أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

هو مشاهد إقليم يسقى وآخر يحرم ، وقوله تعالى : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) (١) أي جحودا لإنعام الله عليهم وربوبيته عليهم وألوهيته لهم. وهو أمر يقتضى التعجب والاستغراب. هذه مظاهر الربوبية المقتضية للألوهية ، (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) والعياذ بالله تعالى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عرض الأدلة الحسية على وجوب عبادة الله تعالى وتوحيده فيها ووجوب الإيمان بالبعث والجزاء الذي أنكره المشركون فضلوا ضلالا بعيدا.

٢ ـ بيان فائدة الظل إذ به تعرف ساعات النهار وبه يعرف وقت صلاة الظهر والعصر فوقت الظهر من بداية الفيء ، أي زيادة الظل بعد توقفه من النقصان عند وقوف الشمس في كبد السماء ، ووقت العصر من زيادة الظل مثله بمعنى إذا دخل الظهر والظل أربعة أقدام أو ثلاثة أو أقل أو أكثر فإذا زاد مثله دخل وقت العصر فإن زالت الشمس على أربعة أقدام فالعصر يدخل عند ما يكون الظل ثمانية أقدام وإن زالت الشمس على ثلاثة أقدام فالعصر على ستة أقدام وهكذا.

٣ ـ الماء الطهور وهو الباقي على أصل (٢) خلقته فلم يخالطه شيء يغير طعمه أو لونه أو ريحه. وبه ترفع الأحداث وتغسل النجاسات ، ويحرم منعه عمن احتاج إليه من شرب أو طهارة.

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ

__________________

(١) قال عكرمة : هو قولهم في الأنواء : مطرنا بنوء كذا ، وأيّده النحاس وقال : لا نعلم خلافا أن الكفر هنا هو قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا روى الربيع بن صبيح قال : مطر الناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة فلما أصبحوا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أصبح الناس فيها رجلين : شاكرا وكافرا فأما الشاكر فيحمد الله تعالى على سقياه وغياثه. وأما الكافر فيقول مطرنا بنوء كذا وكذا).

(٢) أحكام المياه : ١ ـ قليل الماء ينجسه قليل النجاسة وكثيره لا ينجسه. ٢ ـ الماء طهور ما بقي على أصل خلقته فإن خالطه ما غيّر أحد أوصافه : الريح واللون والطعم سلبت طهوريته. ٣ ـ الماء المتغيّر بطول المكث طهور. ٤ ـ كره بعض أهل العلم الوضوء بسؤر النصراني ، وقد توضأ عمر من بيت نصرانية وقال لها : اسلمي تسلمي فكشف عن رأسها وإذا به مثل الثغامة وقالت : عجوز كبيرة وإنما أموت الآن فقال عمر : اللهم أشهد خرّجه الدارقطني. ٥ ـ سؤر الكلب لا يتوضأ به ويغسل الإناء سبعا. ٦ ـ ما مات في الماء مما لادم له كالحشرات لا يسلب طهورية الماء. ٧ ـ سؤر الهر طاهر لحديث ابي قتادة.

٦٢١

وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦))

شرح الكلمات :

(لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) : أي رسولا ينذر أهلها عواقب الشرك والكفر.

(وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) : أي بالقرآن جهادا كبيرا تبلغ فيه أقصى غاية جهدك.

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) : أي خلط بينهما وفي نفس الوقت منع الماء الملح أن يفسد الماء العذب.

(وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) : أي حاجزا بين الملح منهما والعذب.

(وَحِجْراً مَحْجُوراً) : أي وجعل بينهما سدا مانعا فلا يحلو الملح ، ولا يملح العذب.

(خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) : أي خلق من الماء الإنسان والمراد من الماء النطفة.

(فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) : أي ذكرا وأنثى أي نسبا ينسب إليه ، وصهرا يصهر إليه أي يتزوج منه.

(ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) : أي أصناما لا تضر ولا تنفع.

(وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) : أي معينا للشيطان على معصية الرحمن.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تعداد مظاهر الربوبية المستلزمة للتوحيد قال تعالى (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) أي في كل مدينة نذيرا أي رسولا ينذر الناس عواقب الشرك والكفر ،

٦٢٢

ولكنا لم نشأ لحكمة اقتضتها ربوبيننا وهي أن تكون أيها الرسول أفضل الرسل وأعظم منزلة وأكثرهم ثوابا فحبوناك بهذا الفضل فكنت رسول كل القرى أبيضها وأسودها فاصبر وتحمل ، واذكر شرف منزلتك (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) في أي أمر أرادوه منك (وَجاهِدْهُمْ) به أي بالقرآن وكله حجج وبينات جهادا كبيرا تبلغ فيه اقصى (١) جهدك. بعد هذه الجملة الاعتراضية من الكلام الإلهي قال تعالى مواصلا ذكر مظاهر ربوبيته تعالى على خلقه. (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) الملح والعذب أي أرسلهما مع بعضهما بعضا (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) أي حلو (سائِغٌ شَرابُهُ ، وَهذا مِلْحٌ (٢) أُجاجٌ) أي لا يشرب (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي ساترا مانعا من اختلاط العذب بالملح مع وجودهما في مكان واحد ، فلا يبغي هذا على هذا بأن يعذب الملح أو يملح العذب. وقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) أي من المني ونطفته خلق الإنسان وجعله ذكرا وأنثى وهو معنى قوله نسبا وصهرا (٣) أي ذوي نسب ينسب إليهم وهم الذكور ، وذوات صهر يصاهر بهن وهن الإناث. وقوله تعالى (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) أي على فعل ما يريده من الخلق والإيجاد أو التحويل والتبديل ، والسلب والعطاء هذه مظاهر الربوبية المقتضية لعبادته وتوحيده والمشركون يعبدون من دونه أصناما لا تنفعهم إن عبدوها ، ولا تضرهم إن لم يعبدوها وذلك لجهلهم وظلمة نفوسهم فيعبدون الشيطان إذ هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وبذلك كان الكافر على ربه ظهيرا إذ بعبادته للشيطان يعينه على معصية الرب تبارك وتعالى وهو معنى قوله تعالى ، ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وكان الكافر على ربه ظهيرا. أي معينا للشيطان على الرحمن والعياذ بالله تعالى.

وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) يقول تعالى لرسوله إنا لم نرسلك لغير بشارة المؤمنين بالجنة ونذارة الكافرين بالنار أما هداية القلوب فهي إلينا من شئنا هدايته

__________________

(١) ولا يخالطه فتور ، وقيل الجهاد بالسيف ويرده أن السورة مكية ولم يجر للسيف ذكر فكيف يكون المراد ، وقيل : بالإسلام وهو أولى من السيف والقرآن أصح ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.

(٢) الملح يوصف به الماء ، ولا يقال مالح إلّا نادرا والأجاج ما كان ملحا مرا والعذب. الحلو والفرات : زائد الحلاوة ، والبرزخ : الحاجز المانع والحرام المحرم أن يعذب الملح أو يملح العذب.

(٣) صهر الرجل : قريب زوجته وأصهاره : أقارب زوجته. وختن الرجل من تزوج قريبته ، وأختانه : أقارب من زوّجه قريبته ، والحم والجمع أحماء أقرباء زوج المرأء ، والصهر والنسب : معنيان يعمّان كل قربى تكون بين آدميين ، قال ابن العربي النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع. وما في التفسير أوضح لأنه كقوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى.)

٦٢٣

اهتدى ومن لم نشأها ضل. إلا أن الله يهدي ويضل حسب سنن له قد مر ذكرها مرات (١).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الإشارة إلى الحكمة في عدم تعدد الرسل في زمن البعثة المحمدية والاكتفاء بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ حرمة طاعة الكافرين في أمور الدين والشرع.

٣ ـ من الجهاد جهاد الكفار والملاحدة بالحجج القرآنية والآيات التنزيلية.

٤ ـ مظاهر العلم والقدرة الإلهية في عدم اختلاط البحرين مع وجودهما في مكان واحد. وفي خلق الله تعالى الإنسان من ماء وجعله ذكرا وأنثى للتناسل وحفظ النوع.

٥ ـ التنديد بالمشركين والكافرين المعينين للشيطان على الرحمن.

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢))

__________________

(١) من سنن الله تعالى في الهداية والإضلال ، أنّ من طلب الهداية ورغب فيها وسألها من ربه تعالى ولازم الطلب هداه الله ، ومن رغب عن الهداية وطلب الغواية وسلك مسالكها مفضلا لها على الهداية وأصرّ على ذلك أضله الله والعياذ بالله.

٦٢٤

شرح الكلمات :

(عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) : أي على البلاغ من أجر اتقاضاه منكم.

(سَبِيلاً) : أي طريقا يصل به إلى مرضاته والفوز بجواره ، وذلك بإنفاق ماله في سبيل الله.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) : أي قل سبحان الله وبحمده.

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : أي من أيام الدنيا التي قدرها وهي الأحد ... والجمعة.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) : العرش سرير الملك والاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب.

(فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) : أي أيها الإنسان إسأل خبيرا بعرش الرحمن ينبئك فإنه عظيم.

(وَزادَهُمْ نُفُوراً) : أي القول لهم اسجدوا للرحمن زادهم نفورا من الإيمان.

(جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) : هي إثنا عشر برجا انظر تفصيلها في معنى الآيات.

(سِراجاً) : أي شمسا.

(خِلْفَةً) : أي يخلف كل منهما الآخر كما هو مشاهد.

(أَنْ يَذَّكَّرَ) : أي ما فاته في أحدهما فيفعله في الآخر.

(أَوْ أَرادَ شُكُوراً) : أي شكرا لنعم ربه عليه فيهما بالصيام والصلاة.

معنى الآيات :

بعد هذا العرض العظيم لمظاهر الربوبية الموجبة للألوهية أمر الله تعالى رسوله أن يقول للمشركين ما أسألكم على هذا البيان الذي بينت لكم ما تعرفون به إلهكم الحق فتعبدونه وتكملون على عبادته وتسعدون أجرا أي مالا ، لكن من شاء أن ينفق من ماله في وجوه البر والخير يتقرب به إلى ربه فله ذلك ليتخذ (١) بنفقته في سبيل الله طريقا إلى رضا ربه عنه ورحمته له.

وقوله (وَتَوَكَّلْ (٢) عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) يأمر تعالى رسوله أن يمضي في طريق

__________________

(١) وجائز أن يكون (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) باتباع ديني أي : الإسلام حتى ينال كرامة الدنيا والآخرة والإنفاق في سبيل الله تعالى داخل فيه ، والحمد لله.

(٢) التوكل معناه : اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور مع اتيان الأسباب المشروعة للبلوغ إلى المطلوب مما هو خير ومعروف وأمر ادراك المطلوب إلى الله تعالى مع الرضا بما يتم من ربح أو خلافه ونجاح وغيره.

٦٢٥

دعوته مبلغا عن ربه داعيا إليه متوكلا عليه أي مفوضا أمره إليه إذ هو الحي الذي لا يموت وغيره يموت ، وأمره أن يستعين على دعوته وصبره عليها بالتسبيح فقال (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي قل سبحان الله وبحمده ، وسبحانك اللهم وبحمدك وهو أمر بالذكر والصلاة وسائر العبادات فإنها العون الكبير للعبد على الثبات والصّبر. وقوله تعالى (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي فلا تكرب لهم ولا تحزن عليهم من أجل كفرهم وتكذيبهم وشركهم فإن ربك عالم بذنوبهم محص عليهم أعمالهم وسيجزيهم بها في عاجل أمرهم أو آجله. ثم أثنى تبارك وتعالى على نفسه بقوله (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما (١) فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) مقدرة بأيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة ، ثم استوى على العرش العظيم استواء يليق بجلاله وكماله. (الرَّحْمنُ) الذي عمّت رحمته العالمين (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) أي فاسأل يا محمد (٢) بالرحمن خبيرا بخلقه فإنه خالق كل شيء والعليم بكل شيء فهو وحده العليم بعظمة عرشه وسعة ملكه وجلال وكمال نفسه لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) أي وإذا قال لهم الرسول أيها المشركون اسجدوا للرحمن ولا تسجدوا لسواه من المخلوقات. قالوا منكرين متجاهلين (مَا الرَّحْمنُ (٣)؟) أنسجد لما تأمرنا أي أتريد أن تفرض علينا طاعتك (وَزادَهُمْ) هذا القول (نُفُوراً) ، أي بعدا واستنكارا للحق والعياذ بالله تعالى. وقوله تعالى (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أي تقدس وتنزه أن يكون له شريك في خلقه أو في عبادته الذي بعظمته جعل في السماء بروجا وهي منازل الكواكب السبعة السيارة فلذا سميت بروجا جمع برج وهو القصر الكبير وتعرف هذه البروج الاثنا عشر بالحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. والكواكب السبعة السيارة هي : المريخ ، والزهرة وعطارد ، والقمر ، والشمس ، والمشتري ، وزحل. فهذه الكواكب تنزل في البروج كالقصور لها.

__________________

(١) قال (بَيْنَهُما) ولم يقل بينهن لأنه أراد الصنفين أو النوعين أو الشيئين وهو أخص من كلمة بينهن وأخف على اللسان والمقصود ظاهر بكل من العبارتين جمع أو تثنية.

(٢) رجح بعضهم أن الباء هنا بمعنى عن أي : اسأل عن الرحمن خبيرا واستشهد بقول الشاعر :

فإن سألوني بالنساء فإنني

خبير بأدواء النساء طبيب

فقوله بالنساء أي : عن النساء. ورأي ابن كثير أنّ المسؤول هنا هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أعرف الخلق بالخالق وبعزته وعظمته جل جلاله.

(٣) إنهم بجهلهم أنكروا اسم الرحمن لله ، وقالوا : يأمر بعبادة إله واحد وهو يدعو الله ويدعو الرحمن فأنزل الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (الإسراء).

٦٢٦

وقوله تعالى (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) هو الشمس (وَقَمَراً مُنِيراً) (١) هو القمر أي تعاظم وتقدس الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وقوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) (٢) أي يخلف بعضهما بعضا فلا يجتمعان أبدا وفي ذلك من المصالح والفوائد ما لا يقادر قدره ومن ذلك أن من نسي عملا بالنهار يذكره في الليل فيعمله ، ومن نسي عملا بالليل يذكره بالنهار فيعمله (٣) ، وهو معنى قوله (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) وقوله (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) فإن الليل والنهار ظرفان للعبادة الصيام بالنهار والقيام بالليل فمن أراد أن يشكر الله تعالى على نعمه فقد وهبنا له فرصة لذلك وهو الليل للتهجد والقيام والنهار للجهاد والصيام.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ دعوة الله ينبغي أن لا يأخذ الداعي عليها أجرا ممن يدعوهم (٤) إلى الله تعالى ومن أراد أن يتطوع من نفسه فينفق في سبيل الله فذلك له.

٢ ـ وجوب التوكل على الله فإنه الحي الذى لا يموت وغيره يموت.

٣ ـ وجوب التسبيح والذكر والعبادة وهذه هي زاد العبد وعدته وعونه.

٤ ـ مشروعية السجود عند قوله تعالى وزادهم نفورا للقارىء والمستمع (٥).

٥ ـ صفة استواء الرحمن على عرشه فيجب الإيمان بها على ما يليق بجلال الله وكماله ويحرم تأويلها بالاستيلاء والقهر ونحوهما.

٦ ـ الترغيب في الذكر والشكر ، واغتنام الفرص للعبادة والطاعة.

__________________

(١) قرىء فى الشاذ قمرا بضم القاف وإسكان الميم وصاحب القراءة هو عصمة الذي يروي القراءات قال فيه أحمد بن حنبل : لا تكتبوا عنه وقد أولع أبو حاتم بالرواية عنه مع الأسف.

(٢) الخلفة : كل شيء بعد شيء ومنه قيل لليل والنهار خلفة لأنّ كلا منهما يخلف الثاني إذا ذهب ومنه قيل لورق النبات الذي يخلف الورق الأول خلفة ومنه قول زهير بن أبي سلمى :

بها العين والآرام يمشين خلفة

وأطلاؤهن ينهض من كل مجثم

خلفة : هذه تذهب وتلك تأتي. والعين : جمع عيناء وأعين : واسعات العيون والمراد بقر الوحش والأطلاء : جمع طلا : ولد البقرة وولد الظبية الصغير ، والمجثم : موضع الجثوم : أي المقام.

(٣) روى مسلم عن عمر رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل).

(٤) لو أعطي الداعي إلى الله تعالى من أوقاف وقفت لهذا الغرض أو أعطي من بيت المال ما يسد به خلته ويقضي به حاجته فأخذ فلا حرج.

(٥) هذه السجدة من عزائم السجدات فلا ينبغي أن يتركها القارىء ولا المستمع.

٦٢٧

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠))

شرح الكلمات :

(يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) : في سكينة ووقار.

(وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) : أي بما يكرهون من الأقوال.

(قالُوا سَلاماً) : أي قولا يسلمون به من الإثم ، ويسمى هذا سلام (١) المتاركة.

(سُجَّداً وَقِياماً) : أي يصلون بالليل سجدا جمع ساجد.

(إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) : أي عذاب جهنم كان لازما لا يفارق صاحبه.

__________________

(١) سلام المتاركة : هو أن يقول قولا يسلم به من أذى الجاهل وذلك بأن يدفعه بالتي هي أحسن من الكلمات.

٦٢٨

(إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) : أي بئست مستقرا وموضع إقامة واستقرار.

(لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) : أي لم يبذروا ولم يضيقوا.

(وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) : أي بين الإسراف والتقتير وسطا.

(الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) : وهي كل نفس آدمية إلا نفس الكافر المحارب.

(إِلَّا بِالْحَقِ) : وهو واحد من ثلاث : كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل ظلم وعدوان.

(يَلْقَ أَثاماً) : أي عقوبة شديدة.

(يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) : بأن يمحو بالتوبة سوابق معاصيهم ، ويثبت مكانها لواحق طاعاتهم.

معنى الآيات :

لما أنكر المشركون الرحمن (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) وأبوا أن يسجدوا للرحمن ، وقالوا أن محمدا ينهانا عن الشرك وهو يدعو مع الله الرحمن فيقول يا الله يا رحمن ، ناسب لتجاهلهم هذا الاسم الرحمن أن يذكر لهم صفات عباد الرحمن ليعرفوا الرحمن بعباده على حد (خيركم من إذا رؤي ذكر الله) فقال تعالى (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) (١) ووصفهم بثمان صفات وأخبر عنهم بما أعده لهم من كرامة يوم القيامة. الاولى في قوله (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) (٢) أي ليسوا جبابرة متكبرين ، ولا عصاة مفسدين ولكن يمشون متواضعين عليهم السكينة والوقار ، (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) أي السفهاء بما يكرهون من القول قالوا قولا يسلمون (٣) به من الإثم فلم يردوا السيئة بالسيئة ولكن بالحسنة.

الثانية : في قوله (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) أي يقضون ليلهم بين السجود

__________________

(١) (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) مبتدأ والخبر : إن أريد بهم أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة فالخبر : (الَّذِينَ يَمْشُونَ) وما بعده نعوت لهم وصفات ، وإن أريد بهم عامة المؤمنين فالخبر : (أولائك يجزون الغرفة) والصلات الثمانية : صفات ونعوت لهم. وهذا الراجح.

(٢) الهون : اللين والرفق ، والمشي الهون : هو الذي ليس فيه ضرب بالأقدام وخفق النعال فهو غير مشي المتكبرين المعجبين بنفوسهم ، وعباد الرحمن يمشون وعليهم السكينة والوقار وفى الحديث : (أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالايضاع وهو السير مثل الخبب) إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا زال زال تقلعا ويخطو تكفؤا ويمشي هونا ذريع المشية كأنما ينحط من صبب ، قيل : نعم هو كما وصف فالتقلع معناه رفع الرجل بقوة حتى لا يمشي مشية المتمسكن الذليل والذريع ، الواسع الخطا ومعناه أنه كان يرفع رجله بسرعة ويوسع خطوه كأنما ينحط من صبب فأين هذا الهون المحمدي في المشي من الاختيال والتمايل اعجابا بالنفس وضرب الأرض كأنما يريد أن يخرقها بنعله. والله تعالى قال : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) والمرح : هو مشي الخيلاء ، والفخر ، وقال : (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) أي بضربك إياها برجليك بشدة. (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) مهما حاولت العلو والارتفاع.

(٣) هذا كقوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ).

٦٢٩

والقيام يصفون أقدامهم ويذرفون دموعهم على خدودهم خوفا من عذاب ربهم.

والثالثة : في قوله (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) إنهم لقوة يقينهم كأنهم شاعرون بلهب جهنم يدنو من وجوههم فقالوا (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي ملحّا لازما لا يفارق صاحبه ، (إِنَّها ساءَتْ) أي جهنم (مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي بئست موضع إقامة واستقرار.

والرابعة : في قوله (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا) في إنفاقهم فيتجاوزوا الحد المطلوب منهم ، ولم يقتروا فيقصروا في الواجب عليهم وكان إنفاقهم بين الإسراف والتقتير قواما أي عدلا وسطا.

والخامسة : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي لا يسألون غير ربهم قضاء حوائجهم كما لا يشركون بعبادة ربهم أحدا (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) قتلها وهي كل نفس آدمية ما عدا نفس الكافر المحارب فإنها مباحة القتل غير محرمة. (إِلَّا بِالْحَقِ) وهو واحدة من ثلاث خصال بينها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الصحيحين (لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) (وَلا يَزْنُونَ) أي لا يرتكبون فاحشة الزنا والزنا نكاح على غير شرط النكاح المباح وقوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) هذا كلام معترض بين صفات عباد الرحمن. أي ومن يفعل ذلك المذكور من الشرك بدعاء غير الرب أو قتل النفس بغير حق ، أو زنا (يَلْقَ أَثاماً) (١) أي عقابا (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ) أي في العذاب (مُهاناً) مخزيا ذليلا ، وقوله تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ) من الشرك وآمن بالله وبلقائه وبرسوله وما جاء به من الدين الحق (وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام (فَأُوْلئِكَ) المذكورون أي التائبون (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) أي يمحو سيآتهم بتوبتهم ويكتب لهم مكانها صالحات أعمالهم وطاعاتهم بعد توبتهم (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ذا مغفرة للتائبين من عباده ذا رحمة بهم فلا يعذبهم بعد توبته عليهم ، وقوله (وَمَنْ تابَ) من غير هؤلاء المذكورين أي رجع إلى الله تعالى بعد غشيانه الذنوب

__________________

(١) الأثام : قيل فيه إنه واد في جهنم : قال الشاعر :

لقيت المهالك في حربنا

وبعد المهالك نلقي أثاما

وقيل الأثام : العقاب كما في التفسير وشاهده قول الشاعر :

جزى الله ابن عروة حيث أمسى

عقوقا والعقوق له أثام

أي : جزاء وعقوبة.

٦٣٠

(وَعَمِلَ صالِحاً) بعد توبته (فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) أي يرجع إليه تعالى مرجعا مرضيا حسنا فيكرمه وينعمه في دار كرامته.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان صفات عباد الرحمن الذين بهم يعرف الرحمن عزوجل.

٢ ـ فضيلة التواضع والسكينة في المشيء والوقار.

٣ ـ فضيلة رد السيئة بالحسنة والقول السليم من الإثم.

٤ ـ فضيلة قيام (١) الليل والخوف من عذاب النار.

٥ ـ فضيلة الاعتدال والقصد في (٢) النفقة وهي الحسنة بين السيئتين.

٦ ـ حرمة الشرك وقتل النفس (٣) والزنى وأنها أمهات الكبائر.

٧ ـ التوبة تجب (٤) ما قبلها. والندب إلى التوبة وأنها مقبولة مالم يغرغر.

(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا

__________________

(١) أنشد بعضهم الأبيات التالية في صفة أولياء الله جعلنا الله منهم : فقال :

لله قوم أخلصوا في حبه

فرضي بهم واختصهم خدّاما

قوم إذا جن الظلام عليهم

باتوا هنالك سجدا وقياما

خمص البطون من التعفف ضمّرا

لا يعرفون سوى الحلال طعاما

(٢) روي أن عبد الملك بن مروان سأل بنته فاطمة وهي تحت ابن أخيه عمر بن عبد العزيز وقد زارهما بالمدينة فقال لها كيف نفقتكم؟ فقالت : الحسنة بين السيئتين. تعني قول الله تعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) وقيل : المسؤول زوجها عمر وهو الذي أجاب والله أعلم وفي الحديث : (إن من السرف أن تأكل كل ما تشتهي).

(٣) روى مسلم أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله : أي الذنب أكبر عند الله؟ قال : (أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال ثم أي؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قال ثم أي : قال : أن تزاني حليلة جارك) فأنزل الله تصديقها (الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إلى (وَلا يَزْنُونَ).

(٤) وفي الحديث الصحيح : (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) والشاهد : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ).

٦٣١

هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))

شرح الكلمات :

(لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) : أي لا يحضرون مجالسه ولا يشهدون بالكذب والباطل.

(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) : أي بالكلام السيء القبيح وكل ما لا خير فيه.

(مَرُّوا كِراماً) : أي معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن سماعه أو المشاركة فيه.

(إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) : أي إذا وعظوا بآيات القرآن.

(لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) : أي لم يطأطئوا رؤوسهم حال سماعها عميا لا يبصرون ولا صما لا يسمعون بل يصغون يسمعون ويعون ما تدعو إليه ويبصرون ما تعرضه.

(قُرَّةَ أَعْيُنٍ) : أي ما تقر به أعيننا وهو أن تراهم (١) مطيعين لك يعبدونك وحدك.

(وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) : أي من عبادك الذين يتقون سخطك بطاعتك قدوة يقتدون بنا في الخير.

(يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) : أي الدرجة العليا في الجنة.

(بِما صَبَرُوا) : أي على طاعتك بامتثال الأمر واجتناب النهي.

(حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) : أي صلحت وطابت مستقرا لهم أي موضع استقرار

__________________

(١) أي : أعيننا.

٦٣٢

وإقامة.

(ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) : أي ما يكترث ولا يعتد بكم ولا يبالي.

(لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) : إياه ، ودعاؤه إياكم لعبادته بذكره وشكره.

(فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) : أي العذاب لزاما أي لازما لكم في بدر ويوم القيامة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر صفات عباد الرحمن الذي تجاهله المشركون وقالوا : وما الرحمن فها هي ذي صفات عباده دالة عليه وعلى جلاله وكماله ، وقد مضى ذكر خمس صفات :

والسادسة : في قوله تعالى (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) (١) الزور هو الباطل والكذب وعباد الرحمن لا يحضرون مجالسه ولا يقولونه ولا يشهدونه ولا ينطقون به (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) (٢) وهو كل عمل وقول لا خير فيه (مَرُّوا) (٣) (كِراماً) أي مكرمين أنفسهم من التلوث به ، بالوقوع فيه.

والسابعة : في قوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي إذا ذكرهم أحد بآيات القرآن كتاب ربهم عزوجل لم يحنوا رؤوسهم عليها صما حتى لا يسمعوا مواعظها ولا عميانا حتى لا يشاهدوا آثار آياتها بل يحنون رؤوسهم سامعين لها واعين لما تقوله وتدعو إليه مبصرين آثارها مشاهدين وقائعها متأثرين بها.

والثامنة : فى قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ) أي في دعائهم (رَبَّنا هَبْ لَنا) أي أعطنا (مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (٤) أي ما تقر به أعيننا وذلك بأن نراهم يتعلمون الهدى ويعملون به طلبا لمرضاتك يا ربنا (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ) من عبادك الذين يتقون سخطك

__________________

(١) قيل في الزور : إنه كل باطل زور وزخرف وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد وقال ابن عباس : إنه أعياد المشركين وقال عكرمة : اللعب كان في الجاهلية يسمى الزور ، وقال مجاهد : الغناء : ويطلق اليوم على التصوير والصور إذ هو الزور والكذب قطعا. والحكم في شاهد الزور أن يجلد أربعين جلدة ويسخم وجهه ويحلق رأسه ويطاف به في السوق بهذا حكم عمر رضي الله عنه. وتسخيم الوجه أن يسود بالفحم.

(٢) (بِاللَّغْوِ) : كل سقط من قول أو فعل فيدخل فيه الغناء واللهو وذكر النساء وغير ذلك من المنكر ، وقال بعضهم اللغو كل قول أو عمل لم يحقق لك درهما لمعاشك ولا حسنة لمعادك.

(٣) (كِراماً) : أي معرضين منكرين لا يرضونه ولا يمالئون عليه ولا يجالسون أهله.

(٤) قرة العين مأخوذ من القرّ وهو البرد إذ دموع الفرح باردة ودموع الحزن حارة قال الشاعر :

فكم تسخّنت بالأمس عين قريرة

وقرّت عيون دمعها اليوم ساكب

ومن ثم قالوا في الدعاء : اقر الله عينك أي : أفرحك.

٦٣٣

بطاعتك بفعل أمرك وأمر رسولك واجتناب نهيك ونهي رسولك (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) (١) أي قدوة صالحة يقتدون بنا في الخير يا ربنا. قال تعالى مخبرا عنهم بما أنعم به عليهم : (أُوْلئِكَ) أي السامون أنفسا العالون أرواحا (يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) وهي الدرجة العليا في الجنة (بِما صَبَرُوا) على طاعة مولاهم ، وما يلحقهم من أذى في ذات ربهم (وَيُلَقَّوْنَ فِيها) أي تتلقاهم الملائكة بالتهاني والتحيات (تَحِيَّةً وَسَلاماً) أي بالدعاء بالحياة السعيدة والسلامة من الآفات إذ هي حياة بلا ممات ، وسعادة بلا منغصات. وقوله تعالى (خالِدِينَ فِيها) أي في تلك الغرفة في أعلى الجنة (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا) أي طابت موضع إقامة واستقرار. إلى هنا انتهى الحديث عن صفات عباد الرحمن وبيان جزائهم عند ربهم. وقوله تعالى : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي قل يا رسولنا لأولئك المشركين المنكرين للرحمن (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) أي ما يكترث لكم أو يبالي بكم (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) إياه أي عبادة من (٢) يعبده منكم إذ الدعاء هو العبادة ما أبالي بكم ولا أكترث لكم. أما وقد كذبتم بي وبرسولى فلم تعبدوني ولم توحدوني وإذا (فَسَوْفَ يَكُونُ) العذاب (٣) (لِزاماً) وقد أذقتموه يوم بدر ، وسوف يلازمهم في قبورهم إلى نشورهم ، وسوف يلاحقهم حتى مستقرهم في جهنم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة شهود الزور (٤) وحرمة شهادته.

٢ ـ فضيلة الإعراض عن اللغو فعلا كان أو قولا.

__________________

(١) وحّد إماما ولم يجمعه (أئمة) لأن الإمام مصدر كالقيام والصيام أم القوم يؤمهم فهو إمام لهم ، والمصدر يطلق فيدل على الواحد والجمع وجائز أن يراد أئمة كقول الرجل أميرنا هؤلاء ومنه قول الشاعر :

يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي

إن العواذل لسن لي بأمير

(٢) إذ كانوا يدعونه تعالى في حال الشدة وعلى هذا فالمصدر مضاف إلى الفاعل و (إياه) معمول للدعاء .. المصدر ، وجائز أن يكون معناه لو لا دعاؤه إياكم لعبادته بذكره وشكره فيكون المصدر الذي هو الدعاء مضافا إلى مفعوله وجواب لو لا محذوف تقديره لم يعبأ بكم.

(٣) قال الطبري : معناه عذابا دائما لازما. وقيل : فقد كذّبتم فسوف يكون تكذيبكم لزاما لكم أي : جزاؤه وهو العذاب والمعنى واحد وهو لزوم العذاب لهم من أجل تكذيبهم الذي منعهم من تزكية نفوسهم بالإيمان وصالح الأعمال.

(٤) وفي الصحيح : (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الشرك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت)

٦٣٤

٣ ـ فضيلة تدبر القرآن وحسن الاستماع لتلاوته والاتعاظ بمواعظه والعمل بهدايته.

٤ ـ فضيلة علو الهمة وسمو الروح وطلب الكمال والقدوة في الخير.

٥ ـ لا قيمة للإنسان وهو أشرف الحيوانات لو لا عبادته الله عزوجل فإذا لم يعبده كان شر الخليقة. (١)

__________________

(١) شاهده قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) وهم الكفار من أهل الكتاب والمشركون (من سورة البينة).

٦٣٥

سورة الشّعراء

مكية وآياتها مائتان وسبع وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩))

شرح الكلمات :

(طسم) : الله أعلم بمراده بذلك.

(الْكِتابِ الْمُبِينِ) : أي القرآن المبين للحق من الباطل.

(باخِعٌ نَفْسَكَ) : أي قاتلها من الغم.

(أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) : أي من أجل عدم إيمانهم بك.

(آيَةً) : أي نخوفهم بها.

(مِنْ ذِكْرٍ) : أي من قرآن.

(مُعْرِضِينَ) : أي غير ملتفتين إليه.

(زَوْجٍ كَرِيمٍ) : أي صنف حسن.

(الْعَزِيزُ) : الغالب على أمره ومراده.

(الرَّحِيمُ) : بالمؤمنين من عباده.

٦٣٦

معنى الآيات :

طسم هذه أحد الحروف المقطعة تكتب طسم ، وتقرأ طا سين ميم بإدغام النون من سين في الميم الأولى من ميم والله أعلم بمراده منها. وفيها إشارة إلى أن القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف وعجز العرب عن تأليف مثله بل سورة واحدة من مثله دال قطعا على أنه كلام الله ووحيه إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) (١) أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هي آيات الكتاب أي القرآن (الْمُبِينِ) أي المبين للحق من الباطل والهدى من الضلال ، والشرائع والأحكام. وقوله تعالى (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) أي قاتلها ومهلكها (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي إن لم يؤمن بك وبما جئت به قومك ، فأشفق على نفسك يا رسولنا ولا تعرضها للغم القاتل فإنه ليس عليك هدايتهم وإنما عليك البلاغ وقد بلغت ، إنا لو أردنا هدايتهم بالقسر والقهر لما عجزنا عن ذلك (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ (٢) لَها خاضِعِينَ) أي إنا لقادرون على أن ننزل عليهم من السماء آية كرفع جبل أو إنزال كوكب أو رؤية ملك فظلت أي فتظل طوال النهار أعناقهم خاضعة ، تحتها تتوقع فى كل لحظة نزولها عليهم فتهلكهم فيؤمنوا حينئذ إيمان قسر وإكراه ومثله لا ينفع صاحبه فلا يزكي نفسه ولا يطهر روحه لأنه غير إرادي له ولا اختياري.

وقوله تعالى (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ (٣) مُحْدَثٍ) أي وما يأتي قومك المكذبين لك من موعظة قرآنية وحجج وبراهين تنزيلية تدل على صدقك وصحة دعوتك ممّا يحدثه الله إليك ويوحي به إليك لتذكرهم به إلا أعرضوا فلا يستمعون إليه ولا يفكرون فيه.

وقوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوا) (٤) يخبر تعالى رسوله بأن قومه قد كذبوا بما أتاهم من ربهم من ذكر محدث وعليه (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا) أي أخبار (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو عذاب الله تعالى الذي كذبوا برسوله ووحيه وجحدوا توحيده وأنكروا طاعته وفي الآية وعيد شديد وهم عرضة له في أية لحظة إن لم يتوبوا.

__________________

(١) (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) قال القرطبي رفع على إضمار مبتدأ أي : هذه تلك .. الخ وما في التفسير أولى أي : هي آيات الكتاب.

(٢) لأنهم إذا ذلت أعناقهم ذلوا ولا داعي إلى أن يقال : أعناقهم : كبراؤهم ورؤساؤهم وإن ساغ لغة ، إذ المراد أن ينزل عليهم آية تخضعهم وتذلهم رؤساء ومرؤوسين ، والأعناق جمع عنق بضم العين والنون وهو الرقبة ولما كانت الأعناق هي مظهر الخضوع أسند الخضوع إليها ومقتضى ظاهر الكلام هو فضلوا لها خاضعين بأعناقهم ، وعدل عنه إلى إسناد الخضوع إلى الأعناق لأنه يحمل الإشارة إلى خضوع رؤسائهم الحاملين على الكفر والعناد وهذا من بليغ الكلام وبديعه.

(٣) (مُحْدَثٍ) أي : مستجد متكرر بعضه يعقب بعضا ويؤيده.

(٤) (فَقَدْ كَذَّبُوا) الفاء هي الفصيحة أفصحت عن تكذيبهم الناتج عن إعراضهم والفاء في (فَسَيَأْتِيهِمْ) للتعقيب والأنباء جمع نبأ وهو الخبر ذو الشأن ، والجملة تحمل التهديد والوعيد الشديد.

٦٣٧

وقوله تعالى (أَوَلَمْ (١) يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) إن كانت علة هذا التكذيب من هؤلاء المشركين هي إنكارهم للبعث والجزاء وهو كذلك فلم لا ينظرون إلى الأرض الميتة بالقحط ينزل الله تعالى عليها ماء من السماء فتحيا به بعد موتها فينبت الله فيها من كل زوج أي صنف من أصناف النباتات كريم أي حسن. أليس في ذلك آية على قدرة الله تعالى على إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم وحشرهم للحساب والجزاء ، فلم لا ينظرون؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي علامة واضحة للمشركين على صحة البعث والجزاء. ففي إحياء الأرض بعد موتها دليل على إحياء الناس بعد موتهم. وقوله تعالى (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢) يخبر تعالى أنّ فيما ذكر من إنباته أصناف النباتات الحسنة آية على البعث والحياة الثانية ولكن قضى الله أزلا أن أكثر هؤلاء المشركين لا يؤمنون وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ (٣) الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) يقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب على أمره المنتقم من أعدائه (الرَّحِيمُ) بأوليائه فاصبر لحكمه وتوكل عليه وواصل دعوتك في غير غم ولا هم ولا حزن وإن العاقبة لك وللمؤمنين بك المتبعين لك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن القرآن الكريم معجز لأنه مؤلف من مثل طا سين ميم ولم يستطع أحد أن يؤلف مثله.

٢ ـ بيان ما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناله من الغم والحزن وتكذيب قومه له.

٣ ـ بيان أن إيمان المكره لا ينفعه ، ولذا لم يكره الله تعالى الكفار على الإيمان بواسطة الآيات.

٤ ـ التحذير من عاقبة التكذيب بآيات الله وعدم الاكتراث بها.

٥ ـ في إحياء الأرض بالماء وإنبات النباتات المختلفة فيها دليل على البعث الآخر.

__________________

(١) الاستفهام إنكاري والهمزة داخلة على محذوف والواو عاطفة عليه نحو : اعملوا ولم يروا. الرؤية : معناها النظر بالعين ، ولذا عدّي الفعل بإلى. والزوج : النوع ، والكريم : النفيس في نوعه وكم : للتكثير ومن للتبعيض.

(٢) المراد ممن نفى الإيمان عن أكثرهم هم : أكابر مجرمي مكة إذ أكثرهم مات كافرا أما غيرهم فندر من لم يؤمن منهم إذ دخلوا في دين الله بعد الفتح أفواجا.

(٣) الجملة تعليلية تضمنت التذكير بعزّة الله تعالى ورحمته فذوا العزة قادر على أن ينزل عذابه بأعدائه وذو الرحمة قادر على رحمة أوليائه كما أن هناك إشارة إلى أنّ تخلف العذاب اقتضته رحمته سبحانه وتعالى.

٦٣٨

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧))

شرح الكلمات :

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ) : أي اذكر لقومك يا رسولنا إذ نادى ربك موسى.

(أَنِ ائْتِ) : أي بأن ائت القوم الظالمين.

(أَلا يَتَّقُونَ) : ألا يخافون الله ربهم ورب آبائهم الأولين ما لهم ما دهاهم؟

(وَيَضِيقُ صَدْرِي) : أي من تكذيبهم لي.

(وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) : أي للعقدة التي به.

(فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) : أي إلى أخي هرون ليكون معي في إبلاغ رسالتي.

(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) : أي ذنب القبطي الذي قتله موسى قبل خروجه إلى مدين.

(قالَ كَلَّا) : أي قال الله تعالى له كلا أي لا يقتلونك.

(فَاذْهَبا) : أنت وهرون.

(إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) : أي إليك.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) هذا بداية سلسة من القصص بدئت بقصة موسى وختمت بقصة شعيب وقصها على المشركين ليشاهدوا أحداثها ويعرفوا نتائجها

٦٣٩

وهي دمار المكذبين وهلاكهم مهما كانت قوتهم وطالت أعمارهم قال تعالى في خطاب رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) أي اذكر إذ نادي ربك موسى في ليلة باردة شاتية بالواد الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة (أَنِ ائْتِ (١) الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ (٢) فِرْعَوْنَ) إذ ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك وظلموا بني إسرائيل باضطهادهم وتعذيبهم (أَلا يَتَّقُونَ) أي قل لهم ألا تتقون أي يأمرهم بتقوى ربهم بالإيمان به وتوحيده وترك ظلم عباده فالاستفهام معناه الأمر. وقوله تعالى (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) أي قال موسى بعد تكليفه رب إني أخاف أن يكذبون (٣) فيما أخبرهم به وأدعوهم إليه ، (وَيَضِيقُ صَدْرِي) (٤) لذلك (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) للعقدة التي به ، وعليه (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أي جبريل يبلغه أن يكون معي معينا لي على إبلاغ رسالتي ، وقوله (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) هذا قول موسى عليه‌السلام لربه تعالى شكا إليه خوفه من قتلهم له بالنفس (٥) التي قتلها أيام كان بمصر قبل خروجه إلى مدين فأجابه الرب تعالى (كَلَّا) (٦) أي لن يقتلوك. وأمرهما بالسير إلى فرعون فقال (فَاذْهَبا بِآياتِنا) وهي العصا واليد (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أي فبلغاه ما أمرتكما ببلاغه وإنا معكم مستمعون لما تقولان ولما يقال لكما (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا) له عند وصولكما إليه (إِنَّا رَسُولُ (٧) رَبِّ الْعالَمِينَ) أي نحمل رسالة منه مفادها أن ترسل معنا (٨) بني إسرائيل لنخرج بهم إلى أرض الشام التي وعد الله بها بني إسرائيل هذا ما قاله موسى وهرون رسولا رب العالمين أما جواب فرعون ففي الآيات التالية.

__________________

(١) (أَنِ) تفسيرية لأنها واقعة بعد النداء وهو قول.

(٢) (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) : بدل من (الظَّالِمِينَ).

(٣) (أَنْ يُكَذِّبُونِ) : الأصل : أن يكذبوني فحذفت النون الأولى للناصب وهو أن فصارت يكذبونني ثم حذفت ياء الضمير لدلالة الكسرة عليها فصارت (يُكَذِّبُونِ).

(٤) قرأ الجمهور (يَضِيقُ صَدْرِي) ولا ينطلق لساني بالرفع للفعلين معا على الاستئناف وقرىء بنصبهما لغير الجمهور.

(٥) المراد بالنفس : نفس القبطي واسمه فاثور.

(٦) (كَلَّا) للردع والزجر عن هذا الظن.

(٧) لم يقل : رسولا إما لأن رسول بمعنى رسالة إنّا ذو رسالة رب العالمين وإما لأنّ الرسول بمعنى الجمع كالمصادر نحو. هذا عدوي وهؤلاء عدوي ، والعرب تقول : هذان رسولي وهؤلاء رسولي.

(٨) قيل : أقام بنو اسرائيل في مصر أربعمائة سنة وكانوا يوم خرجوا منها ستمائة ألف.

٦٤٠