أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

٣ ـ ذم الحسد وأنه شر الذنوب وأكثرها ضررا.

٤ ـ ذم الكبر وأنه عائق لصاحبه عن الكمال في الدنيا والسعادة في الآخرة.

٥ ـ فضل الطين على النار لأن من الطين خلق آدم ومن النار خلق إبليس.

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

شرح الكلمات :

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) : أي من الجنة.

(فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) : أي مرجوم مطرود ملعون.

(إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) : أي وقت النفخة الأولى التي تموت فيها الخلائق كلها.

(بِما أَغْوَيْتَنِي) : أي بسبب إغوائك لي أي إضلالك وإفسادك لي.

(الْمُخْلَصِينَ) : أي الذين استخلصتهم لطاعتك فإن كيدي لا يعمل فيهم.

(هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) : أي هذا طريق مستقيم موصل إليّ وعليّ مراعاته وحفظه.

(لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) : أي أبواب طبقاتها السبع التي هي جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية.

٨١

معنى الآيات :

قوله تعالى : (فَاخْرُجْ مِنْها) هذا جواب عن قول إبليس ، (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ). الآية إذا فاخرج منها أي من الجنة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي مرجوم مطرود مّبعد ، (وَإِنَّ عَلَيْكَ) لعنتي أي غضبي وإبعادي لك من السموات (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) أي إلى يوم القيامة وهو يوم الجزاء. فقال اللعين ما أخبر تعالى به عنه : (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أي أمهلني لا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١) فأجاب الرب تعالى بقوله : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي الممهلين (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٢) وهو فناء بني آدم حيث لم يبق منهم أحد وذلك عند النفخة الأولى. فلما سمع اللعين ما حكم به الرب تعالى عليه قال ما أخبر الله عنه بقوله : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) أي بسبب إغوائك (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٣) أي الكفر والشرك وكبائر الذنوب ، و (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) أي لأضلنّهم (أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فاستثنى اللعين من استخلصهم الله تعالى لطاعته وأكرمهم بولايته وهم الذين لا يستبدّ بهم غضب ولا تتحكم فيهم شهوة ولا هوى. وقوله تعالى : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا طريق مستقيم إليّ أرعاه وأحفظه وهو (إِنَّ عِبادِي) (٤) (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٥) (وَإِنَّ جَهَنَّمَ) لموعدك وموعد أتباعك الغاوين أجمعين (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) إذ هي سبع طبقات لكل طبقة باب فوقها يدخل معه أهل تلك الطبقة ، وهو معنى قوله تعالى : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أي نصيب معين وطبقاتها هي : جهنم ، لظى ، الحطمة ، السعير ، سقر ، الجحيم ، الهاوية.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمان إبليس من التوبة لاستمرار غضب الله عليه إلى يوم القيامة.

٢ ـ استجاب الله لشر خلقه وهو إبليس فمن الجائز ان يستجيب الله دعاء الكافر لحكمة يريدها الله تعالى.

__________________

(١) أراد اللعين بسؤاله إلى يوم يبعثون ألّا يموت ، لأنّ يوم البعث لا موت فيه ولا بعده أيضا.

(٢) قال ابن عباس : أراد به النفخة الأولى أي : حين تموت الخلائق.

(٣) التزيين : يشمل أمرين. الأول : تزيين المعاصي والثاني : شغلهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعات.

(٤) أي : ليس له سلطان على قلوبهم ، وقال ابن عيينة ، أي : في أن يلقيهم في ذنب.

(٥) (الْغاوِينَ) : الفاسدين بالشرك والمعاصي.

٨٢

٣ ـ أمضى سلاح يغوي به إبليس بني آدم هو التزين للأشياء حتى ولو كانت دميمة قبيحه يصيرها بوسواسه زينة حسنة حتى يأتيها الآدمي.

٤ ـ عصمة الرسل وحفظ الله للأولياء حتى لا يتلوثوا بأوضار الذنوب.

٥ ـ طريق الله مستقيم إلى الله تعالى يسلكه الناس حتى ينتهوا إلى الله سبحانه فيحاسبهم ويجزيهم بكسبهم الخير بالخير والشر بالشر.

٦ ـ بيان أن لجهنم طبقات واحدة فوق أخرى ولكل طبقة بابها فوقها يدخل معه أهل تلك الطبقة لا غير.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) : أي الذين خافوا ربهم فعبدوه وحده بما شرع لهم من العبادات.

٨٣

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) : أي حقد وحسد وعداوة وبغضاء.

(عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) : أي ينظر بعضهم إلى بعض ما داموا جالسين وإذا انصرفوا دارت بهم الأسرة فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.

(لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) : أي تعب.

(الْعَذابُ الْأَلِيمُ) : أي الموجع شديد الإيجاع.

(ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) : هم ملائكة نزلوا عليه وهم في طريقهم إلى قوم لوط لإهلاكهم كان من بينهم جبريل وكانوا فى صورة شباب من الناس.

(إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) : أي خائفون وذلك لمّا رفضوا أن يأكلوا.

(بِغُلامٍ عَلِيمٍ) : أي بولد ذي علم كثير هو إسحق عليه‌السلام.

(فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) : أي تعجّب من بشارتهم مع كبره بولد.

(مِنَ الْقانِطِينَ) : أي الآيسين.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى جزاء اتباع إبليس الغاوين ، ناسب ذكر جزاء عباد الرحمن أهل التقوى والإيمان فقال تعالى مخبرا عما أعد لهم من نعيم مقيم : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) (١) أي الله بترك الشرك والمعاصي (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٢) يقال لهم (ادْخُلُوها (٣) بِسَلامٍ آمِنِينَ) أي حال كونكم مصحوبين بالسلام آمنين من الخوف والفزع. وقوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) (٤) أي لم يبق الله تعالى في صدور أهل الجنة ما ينغص نعيمها ، أو يكدر صفوها كحقد أو حسد أو عداوة أو شحناء. وقوله : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) لما طهر صدورهم مما

__________________

(١) روي أن سلمان الفارسي رضي الله عنه لما سمع هذه الآية : (إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) فرّ ثلاثة أيام من الخوف فجيء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله فقال : يا رسول الله أنزلت هذه الآية : (إِنَّ جَهَنَّمَ ...) الخ فو الذي بعثك بالحق لقد قطّعت قلبي فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

(٢) هي الأنهار الأربعة : ماء ، وخمر ، ولبن ، وعسل المذكورة في سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) بسلامة من كل داء وآفة ، وقيل : بتحية من الله تعالى آمنين من الموت والعذاب.

(٤) قال ابن عباس : أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم وتجري عليهم نضرة النعيم.

٨٤

من شأنه أن ينغص أو يكدر ، أصبحوا في المحبة لبعضهم بعضا إخوانا يضمهم مجلس واحد يجلسون فيه على سرر متقابلين وجها لوجه ، وإذا أرادوا الإنصراف إلى قصورهم تدور بهم الأسرة فلا ينظر أحدهم إلى قفا أخيه. وقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) فيه الإخبار بنعيمين : نعيم الراحة الأبدية إذ لا نصب ولا تعب في الجنة ونعيم البقاء والخلد فيها إذ هم لا يخرجون منها أبدا. وفي هذا تقرير لمعتقد البعث والجزاء بأبلغ عبارة وأوضحها. وقوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي (١) أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي خبر يا رسولنا عبادنا المؤمنين الموحدين أن ربهم غفور لهم إن عصوه وتابوا من معصيتهم. رحيم بهم فلا يعذبهم. (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) ونبئهم أيضا أن عذابى هو العذاب الأليم فليحذروا معصيتي بالشرك بي ، أو مخالفة أوامري وغشيان محارمي. وقوله تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٢). إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) أي سلموا عليه فرد عليهم‌السلام وقدم لهم قرى الضيف وكان عجلا حنيذا ، كما تقدم في هود وعرض عليهم الأكل فامتنعوا وهنا قال : (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) (٣) أي خائفون ، وكانوا جبريل وميكائيل وإسرافيل في صورة لشباب حسان. فلما أخبرهم بخوفه منهم ، لأن العادة أن النازل على الإنسان إذا لم يأكل طعامه دل ذلك على أنه يريد به سوء. (قالُوا لا تَوْجَلْ) أي لا تخف ، (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي بولد ذي علم كثير. فرد إبراهيم قائلا بما أخبر تعالى عنه بقوله : (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ (٤) الْكِبَرُ فَبِمَ) (٥) (تُبَشِّرُونَ) أي هذه البشارة بالولد على كبر سني أمر عجيب ، فلما تعجب من البشارة وظهرت عليه علامات الشك والتردد في صحة الخبر قالوا له : (بَشَّرْناكَ (٦) بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) (٧) أي

__________________

(١) شاهد هذه الآية قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنّته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد).

(٢) هم الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط : هم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم‌السلام. والضيف : لفظ يطلق على الواحد والاثنين والجماعة.

(٣) قال هذا بعد أن قرّب إليهم العجل المشوي ليأكلوا فلم يأكلوا.

(٤) أن : مصدرية ، والتقدير : على مسّ الكبر إياي وزوجتي.

(٥) الاستفهام للتعجب أو هو على حقيقته.

(٦) أي : بما لا خلف فيه ، وأن الولد لا بدّ منه.

(٧) قراءة العامة : (الْقانِطِينَ) ، وقرىء القنطين بدون ألف ، ويكون الفعل حينئذ من قنط يقنط كفرح يفرح فهو فرح ، وعلى قراءة الجمهور فهو من باب فعل يفعل كضرب يضرب فهو ضارب.

٨٥

الآيسين. وهنا رد عليهم قائلا نافيا القنوط عنه لأن القنوط حرام. (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) أي الكافرون بقدرة الله ورحمته لجهلهم بربهم وصفاته المتجلية في رحمته لهم وإنعامه عليهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نعيم الجنة ، وأن نعيمها جسماني روحاني معا دائم أبدا.

٢ ـ صفاء نعيم الجنة من كل ما ينغصه أو يكدره.

٣ ـ وعد الله بالمغفرة لمن تاب من أهل الإيمان والتقوى من موحديّه.

٤ ـ وعيده لأهل معاصيه إذا لم يتوبوا إليه قبل موتهم.

٥ ـ مشروعية الضيافة وأنها من خلال البر والكرم.

٦ ـ حرمة القنوط واليأس من رحمة الله تعالى.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١))

(قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦))

٨٦

شرح الكلمات :

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ) : أي ما شأنكم؟

(إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) : هم قوم لوط عليه‌السلام.

(إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) : أي لإيمانهم وصالح أعمالهم.

(الْغابِرِينَ) : أي الباقين في العذاب.

(قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) : أي لا أعرفكم.

(بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) : أي بالعذاب الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم

(حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) : أي إلى الشام حيث أمروا بالخروج إليه.

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) : أي فرغنا إلى لوط من ذلك الأمر ، وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن ضيف إبراهيم ، وها هو ذا قد سألهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ (١) أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي ما شأنكم أيها المرسلون من قبل الله تعالى إذ هم ملائكته؟ (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) (٢) أي على أنفسهم ، وعلى غيرهم وهم اللوطيون لعنهم الله. وقوله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) أي آل بيته والمؤمنين معه ، (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا) أي قضينا (٣) (إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين في العذاب ، أي قضى الله وحكم بإهلاكها في جملة من يهلك لأنها كافرة مثلهم. إلى هنا انتهى الحديث مع إبراهيم وانتقلوا الى مدينة لوط عليه‌السلام قال تعالى (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) أي انتهوا إليهم ودخلوا عليهم الدار قال لوط عليه‌السلام لهم (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي لا أعرفكم وأجابوه قائلين : نحن رسل ربك جئناك بما كان قومك فيه يمترون أي يشكون وهو عذابهم العاجل جزاء كفرهم وإجرامهم ، (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) الثابت الذى لا شك فيه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به وهو عذاب قومه المجرمين.

__________________

(١) الخطب : الأمر الخطير والشأن العظيم.

(٢) في الكلام إضمار جملة لنهلكهم فلذا كان الاستثناء إلا آل لوط ، وهم أتباعه وأهل بيته.

(٣) وكتبنا في كتاب المقادير.

٨٧

وعليه (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي أسر بهم في جزء من الليل ، و (اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أي امش وراءهم (١) وهم أمامك (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) بأن ينظر وراءه ، أي حتى (٢) لا يرى ما يسوءه عند نزول العذاب بالمجرمين ، وقوله (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) أي يأمركم ربكم وقد أمروا بالذهاب إلى الشام. وقوله تعالى : (وَقَضَيْنا (٣) إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (٤) أي وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر ، وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ، أي أنهم مهلكون عن آخرهم في الصباح الباكر ما أن يطلع الصباح حتى تقلب بهم الأرض ويهلكوا عن آخرهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالإجرام وبيان عقوبة المجرمين.

٢ ـ لا قيمة للنسب ولا للمصاهرة ولا عبرة بالقرابة إذا فصل الكفر والإجرام بين الأنساب والأقرباء فامرأة لوط هلكت مع الهالكين ولم يشفع لها أنها زوجة نبي ورسول عليه‌السلام.

٣ ـ مشروعية المشي بالليل لقطع المسافات البعيدة.

٤ ـ مشروعية مشي المسئول وكبير القوم وراء الجيش والقافلة لتفقد أحوالهم ، والاطلاع على من يتخلف منهم لأمر ، وكذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل.

٥ ـ كراهية الإشفاق على الظلمة الهالكين ، لقوله : ولا يلتفت منكم أحد أى : بقلبه.

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا

__________________

(١) لئلا يتخلّف منهم أحد فيهلك مع الهالكين.

(٢) أو نهوا عن الالتفات ليجدّوا في السير ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح موعد هلاك القوم.

(٣) (قَضَيْنا) : قدرنا ، وضمن معنى أوحينا فعدي بإلى ، والتقدير : وقضينا ذلك الأمر فأوحينا إليه بما قضينا ، وجملة : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ). مفسرة لذلك الأمر والإشارة للتهويل.

(٤) (مُصْبِحِينَ) أي : داخلين في الصباح ، ومثله ، مشرقين أي : داخلين في وقت الإشراق.

٨٨

اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩))

شرح الكلمات :

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) : أي مدينة سدوم ، أي فرحين بإتيانهم الفاحشة.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) : أي لا تذلوني في انتهاك حرمة ضيفي.

(أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) : أي عن إجارتك لهم واستضافتك.

(لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) : أي غوايتهم ، وشدة غلّمتهم (١) التي أزالت عقولهم ، يترددون.

(مُشْرِقِينَ) : أي وقت شروق الشمس.

(مِنْ سِجِّيلٍ) : أي طين طبخ بالنار.

(لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) : أي الناظرين المعتبرين.

(لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) : أي طريق قريش إلى الشام مقيم دائم ثابت.

(أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) : أي قوم شعيب عليه‌السلام ، والأيكة غيضة شجر بقرب مدين.

(وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) : أي قوم لوط ، وأصحاب الأيكة لبطريق مبين واضح.

معنى الآيات :

ما زال السياق مع لوط عليه‌السلام وضيفه من الملائكة من جهة ، وقوم لوط من جهة.

__________________

(١) الغلمة : شدّة الشهوة الجنسية.

٨٩

قال تعالى : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) أي مدينة سدوم وأهلها سكانها من اللوطيين ، وقوله (يَسْتَبْشِرُونَ) أي فرحين مسرورين لطمعهم في اتيان الفاحشة. فقال لهم لوط ما أخبر الله تعالى به : (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ) يشير إلى الملائكة (ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) أي فيه أي بطلبكم الفاحشة ، (وَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوه (وَلا تُخْزُونِ) أي تهينوني وتذلوني. فأجابوا بما أخبر تعالى به عنهم : (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) أي أتقول ما تقول ولم تذكر أنا نهيناك عن استضافة أحد من الناس أو تجيره ، فأجابهم لوط عليه‌السلام بما أخبر تعالى به عنه : (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي هؤلاء بناتي فتزوجوهن إن كنتم فاعلين ما آمركم به أو أرشدكم إليه. وقوله تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ (١) لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي وحياتك يا رسولنا ، إنهم أي قوم لوط (لَفِي سَكْرَتِهِمْ) غوايتهم التي أذهبت عقولهم فهبطوا إلى درك أسفل من درك الحيوان ، (يَعْمَهُونَ) أي حيارى يترددون. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) أي صيحة جبريل عليه‌السلام مشرقين مع إشراق الشمس. وقوله تعالى (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) أي جعلنا عالي المدن سافلها وهو قلبها ظهرا على بطن ، (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) فوق ذلك (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) أي من طين مطبوخ بالنار .. وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (٢) أي إن في ذلك المذكور من تدمير مدن كاملة بما فيها لآيات وعبر وعظات للمتوسمين أي الناظرين نظر تفكر وتأمل لمعرفة الأشياء بسماتها وعلاماتها. وقوله تعالى : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أي وإن تلك القرى الهالكة لبطريق ثابت باق يمر به أهل مكة فى أسفارهم إلى الشام. وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي لعبرة للمؤمنين فلا يقدمون على محارم الله ، ولا يرتكبون معاصيه. وقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ). هذه إشارة خاطفة إلى قصة شعيب عليه‌السلام مع قومه أصحاب الأيكة ، والأيكة الفيضة من الشجر الملتف .. وكانت منازلهم

__________________

(١) هذا الإقسام بحياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشريفا له ، وأصل عمرك بضم العين وفتحت لكثرة الاستعمال ، وجائز أن يكون القسم بحياة لوط أيضا ، وليس لأحد أن يجيز القسم بغير الله محتجا بهذا القسم الإلهي فإنّ الله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه ، فقد أقسم بالشمس وضحاها ، وأقسم بالسماء والليل وغيرها من مخلوقاته ولا اعتراض عليه وأما العباد فقد أعلن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حرمة الحلف بغير الله فقد قال : (من حلف بغير الله فقد أشرك) رواه الترمذي.

(٢) روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر المتوسمين بالمتفرسين إذ قال : (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ : إنّ في ذلك لآيات للمتوسمين) رواه الترمذي واستغربه ، وقيل : للناظرين كما قال الشاعر :

أو كلما وردت عكاظ قبلية

بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم

وأصل التوسم : النظر بتثبّت وتفكر وعليه فما ورد في التوسم من النظر والتفرس كله متقارب المعنى.

٩٠

بها وكانوا مشركين وهو الظلم في قوله (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ (١) لَظالِمِينَ) لأنفسهم بعبادة غير الله تعالى ، وقوله تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي أهلكناهم بحر شديد يوم الظله وسيأتي الحديث عنهم في سورة الشعراء قال تعالى هناك فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم. وقوله : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) الإمام الطريق لأن الناس يمشون فيه وهو أمامهم ، ومبين واضح. والضمير في قوله وإنهما عائد على قوم لوط ، وقوم شعيب وهم أصحاب الأيكة لا أصحاب مدين لأنه أرسل إلى أصحاب الأيكة والى أهل مدين ، والطريق طريق قريش إلى الشام ، والقصد من ذكر هذا وعظ قريش وتذكرهم ، فهل يتعظون ويتذكرون؟

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إهلاك قوم لوط.

٢ ـ إنكار الفاحشة وأنها أقبح فاحشة تعرفها الإنسانية هي إتيان الذكور.

٣ ـ بيان دفاع لوط عليه‌السلام عن ضيفه حتى فداهم ببناته.

٤ ـ شرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أقسم الله تعالى بحياته في قوله (لَعَمْرُكَ).

٥ ـ الحث على نظر التفكر والإعتبار والتفرس فإنه أنفع للعقل البشري.

٦ ـ بيان نقمة الله تعالى من الظالمين للاعتبار والإتعاظ.

٧ ـ تقرير نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ مثل هذه الأخبار لن تكون إلا عن وحي إلهي.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤)

__________________

(١) جمع الأيكة وهي جماعة الشجر الأيك ، أو سميت القرية بالأيكة باعتبار الأصل.

٩١

وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

شرح الكلمات :

(أَصْحابُ الْحِجْرِ) : هم قوم صالح ومنازلهم بين المدينة النبوية والشام.

(وَآتَيْناهُمْ آياتِنا) : أي في الناقة وهي أعظم آية.

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) : من بناء الحصون وجمع الأموال.

(الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) : أي أعرض عنهم إعراضا لا جزع فيه وهذا قبل الأمر بقتالهم

(سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) : هي آيات سورة الفاتحة السبع.

(أَزْواجاً مِنْهُمْ) : أي أصنافا من الكفار.

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ) : أي ألن جانبك للمؤمنين.

معنى الآيات :

هذا شروع في موجز قصة أخرى هي قصة أصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح ، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ (١) الْمُرْسَلِينَ) وفي هذا موعظة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كذبه قومه من أهل مكة فليصبر على تكذيبهم فقد كذبت قبلهم أقوام. وقال تعالى (الْمُرْسَلِينَ) ولم يكذبوا إلا صالحا باعتبار أن من كذب رسولا فقد كذب عامة الرسل ، لأن دعوة الرسل واحدة وهي أن يعبد الله وحده بما شرع لإكمال الإنسان وإسعاده في

__________________

(١) لفظ الحجر يطلق على أمور عدّة منها العقل (لِذِي حِجْرٍ) والحرام : (حِجْراً مَحْجُوراً) والفرس الانثى وحجر القميص ، والفتح فيه أولى ، وحجر اسماعيل إزاء الكعبة وديار ثمود : وهو المراد هنا.

٩٢

الحالتين. وقوله (وَآتَيْناهُمْ (١) آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) إن المراد من الآيات القائمة بالناقة منها أنها خرجت من صخرة ، وأنها تشرب ماء البلد يوما ، وأنها تقف أمام كل بيت ليحلب أهله منها ما شاءوا ، وإعراضهم عنها ، عدم إيمانهم وتوبتهم إلى الله تعالى بعد أن آتاهم ما طلبوا من الآيات. وقوله (وَكانُوا يَنْحِتُونَ (٢) مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) أي كانوا يتخذون بالنحت بيوتا داخل الجبال يسكنوها شتاء آمنين من أن تسقط عليهم لقوتها ومن أن ينالهم برد أو حر لوقايتها لهم ، وقوله تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) (٣) وذلك صيحة اليوم الرابع وهو يوم السبت فهلكوا أجمعين ، (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من المال والعتاد وبناء الحصون بل (٤) هلكوا ولم ينج منهم أحد إلا من آمن وعمل صالحا فقد نجاه الله تعالى مع نبيه صالح عليه‌السلام. وقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا من أجل أن أذكر وأشكر ، فلذا من كفر بي فلم يذكرني وعصاني فلم يشكرني أهلكته. لأني لم أخلق هذا الخلق العظيم لهوا وباطلا وعبثا. وقوله : (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) (٥) أي حتما لا محالة وثمّ يجزي كل بما كسب فلا تحزن على قومك ولا تجزع منهم فإن جزاءهم لازم وآت لا بد ، فاصبر واصفح عنهم وهو معنى قوله تعالى (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (٦) أي الذي لا جزع معه. وقوله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) خلق كل شيء وعلم بما خلق فعلى كثرة المخلوقات يعلم نياتها ، وأعمالها ، وأحوالها ، ولا يخفى عليه شيء من أمرها وسيعيدها كما بدأها ويحاسبها ويجزيها بما كسبت. وهذا من شأنه أن يساعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصبر والثبات على دعوته حتى ينصرها الله تعالى

__________________

(١) المراد بالآيات : الناقة لأنها تشتمل على عدّة آيات ، وجائز أن يكون هناك آيات أخرى أعطيها صالح غير الناقة.

(٢) النحت : البري والنجر ، يقال نحته ينحته نحتا إذا براه ، والنحاته : البراية كالنجارة والخشارة ، والمنحت : آلة النحت ، وقوله : (آمِنِينَ) أي : من أن تسقط عليهم أو تخرب فلا تصلح للسكن فيها.

(٣) (مُصْبِحِينَ) : حال من أخذتهم الصيحة أي : حال كونهم داخلين في الصباح وهو أوّل النهار ، فالأيام الثلاثة التي قيل لهم : تمتعوا فيها هي الأربعاء والخميس والجمعة ، وصبيحة السبت كان هلاكهم والعياذ بالله من حال الهالكين.

(٤) صحّ ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، وأمر بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز منه لأجل انه ماء سخط فلا يجوز الانتفاع به فرارا من سخط الله تعالى وقال : اعلفوه الإبل ففعلوا).

(٥) لآتية : جائية إذ الأيام تنصرم يوما فيوما إلى آخر يوم فالساعة الأخيرة لهذه الحياة آتية ، وهي في طريقها.

(٦) هذا كان قبل الأمر بالجهاد إذ السورة مكيّة والجهاد فرض في المدينة فالآية منسوخة بمثل قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) الآية من التوبة المدنية.

٩٣

في الوقت الذي حدده لها. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) أي أعطيناك سورة الفاتحة (١) أم القرآن وأعطيناك القرآن العظيم وهو خير عظيم لا يقادر قدره. إذا (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) (٢) متطلعا (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي أصنافا من رجالات قريش ، فما آتيناك خير مما هم عليه من المال والحال التي يتمتعون فيها بلذيذ الطعام والشراب. وقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إن هم لم يؤمنوا بك ولم يتابعوك على ما جئت به ، فإن أمرهم إلى الله تعالى ، وأمره تعالى أن يلين جانبه لأصحابه المؤمنين فقال : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) فحسبك ولاية الله لك فذر المكذبين أولي النعمة ، وتعايش مع المؤمنين ، ولين جانبك لهم ، واعطف عليهم فإن الخير فيهم وليس في أولئك الأغنياء الأثرياء الكفرة الفجرة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إذا أراد الله هلاك أمة فإن قوتها المادية لا تغني عنها شيئا.

٢ ـ لم يخلق الله الخلق عبثا بل خلقه ليعبد بالذكر والشكر ، فمن عبده نجا ، ومن أعرض عن ذكره وترك عبادته أذاقه عذاب الخزي في الدنيا والآخرة أو في الآخرة وهو أشد وأخزى.

٣ ـ بيان أن الصفح الجميل هو الذي لا جزع معه.

٤ ـ بيان أن من أوتي القرآن لم يؤت أحد مثله من الخير قط.

٥ ـ فضل الفاتحة إذ هي السبع المثاني.

٦ ـ على الدعاة إلى الله أن لا يلتفتوا إلى ما في أيدي الناس من مال ومتاع ، فإن ما آتاهم الله من الإيمان والعلم والتقوى خير مما آتى أولئك من المال والمتاع.

٧ ـ استحباب لين الجانب للمؤمنين والعطف عليهم والرحمة لهم.

__________________

(١) كون الفاتحة هي السبع المثاني هو قول عليّ وأبي هريرة والحسن وغيرهم ويشهد له الحديث الصحيح : (الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني). روي عن ابن عباس أنه قال : هي السبع الطوال : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة معا.

(٢) هذه الآية تدعو إلى الإعراض عن زخارف الدنيا وعدم الإقبال عليها ، والاكتفاء فيها بما أحل الله عمّا حرّم وبما تيسّر عما تعسر ، وفيها : أن من أعطاه الله القرآن وجب عليه أن يشعر بالغنى وعدم الفقر لحديث : (ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن) أي : لم يستغن به عن طلب غيره.

٩٤

(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

شرح الكلمات :

(النَّذِيرُ الْمُبِينُ) : المبين النذارة.

(عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) : أي الذين قسموا كتاب الله فقالوا فيه شعر ، وقالوا سحر ، وقالوا كهانة.

(جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) : هم المقسمون للقرآن وجعلوه عضين جمع عضة وهي القطعة والجزء من الشيء.

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) : أي اجهر به وأعرضه كما أمرك ربك.

(يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) : أي من الاستهزاء بك والتكذيب لك.

(حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) : أي الموت ، أي إلى أن تتوفى وأنت تعبد ربك.

معنى الآيات :

ما زال السياق فى إرشاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعليمه ما ينبغي أن يكون عليه فأمره تعالى

٩٥

بقوله : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) (١) أي أعلن لقومك بأنك النذير البين النذارة لكم يا قوم أن ينزل بكم عذاب الله إن أصررتم على الشرك والعناد والكفر ، وقوله : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (٢) انذركم عذابا كالذي أنزله الله وينزله على المقتسمين الذين قسموا التوراة والإنجيل فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وهم اليهود والنصارى ، والمقتسمين الذين تقاسموا أن يبيتوا صالحا فأنزل الله بهم عقوبته والمقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين أي أجزاء فقالوا فيه شعر وسحر وكهانة ، المقتسمين الذين قسموا طرق مكة وجعلوها نقاط تفتيش يصدون عن سبيل الله كل من جاء يريد الإسلام وهؤلاء كلهم مقتسمون وحل بهم عذاب الله ونقمته. وقوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣) يقسم الجبار تبارك وتعالى لرسوله أنه ليسألنهم يوم القيامة عما كانوا يعملون ويجزيهم به فلذا لا يهولنّك أمرهم واصبر على أذاهم. وقوله (فَاصْدَعْ (٤) بِما تُؤْمَرُ) أي أجهر بدعوة لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وما تؤمر ببيانه والدعوة إليه أو التنفير منه ، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ولا تبال بهم ، وقوله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) والمراد بهؤلاء المستهزئين الذين واعد تعالى بكفاية رسوله شرّهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل ، وعدي بن قيس ، والأسود بن عبد يغوث كلهم ماتوا بآفات مختلفة في أمد يسير ، عليهم لعائن الله تعالى. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) أي من الاستهزاء بك والسخرية ، ومن المبالغة في الكفر والعناد فنرشدك إلى ما يخفف عنك الألم النفسي (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي قل سبحان الله وبحمده أي أكثر من هذا الذكر (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي المصلين إذ لا سجود إلا في الصلاة أو تلاوة القرآن (٥) ، إذا فافزع عند الضيق إلى الصلاة

__________________

(١) في الكلام حذف ، وهو لفظ عذابا. فحذف المفعول لدلالة لفظ النذير عليه أو لكون الكاف في قوله (كَما أَنْزَلْنا) زائدة ويصحّ التقدير هكذا : أنا النذير المبين ما أنزلنا على المقتسمين أي : من العذاب.

(٢) واحد : (عِضِينَ) عضة من عضيت الشيء تعضيه أي : فرقته وكل فرقة عضة ، وقيل : أصلها عضوة ، فسقطت الواو ، ولذا جمعت على عضين كعزين ، إذ واحدها عزوة ، وذلك أنهم فرقوا كلام الله فجعلوا بعضه سحرا وبعضه شعرا و.. و..

(٣) وورد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : في قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ ..) إلى قوله (يَعْمَلُونَ) قال : (عن قول لا إله إلا الله ، إذ أبوا أن يقولوها فتمادوا في الكفر والشرّ والفساد ولو قالوا لما كان لهم سوى الخير والصلاح.

(٤) قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فترة من الزمن مستخفيا هو وأصحابه في دار الأرقم حتى نزلت هذه الآية : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعلن الإسلام ودعا إليه جهرة.

(٥) قيل : إنّ هذه سجدة من سجدات القرآن ، والجمهور على أنها ليست سجدة وإنما أرشد الله تعالى رسوله لتفريج همّه وتوسعة صدره مما يسمع ويقال له أمره بالتسبيح والصلاة وفعلا كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

٩٦

فلذا كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة. وقوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي واصل العبادة وهي الطاعة في غاية الذل والخضوع لله تعالى حتى يأتيك اليقين الذي هو الموت فإن القبر أول عتبة الآخرة وبموت الإنسان ودخوله في الدار الآخرة أصبح ايمانه يقينا محضا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة الإختلاف في كتاب الله تعالى على نحو ما اختلف فيه أهل الكتاب.

٢ ـ مشروعية الجهر بالحق وبيانه لا سيما إذا لم يكن هناك اضطهاد.

٣ ـ فضل التسبيح بجملة : سبحان الله وبحمده ومن قالها مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل ربد البحر وهذا مروي في الصحيح (٢).

٤ ـ مشروعية صلاة الحاجة فمن حزبه أمر أو ضاق به فليصل صلاة يفرج الله تعالى بها ما به أو يقضي حاجته إن شاء وهو العليم الحكيم.

سورة النّحل (١)

مكية

وآياتها مائة وثمان وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ

__________________

(١) وتسمّى أيضا سورة النعم ، لما عدد تعالى فيها من نعمه على عباده.

(٢) رواه مسلم.

٩٧

خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧))

شرح الكلمات :

(أَتى أَمْرُ اللهِ) : أي دنا وقرب أمر الله بعذابكم أيها المشركون فلا تستعجلون.

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) : أي بالوحي الذي به حياة الأرواح والمراد من الملائكة جبريل.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) : أي قطرة من المني.

(دِفْءٌ وَمَنافِعُ) : أي ما تستدفئون به ، ومنافع من العسل واللبن واللحم والركوب.

(حِينَ تُرِيحُونَ) : أي حين تردونها من مراحها.

(وَحِينَ تَسْرَحُونَ) : أي وحين إخراجها من مراحها إلى مسارحها أي الأماكن التي تسرح فيها.

(إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) : أي بجهد الأنفس ومشقة عظيمة.

معنى الآيات :

لقد استعجل المشركون بمكة العذاب وطالبوا به غير مرة فأنزل الله تعالى قوله : (أَتى أَمْرُ (١) اللهِ) أي بعذابكم أيها المستعجلون له. لقد دنا منكم وقرب فالنضر بن الحارث القائل : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، جاءه بعد سنيّات قلائل فهلك ببدر صبرا ، إلى جهنم ، وعذاب يوم القيامة لمن استعجله قد قرب وقته ولذا عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه وقرب مجيئه فلا معنى لاستعجاله فلذا قال الله تعالى : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) وقوله (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)

__________________

(١) من الجائز أن يراد ب (أَتى أَمْرُ اللهِ) القيامة لقول الله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) وقوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) وقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بعثت والسعة كهاتين وأشار بأصبعيه).

٩٨

أي تنزه وتقدس عما يشركون به من الآلهة الباطلة إذ لا إله حق إلا هو. وقوله (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ (١) مِنْ أَمْرِهِ) أي بإرادته وإذنه (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). أي ينزل جبريل عليه‌السلام بالوحي على من يشاء من عباده (٢) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) أي بأن انذروا (٣) أي خوفوا المشركين عاقبة شركهم فإن شركهم باطل سيجر عليهم عذابا لا طاقة لهم به ، لأنه لا إله إلا الله ، وكل الآلهة دونه باطلة. إذا فاتقوا الله بترك الشرك والمعاصي وإلا تعرضتم للعذاب الأليم. في هاتين الآيتين تقرير للوحي والنبوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقرير التوحيد أيضا وقوله تعالى في الآيات التالية : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) استدلال على وجوب التوحيد وبطلان الشرك فالذى خلق السموات والأرض بقدرته وعلمه وحده دون ما معين له ولا مساعد حقّ أن يعبد ، لا تلك الآلهة الميتة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه وتقدس تعالى عما يشركون به من أصنام وأوثان. وقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) أي من أضعف شيء وأحقره قطرة المني خلقه في ظلمات ثلاث وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا حتى إذا رباه وأصبح رجلا إذا هو خصم لله يجادل ويعاند ، (٤) ويقول من يحيى العظام وهي رميم. وقوله تعالى (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ (٥) وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فهذه مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرحمة وهي الموجبة لعبادته تعالى وترك عبادة ما سواه. فالأنعام وهي الإبل والبقر والغنم خلقها الله تعالى لبني آدم ولم يخلقها لغيرهم ، لهم فيها دفء إذ يصنعون الملابس والفرش والأغطية من صوف الغنم ووبر الإبل ولهم فيها منافع كاللبن والزبدة والسمن والجبن والنسل حيث تلد كل سنة فيتنفعون بأولادها. ومنها يأكلون اللحوم المختلفة فالمنعم بهذه النعم هو الواجب العبادة دون غيره من سائر

__________________

(١) بالروح ، أي بالوحي بالنبوة نظيره قوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

(٢) أي : من الأنبياء ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إمامهم وخاتمهم وقوله : (أَنْ أَنْذِرُوا) : تفسير لقوله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ).

(٣) أمر الله الأنبياء الذين أوحي إليهم بشرعه أن ينذروا المشركين عاقبة الشرك ويدعوهم إلى الإيمان والعمل الصالح بعد نبذ الشرك والعمل الفاسد.

(٤) هذا الإنسان الخصيم هو أبيّ بن خلف الجمحي ، جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم رميم فقال : أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رمّ؟ وفيه نزل : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ ..) الخ من سورة يس ،

(٥) الدفء : الشيء الذي يدفىء الإنسان ، والجمع : ادفاء ، ويقال : دفىء دفاءة ككره كراهة.

٩٩

مخلوقاته وقوله : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) (١) أي منظر حسن جميل حين تريحونها عشية من المرعى إلى المراح (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي تخرجونها صباحا من مراحها إلى مراعيها ، فهذه لذة روحية ببهجة المنظر. وقوله (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِ (٢) الْأَنْفُسِ) أي إلا بجهد النفس والمشقة العظيمة. فالإبل في الصحراء كالسفن في البحر تحمل الأثقال من بلد إلى بلد وقد تكون المسافة بعيدة لا يصلها الإنسان إلا بشق النفس وبذل الجهد والطاقة ، لو لا الإبل سفن الصحراء ومثل الإبل الخيل والبغال والحمير في حمل (٣) الأثقال. فالخالق لهذه الأنعام هو ربكم لا إله إلا هو فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمْ) أي خالقكم ورازقكم ومربيكم وإلهكم الحق الذي لا إله لكم غيره لرؤوف رحيم ، ومظاهر رحمته ورأفته ظاهره في كل حياة الإنسان فلو لا لطف الله بالانسان ورحمته له لما عاش ساعة في الحياة الدنيا فلله الحمد وله المنة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ قرب يوم القيامة فلا معنى لاستعجاله فإنه آت لا محالة ، وكل آت قريب.

٢ ـ تسمية الوحي بالروح من أجل أنه يحيى القلوب ، كما تحيى الأجسام بالأرواح.

٣ ـ تقرير التوحيد والنبوة والبعث الآخر بذكر مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرأفة والرحمة.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ

__________________

(١) الجمال يكون في الصورة ، وهو تناسب أجزائها ، ويكون في الأخلاق بأن يكون المرء على صفات محمودة كالعدل والعلم والحكمة وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل احد وجمال الأفعال يكون بملاءمتها لمصالح الخلق نافعة لهم غير ضارة بهم.

(٢) شق النفس : مشقتها ، وغاية جهدها وعليه فالشق المشقة ، والشق : الجانب من كل شيء.

(٣) في الآية دليل على جواز ركوب الإبل ، والحمل عليها لكن لا تحمل أكثر مما تطيق فقد ضرب عمر حمالا وقال : تحمل على بعيرك ما لا يطيق. وكان لأبي الدرداء جمل يقال له دمون يقول له : يادمون لا تخاصمني عند ربك.

١٠٠