أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣))

شرح الكلمات :

(هاجَرُوا) : أي إلى المدينة.

(مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) : أي فتنهم المشركون بمكة فعذبوهم حتى قالوا كلمة الكفر مكرهين.

(إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) : أي من بعد الهجرة والجهاد والصبر على الإيمان والجهاد.

(لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) : أي غفور لهم رحيم بهم.

(يَوْمَ تَأْتِي) : أي اذكر يا محمد يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها.

(مَثَلاً قَرْيَةً) : هي مكة.

(رِزْقُها رَغَداً) : أي واسعا.

(فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) : أي بالرسول والقرآن والأمن ورغد العيش.

(فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) : أي بسبب قحط أصابهم حتى أكلوا العهن لمدة سبع سنين.

(وَالْخَوْفِ) : حيث أصبحت سرايا الإسلام تغزوهم وتقطع عنهم سبل تجارتهم.

معنى الآيات :

بعد ما ذكر الله تعالى رخصة كلمة الكفر عند الإكراه وبشرط عدم انشراح الصدر بالكفر ذكر مخبرا عن بعض المؤمنين ، تخلفوا عن الهجرة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أرادوا الهجرة منعتهم قريش وعذبتهم حتى قالوا كلمة الكفر ، ثم تمكنوا من الهجرة فهاجروا وجاهدوا

١٦١

وصبروا فأخبر الله تعالى عنهم بأنه لهم مغفرته ورحمته ، فلا يخافون ولا يحزنون فقال تعالى (ثُمَّ إِنَ (١) رَبَّكَ) أيها الرسول (لِلَّذِينَ هاجَرُوا (٢) مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) أي عذّبوا (ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ (٣) بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي غفور لهم رحيم بهم.

وقوله تعالى : (يَوْمَ (٤) تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) أي اذكر ذلك واعظا به المؤمنين أي تخاصم طالبة النجاة لنفسها (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي من خير أو شر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لأن الله عدل لا يجور في الحكم ولا يظلم. وقوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) (٥) أي مكة (كانَتْ آمِنَةً) من غارات الأعداء (مُطْمَئِنَّةً) لا ينتابها فزع ولا خوف ، لما جعل الله تعالى في قلوب العرب من تعظيم الحرم وسكانه ، (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً) أي واسعا (مِنْ كُلِ (٦) مَكانٍ) حيث يأتيها من الشام واليمن في رحلتيهما في الصيف والشتاء (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) وهي تكذيبها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنكارها للتوحيد ، وإصرارها على الشرك وحرب الإسلام (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) فدعا عليهم الرسول اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف السبع الشداد ، فأصابهم القحط سبع سنوات فجاعوا حتى أكلوا الجيف والعهن ، وأذاقها لباس الخوف إذ أصبحت سرايا الإسلام تعترض طريق تجارتها بل تغزوها في عقر دارها ، وقوله تعالى (بِما كانُوا (٧) يَصْنَعُونَ) أي جزاهم الله بالجوع والخوف بسبب صنيعهم الفاسد وهو اضطهاد المؤمنين بعد كفرهم وشركهم وإصرارهم على ذلك. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَكَذَّبُوهُ) أي جحدوا رسالته وانكروا نبوته وحاربوا دعوته (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) عذاب الجوع والخوف والحال أنهم (ظالِمُونَ) أي مشركون وظالمون لأنفسهم حيث عرضوها

__________________

(١) لمّا كانت الهجرة لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرن الله تعالى اسمه مع اسم نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ) أي بمغفرته ورحمته للذين هاجروا.

(٢) هاجروا أولا إلى الحبشة ثم إلى المدينة النبوية.

(٣) أي : من بعد الحال التي كانت أيام تعذيبهم وفتنتهم على يد المشركين.

(٤) جائز أن يكون الظرف متعلقا بقوله : (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وجائز أن يكون معمولا لفعل محذوف تقديره : اذكر ومعنى تجادل : تخاصم وتحاج عن نفسها وفي الحديث : (أنّ كل نفس يوم القيامة تقول : نفسي نفسي) لشدة الهول.

(٥) هي مكة وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد دعا على أهلها فقال : (اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام.

(٦) من البرّ والبحر ، هذا كقوله تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ).

(٧) وقيل : إنّ القرية هذه هي المدينة قالت هذا حفصة وعائشة زوجتا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك لما قتل عثمان واشتد البلاء بأهل المدينة وعموم الآية ظاهر ، وكونها مكة أظهر.

١٦٢

بكفرهم إلى عذاب الجوع والخوف.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضل الهجرة والجهاد والصبر ، وما تكفر هذه العبادات من الذنوب وما تمحو من خطايا.

٢ ـ وجوب التذكير باليوم الآخر وما يتم فيه من ثواب وعقاب للتجافي عن الدنيا والإقبال على الآخرة.

٣ ـ استحسان ضرب الأمثال من أهل العلم.

٤ ـ كفر النعم بسبب زوالها والانتقام من أهلها.

٥ ـ تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ما جاء به ، ولو بالإعراض عنه وعدم العمل به يجر البلاء والعذاب.

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨))

١٦٣

شرح الكلمات :

(فَكُلُوا) : أي أيها الناس.

(حَلالاً طَيِّباً) : أي غير حرام ولا مستقذر.

واشكروا نعمة الله عليكم : أي بعبادته وحده وبالانتهاء إلى ما أحل لكم عما حرمه عليكم.

(إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) : أي إن كنتم تعبدونه وحده فامتثلوا أمره ، فكلوا مما أحل لكم وذروا ما حرم عليكم.

(الْمَيْتَةَ) : أي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير تذكية شرعية.

(وَالدَّمَ) : أي الدم المسفوح السائل لا المختلط باللحم والعظم.

(وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) : أي ما ذكر عليه غير اسم الله تعالى.

(غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) : أي غير باغ على أحد ، ولا عاد أي متجاوز حد الضرورة.

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) : أي لا تحللوا ولا تحرموا بألسنتكم كذبا على الله فتقولوا هذا حلال وهذا حرام بدون تحليل ولا تحريم من الله تعالى.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) : أي اليهود.

(حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) : أي في سورة الأنعام.

معنى الآيات :

امتن الله عزوجل على عباده ، فأذن لهم أن يأكلوا مما رزقهم من الحلال الطيب ويشكروه على ذلك بعبادته وحده وهذا شأن من يعبد الله تعالى وحده ، فإنه يشكره على ما أنعم به عليه ، وقوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ (١) عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فلا تحرموا ما لم يحرم عليكم كالسائبة والبحيرة والوصيلة التي حرمها المشركون افتراء على الله وكذبا. وقوله (فَمَنِ اضْطُرَّ) منكم أي خاف على نفسه ضرر الهلاك بالموت لشدة الجوع وكان (غَيْرَ باغٍ) على أحد ولا معتد ما أحل له إلى ما حرم عليه

__________________

(١) هذه الجملة بيان لمضمون جملة : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) لتمييز الطيّب من الخبيث وذكر تعالى هنا أربع محرمات وهي عشر جاءت في سورة المائدة إلّا أنّ هذه الأربعة هي الأصول وما دونها تابع لها : المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب فالخمسة الأولى تابعة للميتة والسادسة تابعة لما أهل به لغير الله.

١٦٤

فليأكل ما يدفع به غائلة الجوع ولا إثم عليه (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر للمضطر كما يغفر للتائب ويرحم المضطر فيأذن له في الأكل دفعا للضرر رحمة به كما يرحم من أناب إليه.

وقوله : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ (١) هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي ينهاهم عن التحريم والتحليل من تلقاء أنفسهم بأن يصفوا الشيء بأنه حلال أو حرام لمجرد قولهم بألسنتهم الكذب : هذا حلال وهذا حرام كما يفعل المشركون فحللوا وحرموا بدون وحي إلهي ولا شرع سماوي. ليؤول قولهم وصنيعهم ذلك الى الإفتراء على الله والكذب عليه. مع أن الكاذب على الله لا يفلح أبدا لقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ قَلِيلٌ) (٢) وإن تمتعوا قليلا في الدنيا بمال أو ولد أو عزة وسلطان فإن ذلك متاع قليل جدا ولا يعتبر صاحبه مفلحا ولا فائزا. فإن وراء ذلك العذاب الآخروي الأليم الدائم الذي لا ينقطع. وقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) يخاطب الله تعالى رسوله فيقول : كما حرمنا على هذه الأمة المسلمة الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، حرمنا على اليهود ما قصصنا عليك من قبل في سورة الأنعام. إذ قال تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ (٣) هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ). وحرم هذا الذي حرم عليهم بسبب ظلم منهم فعاقبهم الله فحرم عليهم هذه الطيبات التي أحلها لعباده المؤمنين. ولذا قال تعالى (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ يجب مقابلة النعم بالشكر فمن غير العدل أن يكفر العبد نعم الله تعالى عليه فلا يشكره عليها بذكره وحمده وطاعته بفعل محابه وترك مساخطه.

__________________

(١) (الْكَذِبَ) منصوب على المفعولية المطلقة أي : مطلق الكذب.

(٢) جملة : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) جملة بيانية في جواب قول من قال : كيف لا يفلحون وهم يمتعون بالطعام والشراب والنساء والأموال؟ فأجيب بأنّ هذا متاع قليل جدّا بالنظر إلى ما في الآخرة.

(٣) تقديم الجار والمجرور : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) للاهتمام وللاشارة إلى أنّ ذلك التحريم كان انتقاما منهم ولم يكن شرعا لإكمالهم وإسعادهم.

١٦٥

٢ ـ بيان المحرمات من المطاعم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله.

٣ ـ بيان الرخصة في الأكل من المحرمات المذكورة لدفع غائلة الموت.

٤ ـ حرمة التحريم والتحليل بغير دليل شرعي قطعي لا ظني إلا ما غلب على الظن تحريمه.

٥ ـ حرمة الكذب على الله وأن الكاذب على الله لا يفلح في الآخرة وفلاحه في الدنيا جزئ قليل لا قيمة له .. هذا إن أفلح.

٦ ـ قد يحرم العبد النعم بسبب ظلمه فكم حرمت أمة الإسلام من نعم بسبب ظلمها في عصور انحطاطها.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤))

شرح الكلمات :

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) : أي ثم إن ربك غفور رحيم للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا.

(مِنْ بَعْدِها) : أي من بعد الجهالة والتوبة.

١٦٦

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) : أي إماما جامعا لخصال الخير كلها قدوة يقتدى به في ذلك.

(قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) : أي مطيعا لله حنيفا : مائلا إلى الدين القيم الذي هو الإسلام.

(اجْتَباهُ) : أي ربه اصطفاه للخلة بعد الرسالة والنبوة.

(وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) : هي الثناء الحسن من كل أهل الأديان السماوية.

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) : أن اليهود أمروا بتعظيم الجمعة فرفضوا وأبوا إلا السبت ففرض الله عليهم ذلك وشدد لهم فيه عقوبة لهم.

معنى الآيات :

بعد ما نددت الآيات في سياق طويل بالشرك وإنكار البعث والنبوة من قبل المشركين الجاحدين المعاندين ، وقد أوشك سياق السورة على الانتهاء فتح الله تعالى باب التوبة لهم وقال : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ) أي بالمغفرة والرحمة (لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ (١) بِجَهالَةٍ) فأشركوا بالله غيره وأنكروا وحيه وكذبوا بلقائه (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) فوحدوه تعالى بعبادته وأقروا بنبوة رسوله وآمنوا بلقائه واستعدوا له بالصالحات (وَأَصْلَحُوا) ما كانوا قد أفسدوه من قلوبهم وأعمالهم وأحوالهم (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد هذه التوبة (٢) والأوبة الصحيحة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) بهم. فكانت بشرى لهم على لسان كتاب ربهم. وقوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ (٣) كانَ (٤) أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً ، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ (٥) مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إنه لما كان من شبه المشركين انهم على دين أبيهم ابراهيم باني البيت وشارع المناسك ومحرم الحرم ، واليهود والنصارى كذلك يدعون أنهم على ملة إبراهيم فأصر الجميع على أنه متبع لملة إبراهيم وأنه على دينه ورفضوا الإسلام بدعوى ما هم عليه هو دين الله الذي جاء به إبراهيم أبو الأنبياء عليه

__________________

(١) الجهالة : انتفاء العلم بما يجب أن يعلم ، والمراد بجهالتهم : جهالتهم بأدلة الشرع المحرّمة للشرك والكفر والفساد ، والموجبة للتوحيد وطاعة الله ورسوله. والباء : في (بِجَهالَةٍ) : للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير عملوا.

(٢) وجائز أن يعود الضمير على الجهالة أيضا كما جائز أن يعود على التوبة.

(٣) (إِنَّ إِبْراهِيمَ) ؛ هذه الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لغرض التنويه بدين الإسلام الذي هو دين ابراهيم من قبل.

(٤) الأمّة : الجامع للخير ، والقانت : المطيع لله تعالى ، والحنيف : المائل إلى الحق المجانب للباطل.

(٥) في الآية الدليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول ولا تبعة على الفاضل أي : لا غضاضة عليه ولا مساس بمقامه

١٦٧

السّلام ، ومن باب إبطال الباطل وإزاحة ستار الشبه وتنقية الحق لدعوة الحق والدين الحق ذكر تعالى جملة من حياة إبراهيم الروحية والدينية كمثال حي ناطق لكل عاقل إذا نظر إليه عرف هل هو متبع لإبراهيم يعيش على ملته أو هو على غير ذلك. فقال تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ (١) أُمَّةً) أي إماما صالحا جامعا لخصال الخير ، يقتدي به كل راغب في الخير. هذا أولا وثانيا أنه كان قانتا أي مطيعا لربه فلا يعصي له أمرا ولا نهيا ثالثا لم يك من المشركين بحال من الأحوال بل هو برىء من الشرك وأهله ، ورابعا كان شاكرا لأنعم الله تعالى عليه أي صارفا نعم الله عليه فيما يرضي الله ، خامسا اجتباه ربه أي اصطفاه لرسالته وخلته لأنه أحب الله أكثر من كل شيء فتخلل حب الله قلبه فلم يبق لغيره في قلبه مكان. فخالّه الله أي بادله خلة بخلّة فكان خليل الرحمن. سادسا وهداه إلى صراط مستقيم الذي هو الإسلام ، سابعا وآتاه في الدنيا حسنة وهي الثناء الحسن والذكر الجميل من جميع أهل الأديان الإلهية الأصل. ثامنا وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين قال الله تعالى فيهم : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وهي منزلة من أشرف المنازل وأسماها. تاسعا مع جلالة قدر النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورفعة مكانته أمره الله تعالى أن يتبع ملة إبراهيم حنيفا.

هذا هو إبراهيم فمن أحق بالنسبة إليه ، المشركون؟ لا! اليهود؟ لا ، النصارى؟ لا! المسلمون الموحدون؟ نعم نعم اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وأكرمنا يوم تكرمهم.

وقوله تعالى : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ (٢) عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) فيه دليل على بطلان دعوى اليهود أنهم على ملة إبراهيم ودينه العظيم ، إذ تعظيم السبت لم يكن من دين إبراهيم ،

__________________

(١) قال مالك : بلغني أنّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : يرحم الله معاذا كان أمّة قانتا فقيل له : يا أبا عبد الرحمن إنّما ذكر الله عزوجل بهذا إبراهيم عليه‌السلام فقال عبد الله : (إن الأمة الذي يعلّم الناس الخير وإنّ القانت : هو المطيع).

(٢) أي : لم يكن في شرع ابراهيم ولا من دينه ، إذ كان دين ابراهيم سمحا لا تغليظ فيه والسبت تغليظ على اليهود في ترك الأعمال وترك التبسّط في المعاش بسبب اختلافهم فيه أي : اختلفوا في يوم الجمعة بعدما أمروا بتعظيمه فأبت اليهود إلّا السبت بدعوى أنّ الله فرغ من الخلق فيه. واختار النصارى الأحد : لأنّ الله ابتدأ الخلق فيه ، وهدى الله أمّة الإسلام ليوم الجمعة الذي اختلفوا فيه ففي البخاري يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة ، ونحن أوّل من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق ، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له «يوم الجمعة».

١٦٨

وإنما سببه أن الله تعالى أوحى إلى أحد أنبيائهم أن يأمر بني إسرائيل بتعظيم الجمعة فاختلفوا في ذلك وآثروا السبت عنادا ومكابرة فكتب الله عليهم تعظيم السبت. وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيه وعيد لهم وأنه سيجزيهم سوءا على تمردهم على أنبيائهم واختلافهم عليهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ باب التوبة مفتوح لكل ذي ذنب عظم أو صغر على شرط صدق التوبة بالإقلاع الفوري والندم والاستغفار الدائم وإصلاح الفاسد.

٢ ـ تقرير التوحيد والإعلان عن شأن إبراهيم عليه‌السلام وبيان كمالاته وانعام الله عليه.

٣ ـ بيان أن سبت اليهود هو من نقم الله عليهم لا من نعمه وافضاله عليهم.

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))

شرح الكلمات :

(إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) : أي إلى طاعته إذ طاعة الله موصلة إلى رضوانه وإنعامه فهي سبيل الله.

(بِالْحِكْمَةِ) : أي بالقرآن والمقالة المحكمة الصحيحة ذات الدليل الموضح للحق.

(وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) : هي مواعظ القرآن ، والقول الرقيق الحسن.

١٦٩

(وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : أي بالمجادلة التي هي أحسن من غيرها.

(لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) : أي خير من الإنتقام عاقبة.

(وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) : أي لا تهتم بمكرهم ، ولا يضيق صدرك به.

(مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) : أي اتقوا الشرك والمعاصي.

(وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) : أي في طاعة الله ، ومعيته تعالى هي نصره وتأييده لهم في الدنيا.

معنى الآيات :

يخاطب الرب تعالى رسوله تشريفا وتكليفا : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) (١) أي إلى دينه وهو الإسلام سائر الناس ، وليكن دعاؤك (بِالْحِكْمَةِ) التي هي القرآن الكريم الحكيم (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) وهي مواعظ القرآن وقصصه وأمثاله ، وترغيبه وترهيبه ، (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي خاصمهم بالمخاصمة التي هي أحسن وهي الخالية من السب والشتم والتعريض بالسوء ، فإن ذلك أدعى لقبول الخصم الحق وما يدعي إليه ، وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) من الناس (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وسيجزيهم المهتدي بهداه ، والضال بضلاله ، كما هو أعلم بمن ضل واهتدى أزلا. فهون على نفسك ولا تشطط في دعوتك فتضر بنفسك ، والأمر ليس إليك. بل لربك يهدي من يشاء ويضل من يشاء وما عليك إلا الدعوة بالوصف الذي وصف لك ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، وقوله تعالى (وَإِنْ عاقَبْتُمْ (٢) فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) لا أكثر ، (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) وتركتم المعاقبة (لَهُوَ) أي صبركم (خَيْرٌ) لكم من المعاقبة على الذنب والجناية ، وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ) على ترك ما عزمت عليه أيها الرسول من التمثيل بالمشركين جزاء تمثيلهم بعمك حمزه ، فأمره بالصبر ولازمه ترك المعاقبة والتمثيل معا ، وقوله : (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي إلا بتوفيقه وعونه ، فكن مع ربك

__________________

(١) قال القرطبي : هذه الآية نزلت بمكة في وقت مهادنة قريش ، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلّطف ولين دون مخاشنة وعنف ، وهكذا ينبغي أن يدعو المسلمون إلى يوم القيامة.

(٢) جمهور المفسرين على أن هذه الآية : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ...) الخ نزلت بالمدينة في شأن قتل حمزة والتمثيل به رضي الله عنه وأرضاه يوم أحد ذكر ذلك البخاري وغيره وفي الآية دليل على وجوب المماثلة في القصاص ويحرم عدمها. وفي الآية دليل لمن قال بجواز أخذ مال من أخذ مال غيره إذا لم يتمكن منه بعلمه ورضاه على شرط أن لا يأخذ أكثر مما أخذ منه.

١٧٠

تستمد منه الصبر كما تستمد منه العون والنصر. وقوله تعالى : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي على عدم اهتدائهم إلى الحق والأخذ به والسير في طريقه الذي هو الإسلام (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) (١) نفسي يؤلمك (مِمَّا يَمْكُرُونَ) بك فإن الله تعالى كافيك مكرهم وشرهم إنه معك فلا تخف ولا تحزن لأنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأنت منهم. وقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ (٢) اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) يخبر تعالى رسوله والمؤمنين أنه عزوجل بنصره وتأييده ومعونته وتوفيقه مع الذين اتقوا الشرك والمعاصي فلم يتركوا فرائض دينه ، ولم يغشوا محارمه والذين هم محسنون فى طاعة ربهم إخلاصا في النية والقصد ، وأداء على نحو ما شرع الله وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الدعوة إلى الله تعالى أي إلى الإسلام وهو واجب كفائى ، إذا قامت به جماعة أجزأ ذلك عنهم.

٢ ـ بيان أسلوب الدعوة وهو أن يكون بالكتاب والسنة وأن يكون خاليا من العنف والغلظة والشدة ، وأن تكون المجادلة بالتي هي أحسن من غيرها.

٣ ـ جواز المعاقبة بالأخذ بقدر ما أخذ من المرء ، وتركها صبرا واحتسابا أفضل.

٤ ـ معية الله تعالى ثابتة لأهل التقوى والإحسان ، وهي معية نصر وتأييد وتسديد.

__________________

(١) الضيق والضيق : بالكسر والفتح ، يقال : في صدره ضيق وضيق بالكسر والفتح ، وقيل : الضيق بالفتح في الصدر ، والضيق بالكسر في الدار والثوب ونحوهما.

(٢) قيل : لهرم بن حبان عند موته : أوصنا فقال : أوصيكم بآيات الله وآخر سورة النحل : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ ..) إلى (مُحْسِنُونَ).

١٧١

الجزء الخامس عشر

سورة الإسراء

مكية وآياتها عشر ومائة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١))

شرح الكلمات :

(سُبْحانَ) : أي تنزه وتقدس عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله وهو الله جل جلاله.

(بِعَبْدِهِ) : أي بعبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : أي الذي بمكة.

(إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) : أي الذي ببيت المقدس.

(مِنْ آياتِنا) : أي من عجائب قدرتنا ومظاهرها في الملكوت الأعلى.

معنى الآية الكريمة :

نزه الرب تبارك وتعالى نفسه عما نسب إليه المشركون من الشركاء والبنات وصفات المحدثين ، فقال : (١) (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) (٢) أي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العدناني «ليلا من المسجد الحرام» أي بالليل من المسجد الحرام بمكة إذ أخرج من بيت أم هانىء

__________________

(١) روي أنّ طلحة بن عبيد الله الفيّاض أحد العشر المبشرين بالجنة سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن معنى سبحان الله فقال : (تنزيه الله عن كل سوء) وأسرى : فيها لغتان : أسرى وسرى فصيحتان ، وجمع اللغتين في بيت واحد هو :

حيّ النضيرة ربّة الخدر

أسرت إليّ ولم تكن تسري

وقيل : أسرى من أوّل الليل ، وسرى من آخره ، والاسراء ، والسّرى : سير الليل.

(٢) قالت العلماء : لو كان هناك اسم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشرف من اسم عبد لسمّاه به في هذه الحال العليّة ، وفي معناه قال الشاعر :

يا قوم قلبي عند زهراء

يعرفه السامع والرائي

لا تدعني إلّا بياعبدها

فإنه أشرف أسمائي

١٧٢

وغسل قلبه بماء زمزم وحشي إيمانا وحكمة ، ثم أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بيت المقدس ، وأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جمع الله تعالى له الأنبياء في المسجد الأقصى وصلى بهم إماما فكان بذلك إمام الأنبياء وخاتمهم ثم عرج به إلى السماء سماء بعد سماء يجد في كل سماء مقربيها إلى أن انتهى إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ثم عرج به إلى أن انتهى إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام وقوله تعالى : (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) أي حول المسجد الأقصى (١) معنى حوله خارجه وذلك بالأشجار والأنهار والثمار أما داخله فالبركة الدينية بمضاعفة الصلاة فيه أي أجرها إذ الصلاة فيه بخمسمائة صلاة أجرا ومثوبة وقوله تعالى (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) تعليل للاسراء والمعراج وهو أنه تعالى أسرى بعبده وعرج به ليريه من عجائب صنعه في مخلوقاته في الملكوت الأعلى ، وليكون ما علمه من طريق الوحي قد علمه بالرؤية والمشاهدة. وقوله تعالى (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يعني تعالى نفسه بأنه هو السميع لأقوال عباده البصير بأعمالهم وأحوالهم فاقتضت حكمته هذا الاسراء العجب ليزداد الذين آمنوا إيمانا وليرتاب المرتابون ويزدادون كفرا وعنادا

هداية الآية الكريمة :

من هداية الآية الكريمة :

١ ـ تقرير عقيدة الإسراء والمعراج بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالروح والجسد (٢) معا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم إلى السماوات العلى ، إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام وأوحى إليه تعالى ما أوحى وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس.

٢ ـ شرف المساجد الثلاثة : الحرام ، ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمسجد الأقصى أما المسجدان الحرام والأقصى فقد ذكرا بالنص وأما مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد ذكر بالاشارة (٣) والإيماء إذ قول الأقصى يقتضي قصيا ، فالقصي هو المسجد النبوي والأقصى هو مسجد بيت المقدس.

٣ ـ بيان الحكمة في الاسراء والمعراج وهي أن يرى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعيني رأسه ما كان آمن به وعلمه من طريق الوحي فاصبح الغيب لدى رسول الله شهادة.

__________________

(١) المسجد الحرام : اول مسجد بني في الأرض ، ويليه المسجد الأقصى والزمن بينهما أربعون سنة ، والمسجد النبوي بني بعدهما بقرون طويلة ، فهذه الثلاثة أشرف المساجد على الإطلاق وعليه فمن نذر صلاة فيها وجب عليه الوفاء بالصلاة فيها ، ومن نذر الصلاة في مسجد غيرها جاز أن يصلي في أي مسجد آخر.

(٢) لا قيمة للقول بأنّ الإسراء كان بالروح فقط إذ لو كان بالروح لكان من المنام ، ولما قال تعالى : (أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) ولما قالت أم هانىء : لا تحدّث الناس فيكذبوك ، ولا فضّل أبو بكر بقلب الصديق ولا ما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب ، ولما ارتد أفراد عن الإسلام بتشنيع قريش ، وأما إطلاق لفظ الرؤيا على المنام خاصة فليس بذاك إذ قد يطلق لفظ الرؤيا على الرؤية في اليقظة ، وأعظم دليل في قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) أي : رأي الرسول جبريل مرّة أخرى في الجنة في السماء ليلة الاسراء والمعراج كما رآه أوّل مرّة في جياد بمكة.

(٣) حدثنا شيخنا الطيب العقبى خريج المسجد النبوي الشريف : أنّه ألقى كلمة في الروضة بالمسجد النبوي ففتح الله تعالى عليه فذكر أنّ المسجد النبوي أشير إليه في آية الاسراء فهو إذا مذكور في القرآن بالإيماء كما ذكرت في التفسير.

١٧٣

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦))

شرح الكلمات :

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : أي التوراة.

(وَجَعَلْناهُ هُدىً) : أي جعلنا الكتاب أو موسى هدى أي هاديا لبني إسرائيل.

(وَكِيلاً) : أي حفيظا أو شريكا.

(مَنْ حَمَلْنا) : أي في السفينة.

(وَقَضَيْنا) : أي أعلمناهم قضاء نافيهم.

(فِي الْكِتابِ) : أي التوراة.

(عُلُوًّا كَبِيراً) : أي بغيا عظيما.

(أُولاهُما) : أي أولى المرتين.

(فَجاسُوا خِلالَ) : أي ترددوا جائين ذاهبين وسط الديار يقتلون ويفسدون.

(وَعْداً مَفْعُولاً) : أي منجزا لم يتخلف.

معنى الآيات :

يخبر تعالى أنه هو الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وأنه هو الذي آتى موسى الكتاب أي التوراة فهو تعالى المتفضل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أمته بالإسراء به والمعراج

١٧٤

وعلى موسى بإعطائه الكتاب ليكون هدى وبيانا لبني إسرائيل فهو متفضل أيضا على بني إسرائيل فله الحمد وله المنة.

وقوله : (جَعَلْناهُ) أي الكتاب (هُدىً) أي بيانا لبني إسرائيل يهتدون إلى سبل الكمال والإسعاد وقوله : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) أي آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل من أجل ألا يتخذوا من غيري حفيظا لهم يشركونه بي بالتوكل عليه وتفويض أمرهم إليه ناسين لي وأنا ربهم وولي نعمتهم. وقوله تعالى : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) أي يا ذرية (١) من حملنا مع نوح اشكروني كما شكرني نوح على انجائي إياه في السفينة مع أصحابه فيها ، إنه أي نوحا (كانَ عَبْداً (٢) شَكُوراً) فكونوا أنتم مثله فاشكروني بعبادتي ووحدوني ولا تتركوا طاعتي ولا تشركوا بي سواي

وقوله تعالى (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) يخبر تعالى بأنه أعلم بني اسرائيل بقضائه فيهم وذلك في كتابهم التوراة أنهم يفسدون في الأرض بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب ، ويعلون في الأرض بالجراءة على الله وظلم الناس (عُلُوًّا كَبِيراً) أي عظيما. ولا بد أن ما قضاه واقع وقوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أي وقت المرة الأولى (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ (٣) شَدِيدٍ) أي قوة وبطش في الحرب شديد ، وتم هذا لما أفسدوا وظلموا بانتهاك حدود الشرع والإعراض عن طاعة الله تعالى حتى قتلوا نبيهم «أرميا» عليه‌السلام وكان هذا على يد الطاغية جالوت فغزاهم من أرض الجزيرة ففعل بهم مع جيوشه ما أخبر تعالى به في قوله : (فَجاسُوا (٤) خِلالَ الدِّيارِ) ذاهبين جائين قتلا وفتكا وإفسادا نقمة الله على بني إسرائيل لإفسادهم وبغيهم البغي العظيم.

وقوله تعالى : (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) أي ما حصل لهم في المرة الأولى (٥) من الخراب والدمار ومن

__________________

(١) قرىء ذرية بفتح الذال ، وقرىء ذرية بكسر الذال أيضا فهي إذا مثلثة واللفظ مشتق من الذرء ، الذي هو الخلق ، فيقال : ذرأ يذرأ ذرأ : إذا خلق وفي الآية تذكير بني إسرائيل بواجب الشكر أي أشكروا كما شكر نوح ، وفيها تعريض لهم بأنهم إذا لم يشكروا يؤخذوا كما أخذ قوم نوح.

(٢) أثنى تعالى على عبده نوح بكثرة الشكر لأنّ شكور : من صيغ المبالغة معناه كثير الشكر روي أنه كان إذا أكل قال الحمد لله الذي أطعمني ، ولو شاء لأجاعني ، وإذا شرب قال : الحمد لله الذي أرواني ولو شاء لأظمأني ، وإذا اكتسى قال : الحمد لله الذي كساني ولو شاء لأعراني.

(٣) قال : (عِباداً لَنا) ولم يقل : عبادي لأنهم أهل كفر وشرك وفسق فلم يشرفهم بالإضافة إليه ووصفهم بأنهم من ملكه فسخرّهم لتأديب عباده الذين فسقوا عن أمره وخرجوا عن طاعته.

(٤) الجوس : وهو مصدر جاس يجوس جوسا معناه : التخلل في البلاد وطرقها ذهابا وإيابا لتتبع ما فيها ، والمراد به تتبع المقاتلة لقتالهم.

(٥) في هذه الآيات ذكر مجمل لتاريخ بني إسرائيل بدءا من دولة يوشع بن نون بعد فتحه لبلاد القدس ، وطرد العمالقة منها ، وإقامة دولة فيها لأوّل مرة وختاما بطردهم على أيدي الرومان وذلك سنة مائة وخمس وثلاثين بعد ميلاد عيسى عليه‌السلام ، وقسمت الآيات هذا التاريخ قسمين معبرّة عنه بالمرتين : الأولى بدءا من دولة يوشع بن نون واستمرّت إلى أن عاثوا في الأرض وفسدوا ـ

١٧٥

أسبابه كان بوعد من الله تعالى منجزا فوفاه لهم ، لأنه قضاه وأعلمهم به في كتابهم. وقوله : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) أي بعد سنين طويلة وبنو اسرائيل مضطهدون مشردون نبتت منهم نابتة وطالبت بأن يعين لهم ملكا يقودهم إلى الجهاد وكان ذلك كما تقدم في سورة البقرة جاهدوا وقتل داود جالوت وهذا معنى (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) وقوله : (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي رجالا في الحروب وكثرت أموالهم وأولادهم وتكونت لهم دولة سادت العالم على عهد داود وسليمان عليهما‌السلام.

هداية الآيات :

١ ـ بيان إفضال الله تعالى على الأمتين الإسلامية والإسرائيلية.

٢ ـ بيان سر إنزال الكتب وهو هداية الناس إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها.

٣ ـ وجوب شكر الله تعالى على نعمه إذ كان نوح عليه‌السلام إذا أكل الأكلة قال الحمد لله ، وإذا شرب الشربة قال الحمد لله ، وإذا لبس حذاءه قال الحمد لله وإذا قضى حاجة قال الحمد لله فسمى عبدا شكورا وكذا كان رسول الله والصالحون من أمته إلى اليوم.

٤ ـ ما قضاه الله تعالى كائن ، وما وعد به ناجز ، والإيمان بذلك واجب.

٥ ـ التنديد بالإفساد والظلم والعلو في الأرض ، وبيان سوء عاقبتها.

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨))

__________________

ـ فيها بالفسق والفجور فسلط عليه البابليين فأسقطوا دولتهم ، ومزّقوا ملكهم واستمروا مشتتين إلى أن ملّكوا طالوت وقاتلوا معه على عهد نبي الله حزقيل فهزموا جالوت البابلي ، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى. (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) إذ تكونت لهم دولة عظيمة على عهد كل من طالوت وداود وسليمان واستمرّت حتى فسقوا وفجروا فاستحقوا العذاب فسلّط الله عليهم بختنصر البابلي أيضا فأحرق هيكل سليمان ، ودمّر أورشليم فتركها خرابا ودمارا ، وهذه هي المرة الآخرة ثم أنجز لهم الله تعالى ما وعدهم بقوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) فاجتمعوا وصلحوا وعاد لهم ملكهم فترة من الزمن ، وعادوا إلى الفسق والعصيان فعاد الله تعالى عليهم فسلّط عليهم الرومان سنة ١٣٥ بعد الميلاد فاحتلوا بلادهم وشرّدوهم في الأرض.

١٧٦

شرح الكلمات :

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ) : أي طاعة الله وطاعة رسوله بالإخلاص فيها وبأدائها على الوجه المشروع لها.

(أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) : أي أن الأجر والمثوبة والجزاء الحسن يعود عليكم لا على غيركم.

(وَإِنْ أَسَأْتُمْ) : أي في الطاعة فإلى أنفسكم سوء عاقبة الإساءة.

(وَعْدُ الْآخِرَةِ) : أي المرة الآخرة المقابلة للأولى وقد تقدمت.

(لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) : أي يقبحوها بالكرب واسوداد الحزن وهم الذل.

(وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) : أي بيت المقدس.

(وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) : أي وليدمروا ما غلبوا عليه من ديار بني إسرائيل تدميرا

(وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) : أي وإن رجعتم إلى الفساد والمعاصي عدنا بالتسليط عليكم.

(حَصِيراً) : أي محبسا وسجنا وفراشا يجلسون عليها فهي من فوقهم ومن تحتهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن بني إسرائيل فبعد أن أخبرهم تعالى بما حكم به عليهم في كتابهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوا كبيرا. وأنه إذا جاء ميقات أولى المرتين بعث عليهم عبادا أشداء أقوياء وهم جالوت وجنوده فقتلوهم وسبوهم ، أنه تعالى رد لهم الكرة عليهم فانتصروا عليهم وقتل داود جالوت وتكونت لهم دولة عظيمة كانت أكثر الدول رجالا واوسعها سلطانا وذلك لرجوعهم إلى الله تعالى بتطبيق كتابه والتزام شرائعه وهناك قال تعالى لهم : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي إن أحسنتم باتباع الحق والتزام الطاعة لله ورسوله بفعل المأمورات واجتناب المنهيات والأخذ بسنن الله تعالى في الاصلاح البشري وإن أسأتم بتعطيل الشريعة والانغماس في الملاذ والشهوات فإن نتائج ذلك عائدة على أنفسكم حسب سنة الله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً). وقوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي وقتها المعين لها ، وهي المرة الآخرة بعد الأولى بعث أيضا عليهم عبادا له وهم بختنصّر وجنوده بعثهم عليهم ليسودوا وجوههم بما يصيبونهم به من الهم والحزن والمهانة والذل (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) أي بيت المقدس كما دخلوه أول مرة (وَلِيُتَبِّرُوا) أي يدمروا ما علوا أي ما غلبوا عليه من ديارهم (تَتْبِيراً) أي تدميرا كاملا وتحطيما تاما وحصل لهم هذا لما قتلوا زكريا ويحيى عليهما‌السلام وكثيرا من العلماء وبعد أن ظهر فيهم الفسق وفي نسائهم التبرج والفجور واتخاذ الكعب العالي. كما أخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٧٧

وقوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ (١) يَرْحَمَكُمْ) فهذا خير عظيم لهم لو طلبوه بصدق لفازوا به ولكنهم أعرضوا عنه وعاشوا على التمرد على الشرع والعصيان لله ورسله. وقوله وإن عدتم عدنا أي وإن عدتم إلى الفسق والفجور عدنا بتسليط من نشاء من عبادنا فأنجزهم الله تعالى ما وعدهم فسلط عليهم رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين فاجلى بني قينقاع وبني النضير من المدينة وقتل بني قريضة كما سلط عليهم ملوك أروبا فطاردوهم وساموهم الخسف وأذاقوهم سوء العذاب في قرون طويلة وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (٢) أي إن كان عذاب الدنيا بالتسلط على الظالمين وسلبهم حريتهم وإذاقتهم عذاب القتل والأسر والتشريد فإن عذاب الآخرة هو الحبس والسجن في جهنم تكون حصيرا للكافرين لا يخرجون منها للكافرين أي الذين يكفرون شرائع الله ونعمه عليهم بتعطيل الأحكام وتضييع الفرائض وإهمال السنن والانغماس في الملاذ والشهوات.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ صدق وعد الله تعالى.

٢ ـ تقرير نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ مثل هذه الأنباء لا يقصها إلا نبي يوحى إليه.

٣ ـ تقرير قاعدة (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها).

٤ ـ وجوب الرجاء في الله وهو انتظار الفرج والخير منه وإن طال الزمن.

٥ ـ قد يجمع الله تعالى للكافرين بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وكذا الفاسقون من المؤمنين.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)

__________________

(١) تقدم أن الله تعالى أنجز لهم وعده في قوله (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) وأنه رحمهم فصلحوا واستقاموا ، وأعادوا بناء دولتهم وسعدوا فيها زمنا ثم عادوا إلى الفسق والفجور فعاد تعالى عليهم فسلط الرومان فقتلوهم وشردوهم وذلك سنة ١٣٥ بعد الميلاد ، ومن يومئذ انتهى ملك اليهود ، واستمرت أورشليم تحت يد الرومان إلى الفتح الإسلامي حيث فتحت على يد عمر رضي الله عنه سنة ١٦ صلحا مع أهلها وهي تسمى يومئذ (إلياء).

(٢) الحصير المكان الذي يحصر فيه فلا يستطاع الخروج منه ففعيل (حصير) إمّا أن يكون بمعنى فاعل أي : حاصر أو بمعنى مفعول أي : محصور فيه ، وفسّر في التفسير بالسجن وهو كذلك إذ السجن يحصر من فيه فلا يقدر على الخروج منه.

١٧٨

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢))

شرح الكلمات :

(لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) : أي للطريقة التي هي أعدل وأصوب.

(أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) : إنه الجنة دار السّلام.

(أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) : انه عذاب النار يوم القيامة.

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) : أي على نفسه وأهله إذا هو ضجر وغضب.

(وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) : أي سريع التأثر بما يخطر على باله فلا يتروى ولا يتأمل.

(آيَتَيْنِ) : أي علامتين دالتين على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته.

(فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) : أي طمسنا نورها بالظلام الذي يعقب غياب الشمس.

(مُبْصِرَةً) : أي يبصر الانسان بها أي بسبب ضوء النهار فيها.

(عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) : أي عدد السنين وانقضائها وابتداء دخولها وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها كالأيام والأسابيع والشهور.

معنى الآيات :

يخبر تعالى أن هذا القرآن الكريم (١) الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى يهدي بما فيه من الدلائل والحجج والشرائع والمواعظ للطريقة والسبيل التي هي أقوم (٢) أي أعدل واقصد من سائر الطرق والسبيل إنها الدين القيم الإسلام سبيل السعادة والكمال في الدارين ، ويبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي ويبشر القرآن الذين آمنوا بالله ورسوله ولقاء الله ووعده ووعيده وعملوا الصالحات وهي الفرائض والنوافل بعد تركهم الكبائر والمعاصي بأن لهم أجرا كبيرا ألا وهو الجنة ، كما يخبر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن الله تعالى

__________________

(١) قوله : (هذَا الْقُرْآنَ) الإشارة بهذا إلى القرآن الحاضر بين أيدي الناس المحفوظ في الصدور المكتوب في السطور ، وفي الإشارة إليه تنويه بشأنه وعلو مقامه بين الكتب الإلهية.

(٢) (أَقْوَمُ) اسم تفضيل من القويم ، وأقوم : صفة لمحذوف وهو الطريق أي : الطريق التي هي أقوم من هدي كتاب بني اسرائيل إذ قال فيه : (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) فالقرآن أكثر هداية إلى السبيل الأقوم من التوراة.

١٧٩

أعد أي هيأ لهم عذابا أليما في جهنم.

وقوله تعالى (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) (١) يخبر تعالى عن الإنسان في ضعفه وقلة إدراكه لعواقب الأمور من أنه إذا ضجر أو غضب يدعو على نفسه وأهله بالشر غير مفكر في عاقبة دعائه لو استجاب الله تعالى له. يدعو بالشر دعاءه بالخير أي كدعائه بالخير ، وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (٢) أي كثير العجلة يستعجل في الأمور كلها هذا طبعه ما لم يتأدب بآداب القرآن ويتخلق بأخلاقه فإن هو استقام على منهج القرآن تبدل طبعه وأصبح ذا توأدة وحلم وصبر وأناة. وقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي علامتين على وجودنا وقدرتنا وعلمنا وحكمتنا ، وقوله (فَمَحَوْنا (٣) آيَةَ اللَّيْلِ) أي بطمس نورها ، وجعلنا آية النهار مبصرة أي مضيئة وبين علة ذلك بقوله : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي لتطلبوا رزقكم بالسعي والكسب في النهار. هذا من جهة ومن جهة أخرى (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي عدد السنين وانقضائها وابتداء دخولها وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها كالأيام والأسابيع والشهور. لتوقف مصالحكم الدينية (٤) والدنيوية على ذلك. وقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) أي وكل شيء يحتاج إليه في كمال الإنسان وسعادته بيناه تبيينا أي في هذا الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل القرآن الكريم ، بهدايته إلى الإسلام الذي هو سبيل السعادة للإنسان.

٢ ـ الوعد والوعيد بشارة المؤمنين العاملين للصالحات ، ونذارة الكافرين باليوم الآخر.

٣ ـ بيان طبع الإنسان قبل تهذيبه بالآداب القرآنية والأخلاق النبوية.

٤ ـ كون الليل والنهار آيتين تدلان على الله تعالى وتقرران علمه وقدرته وتدبيره.

٥ ـ مشروعية علم الحساب وتعلمه.

__________________

(١) قال ابن عباس وغيره : هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما يحب ألا يستجاب له : اللهم أهلكهم ونحوه. وحذفت الواو من (يَدْعُ) كما حذفت من (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) و (يَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) : لأنه لا ينطق بها لاصلها الساكن.

(٢) روي أن آدم عليه‌السلام لما نفخ الله تعالى فيه الروح فانتهت الروح إلى سرّته نظر إلى جسده فذهب لينهض فلم يقدر فذلك قوله تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومن مظاهر عجلة الإنسان أنه يؤثر العاجل وإن قلّ على الآجل وإن كثر.

(٣) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة رحمه‌الله : المراد بالمحو : اللطخة السوداء في القمر ليكون ضوء القمر أقلّ من ضوء الشمس فيتميّز الليل من النهار وما في التفسير أولى أي : جعل الله الليل مظلما ، والنهار مضيئا لما يترتب على ذلك من مصالح العباد.

(٤) كمعرفة أوقات الصلاة ، وشهر الصيام ، والحج ، وما إلى ذلك من آجال الديون ونحوها كالعدد للنساء.

١٨٠