أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

قال تعالى : في خطاب رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاضْرِبْ لَهُمْ) أي لأولئك المغرورين بالمال والسلطان (مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي صفتها الحقيقية التي لا تختلف عنها بحال (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ (١) السَّماءِ ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) فزها وازدهر واخضرّ وأنظر ، فأعجب أصحابه ، وأفرحهم وسرهم ما يأملون منه. وفجأة أتاه أمر الله برياح لاحفة ، محرقة ، (فَأَصْبَحَ (٢) هَشِيماً) أي يابسا متهشما متكسرا (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) هنا وهناك (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) أي قادرا كامل القدرة ، فأصبح أهل الدنيا مبلسين آيسين من كل خير.

وقوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) إنه بعد أن ضرب المثل للحياة الدنيا التي غرت أبناءها فأوردتهم موارد الهلاك أخبر بحقيقة أخرى ، يعلم فيها عباده لينتفعوا بها ، وهي أن (الْمالُ وَالْبَنُونَ) أو الأولاد (زِينَةُ الْحَياةِ (٣) الدُّنْيا) لا غير أي يتجمل بهما ساعة ثم يبيدان ويذهبان ، فلا يجوز الاغترار بهما ، بحيث يصبحان همّ الإنسان في هذه الحياة فيصرفانه عن طلب سعادة الآخرة بالإيمان وصالح الأعمال ، هذا جزء الحقيقة في هذه الآية ، والجزء الثاني هو أن (الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) والمراد بها أفعال البر وضروب العبادات ومنها سبحان الله (٤) ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، أي هذه (خَيْرٌ ثَواباً) أي جزاء وثمارا ، يجنيه العبد من الكدح المتواصل في طلب الدنيا مع الإعراض عن طلب الآخرة ، (وَخَيْرٌ أَمَلاً) يأمله الإنسان من الخير ويرجوه ويرغب في تحصيله.

__________________

(١) بعض الحكماء شبّه الحياة الدنيا بالماء للاتصالات الآتية :

١ ـ الماء لا يستقر في موضع والحياة كذلك

٢ ـ الماء يتغيّر والدنيا كذلك.

٣ ـ الماء لا يبقى والدنيا كذلك.

٤ ـ الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل والدنيا لا يدخلها أحد ويسلم من فتنها وآفاتها.

٥ ـ الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر.

وفي الصحيح (قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنّعه الله بما آتاه) رواه مسلم.

(٢) يقال : هشمه يهشمه إذا كسره وفتّته وهشيم بمعنى : مهشوم فهو فعيل بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول ، وهشم الثريد إذا فتته وبه سمي هاشم بن بن مناف وكان اسمه عمرو وفيه يقول عبد الله بن الزبعري :

عمر العلا هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

(٣) قيل : في المال والبنين زينة الحياة الدنيا : لأنّ في المال جمالا ونفعا وفي البنين قوة ودفعا والمثل مضروب لحقارة الدنيا وسرعة زوالها ولذا قيل : لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيءذاهب ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك.

(٤) روى مالك في الموطأ : أن الباقيات الصالحات هنّ : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

٢٦١

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حقارة الدنيا وسوء عاقبتها.

٢ ـ تقرير أن المال والبنين لا يعدوان كونهما زينة ، والزينة سريعة الزوال وهما كذلك فلا يجوز الاغترار بهما ، وعلى العبد أن يطلب ما يبقى على ما يفنى وهو الباقيات الصالحات من أنواع البر والعبادات من صلاة وذكر وتسبيح وجهاد. ورباط ، وصيام وزكاة.

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩))

شرح الكلمات :

(نُسَيِّرُ الْجِبالَ) : أي تقتلع من أصولها وتصير هباء منبثا.

(بارِزَةً) : ظاهرة إذ فنى كل ما كان عليها من عمران.

(فَلَمْ نُغادِرْ) : لم نترك منهم أحدا.

(مَوْعِداً) : أي ميعادا لبعثكم أحياء للحساب والجزاء.

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) : كتاب الحسنات وكتاب السيئات فيؤتاه المؤمن بيمينه والكافر بشماله.

(مُشْفِقِينَ) : خائفين.

(يا وَيْلَتَنا) : أي يا هلكتنا احضري هذا أوان حضورك.

(لا يُغادِرُ صَغِيرَةً) : أي لا يترك صغيرة من ذنوبنا ولا كبيرة إلا جمعها عدّا.

٢٦٢

(ما عَمِلُوا حاضِراً) : مثبتا في كتابهم ، مسجلا فيها.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى مآل الحياة الدنيا وأنه الفناء والزوال ورغّب في الصالحات وثوابها المرجوا يوم القيامة ، ناسب ذكر نبذة عن يوم القيامة ، وهو يوم الجزاء على الكسب في الحياة الدنيا قال تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) أي اذكر (يَوْمَ نُسَيِّرُ) أي تقتلع (١) من أصولها وتصير هباء منبثا ، (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) ظاهرة ليس علهيا شيء فهي قاع صفصف (وَحَشَرْناهُمْ) أي جمعناهم من قبورهم للموقف (فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ (٢) أَحَداً) أي لم نترك منهم أحدا كائنا من كان ، (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) أيها الرسول صفا وقوفا أذلاء ، وقيل لهم توبيخا وتقريعا : (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ (٣) مَرَّةٍ) لا مال معكم ولا سلطان لكم بل حفاة عراة غرلا ، (٤) جمع أغرل ، وهو الذي لم يختتن.

وقوله تعالى : (بَلْ زَعَمْتُمْ) (٥) أي ادعيتم كذبا أنا لا نجمعكم ليوم القيامة ، ولن نجعل لكم موعدا فها أنتم مجموعون لدينا تنتظرون الحساب والجزاء ، وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما فيه ، وقوله تعالى في الآية (وَوُضِعَ الْكِتابُ) يخبر تعالى عن حال العرض عليه فقال : (وَوُضِعَ الْكِتابُ) (٦) أي كتاب الحسنات والسيئات وأعطى كل واحد كتابه فالمؤمن يأخذه بيمينه والكافر بشماله ، (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) في تلك الساعة (مُشْفِقِينَ) أي خائفين (مِمَّا فِيهِ) أي في الكتاب من السيآت (وَيَقُولُونَ : يا وَيْلَتَنا) (٧) ندما وتحسرا ينادون يا ويلتهم وهي هلاكهم قائلين :

__________________

(١) هذا على قراءة تسير بالتاء المضمومة للبناء للمفعول وقراءة الجمهور (نُسَيِّرُ الْجِبالَ) والفاعل هو الله تعالى ، وقرىء أيضا : تسير الجبال بفتح التاء مضارع سار يسير كقوله تعالى : (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً).

(٢) المغادرة الترك ومنه الغدر لأنه ترك الوفاء ، وسمي الغدير من الماء غديرا لأنه ترك بعد السيل ، ومنه غدائر المرأة وهو شعرها تضفره وتتركه خلفها

(٣) أخرج الحافظ أبو القاسم بن مندة في كتاب التوحيد له عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رقيع غير فظيع : يا عبادي أنا الله لا إله إلّا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون احضروا حجتكم ويسروا جوابكم فإنكم مسؤولون محاسبون يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أنامل أقدامهم للحساب) تضمن هذا الحديث تفسيرا كاملا لهذه الآيات.

(٤) روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا) «غير مختونين».

(٥) هذا الخطاب لمنكري البعث والجزاء من أهل الكفر والشرك.

(٦) (الْكِتابُ) : اسم جنس يشمل كل الكتب التي يعطاها العباد في المحشر.

(٧) الويلة : مؤنث الويل للمبالغة وهي سوء الحال والهلاك كما أنّث الدار على دارة للدلالة على سعة المكان ، ونداء الويلة معناه : الدعاء على أنفسهم بالهلاك لمشاهدتهم عظائم الأهوال وما ينتظرهم من صنوف العذاب نادوا ويلتهم طالبين حضورها.

٢٦٣

(ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ (١) صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) من ذنوبنا (إِلَّا أَحْصاها) أي أثبتها عدّا.

وقوله تعالى : في آخر العرض (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) أي من خير وشر مثبتا في كتابهم ، وحوسبوا به ، وجوزوا عليه (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) بزيادة سيئة على سيئاته أو بنقص حسنة من حسناته ، ودخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرضها على مسامع المنكرين لها.

٢ ـ يبعث الانسان كما خلقه الله ليس معه شيء ، حافيا عاريا لم يقطع منه غلفة الذكر.

٣ ـ تقرير عقيدة كتب الأعمال في الدنيا وإعطائها أصحابها في الآخرة تحقيقا للعدالة الإلهية.

٤ ـ نفي الظلم عن الله تعالى وهو غير جائز عليه لغناه المطلق وعدم حاجته إلى شيء.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣))

شرح الكلمات :

(اسْجُدُوا لِآدَمَ) : أي حيّوه بالسجود له كما أمرتكم طاعة لي.

(إِلَّا إِبْلِيسَ) : أي الشيطان أبى السجود ورفضه وهو معنى (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي

__________________

(١) أصغر الصغائر : النظر بغير قصد وأكبر الكبائر الشرك بالله تعالى ولا ضابط حق الكبيرة إلا أن هناك ضابطا يستأنس به وهو : ما توعد عليه أو لعن عليه أو وضع حدّ له في الكتاب أو السنة فهو كبيرة.

٢٦٤

خرج عن طاعته ، ولم يكن من الملائكة ، بل كان من الجن ، لذا أمكنه أن يعصي ربه!

(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ؟) : الاستفهام للاستنكار ، ينكر تعالى على بني آدم اتخاذ الشيطان وأولاده أولياء يطاعون ويوالون بالمحبة والمناصرة ، وهم لهم عدو ، عجبا لحال بني آدم كيف يفعلون ذلك!؟.

(بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) : قبح بدلا طاعة إبليس وذريته عن طاعة الله ورسوله.

(الْمُضِلِّينَ عَضُداً) : أي ما كنت متخذ الشياطين من الانس والجن أعوانا في الخلق والتدبير ، فكيف تطيعونهم وتعصونني.

(مَوْبِقاً) : أي واديا من أودية جهنم يهلكون فيه جميعا هذا إذا دخلوا النار ، أما ما قبلها فالموبق ، حاجز بين المشركين ، وما كانوا يعبدون بدليل قوله :

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها).

(مُواقِعُوها) : أي واقعون فيها ولا يخرجون منها أبدا.

(وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) : أي مكانا غيرها ينصرفون إليه لينجوا من عذابها.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في إرشاد بني آدم وتوجيههم إلى ما ينجيهم من العذاب ويحقق لهم السعادة في الدارين ، قال تعالى في خطاب رسوله واذكر لهم (إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) وهم عبادنا المكرمون (اسْجُدُوا لِآدَمَ) فامتثلوا أمرنا وسجدوا إلا إبليس. لكن ابليس الذي يطيعه الناس اليوم كان من الجن وليس من الملائكة لم يسجد ، ففسق (١) بذلك عن أمرنا وخرج عن طاعتنا. (أَفَتَتَّخِذُونَهُ) (٢) أي أيصح منكم يا بني آدم أن تتخذوا عدو أبيكم وعدو ربكم وعدوكم أيضا وليا توالونه وذريته (٣) بالطاعة لهم والاستجابة لما يطلبون منكم من أنواع الكفر والفسق (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ) أنفسهم (بَدَلاً) طاعة الشيطان وذريته (٤) وولايتهم عن

__________________

(١) الفسق : مشتق من : فسقت الرطبة : إذا خرجت من قشرتها ، والفأرة من جحرها ، وفسق العبد : خرج عن طاعة ربه متجاوزا الطاعة إلى المعصية ، فكل من ترك واجبا وفعل حراما فقد فسق بذلك عن طاعة ربه أي خرج عنها.

(٢) الاستفهام للتوبيخ والانكار ، وذرية الشيطان بيّنت السنة كيفية وجودهم فقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : (لا تكن أوّل من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فيها باض الشيطان وفرّخ) ، فهذا دال على أن للشيطان ذرية من صلبه.

(٣) في مسلم : (أنّ للصلاة شيطانا يسمى خنزب مهمته الوسوسة فيها) وروى الترمذي أن للوضوء شيطانا يسمى الولهان يوسوس فيه.

(٤) روى مسلم رضي الله عنه قال : (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الشيطان يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا فيقول : ما صنعت شيئا قال : ثم يجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرّقت بينه وبين أهله قال : فيدنيه أو قال : فيلتزمه ويقول : نعم أنت!!).

٢٦٥

طاعة الله ورسوله وولايتهما.

وقوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ (١) خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) يخبر تعالى بأنه المنفرد بالخلق والتدبير ليس له وزير معين فكيف يعبد الشيطان وذريته ، وأنا الذي خلقتهم وخلقت السموات والأرض (٢) وخلقت هؤلاء الذين يعبدون الشيطان ، ولم أكن (مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) وهم الشياطين من الجن والإنس الذين يضلون عبادنا عن طريقنا الموصل إلى رضانا وجنتنا ، أي لم أكن لأجعل منهم معينا لي يعضدني ويقوي أمري وخلاصة ما في الآية أن الله تعالى ينكر على الناس عبادة الشياطين وهي طاعتهم وهم مخلوقون وهو خالقهم وخالق كل شيء.

وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أي أذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين المعرضين عن عبادة الله إلى عبادة عدوه الشيطان ، أذكر لهم يوم يقال لهم في عرصات القيامة (نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ) أشركتموهم في عبادتي زاعمين أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم فيخلصونكم من عذابنا.

قال تعالى (فَدَعَوْهُمْ) (٣) يا فلان!! يا فلان .. (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) إذ لا يجرؤ أحد ممن عبد من دون الله أن يقول رب هؤلاء كانوا يعبدونني. قال تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ (٤) مَوْبِقاً) أي حاجزا وفاصلا من عداوتهم لبعضهم. وحتى لا يتصل بعضهم ببعض في عرصات القيامة. وقوله تعالى : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) أي يؤتى بها تجرّ بالسلاسل حتى تبرز لأهل الموقف فيشاهدونها وعندئذ يظن (٥) المجرمون أي يوقنوا (أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) أي داخلون فيها. (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) (٦) أي مكانا ينصرفون إليه لأنهم محاطون بالزبانية ، والعياذ بالله من النار وعذابها.

__________________

(١) أي : ما أحضرتهم لأستعين بهم على خلق السموات والأرض ولا أحضرت بعضهم لأستعين به على خلق البعض الآخر.

(٢) في الآية رد على أهل الضلال كافة من شيطان وكاهن ومنجم وطبعيّ وملحد إذ الجميع مخلوق مربوب والله خالق كل شيء ومليكه وربّه ومدبّره.

(٣) أي : امتثلوا الأمر ودعوهم فلم يستجيبوا لهم.

(٤) فسّر الموبق ابن عباس رضي الله عنهما : بالحاجز ، وفسره أنس بن مالك رضي الله عنه بواد في جهنم من قيح ودم ، وفسّر بالمهلك والتفسير بالمهلك يدخل فيه كل ما ذكر ، ومن الجائز أن يتعدد الحاجز ويكون أنواعا منها : عداوة بعضهم لبعض فإنها حاجز والنار نفسها أعظم موبق ولعلها هي المراد بالموبق.

(٥) (فَظَنُّوا) أي : أيقنوا إذ يطلق الظن ويراد به اليقين وهو كثير في القرآن الكريم. قال الشاعر :

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجّج

سراتهم في الفارسيّ المسرد

(٦) (مَصْرِفاً) : أي : مهربا لإحاطتها بهم من كل جانب ولا ملجأ ولا معدلا.

٢٦٦

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عداوة إبليس وذريته لبني آدم.

٢ ـ العجب من بني آدم كيف يطيعون عدوهم ويعصون ربهم!!

٣ ـ لا يستحق العبادة أحد سوى الله عزوجل لأنه الخالق لكل مبعود مما عبد من سائر المخلوقات.

٤ ـ بيان خزي المشركين يوم القيامة حيث يطلب إليهم أن يدعوا شركاءهم لاغاثتهم فيدعونهم فلا يستجيبون لهم.

٥ ـ جمع الله تعالى المشركين وما كانوا يعبدون من الشياطين في موبق واحد في جهنم وهو وادي من شر أودية جهنم وأسوأها.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨)

٢٦٧

وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩))

شرح الكلمات :

(صَرَّفْنا) : أي بيّنا وكررنا البيان.

(مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) : المثل الصفة المستغربة العجيبة.

(جَدَلاً) : أي مخاصمة بالقول.

(سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) : أي العذاب بالإبادة الشاملة والاستئصال التام.

(قُبُلاً) : عيانا ومشاهدة.

(لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) : أي يبطلوا به الحق.

(هُزُواً) : أي مهزوءا به.

(أَكِنَّةً) : أغطية.

(وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) : أي ثقلا فهم لا يسمعون.

(مَوْئِلاً) : أي مكانا يلجأون إليه.

(لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) : أي وقتا معينا لإهلاكهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في بيان حجج الله تعالى على عباده ليؤمنوا به ويعبدوه وحده فينجوا من عذابه ويدخلوا دار كرامته فقال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا (١) فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ضربنا فيه الأمثال الكثيرة وبيّنا فيه الحجج العديدة ، (وَصَرَّفْنا فِيهِ) من الوعد والوعيد ترغيبا وترهيبا ، وقابلوا كل ذلك بالجحود والمكابرة ، (وَكانَ الْإِنْسانُ (٢) أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) فأكثرهم الإنسان يصرفه في الجدل والخصومات حتى لا يذعن للحق ويسلم به ويؤديه إن كان عليه. هذا ما دلت عليته الآية الأولى : (٥٤) أما الآية الثانية فقد أخبر تعالى فيها أن الناس ما منعهم (أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ

__________________

(١) قال القرطبي : يحتمل أي : هذا الكلام وجهين : أحدهما ما ذكره لهم من العبر والقرون الخالية والثاني : ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية وما في التفسير لم يخرج عن هذا فتأمّله.

(٢) يحتمل اللفظ الكافر لقوله تعالى : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) ويحتمل المسلم إلّا أنه في الكافر أظهر وأكثر وروي مسلم عن علي رضي الله عنه (أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرقه وفاطمة فقال : ألا تصلون؟ فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قلت له ذلك ثمّ سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً).

٢٦٨

الْهُدى) وهو بيان (١) طريق السعادة والنجاة بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الكفر والشرك وسوء الأعمال (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) بعذاب الاستئصال والإبادة الشاملة ، (أَوْ يَأْتِيَهُمُ) عذاب يوم القيامة معاينة (٢) وهو معنى قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ (٣) قُبُلاً) وحينئذ لا ينفع الإيمان. وقوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي دعاة هداة يبشرون من آمن وعمل صالحا بالجنة وينذرون من كفر ، وعمل سوءا بالنار. فلم نرسلهم جبارين ولم نكلفهم بهداية الناس أجمعين ، لكن الذين كفروا يتعامون عن هذه الحقيقة ويجادلون (بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ). (وَاتَّخَذُوا) آيات الله وحججه (وَما أُنْذِرُوا) به من العذاب اللازم لكفرهم وعنادهم اتخذوه سخرية وهزءا يهزءون به ويسخرون منه وبذلك أصبحوا من أظلم الناس. وهو ما قررته الآية (٥٧) إذ قال تعالى فيها : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي من الإجرام والشر والشرك. اللهم إنه لا أحد أظلم من هذا الإنسان الكافر العنيد. ثم ذكر تعالى سبب ظلم وإعراض ونسيان هؤلاء الظلمة المعرضين الناسين وهو أنه تعالى حسب سنته فيمن توغل في الشر والظلم والفساد يجعل على قلبه كنانا يحيطه به فيصبح لا يفقه شيئا. ويجعل في أذنيه ثقلا فلا يسمع الهدى. ولذا قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً) أي بعد ما جعل على قلوبهم من الأكنة وفي آذانهم من الوقر (أَبَداً).

وقوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا) أي لو يؤاخذ هؤلاء الظلمة المعرضين (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) ، ولكن مغفرته ورحمته تأبيان ذلك وإلا لعجل لهم العذاب فأهلكهم أمامكم وأنتم تنظرون. ولكن (لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (٤) يئلون إليه ولا ملجأ يلجأون إليه. ويرجح أن يكون ذلك يوم بدر لأن السياق في الظلمة المعاندين المحرومين من هداية الله كأبي جهل وعقبة ابن أبي معيط والأخنس بن شريق ، هذا أولا. وثانيا قوله تعالى : (وَتِلْكَ (٥) الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) يريد أهل القرى من قوم هود وقوم صالح وقوم لوط.

__________________

(١) أي : بواسطة القرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) أي : عيانا ، وفسّره بعضهم بعذاب السيف يوم بدر.

(٣) قراءة الجمهور : قبلا بكسر القاف أي : المقابل الظاهر ، وقرىء (قُبُلاً) بضم القاف والباء وهو جمع قبيل أي : يأتيهم العذاب أنواعا متعدّدة.

(٤) (مَوْئِلاً) : أي : منجى أو محيصا يقال : وأل يئل وألا ووؤلا أي : لجأ تقول العرب : لا وألت نفسه أي : لا نجت ومنه قول الشاعر :

لا وألت نفسك خليتها

للعامريين ولم تكلم

(٥) (تِلْكَ) : مبتدأ و (أَهْلَكْناهُمْ) الخبر ، ويصح أن تكون تلك في محل نصب والعامل : أهلكنا نحو : زيدا ضربته.

٢٦٩

(وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) أي لهلاكهم موعدا محددا فكذلك هؤلاء المجرمون من قريش ، وقد أهلكهم ببدر ولعنهم إلى الأبد.

هداية الآيات

١ ـ لقد أعذر الله تعالى إلى الناس بما يبين في كتابه من الحجج وما ضرب فيه من الأمثال.

٢ ـ بيان غريزة الجدل في الإنسان والمخاصمة.

٣ ـ بيان مهمة الرسل وهي البشارة والنذارة وليست إكراه الناس على الإيمان.

٤ ـ بيان عظم ظلم من يذكّر بالقرآن فيعرض ويواصل جرائمه ناسيا ما قدمت يداه.

٥ ـ بيان سنة الله في أن العبد إذا واصل الشر والفساد يحجب عن الإيمان والخير ويحرم الهداية أبدا حتى يهلك كافرا ظالما فيخلد في العذاب المهين.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ

٢٧٠

مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩))

شرح الكلمات :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) : أي أذكر إذ قال موسى بن عمران نبي بني إسرائيل لفتاه يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف عليه‌السلام.

(مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) : أي حيث التقى البحران بحر فارس وبحر الروم.

(حُقُباً) : الحقب الزمن وهو ثمانون سنة والجمع أحقاب.

(سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) : أي طريقه في البحر سربا أي طريقا كالنفق.

(فَلَمَّا جاوَزا) : أي المكان الذي فيه الصخرة ومنه اتخذ الحوت طريقه في البحر سربا.

(فِي الْبَحْرِ عَجَباً) : أي عجبا لموسى حيث تعجب من إحياء الحوت واتخاذه في البحر طريقا كالنفق في الجبل

(قَصَصاً) : أي يتتبعان آثار أقدامهما.

(عَبْداً مِنْ عِبادِنا) : هو الخضر عليه‌السلام.

(مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) : أي ما هو رشاد إلى الحق ودليل على الهدى.

(ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) : أي علما.

(وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) : أي انتهى إلى ما تأمرني به وإن لم يكن موافقا هواي.

معنى الآيات :

هذه قصة موسى (١) مع الخضر عليهما‌السلام وهي تقرر نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتؤكدها. إذ مثل هذا القصص الحق لا يتأتى لأحد أن يقصه ما لم يتلقه وحيا من الله عزوجل. قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى) أي أذكر يا رسولنا تدليلا على توحيدنا ولقائنا ونبوتك. إذ قال موسى بن عمران نبينا إلى بني إسرائيل لفتاه (٢) يوشع بن نون (لا أَبْرَحُ) أي سائرا (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ (٣) الْبَحْرَيْنِ) حيث أرشدني ربي إلى لقاء عبد هناك من عباده هو أكثر مني علما حتى

__________________

(١) ذهب نوف البكالي إلى أنّ موسى هذا هو موسى بن منشا بن يوسف عليه‌السلام وردّ هذا عليه ابن عباس رضي الله عنهما ردّا عنيفا كما في البخاري فالصحيح أنه موسى بن عمران رسول الله إلى بني اسرائيل.

(٢) اختلف في فتى موسى من هو؟ قيل : إنه كان شابا يخدمه ولذا أطلق عليه لفظ الفتى على جهة حسن الأدب ، قال ابن العربي. ظاهر القرآن أنه عبد وما دام صح الحديث بأنه يوشع بن نون فلا حاجة إلى البحث والتنقيب.

(٣) أي ملتقاهما. وهما بحر الأردن وبحر القلزم على الراجح الصحيح.

٢٧١

اتعلم منه علما أزيده على علمي ، (أَوْ أَمْضِيَ (١) حُقُباً) أي أواصل سيري زمنا طويلا حتى أظفر بهذا العبد الصالح لأتعلم عنه. قوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما) أي بين البحرين وهما بحر الروم وبحر فارس عند باب المندب حيث التقى البحر الأحمر والبحر الهندي. أو البحر الأبيض والأطلنطي عند طنجة والله أعلم بأيهما أراد. وقوله (نَسِيا حُوتَهُما) أي نسي الفتى الحوت ، إذ هو الذي كان يحمله ، ولكن نسب النسيان إليهما جريا على المتعارف من لغة العرب (٢) ، وهذا الحوت قد جعله الله تعالى علامة لموسى على وجود الخضر حيث يفقد الحوت ، إذ القصة كما في البخاري تبتدىء بأن موسى خطب يوما في بنى إسرائيل فأجاد وأفاد فأعجب به شاب من بني إسرائيل فقال له : هل يوجد من هو أعلم منك يا موسى؟ فقال : لا. فأوحى إليه ربه فورا بلى عبدنا خضر ، فتاقت نفسه للقياه للتعلم عنه ، فسأل ربه ذلك ، فأرشده إلى مكان لقياه وهو مجمع البحرين ، وجعل له الحوت علامة فأمره أن يأخذ طعامه حوتا وأعلمه أنه إذا فقد الحوت فثم يوجد عبد الله خضر ومن هنا لما بلغا مجمع البحرين واستراحا فنام موسى (٣) والفتى شبه نائم وإذا بالحوت يخرج من المكتل «وعاء» ويشق طريقه إلى البحر فينجاب عنه البحر فيكون كالطاق أو النفق آية لموسى. ويغلب النوم على يوشع فينام فلما استراحا قاما مواصلين سيرهما ونسي الفتى وذهب من نفسه خروج الحوت من المكتل ودخوله في البحر لغلبة النوم فلما مشيا مسافة بعيدة وشعرا بالجوع وقد جاوزا المنطقة التي هي مجمع البحرين (٤) قال موسى للفتى (٥) (آتِنا غَداءَنا) وعلل ذلك بقوله : (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي تعبا. هنا قال الفتى لموسى ما قصّ الله تعالى : قال مجيبا لموسي (أَرَأَيْتَ) أي أتذكر (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) التي استراحا عندها (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) وقال كالمعتذر ، (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ (٦) ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) أي طريقه (فِي الْبَحْرِ عَجَباً) أي حيي بعد موت

__________________

(١) قال النحاس : الحقب : زمان من الدهر مبهم غير محدود وجمعه أحقاب وورد الحقب مقدرا بثمانين سنة ، إلّا أنه في قول موسى هذا مراده الأوّل وهو زمن غير محدود.

(٢) نحو قوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) مع أنه لا يخرج إلّا من البحر الملح ونحو قوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) مع العلم أن الرسل من الإنس فقط.

(٣) في البخاري : أن موسى عليه‌السلام قال ليوشع لا أكلفك إلّا أن تخبرني حيث يفارقك الحوت قال الفتى : ما كلّفت كثيرا.

(٤) هذا يرجح أن يكون البحران : نهر الأردن وبحيرة طبريّة.

(٥) في الآية دليل على وجوب حمل الزاد في السفر ففي هذا رد على المتصوفة الذين يخرجون بلا زاد بدعوى التوكل ثمّ هم يسألون الناس ، وشاهد هذا آية البقرة إذ نزلت في أناس من اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون فنزل قوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا ..) الآية.

(٦) أن : وما دخلت عليه تسبك بمصدر فيقال : وما أنساني ذكره إلا الشيطان.

٢٧٢

ومشى حتى انتهى إلى البحر وانجاب له البحر فكان كالسرب فيه أي النفق فأجابه موسى بما قص تعالى : (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) وذلك لأن الله تعالى جعل لموسى فقدان الحوت علامة على مكان الخضر الذي يوجد فيه (فَارْتَدَّا) أي رجعا (عَلى آثارِهِما قَصَصاً) أي يتتبعان آثار أقدامهما (فَوَجَدا) خضرا كما قال تعالى : (فَوَجَدا عَبْداً) (١) (مِنْ عِبادِنا) وهو خضر (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي نبوة (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) وهو علم غيب خاص به (قالَ لَهُ مُوسى) مستعطفا له (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أي مما علمك الله رشدا أي رشادا يدلّني على الحق وتحصل لي به هداية فأجابه خضر بما قال تعالى : (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) يريد أنه يرى منه أمورا لا يقره عليها وخضر لا بد يفعلها فيتضايق موسى لذلك ولا يطيق الصبر ، وعلل له عدم استطاعته الصبر بقوله (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) أي علما كاملا. فأجابة موسى وقد صمم على الرحلة لطلب العلم مهما كلفه الثمن فقال (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) أي سأنتهي إلى ما تأمرني وإن لم يكن موافقا لما أحب وأهوى.

هداية الآيات :

١ ـ عتب الله تعالى على رسوله موسى عليه‌السلام عند ما سئل هل هناك من هو أعلم منك فقال لا وكان المفروض أن يقول على الأقل الله أعلم. فعوقب لذلك فكلف هذه الرحلة الشاقة.

٢ ـ استحباب الرفقة في السفر ، وخدمة التلميذ للشيخ ، إذ كان يوشع يخدم موسى بحمل الزاد.

٣ ـ طروء النسيان على الانسان مهما كان صالحا.

٤ ـ مراجعة الصواب بعد الخطأ خير من التمادي على الخطأ (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً.)

٥ ـ تجلى قدرة الله تعالى في إحياء الحوت بعد الموت ، وانجياب الماء عليه حتى كان كالطاق فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا. وبه استدل موسى أي بهذا العجب على مكان خضر فوجده هناك.

٦ ـ استحباب طلب المزيد من العلم مهما كان المرء عالما وهنا أورد الحديث التالي وهو خير من قنطار ذهبا لمن حفظه وعمل به وهو قول ابن عباس رضي الله عنه قال سأل موسى ربه : قال رب أي عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني ، قال : فأي عبيدك أقضى؟ قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى ، قال : أي رب أي عبادك أعلم؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى

__________________

(١) في البخاري : (فوجدا خضرا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجىّ بثوبه قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه فسلّم عليه موسى فكشف عن وجهه فقال : هل بأرضك من سلام؟ من أنت؟ قال : أنا موسى ..) الخ.

٢٧٣

علم نفسه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى. وللأثر بقية ذكره ابن جرير عند تفسير هذه الآيات.

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤))

شرح الكلمات :

(ذِكْراً) : أي بيانا وتفصيلا لما خفي عليك.

(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) : أي فعلت شيئا منكرا.

(لا تُرْهِقْنِي) : أي لا تغشني بما يعسر علي ولا أطيق حمله فتضيق علي صحبتي إياك.

(نَفْساً زَكِيَّةً) : أي طاهرة لم تتلوث روحها بالذنوب.

(بِغَيْرِ نَفْسٍ) : أي بغير قصاص.

(نُكْراً) : الأمر الذي تنكره الشرائع والعقول من سائر المناكر! وهو المنكر الشديد النكارة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحوار الذي دار بين موسى عليه‌السلام والعالم الذي أراد أن يصحبه لطلب العلم منه وهو خضر. قوله تعالى : (قالَ) أي خضر (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي) مصاحبا لي لطلب العلم (فَلا تَسْئَلْنِي (١) عَنْ شَيْءٍ) أفعله مما لا تعرف له وجها شرعيا (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي حتى أكون أنا الذي يبين لك حقيقته وما جهلت منه. وقوله تعالى : (فَانْطَلَقا) أي

__________________

(١) في قول موسى : (هَلْ أَتَّبِعُكَ) من حسن الأدب والتلطف في السؤال وتواضع الطالب للشيخ الشيء الكثير ، وفي الآية دليل على أن المتعلم تابع للعالم وإن تفاوتت مرتبتهما ، وما كان موسى إلّا أفضل من خضر ولكنه بحكم أنه تابع للخضر العالم تواضع في لطف.

٢٧٤

بعد رضا موسى بمطلب خضر انطلقا يسيران في الأرض (١) فوصلا ميناء من المواني البحرية ، فركبا سفينة كان خضر يعرف أصحابها فلم يأخذوا منهما أجر الإركاب فلما أقلعت السفينة ، وتوغلت في البحر أخذ خضر فأسا فخرق السفينة ، فجعل موسى يحشو بثوب له الخرق ويقول : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) على أنهما حملانا بدون نول (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أي أتيت يا عالم منكرا فظيعا فأجابه خضر بما قص تعالى : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) فأجاب موسى بما ذكر تعالى عنه : (قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي لا تعاقبني بالنسيان فإن الناسي لا حرج عليه. وكانت هذه من (٢) موسى نسيانا حقا ولا تغشني بما يعسر علي ولا أطيقه فاتضايق من صحبتي إياك.

قال تعالى : (فَانْطَلَقا) بعد نزولهما من البحر إلى البر فوجدا غلاما جميلا وسيما يلعب مع الغلمان فأخذه خضر جانبا وأضجعه (٣) وذبحه فقال له موسى بما أخبر تعالى عنه : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) زاكية طاهرة لم يذنب صاحبها ذنبا تتلوث به روحه ولم يقتل نفسا يستوجب بها القصاص (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي أتيت منكرا عظيما بقتلك نفسا طاهرة لم تذنب ولم تكن هذه نسيانا من موسى بل كان عمدا إن لم يطق فعل منكر كهذا لم يعرف له (٤) وجها ولا سببا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ جواز الاشتراط في الصحبة وطلب العلم وغيرهما للمصلحة الراجحة.

٢ ـ جواز ركوب السفن في البحر.

٣ ـ مشروعية إنكار المنكر على من علم أنه منكر.

٤ ـ رفع الحرج عن الناس.

٥ ـ مشروعية القصاص وهو النفس بالنفس.

__________________

(١) في البخاري : (فانطلقا يسيران على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول أي «أجرة»).

(٢) في البخاري : (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت الأولى من موسى نسيانا قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة في البحر فقال له الخضر ما علمي وعلمك من علم الله إلّا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر). حرف السفينة : طرفها ، وحرف كل شيء طرفه.

(٣) في الترمذي : (أنه أخذ رأسه بيده فاقتلعه فقتله) وفي بعض الروايات (أنه أخذ حجرا فضرب بها رأس الغلام فقتله) وما في التفسير أصح وأوضح.

(٤) سيأتي بيان علّة القتل وأنها حق والقتل كان بإذن الله تعالى وما مات أحد ولا قتل إلّا بإذن الله تعالى.

٢٧٥

الجزء السادس عشر

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨))

شرح الكلمات :

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ) : أي قال خضر لموسى عليهما‌السلام.

(بَعْدَها) : أي بعد هذه المرة.

(فَلا تُصاحِبْنِي) : أي لا تتركني أتبعك.

(مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) : أي من قبلي (جهتي) عذرا في عدم مصاحبتي لك.

(أَهْلَ قَرْيَةٍ) : مدينة أنطاكية.

(اسْتَطْعَما أَهْلَها) : أي طلبا منهم الطعام الواجب للضيف.

(يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) : أي قارب السقوط لميلانه.

(فَأَقامَهُ) : أي الخضر بمعنى أصلحه حتى لا يسقط.

(أَجْراً) : أي جعلا على إقامته وإصلاحه.

(هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) : أي قولك هذا (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) هو نهاية الصحبة وبداية المفارقة.

(بِتَأْوِيلِ) : أي تفسير ما كنت تنكره على حسب علمك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في محاورة الخضر مع موسى عليهما‌السلام ، فقد تقدم إنكار موسى على

٢٧٦

الخضر قتله الغلام بغير نفس ، ولا جرم إرتكبه ، وبالغ موسى في إنكاره إلى أن قال : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) (١) فأجابه خضر بما أخبر تعالى به في قوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) لما سألتني الصحبة للتعليم ، فأجاب موسى بما أخبر تعالى به في قوله : (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أي بعد هذه المرة (فَلا تُصاحِبْنِي) أي اترك صحبتي فإنك (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ (٢) لَدُنِّي) أي من جهتي وقبلي عذرا في تركك إياي.

قال تعالى : (فَانْطَلَقا) في سفرهما (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) (أي مدينة) قيل إنها انطاكية ووصلاها في الليل والجو بارد فاستطعما أهلها أي طلبا منهم طعام الضيف الواجب له (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما (٣) ، فَوَجَدا فِيها) أي في القرية (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) أي يسقط فأقامه الخضر وأصلحه فقال موسى له : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) أي جعل مقابل إصلاحه ، لا سيما أن أهل هذه القرية لم يعطونا حقنا من الضيافة. وهنا قال الخضر لموسى : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) لانك تعهدت إنك إذا سألتني بعد حادثة قتل الغلام عن شىء أن لا تطلب صحبتي وها أنت قد سألتني ، فهذا وقت (٤) فراقك إذا (سَأُنَبِّئُكَ) أي أخبرك (بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الوفاء بما التزم به الإنسان لآخر.

٢ ـ وجوب الضيافة لمن استحقها.

٣ ـ جواز التبرع بأي خير أو عمل إبتغاء وجه الله تعالى.

__________________

(١) اختلف في أيهما أبلغ : إمرا أو نكرا ، ورجّح بعضهم أن إمرا فيما لم يحدث من فعل منكر فيكون خاصا بالمستقبل ، ومعناه : أمر فظيع مهيل ونكرا : يكون فيما وقع فهو بيّن الفساد بالغ في النكر واجب الإنكار.

(٢) قرىء : (مِنْ لَدُنِّي) بتخفيف الدال وقرىء في السبع بتشديدها وقرىء (عُذْراً) بسكون الذال وقرىء في السبع أيضا بضمهما ، وضمّ العين قبلها كنذر ونذر.

(٣) في الحديث : (إنهم كانوا لئاما بخلاء) وهو تعليل لعدم استضافة موسى والخضر.

(٤) في البخاري : هنا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما).

٢٧٧

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))

شرح الكلمات :

المساكين : جمع مسكين وهو الضعيف العاجز عن الكسب.

(يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) : أي يؤجرون سفينتهم للركاب.

(أَعِيبَها) : أي أجعلها معيبة حتى لا يرغب فيها.

(غَصْباً) : أي قهرا.

(أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) : أي يغشاهما : ظلما وجحودا

(وَأَقْرَبَ رُحْماً) : أي رحمة إذ الرحم والرحمة بمعنى واحد.

(وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) : أي عن اختيار مني بل بأمر ربي جل جلاله وعظم سلطانه.

معنى الآيات :

هذا آخر حديث موسى والخضر عليهما‌السلام ، فقد واعد الخضر موسى عند ما أعلن له عن فراقه أن يبين له تأويل ما لم يستطع عليه صبرا ، وهذا بيانه ، قال تعالى (حكاية عن

٢٧٨

الخضر) (أَمَّا السَّفِينَةُ) التي خرقتها وأنكرت عليّ ذلك (فَكانَتْ) (١) (لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) يؤجرون سفينتهم بما يحصل لهم بعض القوت (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) (٢) لا لأغرق أهلها ، (وَكانَ وَراءَهُمْ (٣) مَلِكٌ) (٤) ظالم (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) صالحة (غَصْباً) أي قهرا وإنما أردت أن أبقيها لهم إذ الملك المذكور لا يأخذ إلا السفن الصالحة (وَأَمَّا الْغُلامُ) الذي قتلت وأنكرت عليّ قتله (فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا) إن كبر (أَنْ يُرْهِقَهُما) (٥) أي يغشيهما (طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ (٦) يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) أي طهرا وصلاحا (وَأَقْرَبَ (٧) رُحْماً) أي رحمة وبرا بهما فلذا قتلته ، (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما ، وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) أي سن الرشد (وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ (٨) رَبِّكَ) أي كان ذلك رحمة (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي عن إرادتي وإختياري بل كان بأمر ربي وتعليمه. (ذلِكَ) أي هذا (تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ضروب من خفي ألطاف الله تعالى فعلى المؤمن أن يرضى بقضاء الله تعالى وإن كان ظاهره ضارا.

٢ ـ بيان حسن تدبير الله تعالى لأوليائه بما ظاهره عذاب ولكن في باطنه رحمة.

٣ ـ مراعاة صلاح الأباء في إصلاح حال الأبناء.

__________________

(١) بهذه الآية استدل من قال من الفقهاء بأنّ المسكين أقلّ فقرا من الفقير لأنّ من ملك سفينة لا يعتبر فقيرا ، وردّ هذا بأنّ أصحاب السفينة كانوا سبعة أفراد ، وخمسة منهم زمنى ورثوا السفينة من أبيهم وبذا هم فقراء مساكين.

(٢) (أَعِيبَها) : أي أجعلها ذات عيب ، يقال : عبت الشيء فعاب أي : صار ذا عيب فهو معيب.

(٣) جائز أن يكون الوراء على حقيقته أي : خلفهم ، وإذا رجعوا أخذ السفينة منهم ، وجائز أن يكون وراء بمعنى أمام ، ويؤيده قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير : وكان أمامهم ملك.

(٤) قيل : اسم الملك هو هدد بن بدد ، واسم الغلام المقتول : جيسور.

(٥) وفسّر أيضا : يجشمهما ويحملهما على الرهق وهو الجهل والمعنى : أنه يحملهما حبه على الغلو فيه فيطغيان ويكفران.

(٦) الرحم والرحمة بمعنى واحد قال الشاعر :

وكيف بظلم جارية

ومنها اللّين والرّحم

(٧) قيل : اسم الغلامين : أصرم وصريم ، وكان الكنز ذهبا وفضة لحديث الترمذي عن أبي الدرداء ، وشاهده من اللغة فإنّ الكنز : المال المدفون المدّخر ، وجائز أن يكون مع المال كتاب فيه علم.

(٨) تسطع وتستطيع بمعنى

٢٧٩

٤ ـ كل ما أتاه الخضر كان بوحي إلهي وليس هو مما يدعيه جهال الناس ويسمونه بالعلم الّلدنّي وأضافوه إلى من يسمونهم الأولياء ، وقد يسمونه كشفا ، ويؤكد بطلان هذا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الخضر قال لموسى : أنا على علم مما علمني ربي وأنت على علم مما علمك الله وإن علمي وعلمك إلى علم الله إلا كما يأخذ الطائر بمنقاره من البحر.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣))

شرح الكلمات :

(وَيَسْئَلُونَكَ) : أي كفار قريش بتعليم يهود لهم.

(ذِي الْقَرْنَيْنِ) : الإسكندر باني الاسكندرية المصرية الحميري أحد الملوك التبابعة وكان عبدا صالحا.

٢٨٠