أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))

شرح الكلمات :

(هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) : أي اجعل مكة بلدا آمنا يأمن كل من دخله.

(وَاجْنُبْنِي) : بعّدني.

(أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) : عن أن نعبد الأصنام.

(أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) : أي بعبادتهم لها.

(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) : أي من اتبعني على التوحيد فهو من أهل ملتي وديني.

(مِنْ ذُرِّيَّتِي) : أي من بعض ذريتي وهو اسماعيل عليه‌السلام وأمه هاجر.

(بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) : أي مكة إذ لا مزارع فيها ولا حولها يومئذ.

(تَهْوِي إِلَيْهِمْ) : تحنّ إليهم وتميل رغبة في الحج والعمرة.

(عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) : أي مع الكبر إذ كانت سنه يومئذ تسعا وتسعين سنة وولد له إسحق وسنه مائة واثنتا عشرة سنة.

(وَلِوالِدَيَ) : هذا قبل أن يعرف موت والده على الشرك.

(يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) : أي يوم يقوم الناس للحساب.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وقد تضمنت هذه الآيات ذلك ،

٦١

فقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) أي اذكر إذ قال إبراهيم فكيف يذكر ما لم يوح الله تعالى إليه بذلك ففسر هذا نبوة رسول الله ونزول الوحي إليه ، وقوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) إي ذا أمن فيأمن من دخله على نفسه وماله والمراد من البلد مكة.

وقوله : (وَاجْنُبْنِي (١) وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) فيه تقرير للتوحيد الذي هو عبادة الله وحده ومعنى اجنبني ابعدني أنا وأولادي وأحفادي وقد استجاب الله تعالى له فلم يكن في أولاده وأولاد أولاده مشرك ، وقوله : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (٢) تعليل لسؤاله ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها ، واضلال الناس كان بعبادتهم لها فضلوا في أودية الشرك ، وقوله : (فَمَنْ تَبِعَنِي) أي من أولادي (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي على ملتي وديني ، (وَمَنْ عَصانِي) فلم يتبعنى على ملة الإسلام إن تعذبه فذاك وإن تغفر له ولم تعذبه (فَإِنَّكَ غَفُورٌ) (٣) (رَحِيمٌ) ، وقوله : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) (٤) أي من بعض ذريتي وهو اسماعيل مع أمه هاجر (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) هو مكة إذ ليس فيها ولا حولها زراعة يومئذ وإلى آماد بعيدة وأزمنة عديدة (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) قال هذا بإعلام من الله تعالى له أنه سيكون له بيت في هذا الوادي ومعنى المحرم أي الحرام وقد حرمه تعالى فمكة حرام إلى يوم القيامة لا يصاد صيدها ولا يختلي خلاها ولا تسفك فيها دماء ولا يحل فيها قتال ، وقوله : (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ (٥) فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) هذا دعاء بأن ييسر الله تعالى عيش سكان مكة ليعبدوا الله تعالى فيها بإقام الصلاة ، فإن قلوب بعض الناس عند ما تهفوا الى مكة وتميل إلى الحج والعمرة تكون سببا في نقل الأرزاق والخيرات إلى مكة ، وقوله : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) دعاء آخر بأن يرزق الله بنيه من الثمرات ليشكروا الله تعالى على ذلك فوجود الأرزاق والثمرات موجبة للشكر ، إذ النعم تقتضي

__________________

(١) أي : اجعلني جانبا عن عبادتها ، وبنيه من صلبه وكانوا ثمانية : فما عبد منهم أحد صنما قط. كان ابراهيم التميمي يقول : من يأمن البلاء بعد الخليل حتى يقول : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام.

(٢) نسب الإضلال إليهن وهن جمادات لا يفعلن شيئا : لأنهن السبب في الإضلال.

(٣) فوّض الأمر لربه إن شاء غفر لمن عصاه رحمة ، وإن شاء عذّبه. وقيل : قال ابراهيم هذا قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك لأصحابه.

(٤) ذكر البخاري قصّة إسكان ابراهيم عليه‌السلام هاجر مكة ، بالتفصيل فليرجع إليها ومن في قوله : (مِنْ ذُرِّيَّتِي) للتبعيض إذ لم يسكن مكة إلّا إسماعيل وباقي أولاده كانوا بالشام.

(٥) خصّ الصلاة بالذكر لأنها العبادة التي تشتمل على الذكر والشكر ، وهي علّة الحياة وسرّ هذا الوجود والكلام في قوله (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) لام كي : التعليلية والفعل متعلق بأسكنت أي : أسكنتهم بمكة ليقيموا الصلاة فيها.

٦٢

شكرا ، وقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أراد به أن ما سأل ربه فيه من كل ما سأل انما هو من باب إظهار العبودية لله والتخشع لعظمته والتذلل لعزته والافتقار الى ما عنده ، وإلا فالله أعلم بحاله وما يصلحه هو وبنيه ، وما هم في حاجة إليه لأنه تعالى يعلم كل شيء ولا يخفى (١) عنه شيء في الأرض ولا في السماء .. وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ (٢) إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أراد به حمد الله وشكره على ما أنعم به عليه حيث رزقه اسماعيل واسحق على كبر سنه ، والاعلام بأن الله تعالى سميع دعاء من يدعوه وينيب إليه ، وقوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أيضا من يقيم الصّلاة ، لأن الصلاة هي علة الحياة كلها إذ هي الذكر والشكر فمتى أقام العبد الصلاة فأداها بشروطها وأركانها كان من الذاكرين الشاكرين ، ومتى تركها العبد كان من الناسين الغافلين وكان من الكافرين ، وأخيرا ألحّ على ربه في قبول دعائه وسأل المغفرة له ولوالديه (٣) وللمؤمنين يوم يقوم (٤) الناس للحساب وذلك يوم القيامة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضل مكة وشرفها وأنها حرم آمن أي ذو أمن.

٢ ـ الخوف من الشرك لخطره وسؤال الله تعالى الحفظ من ذلك.

٣ ـ علاقة الإيمان والتوحيد أولى من علاقة الرحم والنسب.

٤ ـ أهمية إقام الصلاة وأن من لم يرد أن يصلي لا حق له في الغذاء ولذا يعدم إن أصر على ترك الصلاة.

__________________

(١) قال ابن عباس في قوله تعالى : (إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) أي : من الوجد بإسماعيل وأمّه حيث أسكنا بواد غير ذي زرع ، والوجد : الحزن.

(٢) قيل : ولد له اسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له اسحق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

(٣) استغفر عليه‌السلام لوالديه قبل أن يتبيّن له عداوة أبيه آزر لله تعالى فلمّا تبيّن له أنه عدو لله تبرأ منه ، كما تقدم في سورة التوبة ، كما جاء فيها : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) فلذا لا يجوز الاستغفار لمن مات مشركا ، كما لا يجوز الصلاة عليه إذا مات إجماعا.

(٤) نسبة القيام إلى الحساب كقولهم : قامت الحرب على ساق : يعنون اشتداد الأمر ، وصعوبة الحال.

٦٣

٥ ـ بيان استجابة دعاء ابراهيم عليه‌السلام فيما سأل ربه تعالى فيه.

٦ ـ وجوب حمد الله وشكره على ما ينعم به على عبده.

٧ ـ مشروعية الاستغفار للنفس وللمؤمنين والمؤمنات.

٨ ـ تقرير عقيدة البعث والحساب والجزاء.

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦))

شرح الكلمات :

(عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) : أي المشركون من أهل مكة وغيرهم.

(لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) : أي تنفتح فلا تغمض لشدة ما ترى من الأهوال.

(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) : أي مسرعين إلى الداعي الذي دعاهم إلى الحشر ، رافعي رؤوسهم.

٦٤

(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) : أي فارغة من العقل لشدة الخوف والفزع.

(نُجِبْ دَعْوَتَكَ) : أي على لسان رسولك فنعبدك ونوحدك ونتبع الرسل.

(ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) : أي عن الدنيا إلى الآخرة.

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) : أي مكرت قريش بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أرادوا قتله أو حبسه أو نفيه.

(وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) : أي لم يكن مكرهم بالذي تزول منه الجبال فإنه تافه لا قيمة له فلا تعبأ به ولا تلتفت اليه.

معنى الآيات :

في هذا السياق الكريم تقوية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر ليواصل دعوته إلى ربه إلى أن ينصرها الله تعالى وتبلغ المدى المحدد لها والأيام كانت صعبة على رسول الله وأصحابه لتكالب المشركين على أذاهم ، وازدياد ظلمهم لهم فقال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) من قومك إنه إن لم ينزل بهم نقمته ولم يحل بهم عذابه إنما يريد أن يؤخرهم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ (١) فِيهِ الْأَبْصارُ) أي تنفتح فلا تغمض ولا تطرف لشدة الأهوال وصعوبة الأحوال ، (مُهْطِعِينَ) (٢) أي مسرعين (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) (٣) أي حال كونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم أي رافعين رؤوسهم مسرعين للداعي الذى دعاهم إلى المحشر ، قال تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) (٤) أي لا تغمض أعينهم من الخوف (وَأَفْئِدَتُهُمْ) أي قلوبهم (هَواءٌ) أي (٥)

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يرمضون ، وفعل الشخوص :

شخص يشخص البصر : إذا سما وطمح من الخوف.

(٢) (مُهْطِعِينَ) اسم فاعل من أهطع يهطع إهطاعا فهو مهطع إذا أسرع ومنه قوله تعالى : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) أي : مسرعين ، قال الشاعر :

بدجلة دارهم ولقد أراهم

بدجلة مهطعين إلى السماع

والمهطع أيضا من ينظر في ذل وخشوع.

(٣) (مُقْنِعِي) الإقناع : رفع الرأس ومنه الإقناع في الصلاة وهو مكروه وقد يطلق الإقناع أيضا على تنكيس الرأس ، يقال : أقنع رأسه : إذا طأطأه أو رفعه ، واللفظ يحتمل الوجهين.

(٤) الطرف : العين ، قال الشاعر :

وأغمض طرفي ما بدت لي جارتي

حتى يواري جارتي ماواها

يقال : طرف يطرف طرفا إذا أطبق جفنه على الآخر ، ولم يطرف : إذا فتح عينه ولم يغمضها.

(٥) هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول ، والهواء : الخلاء.

٦٥

فارغة من الوعي والادراك لما أصابها من الفزع والخوف ثم أمر تعالى رسوله في الآية (٤٤) بإنذار الناس مخوفا لهم من عاقبة أمرهم إذا استمروا على الشرك بالله والكفر برسوله وشرعه ، (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أشركوا بربهم ، وآذوا عباده المؤمنين (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي يطلبون الإنظار والإمهال (نُجِبْ دَعْوَتَكَ) أي نوحدك ونطيعك ونطيع رسولك ، فيقال لهم : توبيخا وتقريعا وتكذيبا لهم : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ) أي حلفتم (مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أي أطلبتم الآن التأخير ولم تطلبوه عند ما قلتم ما لنا من زوال ولا ارتحال من الدنيا الى الآخرة ، (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالشرك والمعاصي (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) أي عرفتم (كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) أي بإهلاكنا لهم وضربنا لكم الأمثال في كتبنا وعلى ألسنة رسلنا فيوبخون هذا التوبيخ ولا يجابون لطلبهم ويقذفون في الجحيم ، وقوله تعالى : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أي وقد مكر كفار قريش برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قرروا حبسه مغللا في السجن حتى الموت أو قتله ، أو نفيه وعزموا على القتل ولم يستطيعوه (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أي علمه وما أرادوا به ، وجزاؤهم عليه ، وقوله : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (١) أي ولم يكن مكرهم لتزول منه الجبال فإنه تافه لا وزن له ولا اعتبار فلا تحفل به أيها الرسول ولا تلتفت ، فإنه لا يحدث منه شيء ، وفعلا قد خابوا فيه أشد الخيبة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تأخير العذاب عن الظلمة في كل زمان ومكان لم يكن غفلة عنهم ، وإنما هو تأخيرهم إلى يوم القيامة أو إلى أن يحين الوقت المحدد لأخذهم.

٢ ـ بيان أهوال يوم القيامة وصعوبة الموقف فيه حتى يتمنى الظالمون الرجوع الى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا ويوحدوا ربهم في عبادته.

٣ ـ التنديد بالظلم وبيان عقاب الظالمين بذكر أحوالهم.

__________________

(١) قرىء : لتزول بفتح اللام الأولى وضم الآخرة لتزول ، وإن مخففة من الثقيلة ، واللام لام الابتداء ، ومعنى الآية : استعظام مكرهم حتى لتكاد الجبال تزول منه ، وما في التفسير من قراءة وتوجيه هو الذي رجّحه ابن جرير الطبري. هنا ذكر القرطبي بإسهاب قصّة النمرود الجبار الذي حاج ابراهيم عليه‌السلام ، ولا طائل تحتها.

٦٦

٤ ـ تقرير جريمة قريش في ائتمارها على قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

شرح الكلمات :

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) : أي غالب لا يحال بينه وبين مراده بحال من الأحوال.

(ذُو انتِقامٍ) : أي صاحب انتقام ممن عصاه وعصى رسوله.

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) : أي اذكر يا رسولنا للظالمين يوم تبدل الأرض.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ) : أي خرجوا من القبور لله ليحاسبهم ويجزيهم.

(مُقَرَّنِينَ) : أي مشدودة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم.

(فِي الْأَصْفادِ) : الأصفاد جمع صفد وهو الوثاق من حبل وغيره.

(سَرابِيلُهُمْ) : أي قمصهم التي يلبسونها من قطران.

(هذا بَلاغٌ) : أي هذا القرآن بلاغ للناس.

(أُولُوا الْأَلْبابِ) : أصحاب العقول.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وهم يعانون من صلف المشركين

٦٧

وظلمهم وطغيانهم فيقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) (١) إنه كما لم يخلف رسله الأولين لا يخلفك أنت ، إنه لا بد منجز لك ما وعدك من النصر على أعدائك فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) (٢) أي غالب لا يغلب غالب على أمره ما يريده لا بد واقع (ذُو انتِقامٍ) شديد ممن عصاه وتمرد على طاعته وحارب أولياءه ، واذكر (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) (٣) كذلك (وَبَرَزُوا) أي ظهروا بعد خروجهم من قبورهم في طريقهم إلى المحشر إجابة منهم لدعوة الداعي وقد برزوا (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ) يا رسولنا تراهم (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٤) مشدودة أيديهم وارجلهم إلى أعناقهم ، هؤلاء هم المجرمون اليوم بالشرك والظلم والشر والفساد أجرموا على أنفسهم أولا ثم على غيرهم ثانيا سواء ممن ظلموهم وآذوهم أو ممن دعوهم إلى الشرك وحملوهم عليه ، الجميع قد أجرموا في حقهم ، (سَرابِيلُهُمْ) (٥) قمصانهم التي على أجسامهم (مِنْ قَطِرانٍ) وهو ما تدهن به الإبل : مادة سوداء محرقة للجسم أو من نحاس إذ قريء من قطرآن أي من نحاس أحمي عليه حتى بلغ المنتهى في الحرارة (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أي وتغطي وجوههم النار بلهبها ، هؤلاء هم المجرمون في الدنيا بالشرك والمعاصي ، وهذا هو جزاؤهم يوم القيامة ، فعل تعالى هذا بهم (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فما بين أن وجدوا في الدنيا وبين أن انتهوا إلى نار جهنم واستقروا في أتون جحيمها الا كمن دخل

__________________

(١) (مُخْلِفَ) مفعول ثان لحسب ، و (وَعْدِهِ) : مجرور بالإضافة ، و (رُسُلَهُ) : معمول لمخلف مؤخر ، والأصل : مخلف رسله وعده ، وقدّم الوعد للاهتمام به.

(٢) جملة تعليلية للنهي عن حسبان خلف وعده تعالى.

(٣) الآية نصّ صريح في كون الأرض والسموات تتبدل في ذاتها وسائر صفاتها وتزول تماما ويخلق الله تعالى أرضا غير ذي وسماء غير هذه ، وفي الحديثين الآتيين ما يقرّر ذلك :

أ ـ حديث مسلم ، وفيه : (إنّ يهوديا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : أين يكون الناس يوم تبدلّ الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال : في الظلمة دون الجسر).

ب ـ حديث ابن ماجه بإسناد مسلم قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فأين يكون الناس يومئذ؟ قال على الصراط).

(٤) الأصفاد : جمع صفد بفتح كل من الصاد والفاء ، وهو الغلّ والقيد يشد به ويربط الجاني قال الشاعر :

فآبوا بالنهاب وبالسبايا

وأبنا بالملوك مصفّدين

(٥) واحد السرابيل : سربال ، وهو القميص ، يقال : تسربل ، إذا لبس السربال وكونها من قطران لشدّة حرارتها ، واشتعال النار فيها.

٦٨

مع باب وخرج مع آخر ، وأخيرا يقول تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ (١) وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي هذا القرآن بلاغ للناس من رب الناس قد بلغه إليهم رسول رب الناس (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) أي بما فيه من العظات والعبر والعرض لألوان العذاب وصنوف الشقاء لأهل الإجرام والشر والفساد ، (وَلِيَعْلَمُوا) أي بما فيه من الحجج والدلائل والبراهين (أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي معبود واحد لا ثاني له وهو الله جل جلاله ، فلا يعبدوا معه غيره إذ هو وحده الرب والإله الحق ، وما عداه فباطل ، (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول المدركة الواعية فيعملوا على إنجاء أنفسهم من غضب الله وعذابه ، وليفوزوا برحمته ورضوانه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان صدق وعد الله من وعدهم من رسله وأوليائه.

٢ ـ بيان أحوال المجرمين في العرض وفي جهنم.

٣ ـ بيان العلة في المعاد الآخر وهو الجزاء على الكسب في الدنيا.

٤ ـ قوله تعالى في آخر آية من هذه السورة : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) هذه الآية صالحة لأن تكون عنوانا (٢) للقرآن الكريم إذ دلت على مضمونه كاملا مع وجازة اللفظ وجمال العبارة ، والحمد لله أولا وآخرا.

__________________

(١) (بَلاغٌ) أي : تبليغ للناس يقوم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) قال هذا : العلامة الشيخ ، البشير الإبراهيمي الجزائري ، وظننا أنّه إلهام من الله تعالى له ، وإذا بنا نعثر في كلام الأولين على من قاله ، وسبق به وجائز أن يكون الشيخ ألهمه والآخر كذلك ، وتوارد الخواطر معروف ولا مانع من النقل والسكوت على من نقل عنه ، إذ العلم مشاع كالماء والهواء لا غنى لأحد عنهما ، ولذا فلا بأس أن ينقل العلم ولا ينسب إلى قائله لكن لا ينسب إلى غير قائله ، فتلك سرقة ممنوعة.

٦٩

الجزء الرابع عشر

سورة الحجر

مكية

وآياتها تسع وتسعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤))

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥))

شرح الكلمات :

(الر) : الله أعلم بمراده بذلك ، تكتب آلر. ويقرأ : ألف ، لام ، را.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) : الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف المقطعة تلك آيات الكتاب أي القرآن.

(يَوَدُّ) : يحب ويرغب متمنّيا أن لو كان من المسلمين.

(وَيَتَمَتَّعُوا) : أي بالملذات والشهوات.

(وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) : أي بطول العمر وبلوغ الأوطار وإدراك الرغائب الدنيوية.

(إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) : أي أجل محدود لإهلاكها.

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) : أي لا يتقدم أجلها المحدد لها ومن زائدة للتأكيد.

معنى الآيات :

بما أن السورة مكية فإنها تعالج قضايا العقيدة وأعظمها التوحيد والنبوة والبعث. قوله تعالى : (الر) : الله أعلم بمراده به ، ومن فوائد هذه الحروف المقطعة تنبيه السامع وشده بما يسمع من التلاوة ، إذ كانوا يمنعون سماعه خشية التأثر به ، فكانت هذه الفواتح التى لم يألفوا مثلها في كلامهم تشدهم إلى سماع ما بعدها من القرآن. وقوله : (تِلْكَ آياتُ

٧٠

الْكِتابِ) (١) من الجائز القول : الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف الر ، آلم ، طس ، حم عسق. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) المبين : المبين للحق والباطل والهدى والضلال وقوله تعالى : (رُبَما (٢) يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) : يخبر تعالى أن يوما سيأتي هو يوم القيامة عند ما يرى الكافر المسلمين يدخلون الجنة ويدخل هو النار يود يومئذ متمنيا أن لو كان من (٣) المسلمين. وقد يحدث الله تعالى ظروفا في الدنيا وأمورا يتمنى الكافر فيها لو كان من المسلمين. وقوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي اتركهم يا رسولنا ، أي اترك الكافرين يأكلوا ما شاءوا من الأطعمة ، ويتمتعوا بما حصل لهم من الشهوات والملذات ، ويلههم الأمل عن التفكير في عاقبة أمرهم. إذ همهم طول أعمارهم ، وتحقيق أوطارهم ، فسوف يعلمون إذا ردّوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون أنهم كانوا في الدنيا مخطئين بإعراضهم عن الحق ودعوة الحق والدين الحق وقوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) (٤) أي من أهل قرية بعذاب الإبادة والاستئصال (إِلَّا وَلَها كِتابٌ) ، أي لها أجل مكتوب في كتاب محدد اليوم والساعة. وقوله : (.. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي بناء على كتاب المقادير فإن أمة كتب الله هلاكها لا يمكن أن يتقدم هلاكها قبل ميقاته المحدد ، ولا أن يستأخر عنه ولو ساعة. وفي هذا تهديد وتخويف لأهل مكة وهم يحاربون دعوة الحق ورسول الحق لعل قريتهم قد كتب لها كتاب وحدد لها أجل وهم لا يشعرون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ القرآن الكريم مبين لكل ما يحتاج إليه في إسعاد الإنسان وإكماله.

__________________

(١) لفظ الكتاب الذي هو القرآن أصبح علما بالغلبة على القرآن العظيم الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمي بالكتاب لأنه مأمور بكتابته وحفظه فسمي بالكتاب قبل أن يكتب للأمر بذلك ، والقرآن : اسم ثان للكتاب الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكتاب مشتق من الكتب الذي هو الجمع ، والقرآن من القرء الذي هو الجمع أيضا فهو تجمع حروفه وكلماته.

(٢) ربّ : حرف جرّ يدخل على الأسماء ، وإن أريد إدخالها على الأفعال لحقت بها (ما) كما في الآية. وقرأ نافع (رُبَما) بالتخفيف ، وشدّدها غيره في هذه الآية (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) الخ وأصل استعمالها في التقليل ، وقد تستعمل في التكثير.

(٣) وقد ورد أنه لما يرى الكافرون وهم في النار أهل التوحيد يخرجون منها يودون لو كانوا موحدين ، والكل وارد ولا مانع منه.

(٤) (مِنْ) : صلة لتقوية النفي وتأكيد الخبر.

٧١

٢ ـ إنذار الكافرين وتحذيرهم من مواصلة كفرهم وحربهم للإسلام فإن يوما سيأتي يتمنون فيه أن لو كانوا مسلمين.

٣ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر فما من شيء إلا وسبق به علم الله وكتبه عنده في كتاب المقادير الحياة كالموت ، والربح كالخسارة ، والسعادة كالشقاء ، جميع ما كان وما هو كائن وما سيكون سبق به علم الله وكتب في اللوح المحفوظ.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١))

شرح الكلمات :

(نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) : أي القرآن الكريم.

(لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) : أي هلا تأتينا بالملائكة تشهد لك أنك نبي الله.

(وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) : أي ممهلين ، بل يأخذهم العذاب فور نزول الملائكة.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) : أي القرآن.

(فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) : أي في فرق وطوائف الأولين.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي قال الكافرون المنكرون للوحي والنبوة (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) أي غير عاقل وإلا لما ادعيت النبوة. وفي قولهم هذا استهزاء

٧٢

ظاهر بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ثمرة ظلمة الكفر التي في قلوبهم وقوله : (لَوْ ما تَأْتِينا) (١) (بِالْمَلائِكَةِ) لو ما هنا بمعنى هلا التحضيضيه أي هلا تأتينا بالملائكة نراهم عيانا يشهدون لك بأنك رسول الله (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك النبوة والرسالة فأت بالملائكة تشهد لك. قال تعالى (ما نُنَزِّلُ (٢) الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي نزولا ملتبسا بالحق. أي لا تنزل الملائكة إلا لإحقاق الحق وإبطال الباطل لا لمجرد تشهي الناس ورغبتهم ولو نزلت الملائكة ولم يؤمنوا لنزل بهم العذاب فورا (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) (٣) أي ممهلين بل يهلكون في الحال. وقوله تعالى في الآية (٩) (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) أي القرآن (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي من الضياع ومن الزيادة والنقصان لأنه حجتنا على (٤) خلقنا إلى يوم القيامة. أنزلنا الذكر هدى ورحمة وشفاء ونورا. هم يريدون العذاب والله يريد الرحمة. مع أن القرآن نزلت به الملائكة ، والملائكة إن نزلت ستعود الى السماء ولم يبق ما يدل على الرسالة إلا القرآن ولكن القوم لا يريدون أن يؤمنوا وليسوا في ذلك الكفر والعناد وحدهم بل سبقتهم طوائف وأمم أرسل فيهم فكذبوا وجاحدوا وهو قوله تعالى : (وَلَقَدْ (٥) أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ (٦) الْأَوَّلِينَ) أي في فرقهم وأممهم (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ (٧) يَسْتَهْزِؤُنَ) لأن علة المرض واحدة إذا فلا تيأس يا رسول الله ولا تحزن بل اصبر وانتظر وعد الله لك بالنصر فإن وعده حق : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي! إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

__________________

(١) (لَوْ ما) كلو لا ، وهلا : حرف تحضيض على الفعل نحو : لو ما أكرمت عمرا ولو لا أكرمت زيدا وهلا كذلك ، وتأتي مع الخبر فلا يراد بها التحضيض نحو : لو ما خوف الله لقلت فيك كذا وكذا ، قال الشاعر :

لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما

ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري

(٢) قرأ حفص : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) وقرأ بعضهم ما تنزّل وقرأ ورش عن نافع ما تنزّل بحذف احدى التائين تخفيفا ، إذ الأصل : تتنزّل.

(٣) أصل : إذا : إذ أن ، ومعناها حينئذ أي : تنزّلت الملائكة بإهلاكهم لما كانوا حينئذ منظرين أي : ممهلين ساعة من الزمن.

(٤) قالت العلماء : لما وكل الله تعالى حفظ التوراة والانجيل إلى أهل الكتاب في قوله (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) أضاعوه فزادوا فيه ونقصوا منه ، ولمّا تولى الله تعالى حفظ القرآن ، حفظه فلم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف.

(٥) (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) الخ .. هذه الجملة إبطال لاستهزاء المشركين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة التمثيل بأشياعهم من الأمم السابقة.

(٦) الشيع : جمع شيعة ، وهي الفرقة المتآلفة المتفقة الكلمة ، ومنه قوله تعالى (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) أي : فرقا كل فرقة تتآلف مع أفرادها ، وتحارب عن مبادئها وأفكارها وما هي عليه من دين وعادة.

(٧) تقديم الجار والمجرور (بِهِ) على فعل (يَسْتَهْزِؤُنَ) : لإفادة القصر للمبالغة أي : كأنهم لفساد قلوبهم لا شغل لهم إلا الاستهزاء برسول الله عزوجل.

٧٣

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما كان يلقاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من استهزاء وسخرية من المشركين.

٢ ـ مظهر من مظاهر رحمة الله بالإنسان ، يطلب نزول العذاب والله ينزل الرحمة.

٣ ـ بيان حفظ الله تعالى للقرآن الكريم من الزيادة والنقصان ومن الضياع.

٤ ـ بيان سنة الله تعالى في الأمم والشعوب وهي أنهم ما يأتيهم من رسول ينكر عليهم مألوفهم ويدعوهم إلى جديد من الخير والهدى إلا وينكرون ويستهزئون.

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨))

شرح الكلمات :

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) : أي التكذيب بالقرآن أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) : أي مضت سنة الأمم السابقة.

(فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) : أي يصعدون.

(إِنَّما سُكِّرَتْ) : أي سدت كما يسكّر النهر أو الباب.

(فِي السَّماءِ بُرُوجاً) : أي كواكب ينزلها الشمس والقمر.

(شَيْطانٍ رَجِيمٍ) : أي مرجوم بالشهب.

(شِهابٌ مُبِينٌ) : كوكب يرجم به الشيطان يحرقه أو يمزقه أو يخبله أي يفسده.

٧٤

معنى الآيات :

ما زال السياق في المكذبين للنبي المطالبين بنزول الملائكة لتشهد للرسول بنبوته حتى يؤمنوا بها. قال تعالى : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) (١) أي التكذيب في قلوب المجرمين من قومك ، كما سلكناه حسب سنتنا في قلوب من كذبوا الرسل من قبلك فسلكه (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) من قومك فلا يؤمنون بك ولا بالذكر الذي أنزل عليك. وقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (٢) أي مضت وهي تعذيب المكذبين للرسل المستهزئين بهم لأنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم. وقوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ (٣) باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا) أي الملائكة أو المكذبون (فِيهِ) أي في ذلك الباب (يَعْرُجُونَ) أي يصعدون طوال النهار طالعين هابطين ولقالوا في المساء (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) أي منعت من النظر الحقيقي فلم نر الملائكة ولم نرى السماء (بَلْ نَحْنُ) (٤) (قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) فأصبحنا نرى أشياء لا حقيقية لها ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ (٥) جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أي كواكب (٦) هي منازل للشمس والقمر ينزلان بها وعلى مقتضاها يعرف عدد السنين والحساب. وقوله : (زَيَّنَّاها) أي السماء بالنجوم (لِلنَّاظِرِينَ) فيها من الناس. وقوله : (وَحَفِظْناها) أي السماء الدنيا (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي مرجوم ملعون. وقوله : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) إلا مارد من الشياطين طلع إلى السماء لاستراق السمع من الملائكة لينزل بالخبر إلى وليه من الكهان من الناس (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) من نار (مُبِينٌ) أي يبين أثره في الشيطان إما بإخباله وإفساده وإما بإحراقه. هذه الآيات وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا

__________________

(١) عود الضمير في (نَسْلُكُهُ) على القرآن أولى إذ السياق تابع لقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) أي : أرسل فيهم رسلا وكانوا يتلون عليهم آياتنا ولم ينتفعوا لإعراضهم عنها فلا تعيها قلوبهم ولا تدركها فهو مهم ، ولا يتأثرون بها لوجود حوائل حالت دون ذلك ، وهي الكبر والحسد والعناد وكذلك المسلك الذي سلكناه في قلوب الأولين نسلكه اليوم في قلوب المجرمين فيدخل القرآن عند سماعه إلى قلوبهم ولا يلامسها ولا يباشرها فلا تتأثر به وذلك لحوائل منها الحسد والعناد والكبر ، وتلك سنّة الله تعالى في أمثالهم ، وأصل السلك : إدخال الشيء في آخر.

(٢) في الآية تعريض للمجرمين بالهلاك.

(٣) هذه الآية كقوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

(٤) أي : أضربوا عن القول الأوّل. وهو قولهم : إنّما سكّرت أبصارنا إلى قولهم بل نحن قوم مسحورون. أي ما رأينا شيئا ثم أقرّوا بأنهم رأوا ولكن ما رأوه إنما هو تخيلات المسحور لا غير.

(٥) هذا شروع في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته الموجبة للتوحيد والمقررة للبعث والجزاء.

(٦) هذا كقوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أي : كواكب.

٧٥

فِي السَّماءِ بُرُوجاً) إلى آخر ما جاء في هذا السياق الطويل ، القصد منه إظهار قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته وكلها مقتضية لإرسال الرسول وإنزال الكتاب لهداية الناس إلى عبادة ربهم وحده عبادة يكملون عليها ويسعدون في الدنيا والآخرة ، ولكن المكذبين لا يعلمون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله تعالى في المكذبين المعاندين وهي أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.

٢ ـ مطالبة المكذبين المجرمين بالآيات كرؤية الملائكة لا معنى لها إذ القرآن أكبر آية ولم يؤمنوا به فلذا لو فتح باب من السماء فظلوا فيه يعرجون لما آمنوا.

٣ ـ بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته فيما حملت الآيات من مظاهر لذلك ، بدءا من قوله : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) (١) إلى الآية السابعة والعشرين من هذا السياق الكريم.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ

__________________

(١) البروج : جمع برج وهو في الأصل البناء الكبير المحكم البناء الذي يظهر من بعيد قال تعالى : (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أي : قصور ظاهرة ، ومنه : المرأة تتبرّج بزينتها : أي تظهرها ، والمراد من البروج في الآية : كواكب ثابتة غير سيارة هي منازل الشمس والقمر ، وسمى هذه البروج العرب بأسماء تخيلوا أشكالها في السماء وهي : برج الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، ابتداء من فصل الربيع وانتهاء بفصل الشتاء.

٧٦

بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))

شرح الكلمات :

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) : أي بسطناها.

(وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) : أي جبالا ثوابت لئلا تتحرك الأرض.

(مَوْزُونٍ) : أي مقدر معلوم المقدار لله تعالى.

(مَعايِشَ) : جمع معيشة أي ما يعيش عليه الإنسان من الأغذية.

(وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) : كالعبيد والإماء والبهائم.

(وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) : أي المطر.

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) : أي تلقح السحاب فيمتلىء ماء ، كما تنقل مادة اللقاح من ذكر الشجر إلى أنثاه.

(وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) : أي لا تملكون خزائنة فتمنعونه أو تعطونه من تشاءون.

المستقدمين منكم والمستأخرين : أي من هلكوا من بني آدم إلى يومكم هذا والمستأخرين ممن هم أحياء وممن لم يوجدوا بعد إلى يوم القيامة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وهي موجبات الإيمان به وعبادته وتوحيده والتقرب إليه بفعل محابه وترك مساخطه (١). قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ (٢) مَدَدْناها) أي بسطناها (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت تثبت الأرض حتى لا

__________________

(١) وموجبة أيضا للبعث الآخر والوحي الإلهي.

(٢) هنا انتقال من عرض آيات الله في السماء إلى آياته في الأرض.

٧٧

تتحرك أو تميد بأهلها فيهلكوا ، (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١) أي مقدر معلوم المقدار لله تعالى. وقوله : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) (٢) عليها تعيشون وهي أنواع الحبوب والثمار وغيرها ، وقوله : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (٣) بل الله تعالى هو الذي يرزقه وإياكم من العبيد والإماء والبهائم. وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ (٤) إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي ما من شيء نافع للبشرية هي في حاجة إليه لقوام حياتها عليه إلا عند الله خزائنه ، ومن ذلك الأمطار ، لكن ينزله بقدر معلوم حسب حاجة المخلوقات وما تتوقف عليه مصالحها ، وهو كقوله : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وكقوله : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) وقوله : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) (٥) أي تلقح السحاب فتمتلىء ماء ، (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) بقدرتنا وتدبيرنا (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) أي لا تملكون خزائنه فتمنعونه من تشاءون وتعطونه من تشاءون بل الله تعالى هو المالك لذلك ، فينزله على أرض قوم ويمنعه آخرين. وقوله : (إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ ، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ) (٦) (مِنْكُمْ) أي الذين ماتوا من لدن آدم (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) ممن هم أحياء ومن لم يوجدوا وسيوجدون ويموتون إلى يوم القيامة ، الجميع علمهم الله ، وغيره لا يعلم فلذا استحق العبادة وغيره لا يستحقها. وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ) أيها الرسول (هُوَ يَحْشُرُهُمْ) أي إليه يوم القيامة ليحاسبهم ويجازيهم ، وهذا متوقف على القدرة والحكمة والعلم ، والذي أحياهم ثم أماتهم قادر على إحيائهم مرة أخرى والذي علمهم قبل خلقهم وعلمهم بعد خلقهم

__________________

(١) قال : (مَوْزُونٍ) : لأنّ الوزن يعرف به مقدار الشيء ، والموزون من الكلام وغيره الخالي من النقص والزيادة ، والمراد أنّ ما أنبته الله تعالى في الأرض من سائر النباتات والمعادن من الذهب والفضة والنحاس والرصاص والقصدير حتى الزرنيخ والكحل كل ذلك يكال ويوزن.

(٢) واحد المعايش : معيشة ، وهي المطاعم والمشارب والملابس والمراكب أيضا ، إذ كل هذا يدخل تحت العيش حتى قيل : المعايش : إنها التصرف في أسباب الرزق مدّة الحياة.

(٣) الرزق : بفتح الراء مصدر رزقه يرزقه رزقا ، والرّزق بكسر الراء فهو الاسم وهو القوت.

(٤) أي : نافع للناس لا مطلق الأشياء التي لا نفع للناس فيها.

(٥) في قوله : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) استدلال بظاهرة كرة الهواء بين السماء والأرض بعد الاستدلال بالسماء والأرض ، ولواقح حال من الرياح ولواقح صالح لأن يكون جمع لاقح ، وهي الناقة الحبلى أو ملقح وهو الذي يجعل غيره لاقحا.

(٦) ويدخل في معنى الآية المستقدمين في الطاعة والخير ، والمستأخرين في المعصية والشر كما يدخل أيضا المستقدمين في صفوف الحرب والصلاة ، والمستأخرين في ذلك ، والآية دليل على فضل السبق في الخير وعلى فضل الصف الأول في القتال والصلاة ، وفي الحديث الصحيح : (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا).

٧٨

قادر على حشرهم والحكيم الذى يضع كل شيء في موضعه لا يخلقهم عبثا بل خلقهم ليبلوهم ثم ليحاسبهم ويجزيهم إنه هو الحكيم العليم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته المتجلية فيما يلى :

أ ـ خلق الأرض ومدّها وإلقاء الجبال فيها. إرسال الرياج لواقح للسحب.

ب ـ إنبات النباتات بموازين دقيقة. إحياء المخلوقات ثم إماتتها.

ج ـ إنزال المطر بمقادير معينة. علمه تعالى بمن مات ومن سيموت.

٢ ـ تقرير التوحيد أن من هذه آثار قدرته هو الواجب أن يعبد وحده دون سواه.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٤ ـ تقرير نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هذا الكلام كلام الله أوحاه إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) : أي آدم عليه‌السلام.

٧٩

(مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) : أي طين يابس له صلصلة من حمإ أي طين أسود متغير.

(مِنْ نارِ السَّمُومِ) : نار لا دخان لها تنفذ في المسام وهي ثقب الجلد البشري.

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ) : أي أتممت خلقه.

(فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) : أي خرّوا له ساجدين.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته. قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي آدم (مِنْ صَلْصالٍ) أي طين يابس يسمع له صوت صلصلة. (مِنْ حَمَإٍ (١) مَسْنُونٍ) أي طين أسود متغير الريح ، هذا مظهر من مظاهر القدرة والعلم. وقوله : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) من قبل خلق آدم والجان هو (٢) أبو الجن خلقناه (مِنْ نارِ السَّمُومِ) ونار السموم نار لا دخان لها تنفذ في مسام الجسم .. وقوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) أي اذكر يا رسولنا إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم أي سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة لآدم ، إذ المعبود هو الآمر المطاع وهو الله تعالى. فسجدوا (إِلَّا إِبْلِيسَ (٣) أَبى) أي امتنع أن يكون مع الساجدين. وقوله : (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) أي أي شيء حصل لك حتى امتنعت أن تكون من جملة الساجدين من الملائكة؟ فأظهر اللعين سبب امتناعه وهو حسده لآدم واستكباره ، فقال (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). وفي الآيات التالية جواب الله تعالى ورده عليه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أصل خلق الإنسان وهو الطين ، والجان وهو لهب النار.

٢ ـ فضل السجود ، إذ أمر تعالى به الملائكة فسجدوا أجمعون إلا إبليس.

__________________

(١) ترتيب طينة آدم التي خلق منها كما في الآية هكذا : تراب بلّ بالماء فصار طينا ثمّ ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنونا أي : متغيّرا ثمّ يبس فصار صلصالا والمسنون : المتغيّر ، بسبب مكثه مدّة كسنة مثلا.

(٢) وفي صحيح مسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (خلقت الملائكة من نور ، وخلقت الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم).

(٣) قال ابن عباس رضي الله عنهما : الجان : أبو الجن وليسوا شياطين ، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس ، والجنّ يموتون ، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر فآدم أبو الإنس ، والجان أبو الجن ، وإبليس أبو الشياطين.

٨٠