أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

معنى الآيات :

بعد ذكر أولئك الأنبياء وما أكرمهم الله تعالى به من افضالات وما كانوا عليه من كمالات قال تعالى مخاطبا الناس كلهم : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) (١) أي ملتكم (أُمَّةً واحِدَةً) أي ملة واحد من عهد أول الرسل إلى خاتمهم وهو الإسلام القائم على الإخلاص لله في العبادة والخلوص من الشرك وقوله تعالى : (وَتَقَطَّعُوا (٢) أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) ينعي تعالى على الناس تقطعيهم الإسلام إلى ملل شتى كاليهودية والنصرانية وغيرهما ، وتمزيقه إلى طوائف ونحل ، وقوله : (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) إخبار منه تعالى أنهم راجعون إليه لا محالة بعد موتهم وسوف يجزيهم بما كانوا يكسبون ومن ذلك تقطيعهم للدين الإسلامي وتمزيقهم له فذهبت كل فرقة بقطعة منه. وقوله تعالى : (فَمَنْ (٣) يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) والحال أنه مؤمن ، والمراد من الصالحات ما شرعه الله تعالى من عبادات قلبية وقولية وفعلية (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) أي لعمله فلا يجحد ولا ينكر بل يراه ويجزى به كاملا. وقوله تعالى : (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) يريد أن الملائكة تكتب أعماله الصالحة بأمرنا ونجزيه بها أيضا أحسن جزاء وهذا وعد من الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم.

وقوله تعالى : (وَحَرامٌ (٤) عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) يخبر تعالى أنه ممتنع امتناعا كاملا أن يهلك أمة بذنوبها في الدنيا ثم يردها إلى الحياة في الدنيا ، وهذا بناء على أن (لا) مزيدة لتقوية الكلام ويحتمل الكلام معنى آخر وهي ممتنع على أهل قرية قضى الله تعالى بعذابهم في الدنيا أو في الآخرة أنهم يرجعون إلى الإيمان والطاعة بالتوبة الصادقة وذلك بعد أن كذبوا وعاندوا وظلموا وفسقوا فطبع على قلوبهم فهم لا يرجعون إلى التوبة بحال ، ومعنى ثالث وهو حرام على أهل قرية أهلكهم الله بذنوبهم فأبادهم إنهم

__________________

(١) قرأ الجمهور : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) برفع أمتكم على الخبرية ونصب أمّة واحدة على الحال ، والوصف. وقرأ بعض : امتكم امة واحدة بالرفع فيهما.

(٢) تفرّقوا في الدين واختلفوا فيه.

(٣) (مِنَ الصَّالِحاتِ) من للتبعيض إذ من غير الممكن أن يعمل العبد كل الصالحات ويأتي بكل الطاعات ، وقوله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وموحد أيضا فإن الشرك محبط للعمل.

(٤) في حرام قراءات ووجوه منها : (حَرامٌ) وهي قراءة الجمهور وحرم مثل حل وحلال. وحرم كمرض ، وحرم كشرف ، وحرم : كضرب ، وحرّم كبدّل ، وحرّم كعلم مشددة اللام وحرم كفرح وحرم كقفل تسع قراءات.

٤٤١

لا يرجعون إلى الله تعالى يوم القيامة بل يرجعون للحساب والجزاء فهذه المعاني كلها صحيحة ، والمعنى الأخير لا تكلف فيه بكون (لا) صلة بل هي نافية (١) ويرجح المعنى الأخير قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ (٢) وَمَأْجُوجُ) فهو بيان لطريق رجوعهم إلى الله تعالى وذلك يوم القيامة وبدايته بظهور علاماته الكبرى ومنها إنكسار سد يأجوج ومأجوج وتدفقهم في الأرض يخربون ويدمرون (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) (٣) وصوب (يَنْسِلُونَ) مسرعين. وقوله تعالى : (وَاقْتَرَبَ (٤) الْوَعْدُ الْحَقُ) وهو يوم الدين والحساب والجزاء وقوله : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ (٥) أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وذلك بعد قيامهم من قبورهم وحشرهم إلى أرض المحشر وهم يقولون في تأسف وتحسر (يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ) أي في دار الدنيا (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) فاعترفوا بذنبهم حيث لا ينفعهم الاعتراف إذ لا توبة تقبل يومئذ.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وحدة الدين وكون الإسلام هو دين البشرية كافة لأنه قائم على أساس توحيد الله تعالى في عبادته التي شرعها ليعبد بها.

٢ ـ بيان ما حدث للبشرية من تمزيق الدين بينها بحسب الأهواء والأطماع والأغراض.

٣ ـ وعد الله لأهل الإيمان والعمل الصالح بالجزاء الحسن وهو الجنة.

__________________

(١) شاهد أن لا : نافية وليست بصلة ، ويكون لفظ الحرام معناه الوجوب قول الخنساء :

وإنّ حراما لا أرى الدهر باكيا

على شجوه إلا بكيت على صخر

تريد أخاها صخرا.

(٢) في الكلام حذف تقديره : حتى إذا فتح سد يأجوج ومأجوج ، مثل : واسأل القرية. أي أهل القرية.

(٣) الحدب : ما انقطع من الأرض ، والجمع حداب مأخوذ من حدبة الظهر ، قال عنترة :

فما رعشت يداي ولا ازدهاني

تواترهم إليّ من الحداب

و (يَنْسِلُونَ) ، يخرجون مسرعين ، قال امرؤ القيس : فسلي ثيابي من ثيابك تنسل.

وقال النابغة :

عسلان الذئب أمسى قاربا

برد الليل عليه فنسل

أي أسرع.

(٤) قيل : الواو زائدة مقحمة ، والمعنى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق. فاقترب : جواب إذا والواو مقحمة ، ومثله : وتلّه للجبين ، وناديناه أي : للجبين ناديناه ، وأجاز بعضهم أن يكون جواب إذا : فإذا هي شاخصة ويكون اقترب الوعد الحق : معطوفا.

(٥) هي : ضمير الأبصار ، والأبصار بعدها : تفسير لها كأنه قال : فإذا أبصار الذين كفروا قد شخصت عند مجيىء الوعد.

٤٤٢

٤ ـ تقرير حقيقة وهي إذا قضى بهلاك أمة تعذرت عليها التوبة ، وأن أمة يهلكها الله تعالى لا تعود إلى الحياة الدنيا بحال وإن البشرية عائدة إلى ربها فممتنع عدم عودة الناس الى ربهم ، وذلك لحسابهم وجزائهم يوم القيامة.

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤))

شرح الكلمات :

(وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي من الأوثان والأصنام.

(حَصَبُ جَهَنَّمَ) : أي ما توقد به جهنم.

(لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً) : أي الأوثان التي يعبدها المشركون من قريش

(ما وَرَدُوها) : أي لحالوا بين عابديهم ودخول النار لأنهم آلهة قادرون على ذلك ولكنهم ليسوا آلهة حق فلذا لا يمنعون عابديهم

٤٤٣

من دخول النار.

(وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) : أي العابدون من الناس والمعبودون من الشياطين والأوثان.

(لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) : أي لأهل النار فيها أنين وتنفس شديد وهو الزفير.

(سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) : أي كتب الله تعالى أزلا أنهم أهل الجنة.

(حَسِيسَها) : أي حسّ صوتها.

(لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) : أي عند النفخة الثانية نفخة البعث فإنهم يقومون من قبورهم آمنين غير خائفين.

(كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) : أي يطوي الجبار سبحانه وتعالى السماء طيّ الورقة لتدخل في الظرف.

(كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) : أي يعيد الله الخلائق كما بدأهم أول مرة فيبعث الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا ، كما ولدوا لم ينقص منهم شيء.

معنى الآيات :

يقول تعالى للمشركين الذين بدأت السورة الكريمة بالحديث عنهم ، وهم مشركوا قريش يقول لهم موعدا : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١) مِنْ دُونِ اللهِ) من أصنام وأوثان (حَصَبُ (٢) جَهَنَّمَ) أي ستكونون أنتم وما تعبدون من أصنام وقودا لجهنم التي أنتم واردوها لا محالة ، وقوله تعالى : (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً) لو كان هؤلاء التماثيل من الأحجار التي يعبدها المشركون لو كانوا آلهة حقا ما ورد النار عابدوها لأنهم يخلصونهم منها ولما ورد النار المشركون ودخلوها دل ذلك على أن آلهتهم كانت آلهة باطلة لا تستحق العبادة بحال. وقوله تعالى : (كُلٌّ فِيها خالِدُونَ) أي المعبودات الباطلة وعابدوها الكل في جهنم

__________________

(١) قوله (ما تَعْبُدُونَ) فيه دليل على وجود العموم في الألفاظ ، فإن ابن الزبعرى لمّا نزلت هذه الآية أتت به قريش وقالت له : انظر محمدا شتم آلهتنا. فقال : لو حضرت لرددت عليه ، قالوا : وما كنت تقول له؟ قال : كنت أقول له : هذا المسيح تعبده النصارى واليهود تعبد عزيرا ، أفهما من حصب جهنم؟. فعجبت من مقالته ورأوا أن محمدا قد خصم. فأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ). فدلّ قوله تعالى وما تعبدون على العموم وخصه الله تعالى بهذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ).

(٢) قرأ الجمهور (حَصَبُ) بالصاد ، وقرأ علي وعائشة رضي الله عنهما بالطاء أي حطب. والحصب أعمّ ، إذ كل ما هيجت به النار وأوقدت به فهو حصب.

٤٤٤

خالدون. وقوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ (١) وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) يخبر تعالى أن للمشركين في النار زفيرا وهو الأنين الشديد من شدة العذاب وأنهم فيها لا يسمعون لكثرة الانين وشدة الأصوات وفظاعة ألوان العذاب وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) نزلت هذه الآية ردا على ابن الزّبعرى عند ما قال إن كان ما يقوله محمد حقا بأننا وآلهتنا في جهنم فإن الملائكة معنا في جهنم لأننا نعبدهم ، وأن عيسى والعزير في جهنم لأن اليهود عبدوا العزيز والنصارى عبدوا المسيح. فأخبر تعالى أن من عبد بغير رضاه بذلك وكان يعبدنا ويتقرب إلينا بالطاعات فهو ممن سبقت لهم منا الحسنى بأنهم من أهل الجنة هؤلاء عنها أي عن جهنم مبعدون (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي حس صوتها وهم في الجنة ولهم فيها ما يشتهون خالدون ، (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ (٢) الْأَكْبَرُ) عند قيامهم من قبورهم بل هم آمنون (تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) عند القيام من قبورهم بالتحية والتهنئة قائلة لهم : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) وقوله تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) أي يتم لهم ذلك يوم يطوي الجبار جل جلاله السماء بيمينه (كَطَيِ (٣) السِّجِلِ) أي الصحيفة للكتب. وذلك يوم القيامة حيث تبدل الأرض غير الأرض والسموات غير السموات. وقوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي يعيد الإنسان كما بدأ خلقه فيخرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا. (٤) وقوله : (وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أي وعدنا بإعادة الخلق بعد فنائهم وبلاهم وعدا ، إنا كنا فاعلين فأنجزنا ما وعدنا ، وإنا على ذلك لقادرون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء.

__________________

(١) الزفير نفس يخرج من أقصى الرئتين لضغط الهواء من التأثر بالغم ، وهو هنا من أحوال المشركين لا الأصنام.

(٢) لا يحزنهم بضم الياء من أحزنه ، وبفتحها من حزنه قراءتان سبعيتان ، والفزع الأكبر : أهوال يوم القيامة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار.

(٣) السجل : الكاتب يكتب الصحيفة ثم يطويها عند انتهاء كتابتها. هذا المعنى أوضح مما في التفسير.

(٤) الغرل : جمع أغرل وهو من لم يختتن فتقطع منه غلفة ذكره ، وأول من يكسى إبراهيم كما في صحيح مسلم.

٤٤٥

٢ ـ من عبد من دون الله بأمره أو برضاه سيكون ومن عبده وقودا لجهنم ومن لم يأمر ولم يرض فلا يدخل النار مع من عبده بل العابد له وحده في النار.

٣ ـ بيان عظمة الله وقدرته إذ يطوي السماء بيمينه ، والأرض في قبضته يوم القيامة.

٤ ـ بعث الناس حفاة عراة غرلا لم ينزع منهم شيء ولا غلفة الذكر إنجاز الله وعده في قوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) فسبحان الواحد القهار العزيز الجبار.

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) : أي في الكتب التي أنزلنا كصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل والقرآن.

(مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) : أي من بعد أن كتبنا ذلك في الذكر الذي هو اللوح المحفوظ.

٤٤٦

(أَنَّ الْأَرْضَ) (١) : أي أرض الجنة.

(عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) : هم أهل الإيمان والعمل الصالح من سائر الأمم من أتباع الرسل عامة

(إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً) : أي إن في القرآن لبلاغا أي لكفاية وبلغة لدخول الجنة فكل من آمن به وعمل بما فيه دخل الجنة.

(لِقَوْمٍ عابِدِينَ) : أي مطيعين الله ورسوله.

(رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) : أي الإنس والجن فالمؤمنون المتقون يدخلون الجنة والكافرون ينجون. من عذاب الاستئصال والابادة الذي كان يصيب الامم السابقة.

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) : أي أسلموا فالاستفهام للأمر.

(وَإِنْ أَدْرِي) : أي ما أدري.

(فِتْنَةٌ لَكُمْ) : أي اختبار لكم.

(عَلى ما تَصِفُونَ) : من الكذب من أن النبي ساحر ، وأن الله اتخذ ولدا وأن القرآن شعر.

معنى الآيات :

يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بوعده الكريم الذي كتبه في كتبه المنزلة بعد كتابته في الذكر الذي هو كتاب المقادير المسمى باللوح المحفوظ أن أرض الجنة يرثها عباده الصالحون هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٠٥) وقوله تعالى : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) (٢) أي في هذا القرآن العظيم لبلاغا لمن كان من العابدين لله بأداء فرائضه واجتناب نواهيه لكفاية في الوصول به إلى بغيته وهي رضوان الله والجنة وقوله تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) يخبر تعالى انه ما ارسل رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا رحمة للعالمين (٣)

__________________

(١) في الأرض : الأرض المقدسة ، وقال مرة انها أرض الكفار ترثها أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(٢) العابدون قال أبو هريرة وسفيان الثوري هم أهل الصلوات الخمس.

(٣) قال ابن زيد : المؤمنون خاصة ، والعموم أولى وأصح من الخصوص.

٤٤٧

إنسهم وجنهم مؤمنهم وكافرهم فالمؤمنون باتباعه يدخلون رحمة الله وهي الجنة والكافرون يأمنون من عذاب الإبادة والاستئصال في الدنيا ذلك العذاب الذي كان ينزل بالأمم والشعوب عند ما يكذبون رسلهم وقوله تعالى (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ (١) مُسْلِمُونَ) يأمر تعالى رسوله أن يقول لقومه ولمن يبلغهم خطابه إن الذي يوحى إلى هو أن إلهكم إله واحد أي معبودكم الحق واحد وهو الله تعالى ليس غيره وعليه (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي أسلموا له قلوبكم ووجوهكم فاعبدوه ولا تعبدوا معه سواه فبلغهم يا رسولنا هذا (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن هذا الطلب ولم يقبلوه (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أي اعلمتكم (عَلى سَواءٍ) أنا وأنتم انه لا تلاقي بيننا فأنا حرب عليكم وأنتم حرب عليّ وقوله تعالى : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) أي وقل لهم يا رسولنا : إني ما أدري أقريب ما توعدون من العذاب أم بعيد فالعذاب كائن لا محالة ما لم تسلموا إلا أني لا أعلم وقته. وفي الآية وعيد واضح وتهديد شديد وقوله : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) أي يعلم طعنكم العلني في الإسلام وكتابه ونبيه ، كما يعلم ما تكتمونه في نفوسكم من عداوتي وبغضي وما تخفون من إحن وفي هذا إنذار لهم وتهديد ، وهم مستحقون لذلك.

وقوله : (وَإِنْ أَدْرِي) أي وما أدري (لَعَلَّهُ) (٢) أي تأخير العذاب عنكم بعد استحقاقكم له يحربكم للإسلام ونبيه (فِتْنَةٌ لَكُمْ) أي اختبار لعلكم تتوبون فيرفع عنكم العذاب أو هو متاع لكم بالحياة إلى آجالكم ، ثم تعذبون بعد موتكم. فهذا علمه إلى ربي هو يعلمه ، وبهذا أمرني بأن أقوله لكم. وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) وفي قراءة قل رب احكم بالحق أي قال الرسول بعد أمر الله تعالى بذلك يا رب احكم بينى وبين قومى المكذبين لي المحاربين لدعوتك وعبادك المؤمنين بالحق وذلك بنصري عليهم أو بإنزال نقمتك بهم ، وقوله : (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (٣) أي وربنا الرحمن عز

__________________

(١) الاستفهام معناه الأمر أي أسلموا. كقوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؟ أي انتهوا.

(٢) لعله أي الإمهال والتأخير.

(٣) (تَصِفُونَ) قرأ الجمهور تصفون بالتاء ، وقرأ بعض يصفون بالياء.

٤٤٨

وجلّ هو الذي يستعان به على إبطال باطلكم أيها المشركون حيث جعلتم لله ولدا ، وشركاء ، ووصفتم رسوله بالسحر والكذب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ المؤمنون المتقون وهم الصالحون هم ورثة الجنة دار النعيم المقيم.

٢ ـ في القرآن الكريم البلغة الكافية لمن آمن به وعمل بما فيه بتحقيق ما يصبو إليه من سعادة الدار الآخرة.

٣ ـ بيان فضل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكرامته على ربه حيث جعله رحمة للعالمين.

٤ ـ وجوب المفاصلة بين أهل الشرك وأهل التوحيد.

٥ ـ وجوب الاستعانة بالله على كل ما يواجه العبد من صعاب وأتعاب.

سورة الحج

مكية ومدنية

وآياتها (١) ثمان وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ

__________________

(١) ذكر القرطبي عن الغزنوي أنه قال : سورة الحج من أعاجيب سور القرآن. نزلت ليلا ونهارا سفرا وحضرا مكيّا ومدنيّا سلميّا وحربيّا ناسخا ومنسوخا محكما ومتشابها.

٤٤٩

(٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤))

شرح الكلمات :

(اتَّقُوا رَبَّكُمْ) : أي عذاب ربكم وذلك بالإيمان والتقوى.

(إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) : أي زلزلة الأرض عند مجىء الساعة.

(تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ) : أي من شدة الهول والخوف تنسى رضيعها وتغفل عنه.

(وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) : أي تسقط الحوامل ما في بطونهن من الخوف والفزع.

(سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) : أي ذاهلون فاقدون رشدهم وصوابهم كالسكارى وما هم بسكارى

(يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) : أي يقول إن الملائكة بنات الله وإن الله لا يحيي الموتى.

(شَيْطانٍ مَرِيدٍ) : أي متجرد من كل خير لا خير فيه البتة.

(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) : فرض فيه أن من تولاه أي اتبعه يضله عن الحق.

معنى الآيات :

بعد ذلك البيان الإلهي في سورة الأنبياء وما عرض تعالى من أدلة الهداية وما بين من سبل النجاة نادى تعالى بالخطاب العام الذي يشمل العرب والعجم والكافر والمؤمن انذارا وتحذيرا فقال في فاتحة هذه السورة سورة الحج المكية المدنية لوجود آي كثير فيها نزل في مكة وآخر نزل بالمدينة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا) (١) (رَبَّكُمْ) أي خافوا عذابه ، وذلك

__________________

(١) روى الترمذي وصححه عن عمران بن خصين رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) إلى قوله : (شَدِيدٌ) قال : أنزلت عليه في سفر : فقال : أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : (ذاك يوم يقول الله لآدم : ابعث بعث النار قال يا ربّ وما بعث النار؟ قال : تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. قال : فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قاربوا وسدّدوا فإنه لم تكن نبوّة قط إلّا كان بين يديها جاهلية قال : فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلّا أخذ من المنافقين ، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبّروا ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبّروا ثمّ قال : إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبّروا. قال : لا أدري قال الثلثين أم لا). الرقمة : الهنة الناتئة في ذراع الدابة والشامة : علامة تخالف البدن الذي هي فيه.

٤٥٠

بطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه فآمنوا به وبرسوله وأطيعوهما في الأمر والنهي وبذلك تقوا أنفسكم من العذاب. وقوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) فكيف بالعذاب الذي يقع فيها لأهل الكفر والمعاصي ، إن زلزلة لها تتم قبل (١) قيامها تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت أي تنسى فيها الأم ولدها ، (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) فتسقط من شدة الفزع لتلك الزلزلة المؤذنة بخراب الكون وفناء العوالم ويرى الناس فيها سكارى أي فاقدين لعقولهم وما هم بسكارى بشرب سكر (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فخافوه لظهور أماراته ووجود بوادره.

هذا ما دلت عليه الآيتان (١) و (٢) وأما الآية الثالثة فينعى تعالى على النضر بن الحارث وأمثاله ممن يجادلون في الله بغير علم فينسبون لله الولد والبنت ويزعمون أنه ما أرسل محمدا رسولا ، وأنه لا يحيي الموتى بعد فناء الأجسام وتفتتها فقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) بجلال الله وكماله ولشرائعه وأحكامه وسننه في خلقه ، (وَيَتَّبِعُ) أي في جداله وما يقوله من الكذب والباطل (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) أي متجرد من الحق والخير ، (كُتِبَ (٢) عَلَيْهِ) أي على ذلك الشيطان في قضاء الله أن من تولاه بالطاعة والاتباع فإنه يضله عن الحق ويهديه بذلك إلى عذاب السعير في النار.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوالهما وأهوالهما.

٢ ـ حرمة الجدال بالباطل لإدحاض الحق وإبطاله.

٣ ـ حرمة الكلام في ذات الله وصفاته بغير علم من وحي إلهي أو كلام نبوي صحيح.

٤ ـ موالاة الشياطين واتباعهم يفضى بالموالي المتابع لهم إلى جهنم وعذاب السعير.

__________________

(١) الذي عليه أكثر أهل التفسير أنّ هذه الزلزلة تتم بنفخة الفناء بقرينة الحمل والوضع وحديث الترمذي الصحيح دال على أنها بعد البعث ، والجمع بينهما : صحيح أولا لا مانع من أن يقع هذا وذاك وهو كذلك والقرآن حمّال الوجوه ، فهذا الهول العظيم سيقع حتما في النفخة الأولى ، وفي ساحة فصل القضاء ، وأمّا موضوع الحمل والوضع فكائن أيضا في عرصات القيامة إذ الناس يبعثون على ما ماتوا عليه فالحامل تبعث حاملا والمرضع تبعث ترضع أيضا.

(٢) قال قتادة ومجاهد : من تولى الشيطان فإنه يضله.

٤٥١

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))

شرح الكلمات :

(فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) : الريب الشك مع اضطراب النفس وحيرتها ، والبعث الحياة بعد الموت.

(مِنْ نُطْفَةٍ) : قطرة المنّي التي يفرزها الزوجان.

(عَلَقَةٍ) : أي قطعة دم متجمد تتحول إليه النطفة في خلال أربعين يوما.

(مُضْغَةٍ) : أي قطعة لحم قدر ما يمضغ المرء تتحول العلقة اليها بعد أربعين يوما.

(وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) : أي مصورة خلقا تاما ، مخلقة وغير مخلقة هي السقط يسقط

٤٥٢

قبل تمام خلقه.

(لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) : أي قدرتنا على ما نشاء ونعرفكم بابتداء خلقكم كيف يكون.

(وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) : أي ونبقي في الرحم من نريد له الحياة والبقاء إلى نهاية مدة الحمل ثم نخرجه طفلا سويا.

(لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) : أي كمال أبدانكم وتمام عقولكم.

(إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) : أي سن الشيخوخة والهرم فيخرف.

(لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) : أي فيصير كالطفل في معارفه إذ ينسى كل علم علمه.

(هامِدَةً) : خامدة لا حراك لها ميتة.

(اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) : أي تحركت بالنبات وارتفعت تربتها وأنبتت.

(زَوْجٍ بَهِيجٍ) : أي من كل نوع من أنواع النباتات جميل المنظر حسنه.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) : أي الإله الحق الذي لا إله سواه ، فعبادة الله حق وعبادة غير الله باطل.

(وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) : أي القيامة.

(يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) : أي يحييهم ويخرجهم من قبورهم احياء كما كانوا قبل موتهم.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى بعض أحوال القيامة وأهوالها ، وكان الكفر بالبعث الآخر هو العائق عن الاستجابة للطاعة وفعل الخير نادى تعالى الناس مرة أخرى ليعرض عليهم أدلة البعث العقلية لعلهم يؤمنون فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) أي في شك وحيرة وقلق نفسى من شأن بعث الناس أحياء من قبورهم بعد موتهم وفنائهم لأجل حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم التي عملوها في دار الدنيا فاليكم ما يزيل شككم ويقطع حيرتكم في هذه القضية العقدية وهو أن الله تعالى قد خلقكم (١) من تراب أي خلق

__________________

(١) هذا دليل قاطع وهو دليل البداءة الأولى فمن قدر على البداءة قادر عقلا على الإعادة وهي أهون عليه.

٤٥٣

أصلكم وهو أبوكم آدم من تراب وبلا شك ، ثم خلقكم أنتم من نطفة (١) أي ماء الرجل وماء المرأة وبلا شك ، ثم من علقة (٢) بعد تحول النطفة إليها ثم من مضغة (٣) بعد تحول العلقة إليها وهذا بلا شك أيضا ، ثم المضغة إن شاء الله تحويلها إلى طفل خلقها وجعلها طفلا ، وإن لم يشأ ذلك لم يخلقها وأسقطها من (٤) الرحم كما هو معروف ومشاهد ، وفعل الله ذلك من أجل أن يبين لكم قدرته وعلمه وحسن تدبيره لترهبوه وتعظموه وتحبوه وتطيعوه وقوله : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) (٥) أي ونقر تلك المضغة المخلقة في الرحم إلى أجل مسمى وهو ميعاد ولادة الولد وانتهاء حمله ونخرجكم طفلا أي أطفالا صغارا لا علم لكم ولا حلم ، ثم ننميكم ونربيكم بما تعلمون من سننا في ذلك (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي تمام نماء أبدانكم وعقولكم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) قبل بلوغه أشده لأن الحكمة الإلهية اقتضت وفاته ومنكم من يعيش ولا يموت حتى يرد إلى ارذل العمر فيهرم ويخرف ويصبح كالطفل لا يعلم بعد علم كان له قبل هرمه شيئا هذا دليل البعث وهو دليل عقلي منطقي وبرهان قوي على حياة الناس بعد موتهم إذ الذي خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة يوجب العقل قدرته على إحيائهم بعد موتهم ، إذ ليست الإعادة بأصعب من البداية. ودليل عقلي آخر هو ما تضمنه قوله تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ) أيها الإنسان (هامِدَةً) خامدة ميتة لا حراك فيها ولا حياة فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء من السماء (اهْتَزَّتْ) أي تحركت (وَرَبَتْ) أي ارتفعت وانتفخت تربتها وأخرجت من النباتات المختلفة الألوان والطعوم والروائح (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) جميل المنظر حسنه ، أليس وجود تربة صالحة كوجود رحم صالحة وماء المطر كماء الفحل

__________________

(١) النطفة : المني ، وسمي نطفة لقلّته.

(٢) العلقة : الدم الجامد ، والعلق : الدم العبيط أي : الطري.

(٣) هذه الأطوار أربعة أشهر ، قال ابن عباس : وفي العشر بعد الأربعة أشهر ينفخ فيه الروح ، فذلك عدّة الوفاة منها أربعة أشهر وعشر ، وفي الصحيح عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الصادق المصدوق : (إنّ أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات .. رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.

(٤) روى ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : لسقط أقدّمه بين يدي أحبّ إليّ من ألف فارس أخلّفه ورائي).

(٥) أي : فخرج كل واحد منكم طفلا ، ويطلق الطفل على الولد من يوم انفصاله إلى البلوغ وولد كل وحشية يقال له طفل ويوصف به مفردا كالمصدر فيقال : جارية طفل وجاريتان طفل ، وجوار طفل ، وغلام طفل وغلامان طفل ، ويجمع الطفل على أطفال ، وأطفلت المرأة : صارت ذات طفل.

٤٥٤

وتخلق النطفة في الرحم كتخلق البذرة في التربة وخروج الزرع حيا ناميا كخروج الولد حيا ناميا وهكذا إلى حصاد الزرع وموت الإنسان فهذان دليلان عقليان على صحة البعث الآخر وأنه كائن لا محالة وفوق ذلك كله إخبار الخالق وإعلامه خلقه بأنه سيعيدهم بعد موتهم فهل من العقل والمنطق أو الذوق أن نقول له لا فإنك لا تقدر على ذلك قولة كهذه قذرة عفنة لا يود أن يسمعها عقلاء الناس واشرافهم. ولما ضرب تعالى هذين المثالين أو ساق هذين الدليلين على قدرته وعلمه وحكمته المقتضية لإعادة الناس أحياء بعد الموت والفناء للحساب والجزاء قال وقوله الحق (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) (١) أي الرب الحق والإله المعبود الحق ، وما عداه فباطل (وَأَنَّهُ يُحْيِ) (٢) (الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ومن شك فليراجع الدليلين السابقين في تدبر وتعقل فانه يسلم لله تعالى ما أخبر به عن نفسه في قوله ذلك (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) الخ.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الأعمال يوم القيامة.

٢ ـ بيان تطور خلق الإنسان ودلالته على قدرة الله وعلمه وحكمته.

٣ ـ الاستدلال على الغائب بالحاضر المحسوس وهذا من شأن العقلاء فإن المعادلات الحسابية والجبرية قائمة على مثل ذلك.

٤ ـ تقرير عقيدة التوحيد وهي أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) لما ذكر تعالى افتقار الموجودات إليه وتسخيرها على وفق اقتداره في قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ) إلى قوله : (بَهِيجٍ) قال ذلك إشارة إلى ما تقدم من أطوار خلق الإنسان وفنائه وإحياء الأرض بعد موتها وانشقاق النبات منها أي : ذلك حصل بسبب أنّ الله هو الإله الحق دون غيره.

(٢) ومن براهين ألوهيته الحقة دون من سواه أنه يحيى الموتى وأنه على كل ما يريده قدير وأنه موجد الدنيا والآخرة وسيفني هذه في ساعة آتية لا محالة ، وسيبعث الناس من القبور للحياة الثانية فيخلدون فيها منهم شقي ومنهم سعيد.

٤٥٥

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣))

شرح الكلمات :

(يُجادِلُ فِي اللهِ) : أي في شأن الله تعالى فينسب إلى الله تعالى ما هو منه براء كالشريك والولد والعجز عن إحياء الموتى ، وهذا المجادل هو أبو جهل.

(بِغَيْرِ عِلْمٍ) : أي بدون علم من الله ورسوله.

(وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) : أي ولا كتاب من كتب الله ذي نور يكشف الحقائق ويقرر الحق ويبطل الباطل.

(ثانِيَ عِطْفِهِ) : أي لآوى عنقه تكبرا ، لأن العطف الجانب من الإنسان.

(لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) : وقد أذاقه الله تعالى يوم بدر إذ ذبح هناك واحتز رأسه.

(بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) : أي بذي ظلم للعبيد فيعذبهم بغير ظلم منهم لأنفسهم.

(يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) : أي على شك في الإسلام هل هو حق أو باطل وذلك لجهلهم به

٤٥٦

وأغلب هؤلاء أعراب البادية.

(اطْمَأَنَّ بِهِ) : أي سكنت نفسه إلى الإسلام ورضي به.

(وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) : أي ابتلاء بنقص مال أو مرض في جسم ونحوه.

(انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) : أي رجع عن الإسلام إلى ما كان عليه من الكفر الجاهلي.

ما لا يضره ولا ينفعه : أي صنما لا يضره إن لم يعبده ، ولا ينفعه إن عبده.

(لَبِئْسَ الْمَوْلى) : أي قبح هذا الناصر من ناصر.

(وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) : أي المعاشر وهو الصاحب الملازم.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) هذه شخصية ثانية معطوفة على الأولى التي تضمنها قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) وهي شخصية النضر بن الحارث أحد رؤساء الفتنة في مكة ، وهذه الشخصية هي فرعون هذه الأمة عمرو بن هشام الملقب بأبي جهل يخبر تعالى عنه فيقول : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (١) بل يجادل بالجهل وما أقبح جدال الجهل والجهّال ويجادل في الله عزوجل يا للعجب أفيريد ان يثبت لله تعالى الولد والبنت والعجز والشركاء والشفعاء ، ولا علم من وحي عنده ، ولا من كتاب إلهي موحى به إلى أحد أنبيائه. وقوله تعالى : (ثانِيَ عِطْفِهِ) وصف له في حال مشيه وهو يجر رداءه مصعرا خده مائلا إلى أحد جنبيه كبرا وغرورا ، وجداله لا لطلب الهدى أو لمجرد حب الإنتصار للنفس بل ليضل غيره عن سبيل الله تعالى الذي هو الإسلام حتى لا يدخلوا فيه فيكملوا ويسعدوا عليه في الحياتين. وقوله تعالى : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) (٢) أي ذل وهوان وقد ناله حيث قتل في بدر شر قتلة فقد احتز رأسه وفصل عن جثته ونال منه الذين كان يسخر منهم ويعذبهم من ضعفة المؤمنين ، وقوله تعالى : (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) وقد أذاقه ذلك بمجرد أن قتل فروحه في النار ويوم

__________________

(١) نير بيّن الحجة قويها ، والمراد من الكتاب : كتب الشرائع مثل : التوراة والانجيل من الكتب الأولى والقرآن آخرها نزولا.

(٢) في هذه الآية إخبار بغيب فكان كما أخبر تعالى فإن كلّا من أبي جهل والنضر بن الحارث قد أذلهما الله وأخذهما ببدر ، فأبو جهل قتل وأخذ رأسه ، والنضر قتل صبرا ، والآية قطعا نزلت بمكة فهي من معجزات القرآن الكريم.

٤٥٧

القيامة يدخلها بجمسه وروحه وقوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي يقال له يوم القيامة ذلك الخزي والهوان وعذاب الحريق بما قدمت يداك من الشرك والظلم والمعاصي ، (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، وأنت منهم والله ما ظلمك بل ظلمت نفسك ، والله متنزه عن الظلم لكمال قدرته وغناه وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ (١) مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) (٢) أي على شك هذه شخصية ثالثة عطفت على سابقتيها وهي شخصية بعض الاعراب كانوا يدخلون في الإسلام لا عن علم واقتناع بل عن شك وطمع وهو معنى على حرف فإن أصابهم خير من مال وصحة وعافية اطمأنوا إلى الإسلام وسكنت نفوسهم واستمروا عليه ، وإن أصابتهم فتنة أي اختبار في نفس أو مال أو ولد انقلبوا على وجوههم أي ارتدوا عن الإسلام ورجعوا عنه فخسروا بذلك الدنيا والآخرة فلا الدنيا حصلوا عليها ولا الآخرة فازوا فيها ، قال تعالى : (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي البين الواضح إذ لو بقوا على الإسلام لفازوا بالآخرة ، ولأخلف الله عليهم ما فقدوه من مال أو نفس ، وقوله تعالى (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي ذلك المنقلب على وجهه المرتد يدعوا (ما لا يَضُرُّهُ) أي صنا لا يضره لو ترك عبادته (وَما لا يَنْفَعُهُ) إن عبده وقوله تعالى : (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي دعاء وعبادة ما لا يضر ولا ينفع ضلال عن الهدى والخير والنجاح والربح وبعيد أيضا قد لا يرجع صاحبه ولا يهتدي. وقوله : (يَدْعُوا (٣) لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) أي يدعو ذلك المرتد عن التوحيد إلى الشرك من ضره يوم القيامة أقرب من نفعه فقد يتبرأ منه ويحشر معه في جهنم ليكونا معا وقودا لها. قال تعالى : (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ (٤) الْعَشِيرُ) المعاشر والصاحب الملازم فذم تعالى وقبح ما كان المشركون يؤملون فيهم ويرجون شفاعتهم (٥) يوم القيامة ،

__________________

(١) هذه الآية نزلت بالمدينة النبوية فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) قال : كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء.

(٢) حرف كل شيء : طرفه وجانبه والآية تمثيل لحال المتردد في عمله.

(٣) أي : في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار ولم ير منه نفعا أصلا وإنما قال : (ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) ترفيعا للكلام نحو : (إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) ومعنى الكلام : القسم والتأخير أي : يدعو والله من ضرّه أقرب من نفعه ، والمدعو هو الوثن الذي عبده من دون الله تعالى.

(٤) هذه الجمل تحمل الذم والتقبيح للأصنام التي يدعوها المشركون فإنها شر الموالي وشر العشير ، لأن شأن الولي جلب النفع لمولاه وشأن العشير جلب الخير لعشيره فإذا كان العكس كانا شر الموالي والعشراء.

(٥) قال تعالى من سورة يونس : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) ، وقالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) وهذا منهم على فرض إن بعثوا أحياء يوم القيامة أو يرجون شفاعتهم في الدنيا.

٤٥٨

تنفيرا لهم من الشرك وعبادة غيره سبحانه وتعالى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ قبح جدال الجاهل فيما ليس له به علم.

٢ ـ ذم الكبر والخيلاء وسواء من كافر أو من مؤمن.

٣ ـ عدم جدوى عبادة صاحبها شاك في نفعها غير مؤمن بوجوبها ومشروعيتها.

٤ ـ لا يصح دين مع الشك.

٥ ـ تقرير التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧))

شرح الكلمات :

(وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : أي الفرائض والنوافل وأفعال الخير.

(يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) : من إكرام المطيع وإهانة العاصي وغير ذلك من رحمه المؤمن وعذاب الكافر.

(أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) : أي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤٥٩

(فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) : أي بحبل.

(إِلَى السَّماءِ) : أي سقف بينه وليختنق غيظا

(هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) : أي في عدم نصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يغيظه.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) : أي ومثل إنزالنا تلك الآيات السابقة أنزلنا القرآن.

(هادُوا) : أي اليهود.

(وَالصَّابِئِينَ) : فرقة من النصارى.

(وَالْمَجُوسَ) : عبدة النار والكواكب.

(عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) : أي عالم به حافظ له.

معنى الآيات :

بعد ما ذكر تعالى جزاء الكافرين والمترددين بين الكفر والإيمان أخبر أنه تعالى يدخل الذين آمنوا به وبرسوله ولقاء ربهم ووعده ووعيده وعملوا الصالحات وهي الفرائض التي افترضها الله عليهم والنوافل التي رغبهم فيها يدخلهم جزاء لهم على إيمانهم وصالح أعمالهم جنات تجري من تحتها الأنهار وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (١) ومن ذلك تعذيبه من كفر به وعصاه ورحمة من آمن به وأطاعه وقوله تعالى : (٢) (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) أي من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله ودينه وعباده المؤمنين فلذا هو يتردد ولم يؤمن ولم ينخرط في سلك المسلمين كبني أسد وغطفان فإنا نرشده إلى ما يذهب عنه غيظه حيث يسوءه نصر الله تعالى لرسوله وكتابه ودينه وعباده المؤمنين وهو أن يأتي بحبل وليربطه بخشبة في سقف بيته ويشده على عنقه ثم ليقطع الحبل (٣) ، وينظر بعد هذه العملية الانتحارية هل (٤) كيده هذا يذهب عنه الذي يغيظه؟.

__________________

(١) هذه الجملة الكريمة هي تذييل لكلّ ما تقدم لقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ومتضمنة تعليلا اجماليا لاختلاف الناس في الخير والشر ولما يلقون من جزاء كذلك.

(٢) الظاهر أن هذا فريق ثالث غير الفريقين المتقدمين وهما : فريق من يجادل في الله بغير علم وفريق من يعبد الله على حرف وهذا الفريق الثالث قد يكون من اليهود والمنافقين وبعض المشركين الذين كانوا يغتاظون لانتصار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم لا يودّون ذلك ولا كانوا يرون انتصاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم كائنا فكلما رأوا نصرا له ازداد غمهم واشتد كربهم لأنّ انتصاره يحزنهم ويخيفهم.

(٣) قرأ الجمهور : (لْيَقْطَعْ) بسكون اللام لوجود ثم العاطفة وقرأ بعض ليقطع بكسر اللام لأن ثم ليست كالفاء والواو العاطفتين لأنها مركبة من ثلاثة أحرف.

(٤) (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) الاستفهام انكاري ، وما : مصدرية أي : هل يذهبن كيده غيظه.

٤٦٠