أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

مرميا به يرميه السيل إلى ساحل الوادي فيعلق بالأشجار والأحجار ويرميه الصائغ عن بوتقته ، وأما ما ينفع الناس من الماء للسقي والري فيمكث في الأرض ، وكذا ما ينفع من الحلي والمتاع يبقى في بوتقة الصائغ (١) والحداد وقوله تعالى : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) أي مثل هذا المثل الذي ضربه للحق في بقائه والباطل في ذهابه وتلاشيه وإن علا وطغا في بعض الأوقات ، (يَضْرِبُ) أي بين الأمثال ، ليعلموا فيؤمنوا ويهتدوا فيكملوا ويسعدوا.

هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٧) وأما الآية الثانية (١٨) فقد أخبر تعالى بوعد له ووعيد أما وعده فلأهل طاعته بأن لهم الحسنى (٢) الجنة وأما وعيده فلأهل معصيته وهو أسوأ وعيد وأشده (٣) ، فقال تعالى في وعده : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) وقال في وعيده : (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي من مال ومتاع (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) أيضا لافتدوا به من العذاب الذي تضمنه هذا الوعيد الشديد ، ويعلن عن الوعيد فيقول : (أُولئِكَ) أي الأشقياء (لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) وهو أن يحاسبوا على كل صغيرة وكبيرة في أعمالهم ولا يغفر لهم منها شيء (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي مقرهم ومكان إيوائهم (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي الفراش جهنم لهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.

٢ ـ ثبات الحق ، واضمحلال الباطل سنة من سنن الله تعالى.

٣ ـ بيان وعد الله للمستجيبين له بالإيمان والطاعة وهي الجنة.

٤ ـ بيان وعيد الله لمن لم يستجب له بالإيمان والطاعة.

__________________

(١) هذا مثل للحق والباطل إذا اجتمعا فإنه لا ثبات للباطل ولا دوام له مثل الزبد مع الماء أو مع الحلية لا يبقى بل يذهب ويتلاشى ويضمحل والمراد من الحق والباطل : الإيمان والكفر ، واليقين والشك.

(٢) ومن الحسنى : النصر في الدنيا والتمكين فيها لأهل التوحيد.

(٣) وهو النار وبئس المهاد.

٢١

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤))

شرح الكلمات :

(كَمَنْ هُوَ أَعْمى) : أي لا يرى الحق ولا يعلمه ولا يؤمن به.

(أُولُوا الْأَلْبابِ) : أي أصحاب العقول.

(يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) : أي من الإيمان والتوحيد والأرحام.

(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ) : أي يدفعون بالحلم الجهل ، وبالصبر الأذى.

(عُقْبَى الدَّارِ) : أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) : أي جنات إقامة دائمة.

معنى الآيات :

لقد تضمنت هذه الآيات مقارنة ومفاضلة بين شخصيتين : الأولى شخصية مؤمن صالح كحمزة بن عبد المطلب والثانية شخصية كافر فاسد كأبي جهل المخزومي وبين ما

٢٢

لهما من جزاء في الدار الآخرة ، مع ذكر صفات كل منهما ، تلك الصفات المقتضية لجزائهما في الدار الآخرة قال تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) فيؤمن به بعد العلم ويستقيم على منهجه في عقيدته وعبادته ومعاملاته وسلوكه كله. هذه الشخصية الأولى (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) (١) لم يعلم الحق ولم يؤمن به ولم يعمل بما أنزل إلى الرسول من الشرع.

والجواب قطعا أنهما لا يستويان ولا يكونان في ميزان العدل والحق متساويين وقوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي يتعظ بمثل هذه المقارنة أصحاب العقول المدركة للحقائق والمفرقة بين المتضادّات كالحق والباطل والخير والشر والنافع والضار. وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُوفُونَ) هذا مشروع في بيان صفاتهم المقتضية إنعامهم وإكرامهم نذكر لهم ثماني صفات هي كالتالي : (١) الوفاء بالعهود وعدم نقضها : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ) (٢) (اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) (٣) إذ لا دين لمن لا عهد له. (٢) وصل ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان والإسلام والإحسان والأرحام : (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ). (٣) خشية الله المقتضية لطاعته : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ). (٤) الخوف من سوء الحساب يوم القيامة المقتضي لمحاسبة النفس على الصغيرة والكبيرة : (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ). (٥) الصبر طلبا لمرضاة الله على الطاعات وعن المعاصي ، وعلى البلاء : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ). (٦) إقامة الصلاة وهي اداؤها في أوقاتها جماعة بكامل الشروط والأركان والسنن والآداب : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ). (٧) الانفاق مما رزقهم الله في الزكاة والصدقات الواجبة والمندوبة : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ). (٨) دفع السيئة بالحسنة فيدرءون سيئة الجهل عليهم بحسنة الحلم ، وسيئة الأذى بحسنة (٤) الصبر.

وقوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أي العاقبة المحمودة وفسرها بقوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي إقامة لا ظعن منها يدخلونها هم (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)

__________________

(١) المراد من العمى هنا : عمى القلب لا عمى البصر ، والجهل هو سبب العمى.

(٢) العهد هنا : اسم جنس إذ المراد الوفاء بكافة عهود الله تعالى وهي أوامره ونواهيه التي وصي بها عباده.

(٣) الميثاق هنا : أيضا اسم جنس يدخل فيه كل المواثيق أي : إذا عقدوا في طاعة الله عهدا لم ينقضوه ، قال قتادة : ورد النهي عن نقض الميثاق في بضع وعشرين آية.

(٤) وسيئة المعصية بالتوبة منها. واللفظ العام الشامل هو أنهم يدفعون بالعمل الصالح كل عمل فاسد.

٢٣

والصلاح هنا الإيمان والعمل الصالح. وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) هذا عند دخولهم الجنة تدخل عليهم الملائكة تهنئهم بسلامة الوصول وتحقيق المأمول وتسلم عليهم قائلة : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) أي بسبب صبركم والإيمان والطاعة (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (١). هذه تهنئة الملائكة لهم وأعظم بها تهنئة وأبرك بها بركة اللهم اجعلني منهم ووالدي وأهل بيتي والمسلمين أجمعين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ المؤمن حيّ يبصر ويعلم ويعمل والكافر ميت أعمى لا يعلم ولا يعمل.

٢ ـ الاتعاظ بالمواعظ يحصل لذي عقل راجح سليم.

٣ ـ فضل هذه الصفات الثمانية المذكورة في هذه الآيات. أولها الوفاء بعهد الله وآخرها درء السيئة بالحسنة.

٤ ـ تفسير عقبى الدار (٢) وأنها الجنة.

٥ ـ بيان أن الملائكة تهنىء أهل الجنة عند دخولهم وتسلم عليهم.

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ

__________________

(١) جائز أن يكون معنى عقبى الدار : الجنة وجائز أن يكون عقبى الدار : دار الدنيا إذ عقباها الدار الآخرة وفيها الجنة ، إذا كانوا في دار الدنيا يعملون الصالحات فورثهم الله الجنة فكانت عقبى الدنيا إذ عقبى الدار بمعنى عاقبتها.

(٢) أي : فعقبى دار الدنيا الجنة هذا كقوله والعاقبة للتقوى ، وقوله (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) أي الجنة.

٢٤

قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩))

شرح الكلمات :

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) : أي يحلونه ولا يلتزمون به فلم يعبدوا ربهم وحده.

(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) : أي من الإيمان والأرحام.

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) : أي بترك الصلاة ومنع الزكاة ، وبارتكاب السيئات وترك الحسنات.

(لَهُمُ اللَّعْنَةُ) : أي البعد من رحمة الله تعالى.

(وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) : أي جهنم وبئس المهاد.

(وَيَقْدِرُ) : أي يضيق ويقتر.

(إِلَّا مَتاعٌ) : قدر يسير يتمتع به زمنا ثم ينقضي.

(طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) : أي لهم طوبى شجرة في الجنة وحسن منقلب وهو دار السّلام.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ) الآيات ، هذا هو الطرف المقابل أو الشخصية الثانية وهو من لم يعلم ولم يؤمن كأبي جهل المقابل لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ذكر تعالى هنا صفاته الموجبة لعذابه وحرمانه فذكر له ولمن على شاكلته الصفات التالية :

(١) نقض العهد فلم يعبدوا الله ولم يوحدوه وهو العهد الذى أخذ عليهم في عالم الأرواح : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ).

(٢) قطع ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان (١) وصلة الأرحام : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ).

__________________

(١) أي بسائر الأنبياء فلا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض كاليهود والنصارى.

٢٥

(٣) الإفساد في الأرض بالشرك والمعاصي : (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) (١) بهذه الصفات استوجبوا هذا الجزاء ، قال تعالى : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي البعد من الرحمة (وَلَهُمْ سُوءُ (٢) الدَّارِ) أي جهنم وبئس المهاد ، وقوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه وهي أنه يبسط الرزق أي يوسعه على من يشاء امتحانا هل يشكر أم يكفر ويضيّق ويقتّر على من يشاء ابتلاء هل يصبر أو يجزع ، وقد يبسط الرزق لبعض إذ لا يصلحهم إلا ذاك ، وقد يضيق على بعض إذ لا يصلحهم إلا ذاك ، فلن يكون الغنى دالّا على رضى الله ، ولا الفقر دالّا على سخطه تعالى على عباده ، وقوله : (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي فرح أولئك الكافرون بالحياة الدنيا لجهلهم بمقدارها وعاقبتها وسوء آثارها وما الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وهم أهل الإيمان به وطاعته إلا متاع قليل ككفّ التمر أو قرص الخبز يعطاه الراعي غذاء له طول النهار ثم ينفد ، وقوله تعالى في الآية (٢٧) : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ (٣) عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فقد تقدم مثل هذا الطلب من المشركين وهو مطالبة المشركين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تكون له آية كناقة صالح أو عصا موسى ليؤمنوا به وهم في ذلك كاذبون فلم يحملهم على هذا الطلب إلا الاستخفاف والعناد وإلا آيات القرآن أعظم من آية الناقة والعصا ، فلذا قال تعالى لرسوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) إضلاله ولو رأى وشاهد ألوف الآيات (٤) (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) ولو لم ير آية واحدة إلا أنه أناب إلى الله فهداه إليه وقبله وجعله من أهل ولايته ، وقوله تعالى في الآية (٢٨) (الَّذِينَ (٥) آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) أولئك الذين أنابوا إليه تعالى إيمانا وتوحيدا فهداهم إليه صراطا مستقيما هؤلاء تطمئن قلوبهم أي تسكن وتستأنس بذكر الله وذكر وعده وذكر صالحي عباده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وقوله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُ

__________________

(١) أي بالشرك وارتكاب المعاصي.

(٢) أي سوء المنقلب وهو جهنم. قال سعد ابن أبي وقاص : والله الذي لا إله إلا هو انهم الحرورية : بمعنى الخوارج.

(٣) المطالبون بالآيات المقترحون لها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. من بينهم عبد الله بن أمية وأصحابه.

(٤) الضمير في قوله : (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) : يعود على الحق أو الإسلام أو الله عزوجل. أي يهدي إلى جنته وطاعته من رجع إليه بقلبه والكل صالح ومراد.

(٥) (الَّذِينَ) : في محل نصب لأنه مفعول يهدي ، ويصح أن يكون بدلا من قوله : (أَنابَ) وذكر الله هو ذكره بألسنتهم وبقلوبهم وهو يشمل ذكر الوعد والوعيد وكمال الله كما يشمل قراءة كتابه وتلاوة آياته قال مجاهد : هم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقا هم ومن يأتي بعدهم ينهج نهجهم في الإيمان والتقوى.

٢٦

الْقُلُوبُ) أي قلوب المؤمنين أما قلوب الكافرين فإنها تطمئن لذكر الدنيا وملاذها وقلوب المشركين تطمئن لذكر أصنامهم ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا (١) وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى (٢) لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) إخبار من الله تعالى بما أعد لأهل الإيمان والعمل الصالح وهو طوبى حال من الحسن الطيب يعجز البيان عن وصفها أو شجرة في الجنة وحسن منقلب وهو الجنة دار السّلام والنعيم المقيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة الاتصاف بصفات أهل الشقاء وهي نقض العهد ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل والإفساد في الأرض بالشرك والمعاصي.

٢ ـ بيان أن الغنى والفقر يتمان حسب علم الله تعالى امتحانا وابتلاء فلا يدلان على رضا الله ولا على سخطه.

٣ ـ حقارة الدنيا وضآلة ما فيها من المتاع.

٤ ـ فضل ذكر الله وسكون القلب إليه.

٥ ـ وعد الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح بطوبى وحسن المآب.

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ

__________________

(١) (الَّذِينَ آمَنُوا) ، هذا مبتدأ ، والخبر : (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) يعطف عليه ، و (طُوبى) ورد أنها شجرة في الجنة ، ففي البخاري : (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها).

(٢) (طُوبى) مصدر طاب يطيب طيبا إذا أحسن وهي بوزن البشرى ، والزّلفى قلبت ياؤها واوا لمناسبة الضمة قبلها أي : الخير الكامل لأنهم اطمأنت قلوبهم بذكر الله فهم في طيب حال.

٢٧

بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٣٢)

شرح الكلمات :

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) : أي مثل ذلك الإرسال الذي أرسلنا به رسلنا أرسلناك.

(لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ) : أي لتقرأ عليهم القرآن تذكيرا وتعليما ونذارة وبشارة.

(وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) : إذ قالوا وما الرحمن وقالوا لا رحمن إلا رحمان اليمامة.

(سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) : أي نقلت من أماكنها.

(أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) : أي شققت فجعلت أنهارا وعيونا.

(أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) : أي أحيوا وتكلموا.

(أَفَلَمْ يَيْأَسِ) : أي يعلم.

(قارِعَةٌ) : أي داهية تقرع قلوبهم بالخوف والحزن وتهلكهم وتستأصلهم.

(أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) : أي القارعة أو الجيش الإسلامي.

(فَأَمْلَيْتُ) : أي أمهلت وأخرت مدة طويلة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير أصول العقائد : التوحيد والنبوة والبعث والجزاء الآخر ففي الآية الأولى من هذا السياق وهي قوله تعالى : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) فقرر نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٨

بقوله كذلك أي الإرسال (١) الذي أرسلنا من قبلك أرسلناك أنت إلى أمة قد خلت من قبلها أمم ، وبين فائدة الإرسال فقال : (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وهو الرحمة والهدى والشفاء (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) الرحمن (٢) الذى أرسلك لهم بالهدى ودين الحق لإكمالهم وإسعادهم يكفرون به ، إذا فقل أنت أيها الرسول هو ربي لا إله إلا هو أي لا معبود بحق إلا هو عليه توكلت وإليه متاب أي توبتي ورجوعي فقرر بذلك مبدأ التوحيد بأصدق عبارة وقوله تعالى في الآية الثانية (٣١) (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) الخ .. لا شك أن مشركي مكة كانوا طالبوه (٣) بما ذكر في هذه الآية إذ قالوا إن كنت رسولا فادع لنا ربك فيسر عنا هذه الجبال التي تكتنف وادينا فتتسع أرضنا للزراعة والحراثة وقطع أرضنا فأخرج لنا منها العيون والأنهار وأحيي لنا فلانا وفلانا حتى نكلمهم ونسألهم عن صحة ما تقول وتدعي بأنك نبي فقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) أي لكان هذا القرآن ، ولكن ليست الآيات (٤) هي التي تهدي بل لله الأمر جميعا يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، ولما صرفهم الله تعالى عن الآيات الكونية لعلمه تعالى أنهم لو أعطاهم إياها لما آمنوا عليها فيحق عليهم عذاب الإبادة كالأمم السابقة ، وكان من المؤمنين من يود الآيات الكونية ظنا منه أن المشركين لو شاهدوا آمنوا وانتهت المعركة الدائرة بين الشرك والتوحيد قال تعالى : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ (٥) الَّذِينَ آمَنُوا) أي يعلموا (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) بالآيات وبدونها فليترك الأمر له سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وقوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) أي من الشرك والمعاصي (قارِعَةٌ) أي داهية تقرع قلوبهم بالخوف والفزع ونفوسهم بالهم والحزن وذلك كالجدب والمرض والقتل والأسر (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي يحل الرسول بجيشه الإسلامي ليفتح مكة حتى يأتي وعد الله بنصرك أيها الرسول عليهم والآية

__________________

(١) هذا تشبيه في الإنعام أي : شبّه الإنعام على من أرسل إليهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله.

(٢) قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن ، والآية وإن لم تنزل بخصوص دعوى المشركين إلّا أنها تحمل ردا عليهم في دعواهم الباطلة.

(٣) تقدّم أن من بين المطالبين أبا جهل ، وعبد الله بن أمية المخزوميين إذ قالا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إن سرّك أن نتبعك فسيّر لنا جبال مكة بالقرآن فاذهبها عنا .. الخ.

(٤) أي : فليس ما تطلبونه مما يكون بالقرآن ، وإنّما يكون بأمر الله تعالى.

(٥) يئس ييأس بمعنى : علم يعلم لغة النخع ، والقرآن نزل بلغات العرب ، وقيل : لغة هوازن قال شاعرهم :

أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني

ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

٢٩

عامة فيمن بعد قريش ويكون الوعيد متناولا أمم الكفر عامة وها هي ذي الحروب تقرعهم كل قرن مرة ومرتين والحرب الذرية على أبوابهم ولا يزال أمرهم كذلك حتى يحل الجيش الإسلامي قريبا من دارهم ليدخلوا في دين الله أو يهلكوا ، (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) وقد أنجز ما وعد قريشا ، وفي الآية الأخيرة (٣٢) يخبر تعالى رسوله مسليا إياه عما يجد من تعب وألم من صلف المشركين وعنادهم فيقول له : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ (١) بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي كما استهزىء بك فصبروا فاصبر أنت ، (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي أمهلتهم وأنظرتهم حتى قامت الحجة عليهم ثم أخذتهم فلم أبق منهم أحدا (فَكَيْفَ (٢) كانَ عِقابِ) أي كان شديدا عاما واقعا موقعه ، فكذلك أفعل بمن استهزأ بك يا رسولنا إذا لم يتوبوا ويسلموا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد.

٢ ـ لا توكل إلا على الله ، ولا توبة لأحد إلا إليه.

٣ ـ عظمة القرآن الكريم وبيان فضله.

٤ ـ إطلاق لفظ اليأس (٣) والمراد به العلم.

٥ ـ توعد الرب تعالى الكافرين بالقوارع في الدنيا إلى يوم القيامة.

٦ ـ الله جل جلاله يملي ويمهل ولكن لا يهمل بل يؤاخذ ويعاقب.

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ

__________________

(١) أي : سخر بهم أزري عليهم ، وذلك كما سخرت قوم نوح بنوح ، وعاد بهود وثمود بصالح ومدين بشعيب.

(٢) الاستفهام للعجب.

(٣) في لغة النخع أو هوازن.

٣٠

الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥))

شرح الكلمات :

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ (١) عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) : أي حافظها ورازقها وعالم بها وبما كسبت ويجازيها بعملها.

(قُلْ سَمُّوهُمْ) : أي صفوهم له من هم؟

(أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ) : أي أتخبرونه بما لا يعلمه؟

(بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) : أي بظن باطل لا حقيقة له في الواقع.

(أَشَقُ) : أي أشد.

(واقٍ) : أي مانع يمنعهم من العذاب.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ) : أي صفتها التي نقصها عليك.

(أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) : أي ما يؤكل فيها دائم لا يفنى وظلها دائم لا ينسخ.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال التنديد بقوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٢) أي حافظها ورازقها وعالم بها وبما كسبت من خير وشر ومجازيها كمن لا يحفظ ولا يرزق ولا يعلم ولا يجزي وهو الأصنام ، إذا فبطل تأليهها ولم يبق إلا الإله الحق الله الذي لا إله إلا هو ولا رب سواه ، وقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) أي

__________________

(١) ليس القيام هنا ضد القعود بل هو التولّي لأمور الخلق بالحفظ والتدبير.

(٢) الجواب محذوف في الآية ، وقد ذكر في التفسير.

٣١

يعبدونهم معه (قُلْ سَمُّوهُمْ) (١) أي قل لهم يا رسولنا سموا لنا تلك الشركاء صفوهم بينوا من هم؟ (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ (٢) فِي الْأَرْضِ) أي أتنبئون الله بما لا يعلم في الأرض؟ (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي بل بظاهر (٣) من القول أي بظن باطل لا حقيقة له في الواقع.

وقوله تعالى : (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) أي قولهم الكاذب وافتراؤهم الماكر فبذلك (٤) صدوا عن السبيل سبيل الحق وصرفوا عنه فلم يهتدوا إليه ، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) وقوله تعالى : (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالقتل والأسر ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) أي أشد من عذاب الدنيا مهما كان (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) (٥) أي وليس لهم من دون الله من يقيهم فيصرفه عنهم ويدفعه حتى لا يذوقوه ، وقوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي لما ذكر عذاب الآخرة لأهل الكفر والفجور ذكر نعيم الآخرة لأهل الإيمان والتقوى ، فقال : (مَثَلُ (٦) الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي صفة الجنة ووصفها بقوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ (٧) وَظِلُّها) دائم كذلك فطعامها لا ينفد ، وظلها لا يزول ولا ينسخ بشمس كظل الدنيا ، وقوله : (تِلْكَ) أي الجنة (عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي ربهم فآمنوا به وعبدوه ووحدوه وأطاعوه في أمره ونهيه ، (وَعُقْبَى (٨) الْكافِرِينَ النَّارُ) والعقبى بمعنى العاقبة في الخير والشر.

__________________

(١) سموهم شركاء فإنهم ليس لهم حظ من ذلك إلّا التسمية فيكون الأمر للإباحة كناية عن عدم المبالاة بادعائهم أنهم شركاء ، وذكر هذا المعنى صاحب التحرير ، وهو معنى جميل.

(٢) أم هي المنقطعة ودلّت على أنّ ما بعدها استفهام إنكاري توبيخي ، وقوله ، (بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) وما لا يعلمه الله فليس بموجود إذ الله خالق كل شيء.

(٣) بل بظاهر من القول ليس بظاهر من الظهور بل هو بمعنى الزوال والبطلان وشاهده قول الشاعر ، وتلك شكاة ظاهر عليك عارها. أي : باطل زائل.

(٤) إنّ بعض المشركين زيّن للمشركين عبادة الأصنام ، ورغّبهم في عبادتها مكرا بهم فانخدعوا له ، وحسبوه زينا وذلك كعمرو بن لحيّ إذ هو أوّل من دعا إلى عبادة الأصنام في بلاد العرب.

(٥) (واقٍ) ، وقاض ووال : يوقف عليها بدون ياء ، إلّا إذا نودي نحو : يا قاضي يا والي فإنه يوقف عليه بالياء ومن : صلة لتقوية الكلام.

(٦) (مَثَلُ الْجَنَّةِ) : الخ : مبتدأ والخبر محذوف تقديره فيما يتلى عليكم : مثل الجنة ، وقيل الخبر : تجري من تحتها الأنهار. والأوّل أولى.

(٧) في الآية ردّ على الجهمية القائلين بفناء نعيم الجنة.

(٨) أي : عاقبة أمر المكذبين وآخرتهم النار يدخلونها.

٣٢

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد إذ الأصنام لا تحفظ ولا ترزق ولا تحاسب ولا تجزي ، والله هو القائم على كل نفس فهو الإله الحق وما عداه فآلهة باطلة لا حقيقة لها إلا مجرد أسماء.

٢ ـ استمرار الكفار على كفرهم هو نتيجة تزيين الشيطان لهم ذلك فصدهم عن السبيل.

٣ ـ ميزة القرآن الكريم في الجمع بين الوعد والوعيد إذ بهما تمكن هداية الناس.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩))

شرح الكلمات :

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) : أي كعبد الله بن سلام ومن آمن من اليهود.

(يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : أي يسرون به لأنهم مؤمنون صادقون ولأنه موافق لما عندهم.

(وَمِنَ الْأَحْزابِ) : أي من اليهود والمشركين.

(مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) : أي بعض القرآن فالمشركون أنكروا لفظ الرحمن وقالوا لا رحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب.

٣٣

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) : أي بلسان العرب لتحكم به بينهم.

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) : أي لكل مدة كتاب كتبت فيه المدة المحددة.

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) : أي يمحو من الأحكام وغيرها ويثبت ما يشاء فما محاه هو المنسوخ وما أبقاه هو المحكم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير أصول العقيدة : التوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، فقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) كعبد الله بن (١) سلام يفرحون بما أنزل إليك وهو القرآن وفي هذا تقرير للوحي وإثبات له ، وقوله : (وَمِنَ الْأَحْزابِ) ككفار أهل الكتاب (٢) والمشركين (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) فاليهود أنكروا أغلب ما في القرآن من الأحكام ولم يصدقوا إلا بالقصص ، والمشركون أنكروا «الرحمن» وقالوا لا رحمن إلا رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب عليه لعائن الله ، وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) أي أمرني ربي أن أعبده ولا أشرك به ، إليه تعالى أدعو الناس أي إلى الإيمان به وإلى توحيده وطاعته ، (وَإِلَيْهِ مَآبِ) (٣) أي رجوعي وإيابي وفي هذا تقرير للتوحيد ، وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) (٤) أي وكهذا الإنزال للقرآن أنزلناه بلسان العرب لتحكم بينهم به ، وفي هذا تقرير للوحي الإلهي والنبوة المحمدية ، وقوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بأن وافقتهم على مللهم وباطلهم في اعتقاداتهم ، وحاشا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعل وإنما الخطاب من باب .. إياك أعني واسمعي يا جارة .. (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) أي ليس لك من دون الله من ولي يتولى أمر نصرك وحفظك ، ولا واق يقيك عذاب الله إذا أراده بك لاتباعك أهل الباطل (٥) وتركك الحق وأهله ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا

__________________

(١) اللفظ عام والمراد به الخصوص ، ويدخل فيه أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم يفرحون بنزول القرآن قاله قتادة. وهو كما قال فقد كانوا يفرحون بكل ما ينزل من وحي.

(٢) لفظ أهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى معا ، لفظ البعض عام في القلة والكثرة ولذا فاليهود كالنصارى كالمشركين كالمجوس ينكرون من القرآن ما يتعارض مع معتقداتهم الباطلة ولا ينكرون ما لا يتعارض معها.

(٣) أي : أرجع في أموري كلها إليه دون غيره ، وفي هذا معنى الاعتماد على الله والتوكل عليه في الأمر كله.

(٤) (حُكْماً عَرَبِيًّا) : حالان من أنزلناه ، وقيل : المراد من (حُكْماً) الحكمة كقوله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي : الحكمة ، فالقرآن يحوي الحكم المعبر عنها بالعربية وكونه من الحكم أولى لأنّه يحكم به في الأمور كلها.

(٥) في الآية إنذار وتحذير عظيمان لمن يترك أوامر الله تعالى أو يغشى محارمه موافقة لأهل الباطل طلبا لرضاهم أو خوفا من غضبهم.

٣٤

رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) فلا معنى لما يقوله المبطلون : (١) لم يتخذ محمد أزواجا ولم تكون له ذرية؟ وهو يقول أنه نبي الله ورسوله ، فإن الرسل قبلك من نوح وإبراهيم إلى موسى وداوود وسليمان الكل كان لهم أزواج وذرية ، (٢) ولما قالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) رد الله تعالى عليهم بقوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فالرسل كلهم مربوبون لله مقهورون لا يملكون مع الله شيئا فهو المالك المتصرف إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم ، وقوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي لكل وقت محدد يعطي الله تعالى فيه أو يمنع كتاب كتب فيه ذلك الأجل وعيّن فلا فوضى ولا أنف (٣) ، وقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ردّ على قولهم لم يثبت الشيء ثم يبطله كاستقبال بيت المقدس ثم الكعبة وكالعدة من الحول إلى أربعة أشهر وعشرة أيام فأعلمهم أن الله تعالى ذو إرادة ومشيئة لا تخضعان لإرادة الناس ومشيئاتهم فهو تعالى يمحو ما يشاء من الشرائع والأحكام بحسب حاجة عباده ويثبت كذلك ما هو صالح لهم نافع ، (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٤) أي الذي حوى كل المقادير فلا يدخله تبديل ولا تغيير كالموت والحياة والسعادة والشقاء ، وفي الحديث : «رفعت الأقلام وجفت الصحف» رواه مسلم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة الوحي والنبوة.

٢ ـ تقرير عقيدة التوحيد.

٣ ـ تقرير أن القضاء والحكم في الإسلام مصدره الأول القرآن الكريم ثم السنة لبيانها للقرآن ، ثم القياس المأذون فيه فإجماع الأمة لاستحالة اجتماعها على غير ما يحب الله

__________________

(١) قيل : إنّ اليهود هم الذين عابوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأزواج وعيروه بذلك فقالوا ما نرى لهذا الرجل همة إلّا النساء والنكاح ، ولو كان نبيّا لشغله أمر النبوة عن النساء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وعليه فالآية مدنية.

(٢) في الآية : الترغيب في النكاح والحض عليه ، وهو كذلك فقد جاء في السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) وفي الموطأ : (من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة : ما بين لحييه وما بين رجليه).

(٣) أي : ولا بداء ، والبداء : أن يبدو له الشيء بعد أن لم يكن يعلمه.

(٤) صح قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من سرّه أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أجله فليصل رحمه) فهذا الحديث يفسر قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) أي : ما يشاء ، وقد تكلّم العلماء في هذا بشيء كثير وما أراه يوضح هذا هو أنّ الله تعالى لما كتب في اللوح المحفوظ كتب أنّ فلانا يصل رحمه فيكون رزقه كذا سعة ويكون أجله كذا طولا ، فصلة الرحم سبب في توسعة الرزق وطول العمر.

٣٥

تعالى ويرضى به.

٤ ـ التحذير من اتباع أصحاب البدع والأهواء والملل والنّحل الباطلة.

٥ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر.

٦ ـ بيان النسخ في الأحكام بالكتاب والسنة.

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

شرح الكلمات :

(نَعِدُهُمْ) : أي من العذاب.

(أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) : أي قبل ذلك.

(نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) : أي بلدا بعد بلد بالفتح ودخول الإسلام فيها وانتهاء الشرك منها.

(لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) : أي لا راد له بحيث لا يتعقب حكمه فيبطل.

(وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) : من مؤمني اليهود والنصارى.

معنى الآيات :

٣٦

قوله تعالى : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ (١) بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أي إن أريتك بعض الذي نعد قومك من العذاب فذاك ، وإن توفيتك قبل ذلك فليس عليك إلا البلاغ (٢) فقد بلغت وعلينا الحساب فسوف نجزيهم بما كانوا يكسبون ، فلا تأس أيها الرسول ولا تضق ذرعا بما يمكرون ، وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي المشركون الجاحدون الماكرون المطالبون بالآيات على صدق نبوة نبينا (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) (٣) أي نفتحها للإسلام بلدا بعد بلد أليس ذلك آية دالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة دعوته ، وقوله : (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي والله جل جلاله يحكم في خلقه بما يشاء فيعز ويذل ويعطي ويمنع وينصر ويهزم ، ولا معقب لحكمه أي ليس هناك من يعقب على حكمه فيبطله فإذا حكم بظهور الإسلام وإدبار الكفر فمن يرد ذلك على الله ، وقوله : (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) إذا حاسب على كسب فحسابه سريع يجزي الكاسب بما يستحق دون بطء ولا تراخ وقوله تعالى : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وقد مكرت أقوام قبل قريش وكفار مكة فكيف كان عاقبة مكرهم؟ إنها دمارهم أجمعين ، أما يخشى رؤساء الكفر في مكة من عاقبة كهذه؟ وقوله : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي إذا فلا عبرة بمكرهم ولا قيمة له فلا يرهب ولا يلتفت إليه وقوله : (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) من خير وشر فأين مكر من لا يعلم من مكر من يعلم كل شىء فسوف يصل بالممكور به إلى حافة الهلاك وهو لا يشعر ، أفلا يعي هذا كفار قريش فيكفوا عن مكرهم برسول الله ودعوته؟ وقوله تعالى : (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ (٤) عُقْبَى الدَّارِ) أي سيعلم المشركون خصوم التوحيد يوم القيامة لمن عقبى الدار أي العاقبة الحميدة لمن دخل الجنة وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه أو لمن دخل النار وهم دعاة الشرك والكفر وأتباعهم ، وقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) أي يواجهونك بالإنكار عليك والجحود لنبوتك ورسالتك قل لهم يا رسولنا الله شهيد بيني

__________________

(١) (ما) زائدة لتقوية الكلام والأصل وإن نرينك.

(٢) (الْبَلاغُ) : التبليغ و (الْحِسابُ) : الجزاء والعقوبة.

(٣) فسّر بعضهم الأطراف بالأشراف ، وقال : المراد موت العلماء ، وهو تفسير بعيد جدا ، وما في التفسير أقرب وأوضح إلى معنى الآية الكريمة ، ورد قول من قال هو نقصان الأرض بقول أحدهم لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك أي : مكان قضاء حاجتك.

(٤) قرأ نافع الكافر : بالافراد ، وهو اسم جنس بمعنى الجمع ، وقرأ الجمهور (الْكُفَّارُ) ، وقيل المراد بالكافر هنا : أبو جهل ، والله أعلم ، وفي الآية وعيد وتهديد للكفار مطلقا.

٣٧

وبينكم وقد شهد لي بالرسالة وأقسم لي عليها مرات في كلامه مثل (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وكفى بشهادة الله شهادة ، (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) الأول التوراة والإنجيل وهم مؤمنوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبد (١) الله بن سلام وسلمان الفارسي والنجاشي وتميم الداري وغيرهم (٢).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ انتصار الإسلام وانتشاره في ظرف ربع قرن أكبر دليل على أنه حق.

٢ ـ أحكام الله تعالى لا ترد ، ولا يجوز طلب الاستئناف على حكم من أحكام الله تعالى فى كتابه أو في سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ شهادة الله أعظم شهادة ، فلا تطلب بعدها شهادة إذا كان الخصام بين مؤمنين.

٤ ـ فضل العالم على الجاهل ، إذ شهادة مؤمني أهل الكتاب تقوم بها الحجة على من لا علم لهم من المشركين.

سورة ابراهيم

مكية وآياتها اثنتان وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)

__________________

(١) عبد الله بن سلام كان اسمه في الجاهلية : حصين فسمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله.

(٢) قال بعضهم : الذي عنده علم الكتاب هو علي رضي الله عنه ، وردّ على هذا القول ، وقال بعضهم : هم المسلمون ، كل ذلك من أجل أن السورة مكية ، وهذا غير مانع أن ينزل القرآن بمكة ويظهر تأويله بالمدينة ، ولا مانع أن تكون الآية مدنية والسورة مكية ، فلهذا ما في التفسير أولى بالقبول.

٣٨

اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥))

شرح الكلمات :

(الر) : هذا أحد الحروف المقطعة تكتب الر وتقرأ ألف لام را والتفويض فيها أسلم وهو قول الله أعلم بمراده بذلك (١).

(كِتابٌ) : أي هذا كتاب عظيم.

(أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) : يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مِنَ الظُّلُماتِ) : أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.

(الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) : أي المحمود بآلائه.

(عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي الإسلام.

(عِوَجاً) : أي معوجّة.

(بِآياتِنا) : أي المعجزات التسع : العصا ، اليد ، الطوفان ، الجراد ، القمل ،

__________________

(١) هذا مذهب السلف وهو : تفويض فهم معناها إلى الله تعالى منزلها ويعدونها من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله عزوجل.

وهو أسلم من القول بالإجهاد الفكري.

٣٩

الضفادع ، الدم ، والطمس والسنين ونقص الثمرات.

(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) : أي ببلائه ونعمائه.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (الر) الله أعلم بمراده وقوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) أي هذا كتاب عظيم القدر أنزلناه إليك يا رسولنا لتخرج الناس (١) من الظلمات أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم الشرعي ، وذلك (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه ومعونته (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي إلى طريق العزيز (٢) الغالب الحميد أى المحمود بآلائه وافضالاته على عباده وسائر مخلوقاته (اللهِ (٣) الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وتصريفا وتدبيرا ، هذا هو الله صاحب الصراط الموصل إلى الإسعاد والإكمال البشري ، والكافرون معرضون بل ويصدون عنه فويل لهم من عذاب شديد ، الكافرون (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (٤) أي يفضلون الحياة الدنيا فيعملون للدنيا ويتركون العمل للآخرة لعدم إيمانهم بها (وَيَصُدُّونَ) أنفسهم وغيرهم أيضا (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي الإسلام (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي معوجة إنهم يريدون من الإسلام أن يوافقهم فى أهوائهم وما يشتهون حتى يقبلوه ويرضوا به دينا قال تعالى : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) إنهم بهذا السلوك المتمثل في إيثار الدنيا على الآخرة والصد عن الإسلام ، ومحاولة تسخير الاسلام لتحقيق أطماعهم وشهواتهم في ضلال بعيد لا يمكن لصاحبه أن يرجع منه إلى الهدى ، وقوله تعالى في الآية (٤) من هذا السياق (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) (٥) أي بلغتهم التي يتخاطبون بها ويتفاهمون لحكمة أن يبين لهم ، والله بعد ذلك يضل من يشاء إضلاله

__________________

(١) لتخرج الناس : أي : بالقرآن العظيم الذي أنزلناه عليك.

(٢) الطريق هو الإسلام دين الله الذي لا يقبل دينا غيره.

(٣) قرأ نافع برفع اسم الجلالة ، وقرأ الجمهور بالجر ، واستحب بعضهم الجر إذا وصل والرفع إذا وقف وهو حسن ومن وصل وقف على وما في الأرض.

(٤) قال ابن عباس وغيره : كل من آثر الدنيا وزهرتها واستحب البقاء في نعيمها على نعيم الآخرة وصد عن سبيل الله أي : صرف نفسه وغيره عن طاعة الله ورسوله فهو داخل في هذه الآية ، وهي ذات وعيد شديد.

(٥) لا حجة لغير العرب في هذه الآية إذ كل من ترجم له الإسلام بلغته وجب عليه الدخول فيه والعمل بشرائعه ليكمل ويسعد ، وقد استعمرت برطانيا نصف العالم فتكلم الناس بلغتها وتعاملوا بها وهي لغة دنيا لا غير. فالواجب على غير العربي أن يتعلم لغة الإسلام ما أمكنه ذلك.

٤٠