أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

(سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) : سأقص عليكم من حاله خيرا يحمل موعظة وعلما.

(مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) : بالحكم والتصرف في ممالكها.

(مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) : أي يحتاج إليه سببا موصلا إلى مراده.

(فَأَتْبَعَ سَبَباً) : أي فأتبع السبب سببا آخر حتى انتهى إلى مراده.

(تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) : ذات حماة وهي الطين الأسود وغروبها إنما هو في نظر العين وإلا فالشمس في السماء والبحر في الأرض.

(قَوْماً) : أي كافرين.

(عَذاباً نُكْراً) : أي عظيما فظيعا.

(يُسْراً) : أي لينا من القول سهلا من العمل.

(مَطْلِعَ الشَّمْسِ) : أي مكانا تطلع منه.

(قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) : القوم هم الزّنج ولم يكن لهم يومئذ ثياب يلبسونها ولا منازل يسكنونها وإنما لهم أسراب في الأرض يدخلون فيها.

(كَذلِكَ) : أي الأمر كما قلنا لك ووصفنا.

(بَيْنَ السَّدَّيْنِ) : السدان جبلان شمال شرق بلاد الترك سد ذو القرنين ما بينهما فقيل فيهما سدان.

(قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) : لا يفهمون كلام من يخاطبهم إلا بشدة وبطء وهم يأجوج ومأجوج.

معنى الآيات :

هذه قصة العبد الصالح ذي القرنين الحميري التّبعي على الراجح من أقوال العلماء ، وهو الأسكندر باني الأسكندرية المصرية ، ولأمر ما لقّب بذي القرنين (١) ، وكان قد تضمن سؤال قريش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإيعاذ من يهود المدينة ذا القرنين إذ قالوا لقريش سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فإن أجابكم عنها فإنه نبي ، وإلا فهو غير نبي فروا رأيكم فيه فكان الجواب عن الروح في سورة الإسراء وعن الفتية وذي القرنين في سورة الكهف هذه وقد تقدم

__________________

(١) اختلفوا في اسم ذي القرنين على أربعة أقوال هي : عبد الله أو الاسكندر أو عبّاس أو جابر ، كما اختلفوا في تلقيبه بذي القرنين على عشرة أقوال أمثلها أنه ملك فارس والروم أو أنه كان له ضفيرتان من شعر رأسه فلقب لذلك بذي القرنين ، واختلف في نبوته ، والظاهر أنه كان نبيّا يوحى إليه وكان ملكا حاكما.

٢٨١

الحديث التفصيلي عن أصحاب الكهف في أول السورة وهذا بدء الحديث المتضمن للإجابة عن الملك ذي القرنين عليه‌السلام قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ) يا نبينا (عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ) للسائلين من مشركي قريش (سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ (١) ذِكْراً) أي سأقرأ عليكم من أمره وشأنه العظيم ذكرا خبرا يحمل الموعظة والعلم والمعرفة : وقوله تعالى : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً.) هذه بداية الحديث عنه فأخبر تعالى أنه مكن له في الأرض بالملك والسلطان ، وأعطاه من كل شيء يحتاج إليه في فتحه الأرض ونشر العدل والخير فيها سببا يوصله إلى ذلك ، وقوله (فَأَتْبَعَ سَبَباً) (٢) حسب سنة الله في تكامل الأشياء فمن صنع إبرة وتابع الأسباب التي توصل بها إلى صنع الإبرة فإنه يصنع المسلة ، وهكذا تابعه بين أسباب الغزو والفتح والسير في الأرض (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) وهي على ساحل المحيط الأطلنطي ، وكونها تغرب فيها هو بحسب رأي العين ، وإلا فالشمس في السماء والعين الحمئة (٣) والمحيط إلى جنبها في الأرض وقوله تعالى : (وَوَجَدَ عِنْدَها) أي عند تلك العين في ذلك الإقليم المغربي (قَوْماً) أي كافرين غير مسلمين فأذن الله تعالى له في التحكم والتصرف فيهم إذ يسر له أسباب الغلبة عليهم وهو معنى قوله تعالى : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) وقد يكون نبيا ويكون قوله الله تعالى هذا له وحيا وهو (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) بالأسر والقتل ، (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) وهذا بعد حربهم والتغلب عليهم فأجاب ذو القرنين ربه بما أخبر تعالى به : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) (٤) أي بالشرك والكفر (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) بالقتل والأسر ، (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) بعد موته (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أي فظيعا أليما. (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي أسلم وحسن اسلامه (فَلَهُ جَزاءً) (٥) على إيمانه وصالح أعماله (الْحُسْنى) أي الجنة في الآخرة (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) فلا نغلظ له في

__________________

(١) (ذِكْراً) أي : خيرا يتضمن ذكره.

(٢) أصل : السبب : الحبل واستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء ، وأوتي ذو القرنين من كل شيء علما يتسبب به إلى ما يريد فتوصّل إلى فتح البلاد وقهر الأعداء وقرىء فأتبع سببا بقطع الهمزة وقرأ أهل المدينة فاتّبع سببا بهمزة وصل وتشديد التاء.

(٣) قرأ الجمهور : (حمئة) من الحماة أي كثيرة الحمأة وهي الطين الأسود وقرأ بعضهم حامية أي : حارة وجائز أن تكون حامية من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء.

(٤) أي : قال لأولائك القوم أمّا من ظلم .. الخ.

(٥) قراءة أهل المدينة فله جزاء الحسنى برفع جزاء بدون تنوين والحسنى مضاف إليه والخبر تقديره : عند الله. وقرأ غيرهم بنصب جزاء على التمييز أي : فله الحسنى جزاء ويجوز أن يكون منصوبا على المصدرية.

٢٨٢

القول ولا نكلفه ما يشق عليه ويرهقه.

وقوله تعالى : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أي ما تحصل عليه من القوة في فتح المغرب استخدمه في مواصلة الغزو والفتح في المشرق (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ (١) وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى (٢) قَوْمٍ) بدائيين لم تساعدهم الأرض التي يعيشون عليها على التحضر فلذا هم لا يبنون الدور ولا يلبسون الثياب ، ولكن يسكنون الكهوف والمغارات والسراديب وهو ما دل عليه قوله تعالى : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها) أي الشمس (سِتْراً). وقوله تعالى : (كَذلِكَ) (٣) أي القول الذي قلنا والوصف الذي وصفنا لك من حال ذي القرنين (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ) من قوة وأسباب مادية وروحية (خُبْراً) أي علما كاملا. وقوله تعالى : (ثُمَّ أَتْبَعَ) أي ذو القرنين (سَبَباً) أي واصل طريقه في الغزو والفتح (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) (٤) وهما جبلان بأقصى الشمال الشرقي للأرض بنى ذو القرنين بينهما سدا عظيما حال به دون غزو يأجوج ومأجوج للإقليم المجاور لهم ، وهم القوم الذين قال تعالى عنهم (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما (٥) قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) فلا يفهمون ما يقال لهم ويخاطبون به إلا بشدة وبطء كبير.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هذا جواب آخر أسئلة قريش الثلاثة. قرأه عليهم قرآنا موحى به إليه.

٢ ـ إتباع السبب السبب يصل به ذو الرأي والإرادة إلى تحقيق ما هو كالمعجزات.

٣ ـ قول : ذو القرنين : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ ...) الخ يجب أن يكون مادة دستورية يحكم به الأفراد والجماعات لصدقها وإجابيتها وموافقتها لحكم الله تعالى ورضاه ، ومن الأسف أن

__________________

(١) المطلع : يجوز فيه كسر الميم وفتحها مثل المنسك والمجزر والمسكن والمنبت هذه يجوز فيها وجهان الكسر والفتح في ميمها.

(٢) قال صاحب النوير : والظاهر أنه بلغ ساحل اليابان في حدود منشوريا أو كوريا شرقا.

(٣) جائز أن يكون المعنى : كذلك أمرهم كما قصصنا عليك وهو معنى ما في التفسير وجائز أن يكون كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها كذلك.

(٤) قرأ حفص بفتح السين ، وقرأ نافع بضمها ، ونظير السد في الفتح والضم الضعف والقر والقر.

(٥) قوله : من دونهما يعني أمام السدين لا خلفهما إذ خلفهما يأجوج ومأجوج.

٢٨٣

يعكس هذا القول السديد والحكم الرشيد فيصبح أهل الظلم مكرمين لدى الحكومات ، وأهل الإيمان والإستقامة مهانين!!

٤ ـ بيان وجود أمم بدائية إلى عهد ما بعد ذي القرنين لا يلبسون ثيابا ولا يسكنون سوى الكهوف والمغارات ويوجد في البلاد الكينية إلى الآن قبائل لا يرتدون الثياب ، وإنما يضعون على فروجهم خيوط وسيور لا غير.

٥ ـ تقرير أن هذا الملك الصالح قد ملك الأرض فهو أحد أربعة (١) حكموا الناس شرقا وغربا.

(قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١))

__________________

(١) هم : مسلمان وهما ذو القرنين وسليمان عليهما‌السلام ، وكافران وهما : النمرود وبختنصر. كذا قيل والله أعلم.

٢٨٤

شرح الكلمات :

(يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) : قبيلتان من أولاد يافث بن نوح عليه‌السلام والله أعلم.

(نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) : أي جعلا مقابل العمل.

(سَدًّا) : السد بالفتح والضم الحاجز المانع بين شيئين.

(رَدْماً) : حاجزا حصينا وهو السد.

(زُبَرَ الْحَدِيدِ) : جمع زبرة قطعة من حديد على قدر الحجرة التي يبنى بها.

(بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) : أي صدف الجبلين أي جانبهما.

(قِطْراً) : القطر النحاس المذاب.

(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) : أي عجزوا عن الظهور فوقه لعلوه وملاسته.

(نَقْباً) : أي فتح ثغرة تحت تحته ليخرجوا معها.

(جَعَلَهُ دَكَّاءَ) : أي ترابا مساويا للأرض.

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ) : أي يأجوج ومأجوج أي يذهبون ويجيئون في اضطراب كموج البحر.

(أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) : أي عن القرآن لا يفتحون أعينهم فيما تقرأه عليهم بغضا له أو أعين قلوبهم وهي البصائر فهي في أكنة لا تبصر الحق ولا تعرفه.

(لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) : لبغضهم للحق والداعي إليه.

معنى الآيات :

ما زال السياق في حديث ذي القرنين إذ شكا إليه سكان المنطقة الشمالية الشرقية من الأرض» بما أخبر تعالى به عنهم إذ قال : (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ (١) وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أي بالقتل والأكل والتدمير والتخريب ، (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) أي أجرا (٢) (عَلى

__________________

(١) (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) : اسمان أعجميان يهمزان ولا يهمزان ولذا قرىء في السبع بهما وهما ابنا يافث بن نوح عليه‌السلام ورد وصفهم أنّ صنفا منهم يفرش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى ، ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إلّا أكلوه ، ومن مات منهم أكلوه مقدّمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية ، وذلك يوم يفتح سدهم ويهدم ، وخروجهم من أشراط الساعة الكبرى.

(٢) الخرج والخراج : لغتان ، وقيل الخرج : ما يعطى تطوعا والخراج : ما يلزم عطاؤه والمراد به هنا الأجر مقابل العمل المطلوب من إقامة السدّ.

٢٨٥

أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي حاجزا قويا لا يصلون معه إلينا. فأجابهم ذو القرنين بما أخبر الله تعالى به في قوله : (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي) من المال القوة والسلطان (خَيْرٌ) أي من جعلكم وخرجكم (فَأَعِينُونِي (١) بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ (٢) رَدْماً) أي أي سدا قويا وحاجزا مانعا (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي قطع الحديد كل قطعة كالّلبنة المضروبة ، فجاءوا به إليه فأخذ يضع الحجارة وزبر الحديد ويبني حتى ارتفع البناء فساوى بين الصدفين جانبي الجبلين ، وقال لهم (انْفُخُوا) أي النار على الحديد (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) قال آتوني بالنحاس المذاب أفرغ عليه (٣) قطرا فأتوه به فأفرغ عليه من القطر ما جعله كأنه صفيحة واحدة من نحاس (فَمَا اسْطاعُوا) أي يأجوج ومأجوج (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي يعلوا فوقه ، (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) أي خرقا فلما نظر إليه وهو جبل شامخ وحصن حصين قال هذا من رحمة ربي أي من أثر رحمة ربي عليّ وعلى الناس وأردف قائلا (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) وهو خروج يأجوج ومأجوج عند قرب الساعة (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) أي ترابا مساويا للأرض ، (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) وهذا مما وعد به وانه كائن لا محالة قال تعالى : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي مختلطين مضطربين إنسهم (٤) وجنهم (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) نفخة البعث (فَجَمَعْناهُمْ) للحساب والجزاء (جَمْعاً وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) حقيقيا يشاهدونها فيه من قرب ، ثم ذكر ذنب الكافرين وعلة عرضهم على النار فقال : وقوله الحق : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) أي أعين قلوبهم وهي البصائر فلذا هم لا ينظرون في آيات الله الكونية فيستدلون بها على وجود الله ووجوب عبادته وتوحيده فيها ، ولا في آيات الله القرآنية فيهتدون بها إلى أنه لا إله إلا الله ويعبدونه بما تضمنته الآيات القرآنية ، (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) للحق ولما يدعوا إليه رسل الله من الهدى والمعروف.

__________________

(١) القوة : الرجال والمال.

(٢) الردم أعظم من السدّ.

(٣) جائز أن يكون المراد بالقطر النحاس المذاب وهذا الظاهر ، وجائز أن يكون الحديد المذاب والثالث : أنه الصفر والرابع أنه الرصاص. روى أحمد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما خلاصته أنّ يأجوج ومأجوج يحفران يوميا السدّ حتى إذا كادوا يخرقونه يقولون غدا نتم حفره وإذا جاء الغد حفروا ولم يقولوا إن شاء الله حتى إذا جاء وعد الله قالوا : إن شاء الله ففتح لهم.

(٤) جائز أن يكون المراد بمن يموج بعضهم في بعض : يأجوج ومأجوج وجائز أن يكون الإنس والجن وذلك يوم القيامة.

٢٨٦

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الجعالة للقيام بالمهام من الأعمال.

٢ ـ فضيلة التبرع بالجهد الذاتي والعقلي

٣ ـ مشروعية التعاون على ما هو خير ، أو دفع للشر.

٤ ـ تقرير وجود أمة يأجوج ومأجوج ، وأن خروجهم من أشراط الساعة.

٥ ـ تقرير البعث والجزاء.

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦))

شرح الكلمات :

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : الاستفهام للتقريع والتوبيخ.

(أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي) : كالملائكة وعيسى بن مريم والعزير وغيرهم.

(أَوْلِياءَ) : أربابا يعبدوهم بأنواع من العبادات.

(نُزُلاً) : النزل : ما يعد للضيف من قرى وهو طعامه وشرابه ومنامه.

(ضَلَّ سَعْيُهُمْ) : أي بطل عملهم وفسد عليهم فلم ينتفعوا به.

(يُحْسِنُونَ صُنْعاً) : أي بعمل يعمل يجازون عليه بالخير وحسن الجزاء.

(بِآياتِ رَبِّهِمْ) : أي بالقرآن وما فيه من دلائل التوحيد والأحكام الشرعية.

(وَلِقائِهِ) : أي كفروا بالبعث والجزاء.

(وَزْناً) : أي لا نجعل لهم قدرا ولا قيمة بل نزدريهم ونذلهم.

٢٨٧

(ذلِكَ) : أي أولئك جزاؤهم جهنم وأطلق لفظ ذلك بدل أولئك ، لأنهم بكفرهم وحبوط أعمالهم أصبحوا غثاء كغثاء السيل لا خير فيه ولا وزن له فحسن أن يشار إليه بذلك.

معنى الآيات :

ينكر تعالى على المشركين شركهم ويوبخهم مقرعا لهم على ظنهم أن اتخاذهم (١) عباده من دونه أولياء يعبدونهم كالملائكة حيث عبدهم بعض العرب والمسيح حيث عبده النصارى ، والعزير حيث عبده بعض اليهود ، لا يغضبه تعالى ولا يعاقبهم عليه. وكيف لا يغضبه ولا يعاقبهم عليه وقد أعد جهنم للكافرين نزلا أي دار ضيافة لهم فيها طعامهم وفيها شرابهم وفيها فراشهم كما قال تعالى (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٠٢) وهي قوله تعالى (أَفَحَسِبَ (٢) الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ (٣). إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً). وقوله تعالى في الآية الثانية (١٠٣) يخبر تعالى بأسلوب الاستفهام للتشويق للخبر فيقول (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) أيها المؤمنون (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) إنهم (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ (٤) فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) أي عملا ، ويعرفهم فيقول (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) فلم يؤمنوا بها ، وبلقاء ربهم فلم يعملوا العمل الذي يرضيه عنهم ويسعدهم به وهو الإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي شرعه الله لعباده المؤمنين به يتقربون به إليه. فلذلك حبطت أعمالهم لأنها شرك وكفر وشر وفساد ، (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (٥) إذ لا قيمة لهم ولا لأعمالهم الشركية الفاسدة الباطلة فإن أحدهم لا يزن جناح بعوضة لخفته.

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما إنهم الشياطين. وهو صحيح إذ الشياطين هم الذين زينوا لهم عبادة الملائكة والأنبياء والأولياء والأصنام ودعوهم إلى عبادتهم.

(٢) قرىء : أفحسب بإسكان السين وضم الباء أي. أفيكفيهم أن يتخذوهم أولياء؟

(٣) جواب الاستفهام محذوف تقديره : كلا بل هم أعداء يتبرؤن منهم وجائز أن يكون : ولا أغضب ولا أعاقبهم ، وكلا المعنيين يراد.

(٤) يدخل في هذا كل من المشركين واليهود والنصارى والحرورية والمراءون بأعمالهم ، وكل من يعمل الأعمال ، وهو يظن أنه محسن وقد حبطت أعماله لفساد اعتقاده ولمراءاته أو لعمله بغير ما شرع الله كأنواع البدع المكفّرة.

(٥) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إنّه ليؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال : اقرأوا إن شئتم : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً).

٢٨٨

وأخيرا أعلن تعالى عن حكمه فيهم وعليهم فقال (ذلِكَ) (١) أي المذكور من غثاء الخلق (جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ.) وعلل للحكم فقال : (بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) أي بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات ربهم وبرسله فكان الحكم عادلا ، والجزاء موافقا والحمد لله رب العالمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير شرك من يتخذ الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء آلهة يعبدوهم تحت شعار التقرب إلى الله تعالى والاستشفاع بهم والتوسل إلى الله تعالى بحبهم والتقرب إليهم.

٢ ـ تقرير هلاك أصحاب الأهواء الذين يعبدون الله تعالى بغير ما شرع ويتوسلون إليه بغير ما جعله وسيلة لرضاه وجنته. كالخوارج والرهبان من النصارى والمبتدعة الروافض والإسماعيلية ، والنصيرية والدروز ومن إليهم من غلاة المبتدعة في العقائد والعبادات والأحكام الشرعية.

٣ ـ لا قيمة ولا ثقل ولا وزن لعمل لا يوافق رضا الله تعالى وقبوله له ، كما لا وزن عند الله تعالى لصاحبه ، وإن مات خوفا من الله أو شوقا إليه.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ

__________________

(١) وجائز أن تكون الإشارة بذلك إلى ترك الوزن وخسة القدر والخبر : جزاؤهم جهنم. و (جَهَنَّمُ) بدل من (جَزاؤُهُمْ) بدلا مطابقا فيه زيادة توكيد.

٢٨٩

إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠))

شرح الكلمات :

(كانَتْ لَهُمْ) : أي جزاء إيمانهم وعملهم الصالح.

(الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) : هو وسط الجنة وأعلاها ونزلا منزل إكرام وإنعام.

(لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) : أي لا يطلبون تحولا منها لأنها لا خير منها أبدا.

(لَوْ كانَ الْبَحْرُ) : أي ماؤه مدادا.

(قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) : أي قبل أن تفرغ.

(لَنَفِدَ الْبَحْرُ) : أي ولم تنفد هي أي لم تفرغ.

(يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) : يأمل وينتظر البعث والجزاء يوم القيامة حيث يلقى ربه تعالى.

(وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) : أي لا يرائي بعمله أحدا ولا يشرك في عبادة الله تعالى غيره تعالى.

معنى الآيات :

بعد ما ذكر تعالى جزاء أهل الشرك والأهواء وأنه جهنم ناسب ذكر جزاء أهل الإيمان والتقوى التي هي عمل الصالحات واجتناب المحرمات فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي صدقوا الله ورسوله وآمنوا بلقاء الله ، ووعده لأوليائه ، ووعيده لأعدائه من أهل الشرك والمعاصي ، وعملوا الصالحات فأدوا الفرائض والواجبات وسارعوا في النوافل والخيرات هؤلاء (كانَتْ لَهُمْ) في علم الله وحكمه (جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ) (١) أي بساتين الفردوس منزلا ينزلونه ودار كرامة يكرمون فيها وينعمون ، والفردوس أعلى الجنة وأوسطها قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واصفا لها ومرغبا فيها وقد ارتادها وانتهى إلى مستوى فوقها ليلة الإسراء والمعراج قال : «إن سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى ، ومنه تفجر أنهار الجنة» ، كما في الصحيح (٢) ، وقوله تعالى (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ

__________________

(١) روى الشيخان من حديث أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (جنان الفردوس أربع : ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما ، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن).

(٢) وروى البخاري وغيره عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، الفردوس أعلاها ، ومنها تفجر أنهار الجنّة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس).

٢٩٠

عَنْها حِوَلاً) أي ماكثين فيها أبدا لا يطلبون متحولا عنها إذ نعيمهما لا يمل وسعادتها لا تنقص ، وصفوها لا يكدر وسرورها لا ينغص بموت ولا بمرض ولا نصب ولا تعب جعلني الله ومن قال أمين من أهلها. آمين. وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ (١) مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) تضمنت هذه الآية ردا على اليهود الذين لما نزل قول الله تعالى (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) في الرد عليهم لما سألوا عن الروح بواسطة وفد قريش إليهم. فقالوا : أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فأنزل الله تعالى قل لو كان البحر مدادا الآية ردا عليهم وإبطالا لمزاعمهم فأعلمهم وأعلم كل من يدعي العلم الذي مافوقه علم بأنه لو كان ماء البحر مدادا وكان كل غصن وعود في أشجار الدنيا كلها قلما ، وكتب بهما لنفد ماء البحر وأغصان الشجر ولم تنفد كلمات ربي التي تحمل العلوم والمعارف الإلهية وتدل عليها وتهدي إليها فسبحان الله وبحمده ، سبحانه الله العظيم سبحان الله الذي انتهى إليه علم كل شيء وهو على كل شيء قدير. وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ (٢) مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). يأمر تعالى رسوله بأن يقول للمشركين الذين يطلبون منه المعجزات كالتي أوتى موسى وعيسى : إنما أنا بشر مثلكم لا أقدر على ما لا تقدرون عليه أنتم ، والفرق بيننا هو أنه يوحى إلي الأمر من ربي وأنتم لا يوحى إليكم يوحى إلي أنما إلهكم أي معبودكم الحق وربكم الصدق هو إله واحد الله ربكم ورب آبائكم الأولين. وقوله (فَمَنْ (٣) كانَ يَرْجُوا) (٤) أي يأمل وينتظر (لِقاءَ رَبِّهِ) خوفا منه وطمعا فيه (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) وهو مؤمن موقن ، (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ (٥) رَبِّهِ أَحَداً) فإن الشرك محبط للعمل مبطل له ، وبهذا يكون رجاءه صادقا وانتظاره صالحا صائبا.

__________________

(١) المداد في أوّل الآية والمداد في آخرها بمعنى واحد واشتقاقها لا يختلف.

(٢) قال ابن عباس رضي الله عنهما علّم الله تعالى رسوله التواضع لئلا يزهى على خلقه فأمره أن يقرّ على نفسه بأنّه آدميّ كغيره إلّا أنه أكرم بالوحي.

(٣) روي في سبب نزول هذه الآية ما يلي : أتى جندب بن زهير الغامدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني أعمل لله تعالى فإذا اطلع عليه سرّني فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله طيّب لا يقبل إلا طيّبا ولا يقبل ما روئي فيه. فنزلت هذه الآية.

(٤) فسر (يَرْجُوا) بمعنى : يأمل وبمعنى يخاف وكلاهما مطلوب الخوف من الله ومن عذاب الآخرة ، والأمل في فضل الله وإحسانه وثوابه في الدنيا والآخرة.

(٥) فسّر سعيد بن جبير رحمه‌الله (وَلا يُشْرِكْ) بأن لا يرائي. وهو صحيح ولفظ الشرك أعم من الرياء.

٢٩١

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ بيان أفضل الجنان وهو الفردوس الأعلى.

٣ ـ علم الله غير متناهي لأن كلماته غير متناهية.

٤ ـ تقرير صفة الكلام لله تعالى.

٥ ـ تقرير بشرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه ليس روحا ولا نورا فحسب كما يقول الغلاة الباطنية.

٦ ـ تقرير التوحيد والتنديد بالشرك.

٧ ـ تقرير أن الرياء شرك لما ورد أن الآية نزلت في بيان حكم المرء يجاهد (١) يريد وجه الله ويرغب أن يرى مكانه بين الناس ، يصلى ويصوم ويحب أن يثنى عليه بذلك.

سورة مريم

مكية وآياتها ثمان وتسعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧))

__________________

(١) قال ابن عباس وطاووس. جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب أن يرى مكاني فنزلت هذه الآية وجائز تعدد النزول من أجل أن يجاب السائل بنفس الآية التي كانت جوابا لسؤال مماثل.

٢٩٢

شرح الكلمات :

(كهيعص) (١) : هذه من الحروف المقطعة تكتب كهيعص وتقرأ كاف ، هاء يا عين صاد. ومذهب السلف أن يقال فيها : الله أعلم بمراده بذلك.

(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) : أي هذا ذكر رحمة ربك.

(نادى رَبَّهُ) : أي قال : يا رب ليسأله الولد.

(نِداءً خَفِيًّا) : أي سر بعدا عن الرياء.

(وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) : أي رق وضعف لكبر سني

(وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) : أي انتشر الشيب في شعر رأسي انتشار النار في الحطب.

(وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) : أي إنك لم تخيبني فيما دعوتك فيه قبل فلا تخيبني اليوم فيما أدعوك فيه.

(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) : أي خشيت بني عمي أن يضيعوا الدين بعد موتي.

(امْرَأَتِي عاقِراً) : لا تلد واسمها أشاع وهي أخت حنة أم مريم.

(فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) : أي ارزقني من عندك ولدا.

(وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) : أي جدي يعقوب العلم والنبوة.

(وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) : أي مرضيا عندك.

(سَمِيًّا) : أي مسمى يحيى.

معنى الآيات :

أما قوله تعالى : كهيعص (٢) فإن هذا من الحروف المقطعة والراجح أنها من المتشابه الذي نؤمن به ونفوض فهم معناه لمنزله سبحانه وتعالى فنقول : (كهيعص) الله أعلم بمراده به.

وأما قوله تعالى : (ذِكْرُ (٣) رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) فإن معناه : مما تتلو (٤) عليك فى هذا القرآن يا نبينا

__________________

(١) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن الكاف من كاف والهاء من هاد والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق. وعن قتادة أنه اسم من أسماء القرآن ، وقيل : هو اسم للسورة وقيل : هي اسم الله الأعظم ، وكان علي يقول : يا كهيعص اغفر لي.

(٢) (كهيعص) : هذه حروف هجاء مكتوبة بمسمياتها مقروءة بأسمائها.

(٣) (ذِكْرُ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذا ذكر رحمة ربك وعبده : منصوب بالمصدر الذي هو ذكر.

(٤) بناء على أن ذكر رحمة ربك : خبر والمبتدأ محذوف فإنه يصح تقديره. هذا ذكر وذكر رحمة ربك ، وهذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمة ربك.

٢٩٣

فيكون دليلا على نبوتك ذكر رحمة ربك التي رحم بها عبده زكريا حيث كبرت سنه ، وامرأته عاقر لا يولد لها ورغب في الولد لمصلحة الدعوة الإسلامية إذ لا يوجد من يخلفه فيها إذا مات نظرا إلى أن الموجود من بني عمه ومواليه ليس بينهم كفؤ لذلك بل هم دعاة إلى السوء فنادى (١) ربه نداء خفيا قائلا : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي رق وضعف ، (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) أي شاب شعر رأسي لكبر سني ، (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي في يوم من الأيام بمعنى أنك عودتني الاستجابة لما أدعوك له ولم تحرمني استجابة دعائي فأشقى به دون الحصول على رغبتي. (وَإِنِّي) يا ربي قد (خِفْتُ (٢) الْمَوالِيَ) أن يضيعوا هذه الدعوة دعوة الحق التي هي عبادتك بما شرعت وحدك لا شريك لك ، وذلك بعد موتي (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) أي من عندك تفضلا به علي إذ الأسباب غير متوفرة للولد : المرأة عاقر وأنا شيخ كبير هرم ، (وَلِيًّا) أي ولدا يلي أمر هذه الدعوة بعد وفاتي فيرثني فيها (وَيَرِثُ (٣) مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) جدي ما تركوه بعدهم من دعوة أبيهم إبراهيم وهي الحنيفية عبادة الله وحده لا شريك له (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أي واجعل الولد الذي تهبني يا ربي (رَضِيًّا) أي عبدا صالحا ترضاه لحمل رسالة الدعوة إليك ، فأجابه الرب تبارك وتعالى بما في قوله : (يا زَكَرِيَّا (٤) إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى (٥) ، لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي من سمي باسمه يحيى قط.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخباره بهذا الذي أخبر به عن زكريا عليه‌السلام.

٢ ـ استحباب السرية في الدعاء لأنه أقرب إلى الاستجابة.

__________________

(١) النداء هنا : الدعاء والرغبة إلى الله تعالى ، وفيه استحباب دعاء السرّ والمناجاة الخفية ، وقد أسرّ مالك القنوت وجهر به الشافعي لأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهر به.

(٢) (الْمَوالِيَ) هنا : الأقارب وبنوا العم والعصبة الذين يلونه في النسب لأنّ العرب تسمّي بني العم موالي قال شاعرهم :

مهلا بني عمّنا مهلا موالينا

لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

(٣) المراد من الإرث هو : إرثه في دعوته لأنّ مواليه كانوا مهملين للدّين والدعوة فخاف ضياع ذلك فسأل ربه ولدا يقوم بذلك ، أمّا المال فإنّ الأنبياء لا يورثون وما يتركونه فهو صدقة.

(٤) في الكلام حذف تقديره : فاستجاب الله دعاءه فقال : يا زكريا .. الخ.

(٥) تضمنت هذه البشرى ثلاثة أمور : أحدها : إجابة دعائه وهي كرامة. الثاني : إعطاؤه الولد وهو قوّة له ، والثالث : إفراده بتسمية لم يسمّ بها أحد قبله ، قيل في قوله : (مِنْ قَبْلُ) إشارة إلى أنه سيخلف بعده من هو أشرف اسما وذاتا وحالا وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٩٤

٣ ـ وجود العقم في بعض النساء.

٤ ـ قدرة الله تعالى فوق الأسباب إن شاء تعالى أوقف الأسباب وأعطى بدونها.

٥ ـ تقرير مبدأ أن الأنبياء لا يورثون فيما يخلفون من المال كالشاه والبعير (١) وإنما يورثهم الله أولادهم في النبوة والعلم والحكمة.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

شرح الكلمات :

(أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ؟) : أي من أي وجه وجهة يكون لي ولد.

(عِتِيًّا) : أي يبست مفاصلي وعظامي.

(آيَةً) : أي علامة تدلني على حمل امرأتى

(سَوِيًّا) : أي حال كونك سويّ الخلق ما بك عليه خرس.

__________________

(١) والدينار والدرهم.

٢٩٥

(مِنَ الْمِحْرابِ) (١) : المصلى الذي يصلى فيه وهو المسجد.

(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) : أومأ إليهم وأشار عليهم.

(وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) : الحكم والحكمة بمعنى واحد وهما الفقه في الدين ومعرفة أسرار الشرع.

(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) : أي عطفا على الناس موهوبا له من عندنا.

(وَزَكاةً) : أي طهارة من الذنوب والآثام.

(جَبَّاراً عَصِيًّا) : أي متعاليا لا يقبل الحق عصيا لا يطيع أمر الله عزوجل وأمر والديه.

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ) : أي أمان له من الشيطان أن يمسه بسوء يوم يولد ، وأمان له من فتاني القبر يوم يموت ، وأمان له من الفزع الأكبر يوم يبعث حيا.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر رحمة الله عبده زكريا إنه لما بشره ربه تعالى بيحيى قال : ما أخبر به تعالى عنه في قوله : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (٢) أي من أي وجه وجهة يأتيني الولد أمن إمرأة غير امرأتي ، أم منها ولكن تهبني قوة على مباضعتها (٣) وتجعل رحمها قادرة على العلوق (٤) ، لأني كما تعلم يا ربي قد بلغت من الكبر حدا بئس فيه عظمي ومفاصلي وهو العتى كما أن امرأتي عاقر لا يولد لها. فأجابه الرب تبارك وتعالى بما في قوله عزوجل : (قالَ كَذلِكَ) أي الأمر كما قلت يا زكريا ، ولكن (قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي إعطاؤك الولد على ما أنت عليه من الضعف والكبر وامرأتك من العقر سهل يسير لا صعوبة فيه ويدلك على ذلك أني (قَدْ خَلَقْتُكَ (٥) مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) ، فكما قدر ربك على خلقك ولم تك شيئا فهو قادر على هبتك الولد على ضعفك وعقر امرأتك وهنا طالب زكريا ربه بأن يجعل له علامة تدله على وقت حمل امرأته بالولد فقال ما أخبر به تعالى في قوله : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) فأعطاه تعالى علامة على وقت حمل امرأته بالولد وهي أنه يصبح يوم بداية الحمل لا يقدر على الكلام

__________________

(١) المحراب : مكان مرتفع ، ومن هنا كره مالك أن يصلي الإمام في مكان أرفع من المكان الذي يصلي فيه الناس وراءه خشية الكبر عليه ، والكبر من كبائر الذنوب ولم يكره أحمد رحمه‌الله تعالى.

(٢) قرأ نافع عتيا بضم أوله كما : بكيّا وصليّا ، وبكسرها قرأ حفص ، والعتي : هو قحول العظم ويبوسته.

(٣) أي : جماعها من إدخال البضع في البضع.

(٤) أي : علوق النطفة في الرحم.

(٥) أي : فخلق الولد كخلقك.

٢٩٦

وهو سوي البدن ما به خرس ولا مرض يمنعه من الكلام ، (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) أي المصلى الذي يصلي فيه (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي أومأ وأشار (١) إليهم (أَنْ سَبِّحُوا (٢) بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٣) أي اذكروا الله في هذين الوقتين بالصلاة والتسبيح. وهنا علم بحمل امرأته إذ إمتناعه عن الكلام مع سلامة جسمه وحواسه آية على بداية الحمل. وقوله تعالى : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) هذا قول الله تعالى للغلام بعد بلوغه ثلاث سنين أمره الله تعالى أن يتعلم التوراة ويعمل بها بقوة جد وحزم وقوله (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ (٤) صَبِيًّا) أي وهبناه الفقه في الكتاب ومعرفة أسرار الشرع وهو صبي لم يبلغ سن الاحتلام. وقوله تعالى : (وَحَناناً مِنْ (٥) لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا) أي ورحمة منا به ومحبة له آتيناه الحكم صبيا كما أنه عليه‌السلام كان ذا حنان على أبويه وغيرهما من المسلمين وقوله (وَزَكاةً) أي طهارة من الذنوب باستعمال بدنه في طاعة ربه عزوجل (وَكانَ تَقِيًّا) أي خائفا من ربه فلا يعصه بترك فريضة ولا يفعل حرام.

وقوله تعالى : (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) أي محسنا بهما مطيعا لهما لا يؤذيهما أدنى أذى وقوله (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) أي لم يكن عليه‌السلام مستكبرا ولا ظالما ، ولا متمردا عاصيا لربه ولا لأبويه وقوله : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ (٦) وُلِدَ) أي أمان له من الشيطان يوم ولد ، وأمان له من فتانى القبر يوم يموت ، وأمان له من الفزع الأكبر يوم يبعث حيا ، فسبحان الله ما أعظم فضله وأجزل عطاءه على أوليائه ، اللهم أمنا كما أمنته فإنك ذو فضل عظيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ طلب معرفة السبب الذي يتأتى به الفعل غير قادح في صاحبه فسؤال زكريا عن الوجه الذي يأتي به الولد ، كسؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى.

__________________

(١) أو كتب إليهم كتابة.

(٢) إذ كان يأمرهم بالصلاة بكرة وعشيا فلما حملت امرأته أمرهم بالصلاة بالإشارة لأنه لم يقدر على الكلام إذ جعل الله تعالى عجزه عن الكلام علامة الحمل لامرأته.

(٣) (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ظرفان في الصباح والمساء.

(٤) يروى أنه قال له الأولاد : هيا بنا نلعب فقال لهم : ما للعب خلقت ، فهذا مما أوتيه من الحكم صبيّا.

(٥) الحنان : التعطف والترحم وأصله من حنين الناقة إلى فصيلها ، ويقال : حنانك وحنانيك وهما بمعنى واحد. قال طرفة :

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشر أهو من بعض

(٦) وجائز أن يكون المراد بالسلام هنا : التحية منه تعالى وهي أشرف من غيرها.

٢٩٧

٢ ـ جواز طلب العلامات الدالة على الشيء للمعرفة.

٣ ـ آية عجيبة أن يصبح زكريا لا يتكلم فيفهم غيره بالإشارة فقط.

٤ ـ فضل التسبيح في الصباح والمساء.

٥ ـ وجوب أخذ القرآن بجد وحزم قراءة وحفظا وعملا بما فيه.

٦ ـ صدق قول أهل العلم من حفظ القرآن في سن ما قبل البلوغ فقد أوتي الحكم صبيا.

٧ ـ وجوب البر بالوالدين ورحمتهما والحنان عليهما والتواضع لهما.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١))

شرح الكلمات :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) : أي القرآن مريم أي خبرها وقصتها.

(مَرْيَمَ) : هي بنت عمران والدة عيسى عليه‌السلام.

(إِذِ انْتَبَذَتْ) : أي حين اعتزلت أهلها باتخاذها مكانا خاصا تخلو فيه بنفسها.

(شَرْقِيًّا) : أي شرق الدار التي بها أهلها.

(حِجاباً) : أي ساترا يسترها عن أهلها وذويها.

(رُوحَنا) : جبريل عليه‌السلام.

٢٩٨

(بَشَراً سَوِيًّا) : أي تام الخلق حتى لا تفزع ولا تروع منه.

(إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) : أي عاملا بإيمانك وتقواك لله فابتعدعنى ولا تؤذني.

(غُلاماً زَكِيًّا) : ولدا طاهرا لم يتلوث بذنب قط.

(وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) : أي لم أتزوج.

(وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) : أي زانية.

(قالَ كَذلِكِ) : أي الأمر كذلك وهو خلق غلام منك من غير أب.

(هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) : ما هو إلا أن ينفخ رسولنا في كم درعك حتى يكون الولد.

(وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) : أي على عظيم قدرتنا.

(وَرَحْمَةً مِنَّا) : أي وليكون الولد رحمة بمن آمن به واتبع ما جاء به.

(أَمْراً مَقْضِيًّا) : أي حكم الله به وفرغ منه فهو كائن حتما لا محالة.

معنى الآيات :

هذه بداية قصة مريم عليهاالسّلام إذ قال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) أي القرآن الكريم (مَرْيَمَ) أي نبأها وخبرها ليكون ذلك دليلا على نبوتك وصدقك في رسالتك وقوله (إِذِ انْتَبَذَتْ) أي اعتزلت (مِنْ أَهْلِها) هذا بداية القصة وقوله (مَكاناً شَرْقِيًّا) أي موضعا شرقي دار قومها وشرق المسجد ، ولذا اتخذ النصارى المشرق قبلة لهم في صلاتهم ولا حجة لهم في ذلك إلا الابتداع وإلا فقبلة كل مصلي لله الكعبة بيت الله الحرام قوله تعالى : (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ) أي من دون أهلها (حِجاباً) ساترا لها عن أعينهم (١) ، ولما فعلت ذلك أرسل الله تعالى إليها جبريل في صورة بشر سوي الخلقة معتدلها ، فدخل عليها فقالت ما قص الله تعالى في كتابه (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي أحتمي بالرحمن الذي يرحم الضعيفات مثلي إن كنت مؤمنا تقيا فاذهب عني ولا تروعني أو تمسني بسوء. فقال لها جبريل عليه‌السلام ما أخبر تعالى به وهو (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ (٢) لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) إي طاهرا لا يتلوث بذنب قط. فأجابت بما أخبر تعالى عنها في قوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي

__________________

(١) قيل : استترت عن أهلها لتغتسل من حيضتها وتمتشط ، وذلك لكمال حيائها.

(٢) قرأ ورش عن نافع : ليهب بالياء بغير همزة ، وقرأ غيره : (لِأَهَبَ) بالهمزة فعلى قراءة نافع المعنى : أرسلني ليهب لك ، وعلى قراءة غيره أرسلني يقول لك أرسلت رسولي إليك لأهب لك.

٢٩٩

غُلامٌ) أي من أي وجه يأتيني الولد ، (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي وأنا لم أتزوج ، (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (١) أي ولم أك زانية ، فأجابها جبريل بما أخبر تعالى به في قوله : (قالَ كَذلِكِ) أي الأمر كما قلت ولكن ربك قال : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي خلقه بدون أب من نكاح أو سفاح ، لأنه هين علينا من جهة ، (وَلِنَجْعَلَهُ (٢) آيَةً لِلنَّاسِ) دالة على قدرتنا على خلق آدم بدون أب ولا أم ، والبعث الآخر من جهة أخرى. وقوله تعالى (رَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) (٣) أي ولنجعل الغلام المبشر به رحمة منا لكل من آمن به واتبع طريقته في الإيمان والاستقامة وكان هذا الخلق للغلام وهبته لك أمرا مقضيا أي حكم الله فيه وقضى به فهو كائن لا محالة ونفخ جبريل في جيب قميصها فسرت النفخة في جسمها فحملت به كما سيأتي بيانه في الآيات التالية.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان شرف مريم وكرامتها على ربها.

٢ ـ فضيلة العفة والحياء.

٣ ـ كون الملائكة يتشكلون كما أذن الله تعالى لهم.

٤ ـ مشروعية التعوذ بالله من كل ما يخاف من إنسان أو جان.

٥ ـ (٤) التقوى مانعة من فعل الأذى بالناس أو إدخال الضرر عليهم.

٦ ـ خلق عيسى آية مبصرة تتجلى فيها قدرة الله تعالى على الخلق بدأ وإعادة.

__________________

(١) لم تقل بغيّة لأنه وصف يغلب على النساء فقلما تقول العرب رجل بغي فجرى بغيا مجرى حائض وعاقر ، وقيل هو فعيل بمعنى فاعل والأوّل أولى.

(٢) (وَلِنَجْعَلَهُ) متعلق بمحذوف تقديره : ونخلقه لنجعله.

(٣) أي : مقدرا في اللوح المحفوظ كتاب المقادير العام.

(٤) بخلاف الفجور فإنه مصدر كل ضرّ وشرّ.

٣٠٠