، فمقدار مجموع هذه القطع يكون مساويا لمقدار كله قبل القطع والتفريق. لكن السطوح المحيطة بهذه القطع تكون أكثر من السطح المحيط بمجموع ذلك الجسم قبل التقطيع والتفريق. فههنا مقدار المتمكن واحد في حالتي الاتصال والتقطيع ، مع أن مكانه حال ما كان متصلا ، أقل بكثير من مكان عند حصول التقطيع فيه.

الصورة الثانية : إنه ثبت في الهندسة : أن أوسع الأشكال هو الدائرة. فالشمعة إذا جعلت كرة ، فإن السطح المحيط بها أصغر (٢) من السطح المحيط

__________________

(١) منتقلة (م ، ت).

(٢) أكثر (م).

١٥٠

بها عند ما تجعل مكعبة (١) فههنا المتمكن باقي بحاله ، مع أن المكان ازداد عند التكعيب.

أما الإلزام الثاني : وهو أن يبقى المكان بحاله مع انتقاص المتمكن فنقول : الماء الذي في القربة. مكانه هو السطح الداخل من القربة ، فإذا عصرنا القربة حتى فاض بعض ما كان فيها من الماء ، بقي سطح القربة محيطا بما بقي فيها من الماء. فههنا المتمكن قد انتقص مع أن المكان باقي كما كان.

وأما الإلزام الثالث : [وهو قولنا (٢)] المتمكن قد ينتقص والمكان يزداد. فنقول : تقريره : إنا إذا فرضنا مكعبا متساوي السطوح ، فإن مكانه هو السطح المحيط به ، فإذا أحدثنا في كل واحد من جوانبه نقرا عميقة واسعة ، فههنا انتقص جرم المتمكن ، ولزم من انتقاصه ازدياد السطوح المحيطة به. فلو كان المكان عبارة عن السطوح المحيطة بالشيء ، لزم في هذه الصورة أن يقال : انتقاص ذات (٣) المتمكن أوجب ازدياد مكانه. ومعلوم أن كل هذه اللوازم باطلة فاسدة. أما إذا قلنا : المكان هو البعد الذي [ينفد فيه ذات (٤)] الجسم [لم يلزم عليه (٥)] شيئا من هذه المنكرات (٦) والمحالات.

الحجة الرابعة : إنا إذا تخيلنا جسما واحدا ، وتخيلنا أنه وجد وليس معه غيره ، فإنه لا بد وأن يحكم العقل عليه بأنه هاهنا أو هناك فيثبت : أن المعنى [المعقول (٧)] من قولنا : الجسم هاهنا أو هناك : أمر لا يقدر الذهن على تصور وجود الجسم ، إلا مع تصور حصوله. وأما كون الجسم ، ممسوس جسم آخر ، أو محاط جسم آخر ، فأمر يتمكن العقل من تصور الجسم جسما مع الذهول عنه. وهذا القياس ينتج إنتاجا ضروريا : أن المعقول من كون الجسم هاهنا أو

__________________

(١) يحصل تكعيبه (م).

(٢) من (س ، ط).

(٣) وجوب (ت) وجود (م) ذات (ط ، س).

(٤) بداخله (م).

(٥) فإن (م).

(٦) المنكرات لا تتوجه إليه (م ، ت).

(٧) سقط (م ، ت).

١٥١

هناك : مغاير للمعقول من كونه بحيث يحيط به غيره. فيثبت : أن الحيز الذي حكم العقل بكون الجسم حاصلا فيه : مغاير للسطح الحاوي [والله أعلم (١)].

ومما يؤكد ذلك : أن صريح العقل يحكم بأن الجسم حال وجوده لا بد وأن يكون إما متحركا وإما ساكنا. وصريح العقل لا يحكم بأنه يجب أن يكون [إما (٢)] مماسا لسطح واحد ، أو منتقلا من مماسة سطح آخر. لأن العقل يمكنه تصور الجسم بحيث لا يماسه شيء من السطوح أصلا.

فيثبت : أن المعقول من كونه متحركا وساكنا ، مغاير للمعقول من كونه مماسا لسطح واحد ، أو منتقلا من مماسة سطح إلى مماسة سطح آخر.

وإذا ثبت هذا فنقول : المعقول من الحركة هو الانتقال من [الحيز إلى الحيز الذي يليه (٣)] والمعقول من السكون هو الاستقرار في الحيز الواحد ، وهذا يقتضي أن سكون هذا الحيز الذي يستقر الجسم فيه تارة ، وينتقل منه إلى غيره أخرى : مغايرا للسطح الحاوي. وذلك هو المطلوب.

الحجة الخامسة : إن الأجسام متناهية. فمجموع الأجسام يجب أن يكون له حيز وجهة ، ومجموع الأجسام يمتنع أن يحيط به سطح آخر. ينتج : أن الحيز والجهة أمر مغاير للسطح الحاوي. لا يقال : مجموع الأجسام ليس لها حيز ولا جهة البتة ، وإنما حصل له وضع بالقياس إلى الأجسام الموجودة في داخله. نعم لا شك أنه يتعذر علينا إثبات جسم لا يكون له حيز ولا جهة. إلا أن الحاكم بهذا الحكم هو الوهم والخيال ، لا العقل. وقد ثبت أن حكم الوهم والخيال باطل كاذب. لأنا نقول : إنا نجد صريح العقل والفطرة شاهدان بأن كل جسم فإنه لا بد وأن يكون حاصلا في حيز وفي جهة.

والذي يؤكد هذا وجوه :

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (س).

(٣) حيز إلى حيز (س).

١٥٢

الأول : إنا ببداهة عقولنا نعلم أن الخط الذي هو محور العالم ، لو خرج من جانبيه إلى ما لا نهاية له ، فإن أحد جانبي ذلك الخط ، مغاير للجانب الآخر منه. ومن أنكر هذا التغاير ، فقد نازع في أقوى البديهيات.

الثاني : إنا لو فرضنا إنسانا واقفا على طرف القطب الشمالي ، فإنه لا بد وأن يميز قدامه عن خلفه. والعلم بهذا الامتياز ضروري.

الثالث : إن النقطة المفروضة في السطح الأعلى من الفلك ، لا شك أنها تكون متحركة [حال استدارة (١)] الفلك ، ولا معنى لتلك الحركة ، إلا أن تلك النقطة انتقلت من حيز إلى حيز [آخر (٢)] وذلك هو المطلوب.

وأما قوله : «إن هذا الحكم عمل الوهم والخيال. وذلك كاذب».

فنقول : هذا الكلام باطل من وجوه :

الأول : وهو أنا نجد الجزم بصحة هذه القضية جزما قاطعا غير قابل للشك والشبهة ، ولا نجد في القلب تفاوتا بين قوة هذه القضية وبين سائر البديهيات. وإذا كان كذلك فنقول : لو جوزنا أن تكون القضية مع هذا القدر من القوة كاذبة فحينئذ يرتفع الأمان عن البديهيات ، ويحتاج في تصحيح ما يصح منها إلى النظر والاستدلال ، لكن الاستدلال موقوف على صحة البديهيات ، فيلزم الدور. وهو فاسد.

والثاني : وهو إنا نجد في فطرة النفس السليمة عن الآفات ، وغريزة القلب المبرأة عن المشوشات : أحكاما يقينية قاطعة ، ثم أنتم تقولون : الحاكم ببعضها هو العقل ، [وهو صادق (٣)] والحاكم [بالبعض الآخر (٤)] هو الوهم وهو كاذب. فعلى هذا التقرير ما لم يعرف الفرق بين العقل وبين الوهم ، وما لم يعرف ثانيا أن هذا الحكم هو حكم العقل لا حكم الوهم ، وما لم يعرف ثالثا

__________________

(١) باستدارة (م).

(٢) من (س ، ط).

(٣) الصادق (س).

(٤) بالبقية (ت ، م).

١٥٣

أن العقل صادق ، وأن الوهم كاذب. فإنه لا يمكننا أن نحكم بصحة تلك القضية التي جزمنا بصحتها.

ونقول : العلم بهذه الأمور الثلاثة إن كان بديهيا ، امتنع حصول الجزم في القضايا الكاذبة ، مع حصول العلم البديهي بكونه كاذبا. وإن كان استدلاليا ، لزم توقف البديهيات على الدلائل [لكن الدلائل (١)] موقوفة على البديهيات. فيلزم الدور [وتبطل كل العلوم (٢)] وتلزم السفسطة.

[الثالث (٣)] : وهو أنه لا معنى للعلوم البديهية الأولية إلا القضايا التي أراد العاقل تشكيل نفسه فيها لما قدر [عليه لكن (٤)] العلم بأنه لا بد وأن يمتاز جانب القطب الشمالي عن جانب القطب الجنوبي ، علم لو أراد العاقل تشكيك نفسه فيه [لما قدر عليه (٥)] فوجب أن يكون ذلك من العلوم البديهية.

فهذا مجموع الدلائل الدالة على أن المكان عبارة عن البعد القائم بذاته ، لا عن السطح الحاوي. والله أعلم.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (م).

(٥) سقط (ط).

١٥٤

الفصل الخامس

في

بيان أن الخلاء

ممتنع الوقوع أو ممكن الوقوع؟

مذهب «أرسطاطاليس» : أنه ممتنع الوقوع. وبه قال جميع (١) أتباعه.

ومذهب جمهور الأقدمين من الحكماء ، وجمهور المتكلمين : أنه جائز الوقوع. وهو المختار. ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : إن بديهة العقل حاكمة بأن الجسم الذي هو المتمكن مفتقر إلى الفضاء الذي هو المكان ، فلو كان وجود الفضاء الذي هو المكان ممتنع الوجود ، إلا مع المتمكن ، لزم افتقار كل واحد منهما إلى الآخر ، فيكون دورا ، وهو محال. فيثبت : أن الفضاء غني في وجوده وفي ذاته عن المتمكن. وهو أيضا غير موجب (٢) لذات المتمكن وإلا لامتنع أن يفارق المتمكن. فيثبت : أن المكان غني في ذاته عن المتمكن ، وغير موجب له ، وما كان كذلك لم يمتنع وجوده منفكا عنه ، فيلزم القطع بأنه لا يمتنع وجود الحيز والفضاء خاليا عن المتمكن. ولا معنى للخلاء إلا ذلك. فإن قيل : يشكل ما ذكرتم بالجوهر والعرض. فإن كل واحد منهما غني في وجوده عن الآخر. وإلا وقع الدور ، وأحدهما غير موجب للآخر ، وإلا لامتنع وجود الجسم بدون ذلك العرض ، مع أنه يمتنع حصول الجسم إلا مع العرض.

__________________

(١) جمهور (س).

(٢) واجب (م).

١٥٥

والجواب : الأعراض عندنا على قسمين : منها ما يجري مجرى المعلول لذات الجسم ، ومنها ما لا يكون كذلك.

أما القسم الأول : فهو كالحصول في الحيز. فإن ماهية الجسم تقتضي كونها حاصلة في الحيز ، فلا جرم يمتنع خلو ذات الجسم عن الحصول في الحيز. ثم إن كان ذلك الحصول حاصلا عقيب [حصول (١)] آخر ، فهو الحركة. وإن لم يكن كذلك فهو السكون. وفي الحقيقة : يرجع حاصل القول في الحركة والسكون إلى الحصول في الحيز ، لكنا بينا أن الحصول في الحيز كالمعلول لماهية الجسم ، وكالموجب عنها ، فلا جرم [قلنا : إنه (٢)] يمتنع خلو ذات الجسم عن الحركة والسكون ، وأما سائر الأغراض فهي كالألوان والطعوم والروائح [وغيرها (٣)] وعندنا يجوز خلو الجسم عنها.

إذا ثبت هذا فنقول : لا شك أن الجسم مفتقر إلى الحيز ، فيمتنع [كون الجسم (٤)] علة لحصول الحيز [وأيضا : الحيز (٥)] يمتنع كونه علة لوجود الجسم. وإذا ثبت هذا ظهر أنه ليس واحد منهما علة لحصول الآخر ، فلما ثبت أن الجسم محتاج إلى الحيز ، وجب كون الحيز غنيا عن الجسم ، فوجب جواز حصول الحيز ، خاليا عن الجسم. وهذا بخلاف الجسم مع الحصول في الحيز فإنا بينا : أن ماهية الجسم علة للحصول في الحيز ، فظهر الفرق. وأما سائر الأعراض فقد ذكرنا أنه لا يمتنع خلو الجسم عنها بأسرها. فقد زال النقض.

الحجة الثانية على صحة القول بالخلاء : أنه لو امتنع الحيز عن المتمكن ، لكان [إمساك (٦)] الحاصل ، أسهل من تحصيل المفقود ، فكان يلزم أن لا يمكن الحيز (٧) من خروج المتمكن منه ، فكان يلزم أن يمتنع على الجسم أن يتحرك عن مكانه ، وحيث لم يمتنع، علمنا أن ذلك لأجل أن ذات الحيز ممكن

__________________

(١) الحصول في حيز (م).

(٥) سقط (م).

(٢) من (س).

(٦) سقط (ط).

(٣) سقط (م).

(٧) المكان (ت ، م).

(٤) كونه (س).

١٥٦

الوجود (١) بدون المتمكن. وذلك يوجب القول بجواز الخلاء [والله أعلم (٢)].

الحجة الثالثة : إذا تحرك الجسم. فالموضع المنتقل إليه. إما أن يقال : إنه كان خلاء قبل انتقال هذا المنتقل إليه ، أو كان ملاء. والأول هو المطلوب. والثاني على قسمين. لأن عند انتقال هذا المنتقل إليه ، إما أن يقال : إنه بقي ذلك الخلاء هناك ، أو انتقل عنه إلى موضع آخر. والأول يقتضي تداخل الأجسام ، وهو محال. والثاني على قسمين. لأنه إما أن يقال : إن ذلك الملاء انتقل إلى مكان هذا المنتقل ، وهذا المنتقل انتقل إلى مكان ذلك الملاء. أو يقال : إن ذلك الملاء انتقل إلى مكان جسم آخر. والأول يوجب الدور ، لأن صحة انتقال هذا المنتقل إلى مكان الملاء ، مشروط بانتقال ذلك الملاء عن ذلك المكان ، وذلك الانتقال مشروط بفراغ هذا المكان عن هذا المنتقل ، وهذا الفراغ مشروط بانتقال [هذا المنتقل (٣)] إلى مكان ذلك الملاء. فيصير دورا. والثاني وهو القول بأن ذلك الملاء انتقل إلى مكان جسم آخر. فيكون الكلام فيه كما في الأول ، فيلزم أن تتدافع جملة العالم عند حركة [البقة (٤)] وهذا قول لا يقبله العقل. فيثبت : أن القول بأن العالم ملاء يفضي إلى أحد هذه الأقسام الباطلة ، فكان القول به باطلا.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن الجسم إذا انتقل من جانب إلى جانب ، فإنه يحدث في الحيز [المنتقل عنه جسم ويفنى عن الحيز (٥)] المنتقل إليه آخر و[حينئذ لا يحصل الخلاء. ويفنى من الجانب المنتقل إليه جزء ، ليصير ذلك الحيز حيزا لهذا المنتقل (٦)] وحينئذ لا يلزم [القول بالخلاء (٧)] وهذا الذي ذكرناه غير مستبعد [البتة (٨)] إما لأجل أنا نقول : بالفاعل المختار [فإنه تعالى (٩)] يحدث جزءا في [أحد (١٠)] الحيزين ، ويفنى(١١) جزءا عن الحيز الآخر

__________________

(١) التحقق (م ، ت).

(٧) شيء مما ذكرتموه (ت ، م).

(٢) من (ط ، س).

(٨) من (س).

(٣) سقط (م).

(٩) من (س).

(٤) عند قول البتة (م ، ت).

(١٠) من (س).

(٥) سقط (م)

(١١) ويعدم (م ، ت).

(٦) سقط (ط).

١٥٧

[وعلى هذا التقدير فالأشكال زائل (١)] لأجل أنا نقول : الأجسام قابلة للتخلخل والتكاثف ، فإذا انتقل الجسم عن حيز ، ازداد مقدار الجسم في الجانب المنتقل عنه ، وانتقص مقداره في الجانب المنتقل إليه ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل.

ثم نقول : هذا الدليل ينتقض بحركة السمكة في الماء ، فإنه لا يعقل حصول الخلاء في داخل الماء (٢) وذلك لأن الماء جرم سيّال بالطبع إلى المواضع الخالية. فلو حصل هناك خلاء ، لسال الماء إليه. فيثبت : أنه ليس في داخل الماء شيء من الخلاء. وإذا ثبت هذا فنقول : إن السمكة إذا تحركت في قعر البحر ، لزمكم أن تقولوا : إنه يتموج بكليته [ويتدافع (٣)] بسبب حركة تلك السمكة (٤) فإن التزمتم ذلك ، فنحن أيضا نلتزم تدافع أجزاء (٥) العالم بسبب حركة البقة.

والجواب عن الأول : أن نقول : صحة إحداث الله الجسم في الحيز المنتقل عنه : مشروط بكون ذلك الحيز خاليا. لامتناع تداخل الأجسام. فلو جعلنا صحة (٦) خلوه مشروطا بخلق الله تعالى ذلك الجزء فيه ، لزم الدور ، وهو باطل [وكذا القول في إعدام الحيز عن الجانب المنتقل إليه ، لأن هذا الإعدام مشروط بعدم الخلاء ، وعدم الخلاء مشروط بحصول الجسم المنتقل في ذلك الحيز ، فلو جعلنا صحة حصوله فيه مشروطا بإعدام ذلك الحيز ، لزم الدور (٧)] وهذا الجواب لا يختلف سواء قلنا : إنه يحدث أحد الجسمين ويعدم الثاني بإيجاد الله تعالى وبإعدامه ، أو قلنا : إنه يزداد مقدار الجسم من أحد الجانبين ، وينتقص من الجانب الآخر بسبب التخلخل والتكاثف على أنا قد بينا

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) في (س ، ط).

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) تلك السمكة كل البحر فإن ... الخ (م ، ت).

(٥) جملة (س).

(٦) صحة ذلك الخلق مشروطا (س ، ط).

(٧) سقط (ط) ، (س).

١٥٨

في باب الحركة : أن القول بالتخلخل والتكاثف : قول باطل محال.

والجواب عن الثاني : أنا نقول : مذهبنا أنه حصل في داخل الماء خلاء كثير ، وذلك هو السبب في كون الماء لطيفا متموجا ، وذلك لأن الماء ثقيل سيال بالطبع ، وكلما انصب بعض أجزاء الماء إلى بعض الأحياز الخالية ، صارت سائر الأحياز خالية. فتنصب أجزاء الماء مرة أخرى من تلك الأحياز [إلى هذه الأحياز (١)] وهكذا أبدا. ولهذا السبب يكون جسم الماء متموجا [متحركا (٢)] أبدا. وعلى هذا التقدير فقد سقط السؤال.

الحجة الرابعة : إذا فرضنا سطحا لقي سطحا آخر بكليته ثم ارتفع عنه دفعة ، فإنه يجب وقوع الخلاء بينهما في أول زمان حصول ذلك الارتفاع.

فلنبين إمكان هذه الأمور (٣) :

أما المقدمة الأولى فهي في بيان أنه يصح أن يلقى سطح سطحا آخر بكليته. وبرهانه : أنه لو امتنع أن يلقى سطح سطحا لبقيت الفرج خالية بينهما. وذلك يوجب القول بالخلاء. وأيضا فالبديهة حكمت بصحته. لأنا إذا وضعنا باطن إصبعنا على الإصبع الثاني ، من اليد الثانية ، علمنا بالضرورة أنه صار سطح هذا الإصبع ملاقيا لسطح الإصبع الثانية بالكلية. وإنه (٤) من المحال أن يقال : إنه لم تحصل الملاقاة إلا على نقط متفرقة متباينة.

وأما المقدمة الثانية فهي في بيان أنه يصح أن يرتفع أحد السطحين عن الآخر دفعة. وبرهانه : أن الجزء الأول من السطح الأعلى ، إذا ارتفع عن السطح الأسفل ، فلو بقي الجزء الثاني من السطح الأعلى ، مماسا لجزء من السطح الأسفل ، لزم وقوع التفكك بين أجزاء السطح الأعلى. لأن الجزء الأول إذا ارتفع فقد تحرك إلى فوق ، فلو بقي الجزء الثاني مماسا (٥) للشيء الذي

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) الأحوال (س).

(٤) وإنه لا يمكن أن يقال : تحصل الملاقاة ... الخ (م ، ت).

(٥) مماسا لما كان مماسا (م ، ت).

١٥٩

كان مماسا له قبل ذلك ، فهو حينئذ لم يتحرك أصلا. والجسم إذا تحرك أحد جانبيه ، ولم يتحرك منه الجانب الآخر البتة ، فإنه يلزم وقوع التفكك في أجزائه. وهذا هو الذي عوّل عليه الحكماء في إبطال الجزء الذي لا يتجزأ ، حيث قالوا : لو تحرك بعض أجزاء الرحى مع سكون البعض ، لزم وقوع التفكك [لكن القول بالتفكك (١)] باطل. فالقول بأن السطح الأعلى يرتفع عن الأسفل دفعة واحدة حق. وأيضا : فلنفرض وقوع التفكك فنقول : اللامماسة من الأمور التي تحصل في الآن ، فالسطحان المفروضان لا شك أنهما كانا متماسين، فإذا حصلت اللامماسة فهذا الذي صار لا مماسا دفعة. إما أن يكون سطحا أو نقطة. فإن كان الأول فقد حصل المطلوب. وإن كان الثاني لزم تشافع (٢) النقط وتتالي الآنات ، وهما باطلان عند القوم.

وأما المقدمة الثالثة فهي في بيان أنه لما ارتفع أحد السطحين عن الآخر فإنه يلزم حصول الخلاء في وسطها. وبرهانه : أنه لو حصل بينهما جسم ، فإما أن يقال : كان ذلك الجسم حاصلا بينهما قبل ذلك أو يقال : إنه انتقل إليه حين رفعنا الأعلى من الأسفل. والأول باطل. لأنا بينا : أن من الممكن أن ينطبق سطح على سطح ، وكل ما كان ممكنا فإنه لا يلزم من فرض وقوعه محال ، فليفرض وقوعه ، لأن المبني على الممكن ممكن. والثاني باطل أيضا. لأن الانتقال إلى ذلك الوسط ، إما أن يكون من مسام الأعلى والأسفل ، أو من الجوانب. والأول باطل. لأن الأجسام (٣) التي تحصل فيها المنافذ والمسام ، فإنه لا بد وأن يحصل بين كل منفدين : سطح متصل ، وإلا لزم أن لا يحصل في السطح ذي المنافذ وذي المسام سطح متصل ، وحينئذ يكون الجسم عبارة عن نقط متفرقة ، وذلك باطل. وإذا حصل في السطح ذي المنافذ سطح متصل ، ثم إنا نجد السطح ذا المنافذ يرتفع عما تحته دفعة ، علمنا أن كل واحد من تلك

__________________

(١) سقط (م ، ت).

(٢) تدافع (م).

(٣) الأجسام وإن حصلت المنافذ والمسام فيها إلا أنه لا بد وأن يحصل بين كل مقدمتين سطح منعقد وإلا لزم ... الخ (م ، ت).

١٦٠