أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

مفاصلة قاطعة ، للنزاع الناجم عن كون كل يدعى أنه على الحق وأن دينه أصوب ، وطريقته أمثل وسبيله أجدى وأنفع.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب إقامة الصلاة وبيان أوقاتها المحددة لها.

٢ ـ الترغيب في النوافل ، وخاصة التهجد أي «نافلة الليل».

٣ ـ تقرير الشفاعة العظمى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ ضعف الباطل وسرعة تلاشيه إذا صاوله الحق ووقف في وجهه.

٥ ـ القرآن شفاء لأمراض القلوب عامة ورحمة بالمؤمنين خاصة.

٦ ـ بيان طبع المرء الكافر وبيان حال الضعف الملازم له.

٧ ـ تعليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين كيف يتخلصون من الجدال الفارغ والحوار غير المثمر.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))

شرح الكلمات :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) : أي يسألك المشركون بواسطة أهل الكتاب عن الروح الذي يحيا به البدن.

٢٢١

(مِنْ أَمْرِ رَبِّي) : أي من شأنه وعلمه الذي استأثر به ولم يعلمه غيره.

(لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : أي القرآن بأن نمحوه من الصدور والمصاحف لفعلنا.

(لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) : يمنع ذلك منا ويحول دون ما أردناه منك.

(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) : أي لكن أبقيناه عليك رحمة من ربك فلم نذهب به.

(بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) : من الفصاحة والبلاغة والمحتوى من الغيوب والشرائع والأحكام.

(ظَهِيراً) : أي معينا ونصيرا.

(صَرَّفْنا) : بينا للناس مثلا من جنس كل مثل ليتعظوا به فيؤمنوا ويوحدوا.

(فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ) : أي أهل مكة إلا كفورا أي جحودا للحق وعنادا فيه.

معنى الآيات :

يقول تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ (١) عَنِ الرُّوحِ) إذ قد سأله المشركون عن الروح وعن أصحاب الكهف ، وذي القرنين بإيعاز من يهود المدينة فأخبره تعالى : بذلك وعلمه الرد عليهم فقال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٢) وعلمه الذي لا يعلمه إلا هو ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا لأن سؤالهم هذا ونظائره دال على إدعائهم العلم فأعلمهم أن ما أوتوه من العلم إلا قليل بجانب علم الله تعالى (٣) وقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَ (٤) بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) هذا امتنان من الله على رسوله الذي أنزل عليه القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين بأنه تعالى قادر على محوه من صدره. وسطره ، فلا تبقى منه آية ثم لا يجد الرسول وكيلا له يمنعه من فعل الله به ذلك ولكن رحمة منه تعالى لم يشأ ذلك بل يبقيه إلى قرب قيام الساعة حجة الله على عباده وآية على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدق رسالته ، وليس هذا بأول إفضال من الله تعالى على رسوله ، بل فضل الله عليه كبير ، ولنذكر من ذلك طرفا وهو

__________________

(١) روى ابن إسحق أنّ قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود ويثرب يسألانهم عن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال اليهود لهما : سلوه عن ثلاثة وذكروا لهما أهل الكهف وذا القرنين وعن الروح ، فإن أخبركم عن اثنين وأمسك عن واحدة فهو نبي وإلّا فروا رأيكم فيه فأنزل الله تعالى سورة الكهف وفيها الجواب عن أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، وأنزل هذه الآية : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ).

(٢) يطلق الروح على ملك من الملائكة عظيم ويطلق على جبريل ويطلق على هذا الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الإنساني الذي دلت عليه آثاره من الإدراك والتفكير وهو المسؤول عنه في هذه الآية ، وسؤالهم كان عن بيان حقيقته وماهيته.

(٣) لفظ الآية عام وإن كان سبب نزولها خاصا إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإنه ما أوتي أحد علما إلّا وهو إلى جانب علم الله تعالى قليل.

(٤) روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله : إنّ هذا القرآن الذي أظهركم يوشك أن ينزع منكم. قالوا : كيف ينزع منا وقد أثبته الله في قلوبنا وكتبناه في المصاحف قال : يسرى عليه في ليلة واحدة فينزع ما في القلوب ويذهب ما في المصاحف ويصبح الناس منه فقراء ثمّ قرأ : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَ) الآية.

٢٢٢

عموم رسالته ، كونه خاتم الأنبياء ، العروج به إلى الملكوت الأعلى ، إمامته للأنبياء الشفاعة العظمى ، والمقام المحمود.

وقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ (١) الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) لا شك أن هذا الذي علم الله رسوله أن يقوله له سبب وهو ادعاء بعضهم أنه في إمكانه أن يأتي بمثل هذا القرآن الذي هو آية صدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبذلك تبطل الدعوى ، وينتصر باطلهم على الحق. فأمر تعالى رسوله أن يرد على هذا الزعم الباطل بقوله : قل يا رسولنا لهؤلاء الزاعمين الإتيان بمثل هذا القرآن لئن اجتمعت الإنس والجن متعاونين متظاهرين على الاتيان بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ، ذلك لأنه وحي الله وكتابه ، وحجته على خلقه. وكفى. فكيف إذا يمكن للإنس والجن أن يأتوا بمثله؟!

وقوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ) أي بينا مثلا من جنس كل مثل من أجل هداية الناس وإصلاحهم علهم يتذكرون فيتعظون ، فيؤمنون ويوحدون فأبى أكثر الناس إلا كفورا أي جحودا بالحق ، وإنكارا للقرآن وتكذيبا به وبما جاء فيه من الحق والهدى والنور ، لما سبق القضاء الإلهي من امتلاء جهنم بالغاوين وجنود إبليس أجمعين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ علم الروح مما استأثر الله تعالى به.

٢ ـ ما علم أهل العلم إلى علم الله تعالى إلا كما يأخذ الطائر بمنقاره من ماء المحيط.

٣ ـ حفظ القرآن في الصدور والسطور إلى قرب الساعة.

٤ ـ عجز الإنس والجن عن الإتيان بقرآن كالقرآن الكريم.

٥ ـ لما سبق في علم الله من شقاوة الناس تجد أكثرهم لا يؤمنون.

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما

__________________

(١) نزلت هذه الآية ردّا على كفار قريش عند ما قال النضر بن الحارث وغيره لو نشاء لقلنا مثل هذا. ومعنى ظهيرا : أي : عونا ونصيرا كما يتعاون الشعراء على قصيد الشعر.

٢٢٣

زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥))

شرح الكلمات :

(يَنْبُوعاً) : عينا لا ينضب ماؤها فهي دائمة الجريان.

(جَنَّةٌ) : بستان كثير الأشجار.

(كِسَفاً) : قطعا جمع كسفة كقطعة.

(قَبِيلاً) : مقابلة لنراهم عيانا.

(مِنْ زُخْرُفٍ) : من ذهب.

(تَرْقى) : تصعد في السماء.

(مُطْمَئِنِّينَ) : ساكنين في الأرض لا يبرحون منها.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الدعوة إلى التوحيد والنبوة والبعث وتقرير ذلك. فقال تعالى مخبرا عن قيلهم لرسول الله وهم يجادلون في نبوته : فقالوا : (لَنْ (١) نُؤْمِنَ لَكَ) أي لن نتابعك على ما تدعو إليه من التوحيد والنبوة لك والبعث والجزاء لنا (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) أي

__________________

(١) نزلت هذه الآية في رؤساء قريش مثل : عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي سفيان والنضر بن الحارث وأبي جهل وأمية بن خلف وغيرهم حيث اجتمعوا حول الكعبة ليلا وبعثوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان حريصا على هدايتهم فأتاهم فقالوا له كلاما طويلا ثم خلصوا إلى ما ذكر تعالى في هذه الآية وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا الخ.

٢٢٤

عينا يجري ماؤها على وجه الأرض لا ينقطع (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) أي بستان من نخيل وعنب ، (فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها) أي خلال الأشجار تفجيرا ، (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا (١) كِسَفاً) أي قطعا ، (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) (٢) أي مقابلة نراهم معاينة ، (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي من ذهب تسكنه بيننا (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) أي تصعد بسلم ذي درج في السماء ، (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) (٣) إن أنت رقيت (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً) من عند الله (نَقْرَؤُهُ) يأمرنا فيه بالإيمان بك واتباعك! هذه ست طلبات كل واحدة اعتبروها آية متى شاهدوها زعموا أنهم يؤمنون ، والله يعلم أنهم لا يؤمنون ، فلذا لم يستجب لهم وقال لرسوله : قل يا محمد لهم : سبحان الله متعجبا من طلباتهم (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)؟! أي هل كنت غير بشر رسول؟ وإلا كيف يطلب مني هذا الذي طلبوا ، إن ما تطلبونه لا يقدر عليه عبد مأمور مثلي ، وإنما يقدر عليه رب عظيم قادر ، يقول للشيء كن .... فيكون! وأنا ما ادعيت ربوبية ، وإنما أصرح دائما بأني عبد الله ورسوله إليكم لأبلغكم رسالته بأن تعبدوه وحده ولا تشركوا به سواه وتؤمنوا بالبعث الآخر وتعملوا له بالطاعات وترك المعاصي. وقوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي وما منع أهل مكة (أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) (٤) على يد رسولهم (إِلَّا أَنْ قالُوا) أي إلا قولهم (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً)؟ منكرين على الله أن يبعث رسولا من البشر!

وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) أي قل يا رسولنا لهؤلاء المنكرين أن يكون الرسول بشرا ، المتعجبين من ذلك ، قل لهم : لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ساكنين في الأرض لا يغادرونها لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا يهديهم بأمرنا ويعلمهم ما يطلب منهم فعله بإذننا لأنهم يفهمون عنه لرابطة الجنس بينهم والتفاهم الذي يتم لهم. ولذا بعثنا إليكم رسولا من جنسكم تفهمون ما يقول لكم يقدر على إفهامكم والبيان لكم فكيف إذا تنكرون الرسالة للبشر وهي أمر لا بد منه؟!

__________________

(١) الكسف : بفتح السين جمع كسفة بإسكانها ، قرأ نافع كسفا بفتح السين وكذا عاصم وقرأ غيرهما كسفا بإسكان السين أي : قطعة.

(٢) فسر (قَبِيلاً) بعدّة تفسيرات قال ابن عباس : كفيلا ، وقال مقاتل : شهيدا ، وقال مجاهد جمع القبيلة أي : بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة ، وقيل ضمناء يضمنون لنا إتيانك به وما في التفسير أولى وأظهر في تفسير الآية.

(٣) الرقى : مصدر رقى يرقي رقيا ورقيا أي : صعد المنبر ونحوه.

(٤) (الْهُدى) : أي ما يحقق الهداية من الكتب والرسل من عند الله تعالى.

٢٢٥

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ بيان شدة عناد مشركي قريش ، وتصلبهم وتحزبهم إزاء دعوة التوحيد.

٣ ـ بيان سخف عقول المشركين برضاهم للألوهية بحجر وإنكارهم الرسالة للبشر!

٤ ـ تقرير أن التفاهم حسب سنة الله لا يتم إلا بين المتجانسين فإذا اختلفت الأجناس فلا تفاهم إلا أن يشاء الله فلا يتفاهم انسان مع حيوان أو جان.

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩))

شرح الكلمات :

(شَهِيداً) : على أني رسول الله إليكم وقد بلغتكم وعلى أنكم كفرتم وعاندتم.

(فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ) : أي يهدونهم.

(عَلى وُجُوهِهِمْ) : أي يمشون على وجوههم.

(عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) : لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون.

٢٢٦

(كُلَّما خَبَتْ) : أي سكن لهبها زدناهم سعيرا أي تلهبا واستعارا.

(وَقالُوا) : أي منكرين للبعث.

(مِثْلَهُمْ) : أي أناسا مثلهم.

(أَجَلاً) : وقتا محددا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية إذ يقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل لأولئك المنكرين أن يكون الرسول بشرا ، (كَفى (١) بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) على أني رسوله وأنتم منكرون عليّ ذلك.

إنه تعالى كان وما زال (بِعِبادِهِ خَبِيراً) أي ذا خبرة تامة بهم (بَصِيراً) بأحوالهم يعلم المحق منهم من المبطل ، والصادق من الكاذب وسيجزي كلا بعدله ورحمته.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) (٢) يخبر تعالى أن الهداية بيده تعالى فمن يهده الله فهو المهتدي بحق ، (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ) (٣) (أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) أي يهدونهم بحال من الأحوال ، وفي هذا الكلام تسلية للرسول وعزاء له في قومه المصرّين على الجحود والانكار لرسالته.

وقوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أولئك المكذبين الضالين الذين ماتوا على ضلالهم وتكذيبهم فلم يتوبوا نحشرهم يوم القيامة ، يمشون على وجوههم (٤) حال كونهم عميا لا يبصرون ، بكما لا ينطقون ، (٥) صما لا يسمعون وقوله تعالى : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي محل استقرارهم في ذلك اليوم جهنم الموصوفة بأنها (كُلَّما خَبَتْ) أي سكن لهبها عنهم زادهم الله سعيرا أي تلهبا

__________________

(١) روي أن نفرا من قريش قالوا حين سمعوا قوله : (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) فمن يشهد لك أنك رسول الله؟ فنزل : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً).

(٢) حذفت الياء ليوقف على الدّال بالسكون وهي لغة فصيحة وفي حال الوصل يؤتى بالياء نطقا بها.

(٣) جمع الضمير (لَهُمْ) مراعاة إلى أن (مَنْ) تكون للواحد والمتعدد.

(٤) أي : يسحبون على وجوههم إهانة لهم كما يفعل في الدنيا بمن ينتقم منه حيث يسحبونه على وجهه في الأرض إهانة ، ومن سورة القمر قال تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) وجائز أن يمشوا على وجوههم عند حشرهم إلى جهنم فإذا دخلوها سحبوا على وجوههم لحديث أنس : (أليس الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه؟) في جواب سائل قال أفيحشر الكفّار على وجوههم؟

(٥) هذا في حال حشرهم إلى جهنم وكانوا قبل ذلك يسمعون ويبصرون وينطقون ثم إذا دخلوها عادت إليهم حواسهم للآيات القرآنية المصرّحة بذلك منها : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ ..) ومنها : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) ومنها : (نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ..)

٢٢٧

واستعارا. وقوله تعالى : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ) أي ذلك العذاب المذكور جزاؤهم بأنهم كفروا بآيات الله أي بسبب كفرهم بآيات الله. وقولهم إنكارا للبعث الآخر واستبعادا له : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) أي ترابا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) ورد الله تعالى على هذا الاستبعاد منهم للحياة الثانية فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أينكرون البعث الآخر؟ ولم يروا بعيون قلوبهم (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)؟؟! بلى إنه لقادر لو كانوا يعلمون!

وقوله تعالى : (وَ (١) جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً) أي وقتا محدودا معينا لهلاكهم وعذابهم (لا رَيْبَ فِيهِ) وهم صائرون إليه لا محالة ، وقوله : (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) أي مع هذا البيان والاستدلال العقلي أبى الظالمون إلا الجحود والكفران ليحق عليهم كلمة العذاب فيذوقوه والعياذ بالله تعالى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ عظم شهادة الله تعالى ووجوب الاكتفاء بها.

٢ ـ الهداية والاضلال بيد الله فيجب طلب الهداية منه والاستعاذة به من الضلال.

٣ ـ فظاعة عذاب يوم القيامة إذ يحشر الظالمون يمشون على وجوههم كالحيات وهم صم بكم عمي والعياذ بالله تعالى من حال أهل النار.

٤ ـ جهنم جزاء الكفر بآيات الله والانكار للبعث والجزاء يوم القيامة.

٥ ـ دليل البعث عقلي كما هو نقلي فالقادر على البدء ، قادر عقلا على الإعادة بل الاعادة ـ عقلا ـ أهون من البدء للخلق من لا شيء.

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ

__________________

(١) جملة : (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) معطوفة على جملة (أَوَلَمْ يَرَوْا) لتأويلها بمعنى : قد رأوا ذلك لو كانوا يعقلون.

الأجل : الزمن المجعول غاية يبلغ إليها في حال من الأحوال والمراد به هنا مدّة حياتهم.

٢٢٨

هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤))

شرح الكلمات :

(خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) : أي من المطر والأرزاق

(لَأَمْسَكْتُمْ) : أي منعتم الانفاق.

(خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) : خوف النفاد.

(قَتُوراً) : أي كثير الاقتار أي البخل والمنع للمال.

(تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) : أي معجزات بينات أي واضحات وهو اليد والعصا والطمس إلخ.

(مَسْحُوراً) : أي مغلوبا على عقلك ، مخدوعا.

(ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) : أي الآيات التسع.

(مَثْبُوراً) : هالكا بانصرافك عن الحق والخير.

(فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ) : أي يستخفهم ويخرجهم من ديار مصر.

(اسْكُنُوا الْأَرْضَ) : أي أرض القدس والشام.

(الْآخِرَةِ) : أي الساعة.

(لَفِيفاً) : أي مختلطين من أحياء وقبائل شتى.

معنى الآيات :

يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قل يا محمد لأولئك الذين يطالبون بتحويل جبل الصفا إلى ذهب ، وتحويل المنطقة حول مكة إلى بساتين من نخيل وأعناب تجري الأنهار من خلالها ، قل لهم ، لو كنتم أنتم تملكون خزائن رحمة ربي من الأموال والأرزاق لأمسكتم بخلابها ولم تنفقوها خوفا من نفادها إذ هذا طبعكم ، وهو البخل ، (وَكانَ الْإِنْسانُ) قبل هدايته وإيمانه (قَتُوراً) أي كثير التقتير بخلا وشحا نفسيا ملازما له حتى يعالج هذا الشح بما وضع الله تعالى من دواء نافع جاء بيانه في سورة المعارج (١) من هذا

__________________

(١) هو قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) إلى قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ).

٢٢٩

الكتاب الكريم.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ (١) بَيِّناتٍ) أي ، ولقد أعطينا موسى بن عمران نبي بني إسرائيل تسع آيات وهي : اليد ، والعصا والدم (٢) ، وانفلاق البحر ، والطمس على أموال آل فرعون ، والطوفان والجراد والقمل والضفادع ، فهل آمن عليها آل فرعون؟! لا ، إذا ، فلو أعطيناك ما طالب به قومك المشركون من الآيات الست التي اقترحوها وتقدمت في هذه السياق الكريم مبينة ، ما كانوا ليؤمنوا بها ، ومن هنا فلا فائدة من إعطائك إياها.

وقوله تعالى : (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي سل يا نبينا علماء بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره ، إذ جاءهم موسى بطالب فرعون بإرسالهم معه ليخرج بهم إلى بلاد القدس ، وأرى فرعون الآيات الدالة على صدق نبوته ورسالته وأحقية ما يطالب به فقال له فرعون : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) أي ساحرا لإظهارك ما أظهرت من هذه الخوارق ، ومسحورا بمعنى مخدوعا مغلوبا على عقلك فتقول الذي تقول مما لا يقوله العقلاء فرد عليه موسى بقوله بما أخبر تعالى به في قوله (لَقَدْ عَلِمْتَ) أي فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب السماوات أي خالقها ومالكها والمدبر لها (بَصائِرَ) أي آيات واضحات مضيئات هاديات لمن طلب الهداية ، فعميت عنها وأنت تعلم صدقها (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ) (٣) (مَثْبُوراً)! أي من أجل هذا أظنك يا فرعون ملعونا ، من رحمة الله مبعدا مثبورا هالكا. فلما أعيته أي فرعون الحجج والبينات لجأ إلى القوة ، (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي يستخفهم من أرض مصر بالقتل الجماعي استئصالا لهم ، أو بالنفي والطرد والتشريد ، فعامله الرب تعالى بنقيض ، قصده فأغرقه الله تعالى هو وجنوده أجمعين ، وهو معنى قوله تعالى : (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ) أي من الجنود أجمعين وقوله تعالى :

__________________

(١) روى الترمذي وصححه والنسائي عن صفوان بن عسال المرادي : أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله ، فقال : لا تقل له نبي فإنه إن سمعنا كان له أربعة أعين ، فأتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألاه عن قول الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) فقال : لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تشوا ببريىء إلى سلطان فيقتله ، ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفرّوا من الزحف ، وعليكم يا معشر يهود خاصة ألّا تعدوا في السبت فقبّلا يديه ورجليه وقالا : نشهد أنك نبي قال : ما يمنعكما أن تؤمنا؟ قالا : إن داود دعا الله ألّا يزال في ذريته نبي وإنّا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود). وعليه فالمراد بالآيات : آيات التشريع في التوراة ، وهذا وجه. ولا منافاة مع تفسير الآيات بالمعجزات التسع كما في التفسير.

(٢) لا خلاف في اليد والعصا والطوفان والجراد والقمّل والدم وإنما الخلاف في الثلاث الباقية وانفلاق البحر مجمع عليه وإنما في الطمس والحجر لأن الحجر كان في التيه بعد نجاة بني اسرائيل.

(٣) الظنّ هنا بمعنى التحقيق ، وذكر لكلمة مثبور عدة معان كلها صحيحة منها : الهلاك والخسران والخبال والمنع من الخير ، قال ابن الزّبعرى :

إذ أجاري الشيطان في سنن الغيّ ومن مال ميله مثبور أي هالك وخاسر.

٢٣٠

(وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد هلاك فرعون وجنوده لبني إسرائيل على لسان موسى عليه‌السلام (اسْكُنُوا الْأَرْضَ) أي أرض القدس والشام إلى نهاية آجالكم بالموت. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي يوم القيامة بعثناكم أحياء كغيركم ، (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي مختلطين من أحياء وقبائل وأجناس شتى لا ميزة لأحد على آخر ، حفاة عراة لفصل القضاء ثم الحساب والجزاء.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الشح من طبع الانسان إلا أن يعالجه بالإيمان والتقوى فيقيه الله منه (١).

٢ ـ الآيات وحدها لا تكفي لهداية الإنسان بل لا بد من توفيق إلهي.

٣ ـ مظاهر قدرة الله تعالى وانتصاره لأوليائه وكبت أعدائه.

٤ ـ بيان كيفية حشر الناس يوم القيامة لفيفا أخلاطا من قبائل وأجناس شتى.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩))

شرح الكلمات :

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) : أي القرآن.

(وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) : أي نزل ببيان الحق في العبادات والعقائد والأخبار والمواعظ والحكم والأحكام.

(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) : أن نزلناه مفرقا في ظرف ثلاث وعشرين سنة لحكمة اقتضت ذلك.

(عَلى مُكْثٍ) : أي على مهل وتؤده ليفهمه المستمع إليه.

__________________

(١) قال تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

٢٣١

(وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) : أي شيئا فشيئا حسب مصالح الأمة لتكمل به ولتسعد عليه.

(أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) : أي مؤمنوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي.

(لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) : أي سجدا على وجوههم ، ومن سجد على وجهه فقد خرّ على ذقنه ساجدا.

(إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) : منجزا ، واقعا ، فقد أرسل النبي الأمي الذي بشرت به كتبه وأنزل عليه كتابه.

معنى الآيات :

يقول تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أي ذلك الكتاب الذي جحد به الجاحدون ، وكذب به المشركون أنزلناه بالحق الثابت حيث لا شك أنه كتاب الله ووحيه إلى رسوله ، و (بِالْحَقِّ نَزَلَ) فكل ما جاء فيه ودعا إليه وأمر به. وأخبر عنه من عقائد وتشريع وأخبار ووعد ووعيد كله حق ثابت لا خلاف فيه ولا ريبة منه. وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي لم نرسلك لخلق الهداية في قلوب عبادنا ولا لإجبارهم بقوة السلطان على الإيمان بنا وتوحيدنا ، وإنما أرسلناك للدعوة والتبليغ (مُبَشِّراً) من أطاعنا بالجنة ومنذرا من عصانا مخوفا من النار. وفي هذا تقرير لرسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبوته وقوله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) أي أنزلنا القرآن وفرقناه في خلال ثلاث وعشرين سنة لحكمة منا اقتضت ذلك وقوله (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) آيات بعد آيات ليكون ذلك أدعى إلى فهم من يسمعه ويستمع إليه ، وقوله تعالى : (وَنَزَّلْناهُ (١) تَنْزِيلاً) أي شيئا فشيئا حسب (٢) مصالح العباد وما تتطلبه تربيتهم الروحية والانسانية ليكملوا به ، عقولا وأخلاقا وأرواحا ويسعدوا به في الدارين وقوله تعالى : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) أي قل يا رسولنا للمنكرين للوحي القرآني من قومك ، آمنوا به أولا تؤمنوا فإن إيمانكم به كعدمه لا يغير من واقعه شيئا فسوف يؤمن به ويسعد عليه غيركم إن لم تؤمنوا أنتم به وهاهم أولاء الذين أوتوا العلم من قبله من علماء أهل الكتابين اليهود والنصاري قد آمنوا به ، يريد أمثال عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي ، والنجاشي أصحم الحبشي وإنهم (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي يقرأ عليهم (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) أي يخرون ساجدين على أذقانهم ووجوههم ويقولون حال سجودهم (سُبْحانَ رَبِّنا) (٣)

__________________

(١) قال القرطبي : لا خلاف في أنه نزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة.

(٢) (تَنْزِيلاً) : مصدر مؤكد لنزوله نجما بعد نجم وهو معنى مفرّقا آية بعد آية وسورة بعد سورة حتى اكتمل نزوله.

(٣) في الآية دليل على مشروعية التسبيح في السجود وشاهده من السنة رواية مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : (كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول في سجوده وركوعه سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) وورد أنه فعله استجابة لقول الله تعالى (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) آخر سورة النصر.

٢٣٢

أي تنزيها له أن يخلف وعده إذ وعد أنه يبعث نبي آخر الزمان وينزل عليه قرآنا ، (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) إقرارا منهم بالنبوة المحمدية والقرآن العظيم ، أي ناجزا إذ وعد بإرسال النبي الخاتم وإنزال الكتاب عليه فأنجز ما وعد ، وهكذا وعد ربنا دائما ناجز لا يتخلف. وقوله (وَيَخِرُّونَ (١) لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) (٢) أي عند ما يسمعون القرآن لا يسجدون فحسب بل يخرون يبكون ويزيدهم سماع القرآن وتلاوته خشوعا في قلوبهم واطمئنانا في جوارحهم لأنه الحق سمعوه من ربهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ القرآن حق من الله وما نزل به كله حق.

٢ ـ الندب إلى ترتيل القرآن لا سيما عند قراءته على الناس لدعوتهم إلى الله تعالى.

٣ ـ تقرير نزول القرآن مفرقا في ثلاث وعشرين سنة.

٤ ـ تقرير النبوة المحمدية بنزول القرآن وإيمان من آمن به من أهل الكتاب.

٥ ـ بيان حقيقة السجود وأنه وضع الوجه على الأرض.

٦ ـ مشروعية السجود للقارىء أو المستمع وسنية ذلك عند قراءة هذه الآية وهي (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) فيخر ساجدا مكبرا في الخفض وفي الرفع قائلا : الله أكبر ويسبح ويدعو في سجوده بما يشاء.

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

__________________

(١) (الْأَذْقانِ) جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين ، والسجود على الجبهة والأنف وإنما ذكر الأذقان هنا لأنّ اللحية تصل إلى الأرض قبل الجبهة والأنف إذا كانت طويلة كما هي السنة.

(٢) دلت الآية على أن البكاء في الصلاة لا يقطعها ، والخلاف في النفخ والأنين والتنحنح والصحيح أنّ ما كان بحروف تسمع كان كلاما ويقطع الصلاة وما لم يكن بحرف فلا فقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبكي في صلاته ويسمع له أزيز كأزيز المرجل.

٢٣٣

شرح الكلمات :

(ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) : أي سموه بأيهما ونادوه بكل واحد منهما الله أو الرحمن.

(أَيًّا ما تَدْعُوا) : أي إن تدعوه بأيهما فهو حسن لأن له الأسماء الحسنى وهذان منها.

(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) : أي بقراءتك في الصلاة كراهة أن يسمعها المشركون فيسبوك ويسبوا القرآن ومن أنزله.

(وَلا تُخافِتْ بِها) : أي ولا تسر به إسرارا حتى ينتفع بقراءتك أصحابك الذين يصلون وراءك بصلاتك.

(وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) : أي اطلب بين السر والجهر طريقا وسطا.

(لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) : كما يقول الكافرون.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ) : كما يقول المشركون.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) : أي لم يكن له ولي ينصره من أجل الذل إذ هو العزيز الجبار مالك الملك ذو الجلال والاكرام.

(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) : أي عظمه تعظيما كاملا عن اتخاذ الولد والشريك والولي من الذل.

معنى الآيات :

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في دعائه يا ألله. يا رحمن ، يا رحمن يا رحيم فسمعه المشركون وهم يتصيدون له أية شبهة ليثيروها ضده فلما سمعوه يقول : يا الله ، يا رحمن قالوا : أنظروا إليه كيف يدعو إلهين وينهانا عن ذلك فأنزل الله تعالى (١) : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) أي قل لهم يا نبينا أدعوا الله أو أدعوا الرحمن فالله هو الرحمن الرحيم (أَيًّا ما تَدْعُوا) منهما الله أو الرحمن فهو الله ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى وقوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ (٢) بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي وسطا بين السر والجهر ، وذلك أن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبّوا قارئه ومن أنزله ، فأمر الله تعالى رسوله والمؤمنون تابعون له إذا قرأوا في صلاتهم أن لا يجهروا حتى لا

__________________

(١) فنزلت الآية مبيّنة أنهما الله والرحمن اسمان لمسمى واحد فإن دعي يا الله فهو ذاك وإن دعي يا رحمن فهو ذاك.

(٢) روى مسلم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) الخ قوله نزلت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوار بمكة وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به). فقال الله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) فيسمع المشركون قراءتك (وَلا تُخافِتْ بِها) عن أصحابك أي : أسمعهم القرآن ولا تجهر ذلك الجهر (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي : بين الجهر والمخافتة كان هذا في مكة ثمّ استقرّت السنة بالجهر في صلاة الصبح والمغرب والعشاء في الركعتين الأولتين والسر في صلاة الظهر والعصر وثالثة المغرب والأخيرتين من صلاة العشاء.

٢٣٤

يسمع المشركون قراءتهم ولا يسروا حتى لا يحرم سماع القرآن من يصلي وراءهم فأمر رسول الله بالتوسط بين الجهر والسر.

وقوله تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ (١) الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً). أي أمر الله تعالى الرسول أن يحمد الله الذي لم يتخذ ولدا كما زعم ذلك بعض العرب ، إذ قالوا الملائكة بنات الله! وكما زعم ذلك اليهود إذ قالوا عزير بن الله والنصارى إذ قالوا عيسى بن الله! (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) كما قال المشركون من العرب : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك!

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) كما قال الصابئون والمجوس : لو لا أولياء الله لذل الله!

(وَكَبِّرْهُ) أنت أو عظمه يا رسولنا تعظيما من أن يكون له وصف النقص والافتقار والعجز.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إن لله الأسماء الحسنى وهي مائة اسم إلا اسما واحدا (٢) فيدعى الله تعالى وينادى بأيّها ، وكلها حسنى كما قال تعالى في سورة الأعراف : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)

٢ ـ بيان ما كان عليه المشركون في مكة من بغض للرسول والقرآن والمؤمنين ..

٣ ـ مشروعية الأخذ بالاحتياط للدين كما هو للدنيا.

٤ ـ وجوب حمد الله تعالى والثناء عليه وتنزيهه عن كل عجز ونقص.

٥ ـ هذه الآية (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) تسمى آية العز هكذا سماها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) روي عن عمر أنه قال : الله أكبر خير من الدنيا وما فيها ، وورد أنّ هذه الآية (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) الخ خاتمة التوراة وفاتحتها أوّل سورة الأنعام.

(٢) الإجماع على أنه لا يصح وضع اسم لله تعالى بالنظر والاجتهاد وإنما أسماؤه وصفاته توقيفية مصدرها الوحي الإلهي : الكتاب والسنة.

٢٣٥

سورة الكهف (١)

مكية وآياتها عشر ومائة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦))

شرح الكلمات :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) : الحمد الوصف بالجميل ، والله علم على ذات الرب تعالى.

(الْكِتابَ) : القرآن الكريم.

(وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) : أي ميلا عن الحق والاعتدال في ألفاظه ومعانيه.

(قَيِّماً) : أي ذا اعتدال لا إفراط فيه ولا تفريط في كل ما حواه ودعا إليه من التوحيد والعبادة والآداب والشرائع والأحكام.

(بَأْساً شَدِيداً) : عذابا ذا شدة وقسوة وسوء عذاب في الآخرة.

__________________

(١) روى مسلم : (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال) وروى الدارمي في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : (من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق) .. وروي أيضا (أن من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نورا يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال).

٢٣٦

(مِنْ لَدُنْهُ) : من عنده سبحانه وتعالى.

(أَجْراً حَسَناً) : أي الجنة إذ هي أجر المؤمنين العاملين بالصالحات.

(كَبُرَتْ كَلِمَةً) : أي عظمت فريه وهي قولهم الملائكة بنات الله.

(إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) : أي ما يقولون إلا كذبا بحتا لا واقع له من الخارج.

(باخِعٌ نَفْسَكَ) : قاتل نفسك كالمنتحر.

(بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) : أي بالقرآن من أجل الأسف الذي هو الحزن الشديد.

معنى الآيات :

أخبر تعالى في فاتحة سورة الكهف (١) بأنه المستحق للحمد ، وأن الحمد لله وذكر موجب ذلك ، وهو إنزاله على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتاب الفخم العظيم وهو القرآن العظيم الكريم فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) وقوله تعالى ، (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (٢) أي ولم يجعل لذلك الكتاب العظيم عوجا أي ميلا عن الحق والاعتدال في ألفاظه ومعانيه فهو كلام مستقيم محقق للآخذ به كل سعادة وكمال في الحياتين. وقوله (قَيِّماً) أي معتدلا خاليا من الإفراط والتفريط قيما على الكتب السابقة مهيمنا عليها الحق فيها ما أحقه والباطل ما أبطله.

وقوله (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أي أنزل الكتاب الخالي من العوج القيم من أجل أن ينذر الظالمين من أهل الشرك والمعاصي عذابا شديدا في الدنيا والآخرة ينزل بهم من عند ربهم الذين كفروا به وأشركوا وعصوه وكذبوا رسوله وعصوه. ومن أجل أن يبشر بواسطته أيضا (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي يخبرهم بما يسرهم ويفرح قلوبهم وهو أن لهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وقوله تعالى : (وَيُنْذِرَ) بصورة خاصة أولئك المتقولين على الله المفترين عليه بنسبتهم الولد إليه فقالوا : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) وهم اليهود والنصارى وبعض مشركي العرب الذين قالوا ان الملائكة بنات الله! هذا ما دل عليه قوله تعالى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) وهو قول توارثوه لا علم لأحد منهم به ، وإنما هو مجرد كذب يتناقلونه

__________________

(١) روى ابن اسحق في سبب نزول سورة الكهف حديثا طويلا خلاصته أنّ وفدا من قريش أتوا اليهود بالمدينة وقالوا لهم أنتم أهل الكتاب فأخبرونا عن صاحبنا هذا ـ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالت اليهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل فإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فروا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان من أمرهم فإنه كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوافة قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ ؛ وسلوه عن الروح ما هي؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فانظروا في أمره ما بدالكم وأتى الوفد مكة وسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (أخبركم بما سألتم عنه غدا ؛ ولم يستثن أي : لم يقل إن شاء الله فانقطع الوحي نصف شهر ثم نزلت سورة الكهف وفيها جواب ما سألوا.

(٢) العوج : ضد الاستقامة وهو الانحراف في الذوات والمعاني وتكسر عينه وتفتح ، وقيل : الكسر في المعاني والفتح في الذّوات.

٢٣٧

بينهم لذا قبح الله قولهم هذا وعجب منه العقلاء ، فقال : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي عظم قولهم (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) كلمة قالوها تخرج من أفواههم لا غير إذ لا واقع لها أبدا ، وقرر الانكار عليهم فقال : (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أي ما يقولون إلا الكذب البحت الذي لا يعتمد على شيء من الصحة البتة. وقوله : (فَلَعَلَّكَ (١) باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) يعاتب الله تعالى رسوله ويخفف عنه ما يجده في نفسه من الحزن على عدم إيمان قومه واشتدادهم في الكفر والتكذيب وما يقترحونه عليه من الآيات أي فلعلك يا رسولنا قاتل نفسك على إثر رفض قومك للإيمان بك وبكتابك وما جئت به من الهدى ، حزنا عليهم ، وجزعا منهم ، فلا تفعل واصبر لحكم ربك فإنه منجز وعده لك بالنصر على قومك المكذبين لك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب حمد الله تعالى على آلائه وعظيم نعمه.

٢ ـ لا يحمد إلا من له ما يقتضي حمده ، وإلا كان المدح كذبا وزورا.

٣ ـ عظم شأن القرآن الكريم وسلامته من الافراط والتفريط والانحراف في كل ما جاء به.

٤ ـ بيان مهمة القرآن وهي البشارة لأهل الإيمان والإنذار لأهل الشرك والكفران.

٥ ـ التنديد بالكذب على الله ونسبة ما لا يليق بجلاله وكماله إليه كالولد ونحوه.

٦ ـ تحريم الانتحار وقتل النفس من الحزن أو الخوف ونحوه من الغضب والحرمان.

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي

__________________

(١) (باخِعٌ) مهلك نفسك ، قال ذو الرّمة :

ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه

بشيء نحته عن يديه المقادر

وفسّر ابن عباس رضي الله عنهما الباخع بقاتل نفسه من شدّة الحزن.

٢٣٨

الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢))

شرح الكلمات :

(صَعِيداً جُرُزاً) : أي ترابا لا نبات فيه ، فالصعيد هو التراب والجرز (١) الذي لا نبات فيه.

(الْكَهْفِ) : النقب الواسع في الجبل والضيق منه يقال له «غار»

(وَالرَّقِيمِ) : لوح حجري رقمت فيه أسماء أصحاب الكهف.

(أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) : اتخذوه مأوى لهم ومنزلا نزلوا فيه.

(الْفِتْيَةُ) : جمع فتى وهم شبان مؤمنون.

(هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) : أي ييسر لنا طريق رشد وهداية.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) : أي ضربنا على آذانهم حجابا يمنعهم من سماع الأصوات والحركات.

(سِنِينَ عَدَداً) : أي أعواما عدة.

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) : أي من نومهم بمعنى أبقظناهم.

(أَحْصى لِما لَبِثُوا) : أي أضبط لأوقات بعثهم في الكهف.

(أَمَداً) : أي مدة محدودة معلومة.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) من حيوان وأشجار ونبات وأنهار وبحار ، وقوله (لِنَبْلُوَهُمْ) أي لنختبرهم (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي أيهم أترك لها وأتبع لأمرنا ونهينا وأعمل فيها بطاعتنا وقوله : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أي وإنا لمخربوها في يوم ، من الأيام بعد عمارتها ونضارتها وزينتها نجعلها (صَعِيداً (٢) جُرُزاً) أي ترابا لا نبات فيه ، إذا فلا تحزن يا رسولنا ولا تغتم مما تلاقيه من قومك فإن مآل الحياة التي من أجلها عادوك وعصوننا إلى أن

__________________

(١) الجرز : القاحل الأجرد الذي لا نبات فيه.

(٢) الصعيد : وجه الأرض والجمع صعد ، والصعيد : الطريق أيضا لحديث الصحيح : (إياكم والقعود على الصعدات) أي : الطرق ، وجمع الجرز : أجراز يقال سنين أجراز لا مطر فيها ولا عشب ولا نبات.

٢٣٩

تصبح صعيدا جرزا. وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ (١) أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ (٢) كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) أي أظننت أيها النبي أن أصحاب الكهف أي الغار في الكهف والرقيم وهو اللوح الذي كتبت عليه ورقم أسماء أصحاب الكهف وأنسابهم وقصتهم (كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) (٣) أي كان أعجب من آياتنا في خلق ومخلوقات ، السموات والأرض بل من مخلوقات الله ما هو أعجب بكثير. وقوله : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) هذا شروع في ذكر قصتهم العجيبة ، أي اذكر للسائلين لك عن قصة هؤلاء الفتية ، إذ أووا إلى الغار في الكهف فنزلوا فيه ، واتخذوه مأوى لهم ومنزلا هروبا من قومهم الكفار أن يفتنوهم في دينهم وهم سبعة شبان ومعهم كلب لهم فقالوا سائلين ربهم : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي أعطنا من عندك رحمة تصحبنا في هجرتنا هذه للشرك والمشركين (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي ويسر لنا من أمرنا في فرارنا من ديار المشركين خوفا على ديننا (رَشَداً) (٤) أي سدادا وصلاحا ونجاة من أهل الكفر والباطل ، قال ابن جرير الطبري في تفسيره لهذه الآيات وقد اختلف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفتية إلى الكهف الذي ذكره الله في كتابه فقال بعضهم : كان سبب ذلك أنهم كانوا مسلمين على دين عيسى وكان لهم ملك عابد وثن دعاهم إلى عبادة الأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم أو يقتلهم فاستخفوا منه في الكهف وقوله تعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) أي فضربنا على آذانهم حجابا (٥) يمنعهم من سماع الأصوات والحركات فناموا في كهفهم سنين معدودة أي ثلاثمائة وتسع سنين ، وكانوا يتقلبون بلطف الله وتدبيره لهم من جنب إلى جنب حتى بعثهم من نومهم وهذا استجابة الله تعالى لهم إذ دعوه قائلين : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) وقوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي من نومهم ورقادهم (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا) أي في الكهف (أَمَداً) أي لنعلم علم مشاهدة ولينظر عبادي فيعلموا أي الطائفتين (٦) اللتين اختلفتا في قدر لبثهم في الكهف كانت أحصى لمدة لبثهم في الكهف حيث اختلف الناس إلى حزبين حزب يقول لبثوا في كهفهم كذا سنة وآخر يقول لبثوا إلى مدى أي غاية كذا من السنين.

__________________

(١) (أَمْ) هذه هي المنقطعة التي تقدّر ببل والاستفهام للتعجيب.

(٢) ويجمع الرقيم على رقم ، والرقيم : فعيل بمعنى مفعول أي : مرقوم بمعنى مكتوب.

(٣) إنّ إماتة الأحياء أعجب من إماتة أصحاب الكهف.

(٤) الرشد : بفتحتين : الخير ، وإصابة الحق والنفع والصلاح أيضا.

(٥) أي : حائلا كغشاوة ونحوها مما يحول دون السمع ، ومعنى ضربنا ، جعلنا أو وضعنا كقوله : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) أي : جعلت وألصقت بهم.

(٦) يبعد أن يكون المراد بالحزبين : هم أصحاب الكهف أنفسهم بل الذين اختلفوا فيهم حزبان من الأمة التي اكتشفتهم بعد مضيّ سنين عديدة.

٢٤٠