أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بخلف السوء وهو من يضيع الصلاة ويتبع الشهوات.

٢ ـ الوعيد الشديد لمن ينغمس في الشهوات ويترك الصلاة فيموت على ذلك.

٣ ـ باب التوبة مفتوح والتوبة مقبولة من كل من أرادها وتاب.

٤ ـ بيان نعيم الجنة دار المتقين الأبرار.

٥ ـ تقرير مبدأ التوارث بين أهل الجنة وأهل النار.

٦ ـ بيان أن ورثة الجنة هم الأتقياء ، وأن ورثة النار هم الفجار.

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥))

شرح الكلمات :

(وَما نَتَنَزَّلُ) : التنزل النزول وقتا بعد وقت.

(إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) : أي إلا بإذنه لنا في النزول على من يشاء.

(لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) : أي مما هو مستقبل من أمر الآخرة.

(وَما خَلْفَنا) : أي ما مضى من الدنيا.

(وَما بَيْنَ ذلِكَ) : مما لم يمض من الدنيا إلى يوم القيامة أي له علم ذلك كله.

(وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) : أي ذا نسيان فإنه تعالى لا ينسى فكيف ينساك ويتركك؟.

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي مالكهما والمتصرف فيهما.

(وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) : أي اصبر وتحمل الصبر في عبادته حتى الموت.

(هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) : أي لا سميّ له ولا مثل ولا نظير فهو الله أحد ، لم يكن له كفوا أحد.

٣٢١

معنى الآيتين :

لنزول هاتين الآيتين سبب وهو ما روى واستفاض أن الوحي تأخر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي يأتي بالوحي جبريل عليه‌السلام فلما جاء بعد بطء قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فأنزل الله تعالى قوله : جوابا لسؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما نَتَنَزَّلُ) (١) أي نحن الملائكة وقتا بعد وقت على من يشاء ربنا (إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) أيها الرسول أي إلا بإذنه لنا فليس لأحد منا أن ينزل من سماء إلى سماء أو إلى أرض إلا بإذن ربنا عزوجل ، (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي له أمر وعلم ما بين أيدينا أي ما أمامنا من أمور الآخرة وما خلفنا أي مما مضى من الدنيا علما وتدبيرا ، وما بين ذلك إلى يوم القيامة علما وتدبيرا ، وما كان ربك عزوجل يا رسول الله ناسيا (٢) لك ولا تاركا فإنه تعالى لم يكن النسيان وصفا له فينسى.

وقوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) يخبر تعالى رسوله بأنه تعالى مالك السموات والأرض وما بينهما والمتصرف فيهما فكل شيء له وبيده وفي قبضته وعليه (فَاعْبُدْهُ) أيها الرسول بما أمرك بعبادته به (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) (٣) إي تحمل لها المشاق ، فإنه لا إله إلا هو ، ف (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (٤) أي نظيرا أو مثيلا والجواب لا : إذا فاعبده وحده وتحمل في سبيل ذلك ما استطعت تحمله. فإنه لا معبود بحق إلا هو إذ كل ما عداه مربوب له خاضع لحكمه وتدبيره فيه.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ تقرير سلطان الله على كل الخلق وعلمه بكل الخلق وقدرته على كل ذلك.

__________________

(١) روى البخاري أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل عليه‌السلام : (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) الآية ، وقال مجاهد : أبطأ الملك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمّ أتاه فقال : ما الذي أبطأك؟ قال : كيف نأتيكم وأنتم لا تقصّون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ولا تنقون رواجبكم ولا تستاكون. قال مجاهد : فنزلت الآية في هذا والمراد بالمعيب عليهم : بعض المؤمنين لا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحاشاه أن يكون معيبا وهو على أكمل الأحوال.

(٢) هذا تفسير لقوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أي : ناسيا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل.

(٣) أي : لطاعته ، واللام بمعنى : على أي : على طاعته ، ولا تحزن لتأخّر الوحي عنك ، وأصل اصطبر : اصتبر فقلبت التاء طاء تخفيفا في النطق.

(٤) ولذا إجماع أهل الإسلام من عهد آدم أنه لا يجوز أن يسمى مخلوق باسم الله عزوجل «الله».

٣٢٢

٢ ـ استحالة النسيان على الله عزوجل.

٣ ـ تقرير ربوبية الله تعالى للعالمين ، وبذلك وجبت له الألوهية على سائر العالمين.

٤ ـ وجوب عبادة الله تعالى ووجوب الصبر عليها حتى الموت.

٥ ـ نفي الشبيه والمثل والنظير لله إذ هو الله أحد لم يكن له كفوا أحد.

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢))

شرح الكلمات :

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ) : أي الكافر بلقاء الله تعالى.

(وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) : أي قبل خلقه فلا ذات له ولا اسم ولا صفة.

(جِثِيًّا) : أي جاثمين على ركبهم في ذل وخوف وحزن.

(مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) : أي طائفة تعاونت على الباطل وتشيع بعضها لبعض فيه

(عِتِيًّا) : أي تكبرا عن عبادته وظلما لعباده

(أَوْلى بِها صِلِيًّا) : أي أحق بها اصطلاء واحتراقا وتعذيبا في النار.

(إِلَّا وارِدُها) : أي مارا بها إن وقع بها هلك ، وإن مر ولم يقع نجا.

(حَتْماً مَقْضِيًّا) : أي أمرا قضى به الله تعالى وحكم به وحتّمه فهو كائن لا بد.

(فِيها جِثِيًّا) : أي في النار جاثمين على ركبهم بعضهم إلى بعض.

٣٢٣

معنى الآيات :

الآيات في سياق تقرير عقيدة البعث والجزاء يقول تعالى وقوله الحق : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ) أي المنكر للبعث والدار الآخرة وقد يكون القائل أبي بن خلف أو العاص بن وائل وقد يكون غيرهما إذ هذه قولة كل من لا يؤمن بالآخرة يقول : (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ (١) أُخْرَجُ حَيًّا) يقول هذا استنكارا وتكذيبا قال تعالى : رادا على هذا الإنسان قولته الكافرة (أَوَلا يَذْكُرُ (٢) الْإِنْسانُ) أي المنكر للبعث الآخر (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ (٣) قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) أيكذب بالبعث وينكره ولا يذكر خلقنا له من قبل ، ولم يك شيئا.

أليس الذي قدر على خلقه قبل أن يكون شيئا قادرا على إعادة خلقه مرة أخرى أليست الإعادة أهون من الخلق الأول والإيجاد من العدم ، ثم يقسم الله تبارك وتعالى لرسوله على أنه معيدهم كما كانوا ويحشرهم جميعا مع شياطينهم الذين يضلونهم ثم يحضرنهم حول جهنم جثيا على ركبهم أذلاء صاغرين. هذا معنى قوله تعالى في الآية (٦٨) (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ (٤) وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا).

وقوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) يخبر تعالى بعد حشرهم إلى ساحة فصل القضاء أحياء مع الشياطين الذين كانوا يضلونهم ، يحضرهم حول جهنم جثيا ، ثم يأخذ تعالى من كل طائفة من تلك الطوائف التي أحضرت حول جهنم وهي جاثية تنتظر حكم الله تعالى فيها أيهم كان أشد على الرحمن عتيا أي تمردا عن طاعته وتكبرا عن الإيمان به وبرسوله ووعده ووعيده وهو معنى قوله تعالى في الآية (٦٩) (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) وقوله تعالى : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ

__________________

(١) اللام في : (لَسَوْفَ) للتأكيد والاستفهام : (أَإِذا) : للإنكار ، واللام : لام الابتداء جاء بها المتكلم لتأكيد إنكاره للبعث بعد الموت والخروج من قبره حيّا.

(٢) الاستفهام للانكار على منكر البعث ، والتعجب من عقليته وعمى قلبه من عدم النظر في عدم أصل خلقه فإنه لو أبصر وزالت غفلته لما أنكر البعث فالذي خلقه اليوم يخلقه غدا ولا عجب.

(٣) قبل كبعد : ملازمة للاضافة فإذا حذف المضاف بنيت على الضم ، والمضاف المحذوف هنا تقديره : من قبل كونه شيئا يذكر في الوجود وقد أوجده الآن ويعدمه غدا ويحييه بعد موته يوم يريد ذلك.

(٤) الفاء : للتفريع ، والضمير في : (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) عائد على جنس الإنسان المكذّب بالبعث الآخر ، والمشرك بالله المصر على ذلك ، وذكر حشر الشياطين معهم تحقيرا لشأنهم حيث يحشرون مع أخس الخلق وأحطه ثمّ أشار إلى أنّ شركهم وكفرهم كان بتزيين الشياطين لهم ذلك ، والجثي : جمع جاث مثل : قاعد وقعود ، فجثي : أصلها جثوي قلبت الواو ياء ، وأدغمت ، والجاثي هو البارك على ركبتيه عجزا عن القيام.

٣٢٤

أَوْلى بِها صِلِيًّا) يخبر تعالى بعلمه بالذين هم أجدر وأحق بالاصطلاء بعذاب النار ، وسوف يدخلهم النار قبل غيرهم ثم يدخل باقيهم بعد ذلك وهو معنى قوله عزوجل : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) (١).

وقوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) ، فإنه يخبر عزوجل عن حكم حكم به وقضاء قضى به وهو أنه ما من واحد منا معشر بني آدم إلا وارد جهنم وبيان ذلك كما جاء في الحديث أن الصراط جسر يمد على ظهر جهنم والناس يمرون فوقه فالمؤمنون يمرون ولا يسقطون في النار والكافرون يمرون فيسقطون في جهنم. وهو معنى قوله في الآية (٧٢) (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) (٢) أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه بترك واجب ولا بارتكاب محرم (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) بالتكبر والكفر وغشيان الكبائر من الذنوب (فِيها جِثِيًّا) أي ونترك الظالمين فيها أي جهنم جاثمين على ركبهم يعانون أشد أنواع العذاب

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بالحشر والاحضار حول جهنم والمرور على الصراط.

٢ ـ تقرير معتقد الصراط في العبور عليه إلى الجنة.

٣ ـ تقديم رؤساء الضلال وأئمة الكفر إلى جهنم قبل الأتباع الضالين.

٤ ـ تقرير حتمية المرور على الصراط.

٥ ـ بيان نجاة الأتقياء ، وهلاك الفاجرين الظالمين بالشرك والمعاصي.

__________________

(١) يقال : صلى يصلى صليّا كمضى يمضي مضيا وهوى يهوي هويّا ، وصليّا بكسر الصاد : قراءة حفص ، وبضمها : قراءة نافع ، وهو مصدر صلي النار كرضي وهو مصدر سماعي بوزن فعول ، قلبت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء فصار صليّا كما تقدّم في جثيا.

(٢) حاول صاحب التحرير أن يردّ مذهب الجمهور في ورود المؤمنين على الصراط كسائر الخلق ثمّ ينجي الله الذين اتقوا حيث يجتازونه بسلام ويقع فيه الكافرون فلا يخرجون وما هناك حاجة إلى ردّ مذهب الجمهور من أئمة الإسلام إذ حديث الصراط والمرور به ثابت قطعيّا ففي صحيح مسلم : (ثم يضرب الجسر على جهنم ، وتحل الشفاعة فيقولون : اللهم سلم سلم قيل : يا رسول الله : وما الجسر؟ قال : دحض مزلّة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون فيها شويكة يقال لها : السعدان ، فيمرّ المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالربح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلّم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم ، وبهذا الصراط .. فسّر السلف الورود على جهنم ، ولم يقولوا بلازم الورود وهو الدخول ، إذ قد يرد المرء على الحوض ويقف على طرفه ولا يدخل فيه وورد وصحّ قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيمن مات له ثلاثة ولد لم يبلغوا الحنث لا تمسه النار إلّا تحلة القسم) وهو الورود على متن جهنم نظرا إلى الآية (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها).

٣٢٥

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦))

شرح الكلمات :

(آياتُنا بَيِّناتٍ) : أي آيات القرآن البينات الدلائل الواضحات الحجج.

(خَيْرٌ مَقاماً) : نحن أم أنتم والمقام المنزل ومحل الإقامة والمراد هنا المنزلة.

(وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) : أي ناديا وهو مجتمع الكرام ومحل المشورة وتبادل الآراء.

(أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) : أي مالا ومتاعا ومنظرا.

(إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) : أي بالقتل والأسر وأما الساعة القيامة المشتملة على نار جهنم.

(مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) : أي منزلة.

(وَأَضْعَفُ جُنْداً) : أي أقل أعوانا.

(وَخَيْرٌ مَرَدًّا) : أي ما يرد إليه ويرجع وهو نعيم الجنة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير النبوة والتوحيد والبعث الآخر يقول تعالى (وَإِذا تُتْلى (١) عَلَيْهِمْ آياتُنا) (٢) (بَيِّناتٍ) أي وإذا قرئت على كفار قريش المنكرين للتوحيد والنبوة المحمدية والبعث والجزاء

__________________

(١) المراد بهم الكفار الذين سبق ذكرهم في الآيات قبل هذه إذا قرئت عليهم الآيات تعزّزوا بالدنيا وقالوا فما بالنا إن كنا على باطل أكثر أموالا وأعز نفرا وقصدهم إدخال الشبهة على المستضعفين من المؤمنين.

(٢) (بَيِّناتٍ) حال مؤكدة.

٣٢٦

يوم القيامة إذا قرأ عليهم رسول الله أو أحد المؤمنين من أصحابه بعض الآيات من القرآن البينات في معانيها ودلائلها على التوحيد والنبوة والبعث (قالَ الَّذِينَ (١) كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) ، وقولهم هذا هو رد فعل لا غير ، إذ أنهم لما يسمعون الآيات تحمل الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين مثلهم لا يجدون ما يخففون به ألم نفوسهم فيقولون هذا الذي أخبر تعالى به عنهم (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أي فريق المؤمنين أو فريق الكافرين خير مقاما أي منزلا ومسكنا وأحسن نديا أي ناديا ومجتمعا يجتمع فيه ، لأنهم يقارنون بين منازل فقراء المؤمنين ودار الأرقم بن أبي الأرقم التي يجتمع فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون وبين دور ومنازل أبي سفيان وأغنياء مكة ونادي قريش وهو مجلس شوراهم فرد تعالى عليهم بقوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً (٢) وَرِءْياً) أي لا ينبغي أن يغرهم هذا الذي يتبجحون به ويتطاولون فإنه لا يدوم لهم ماداموا يحاربون دعوة الحق والقائمين عليها فكم من أهل قرون أهلكناهم لما ظلموا وكانوا أحسن من هؤلاء مالا ومتاعا ومناظر حسنة جميلة.

وقوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) أي اذكر لهم سنتنا في عبادنا يا رسولنا وهي أن من كان في ضلالة الشرك والظلم والمكابرة والعناد فإن سنة الرحمن فيه أن يمد له بمعنى يمهله ويملي له استدراجا حتى إذا انتهوا إلى ما حدد لهم من زمن يؤخذون فيه بالعذاب جزاء كفرهم وظلمهم وعنادهم وهو إما عذاب دنيوى بالقتل والأسر ونحوهما أو عذاب الآخرة بقيام الساعة حيث يحشرون إلى جهنم عميا وبكما وصما جزاء التعالي والتبجح بالكلام وهو معنى قوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ (٣) مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) أي شر منزلة وأقل ناصرا أهم الكافرون أم المؤمنون ، ولكن حين لا ينفع العلم. إذ التدارك أصبح غير ممكن وإنما هي

__________________

(١) (الَّذِينَ كَفَرُوا) كالنضر بن الحارث وأبي جهل والمؤمنون هم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعمار وبلال وصهيب.

(٢) الأثاث : متاع البيت من فرش وغيرها مما هو جديد ، فإن استعمل قيل فيه : الخرثى قال الشاعر :

تقادم العهد من أم الوليد بنا

دهرا وصار أثاث البيت خرثيا

الرئي : المنظر الحسن. وفيه قراءات خمس أشهرها قراءة الجمهور ورئيا بالهمزة ، وقراءة نافع ريّا بدون همزة واشتقاقه من الرؤية أي : المنظر ، ومن الريّ ضد العطش ، إذ الريّان هو المنعّم ذو الحال الحسنة.

(٣) في الآية ردّ على قولهم : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا). أي سوف تنكشف الحقائق في يوم القيامة ، ويعلمون يقينا من هو الأفضل حالا والأحسن مآلا.

٣٢٧

الحسرة والندامة لا غير.

وقوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) (١) أي إذا كان تلاوة الآيات البينات تحمل المشركين على العناد والمكابرة وذلك لظلمة كفرهم فيزدادون كفرا وعنادا فإن المؤمنين المهتدين يزدادون بها هداية لأنها تحمل لهم الهدى في كل جملة وكلمة منها وهم لإشراق نفوسهم بالإيمان يرون ما تحمل الآيات من الدلائل والحجج والبراهين فيزداد إيمانهم وتزداد هدايتهم في السير في طريق السعادة والكمال بأداء الفرائض واجتناب المناهي.

وقوله تعالى : (وَالْباقِياتُ (٢) الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ) أيها الرسول (ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) في هذه الآية تسلية للرسول والمؤمنين بأن ما يتبجح به المشركون من المال والمتاع وحسن الحال لا يساوي شيئا أمام الإيمان وصالح الأعمال لأن المال فان ، والصالحات باقية فثواب الباقيات الصالحات من العبادات والطاعات خير من كل متاع الدنيا وخير مردا أي مردودا على صاحبها إذ هو الجنة دار السّلام والتكريم والإنعام.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الكشف عن نفسيات الكافرين وهي الإعتزاز بالمال والقوة إذا اعتز المؤمنون بالإيمان وثمراته في الدنيا والآخرة من حسن العاقبة.

٢ ـ بيان سنة الله تعالى في امهال الظلمة والإملاء لهم استدراجا لهم حتى يهلكوا خاسرين.

٣ ـ بيان سنة الله تعالى في زيادة إيمان المؤمنين عند سماع القرآن الكريم ، أو مشاهدة أخذ الله تعالى للظالمين.

٤ ـ بيان فضيلة الباقيات الصالحات ومنها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله.

__________________

(١) وفي الآية وجه اخر مشرق صالح وهو : أن الله تعالى يمدّ لأهل الضلالة في ضلالتهم ، ويزيد لأهل الهداية في هدايتهم إذ قال : (مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا). وقال : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) وما في التفسير صالح ومشرق أيضا.

(٢) أي : الأعمال الصالحة التي يعمل العبد إيمانا وإحسانا كالصلاة والصيام والصدقات والجهاد وذكر الله ثوابها لأهلها المدّخر لهم عند الله تعالى خير من أعمال أهل الكفر والشرك والظلم إذ هي ذاهبة هباء منثورا فيم يتعزّز الكافرون؟

٣٢٨

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠))

شرح الكلمات :

(الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) : هو العاص بن وائل.

(لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) : يريد في الآخرة.

(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) : أي فعرف أنه يعطى مالا وولدا يوم القيامة.

(كَلَّا) : ردع ورد فإنه لم يطلع الغيب ولم يكن له عند الله عهدا.

(وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) : أي نضاعف له العذاب يوم القيامة.

(وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) : أي نسلبه ما تبجح به من المال والولد ويبعث فردا ليس معه مال ولا ولد.

معنى الآيات :

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجبا له (أَفَرَأَيْتَ (١) الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) أي كذب بالوحي وما يدعوا له من التوحيد والبعث والجزاء وترك الشرك والمعاصي. وهو العاص بن وائل المسمى أبو عمرو بن العاص. (وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) قال هذا لخباب بن الأرت حينما طالبه بدين له عليه فأبى أن يعطيه استصغارا له لأنه قيّن «حدادا» وقال له لا أعطيكه حتى تكفر بمحمد فقال له خباب والله ما أكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تموت ثمّ تبعث فقال له العاص إذا أنا متّ ثم بعثت كما تقول ثم جئتني ولي مال وولد قضيتك دينك فأكذبه الله تعالى ورد عليه قوله بقوله عزوجل : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) (٢) فعرف أن له يوم القيامة مالا وولدا. (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ

__________________

(١) الأئمة ومن بينهم مسلم في صحيحه على أن هذه الآية نزلت في الخباب والعاص بن وائل إذ كان لخباب دين على العاص فطالبه فأجابه بما خلاصته في التفسير أعلاه.

(٢) (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنظر في اللوح المحفوظ. وقال مجاهد : أعلم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا؟

٣٢٩

الرَّحْمنِ عَهْداً) بذلك بأن سيعطيه مالا وولدا يوم القيامة (كَلَّا) (١) لم يطلع على الغيب ولم يكن له عند الرحمن عهدا. وقوله تعالى : (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) من الكذب والإفتراء ونحاسبه به ونضاعف له العذاب به العذاب وهو معنى قوله تعالى : (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) ، وقوله تعالى : (وَنَرِثُهُ (٢) ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) أي ونسلبه ما يقول من المال والولد حيث يموت ويترك ذلك أو ينصر رسوله على قومه فيسلبهم المال والولد. ويأتينا في عرصات القيامة للحساب فردا لا مال معه ولا ولد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الكشف عن نفسيات الكافرين لا سيما إذا كانوا أقوياء بمال أو ولد أو سلطان فإنهم يعيشون على الغطرسة منه والاستعلاء وتجاهل الفقراء واحتقارهم.

٢ ـ تقرير البعث والحساب والجزاء.

٣ ـ مضاعفة العذاب على الكافرين الظالمين لظلمهم بعد كفرهم.

٤ ـ تقرير معنى آية : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧))

__________________

(١) (كَلَّا) : ردّ عليه أي : لم يكن له ذلك. أي : لم يطلع على الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهدا.

(٢) وقيل : نحرمه ما تمناه في الآخرة من مال وولد إذ قال : لأوتين مالا وولدا ورد تعالى عليه قوله بقوله : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً).

٣٣٠

شرح الكلمات :

(لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) : أي منعة لهم وقوة يشفعون لهم عند الله حتى لا يعذبوا.

(سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) : أي يوم القيامة يجحدون أنهم كانوا يعبدونهم.

(ضِدًّا) (١) : أي أعداء لهم وأعوانا عليهم.

(تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) : أي تزعجهم ازعاجا وتحركهم حراكا شديدا نحو الشهوات والمعاصي.

(وَفْداً) : أي راكبين على النّجب تحوطهم الملائكة حتى ينتهوا إلى ربهم فيكرمهم.

(إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) : أي يساق المجرمون كما تساق البهائم مشاة عطاشا.

(عَهْداً) : هو شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

معنى الآيات :

يخبر تعالى منددا بالمشركين فيقول : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) أي معبودات من الأصنام فعبدوها بأنواع من العبادات ، (لِيَكُونُوا لَهُمْ) ـ في نظرهم الفاسد ـ (عِزًّا) (٢) أي شفعاء لهم عندنا يعزون بواسطتهم ولا يهانون ، (كَلَّا) (٣) أي ليس الأمر كما يظنون (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) وذلك يوم القيامة حيث ينكرون أنهم أمروهم بعبادتهم ، (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) أي خصوما ، ومن ذلك قولهم (٤). (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ). وقولهم. (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ).

وقوله تعالى في الآية الثانية (٨٣) (أَلَمْ تَرَ (٥) أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)

__________________

(١) الضدّ : ما يخالف ضده في الماهية أو المعاملة ، ومن هذا تسمية العدو ضدّ لأن معاملته تخالف معاملة نظيره ، ويكون ضدّ في معنى المصدر عاملوه معاملة المصدر فلا يثني ولا يجمع ولا يؤنثّ.

(٢) العزّ : ضد الذلّ ، وأطلق العزّ هنا وأريد به سببه وهو الشفعاء والأعوان إذ بهم تحصل العزة وتكون المنعة.

(٣) (كَلَّا) : جائز أن تكون نافية بمعنى : لا وليس وجائز أن تكون بمعنى : حقا أي : حقا سيكفرون بعبادتهم .. الخ.

(٤) أي : فيما أخبر تعالى به في قوله : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) فها هم قد وقفوا ضدّهم بتكذيبهم إياههم. ورأى بعض أهل التفسير أنّ من الجائز أن تكون الآية مبشرة بنصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن يوما سيأتي يكفر المشركون بآلهتهم وذلك بعد إسلامهم.

(٥) الاستفهام للتقرير وفيه معنى التعجب أي : كيف لم تر ذلك والأمر واضح لوجود آثاره يشاهدها كل أحد. وأرسلنا بمعنى سلطناهم أو خلّيناهم يفعلون بهم ما أرادوا من الإغواء والفتنة.

٣٣١

يقول تعالى لرسوله ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أنا أرسلنا الشياطين أي شياطين الجن والإنس على الكافرين بنا وبآياتنا ورسولنا ولقائنا تؤزهم أزا أي تحركهم بشدة نحو الشهوات والجرائم والمفاسد ، وتزعجهم إلى ذلك بالإغراء إزعاجا كبيرا. أي فلا تعجب من حال مسارعتهم إلى الشر والفساد ولا تعجل عليهم بمطالبتنا بهلاكهم إنما نعد لهم كل أعمالهم ونحصيها عليهم حتى أنفاسهم ونحاسبهم على كل ذلك ونجزيهم به. هذا معنى قوله تعالى : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ (١) عَدًّا).

وقوله تعالى في الآية (٨٥) (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ) أي أذكر يا رسولنا يوم نحشر المتقين (إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً). والمتقون هم أهل الإيمان بالله وطاعته وتوحيده ومحبته وخشيته وطاعة رسوله ومحبته وفدا أي راكبين على النجائب من النوق عليها رحال الذهب إلى الرحمن إلى جوار الرحمن عزوجل في دار المتقين الجنة دار الأبرار والسّلام.

وقوله تعالى : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) : أي ونسوق المجرمين على أنفسهم بالشرك والمعاصي مشاة على أرجلهم عطاشا يساقون سوق البهائم إلى جهنم وبئس (٢) الورد المورود جهنم.

وقوله تعالى (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ (٣) اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٤) أخبر تعالى أن المشركين المجرمين على أنفسهم بالشرك والمعاصي فدسوها لا يملكون الشفاعة يوم القيامة لا يشفع بعضهم في بعض كالمتقين ولا يشفع لهم أحد أبدا لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا بالإيمان به وبطاعته بأداء الفرائض وترك المحرمات يملك إن شاء الله الشفاعة بأن يشفعه الله في غيره إكراما له أو يشفع فيه غيره إكراما للشافع أيضا وإنعاما على المشفوع له. كما أن أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله المتبرئين من حولهم وقوتهم إلى الله الراجين ربهم يملكون الشفاعة إن دخلوا النار بذنوبهم فيخرجون منها بشفاعة من أراد الله أن يشفعه فيهم.

__________________

(١) أي : لا تطالب بهلاكهم الفوري فإنا نعدّ لهم الأيام والليالي والشهور والسنين إلى انتهاء آجالهم.

(٢) يطلق لفظ الورد على الماشية عند ما تساق إلى الماء لترده ، ويطلق على السير إلى الماء أيضا كما يطلق على الماء المورود ومنه قوله تعالى : (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ).

(٣) الاستثناء منقطع ، والمنقطع هو : استثناء الشيء من غير جنسه ، ولذا يؤتى بعده بلكن كما هو في التفسير أي : لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا يشفع.

(٤) من لهم عهد بالشفاعة حيث عهد الله تعالى إليهم بذلك هم الملائكة والأنبياء والشهداء أيضا بدليل السنة الصحيحة ، وفسّر ابن عباس رضي الله عنهما العهد أيضا بشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله والقيام بحقها مع التبرؤ من الحول والقوة لله تعالى.

٣٣٢

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ براءة سائر المعبودات من دون الله من عابديها يوم القيامة خزيا لهم وإحقاقا للعذاب عليهم.

٢ ـ لا عجب مما يشاهد من مسارعة الكافرين إلى الشر والفساد والشهوات لوجود شياطين تحركهم بعنف إلى ذلك وتدفعهم إليه.

٣ ـ لا ينبغي طلب العذاب العاجل لأهل الظلم لأنهم كلما ازدادوا ظلما ازداد عذابهم شدة يوم القيامة إذ كل شيء محصى عليهم حتى أنفاسهم محاسبون عليه ومجزيون به.

٤ ـ بيان كرامة المتقين ، ومهانة المجرمين.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

شرح الكلمات :

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) : أي قال العرب الملائكة بنات الله وقال النصارى عيسى ابن الله.

(جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) : أي منكرا عظيما.

(يَتَفَطَّرْنَ) : يتشققن من عظم هذا القول وشدة قبحه.

(وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) : أي تسقط وتتهدم وتنهدم.

(أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) : أي من أجل إدعائهم أن للرحمن عزوجل ولدا.

٣٣٣

ولا ينبغي : أي لا يصلح ولا يليق به ذلك لأنه رب كل شيء ومليكه.

(إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) : أي خاضعا منقادا كائنا من كان.

(فَرْداً) : أي ليس معه شيء لا مال ولا سلطان ولا ناصر.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر مقولات أهل الشرك والجهل والرد عليها من قبل الحق تبارك وتعالى قال تعالى مخبرا عنهم : (وَقالُوا) أي أولئك الكافرون (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) (١) إذ قالت بعض القبائل العربية الملائكة بنات الله ، وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله. يقول تعالى لهم بعد أن ذكر قولهم (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) (٢) أي أتيتم بشيء منكر عظيم ، (٣) (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) أي يتشققن منه لقبح هذا القول وسوئه ، (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ (٤) هَدًّا) أي تسقط لعظم هذا القول لأنه مغضب للجبار عزوجل ولو لا حلمه ورحمته لمس الكون كله عذاب أليم. وقوله : (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (٥) أي أن نسبوا للرحمن ولدا ، (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ) أي لا يصلح له ولا يليق بجلاله وكماله الولد ، لأن الولد نتيجة شهوة بهيمية عارمة تدفع الذكر إلى اتيان الأنثى فيكون بإذن الله الولد ، والله عزوجل منزه عن مشابهته لمخلوقاته وكيف يشبههم وهو خالقهم وموجدهم من العدم؟

وقوله تعالى (إِنْ كُلُ (٦) مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) هذا برهان على بطلان قولة الكافرين الجاهلين ، إذ الذى ما من أحد في السموات أو في الأرض من ملائكة

__________________

(١) قرىء : ولدا بضم الواو وسكون اللام ، وقراءة الجمهور (وَلَداً) بفتح الواو واللام وهما لغتان مثل : العرب والعرب.

والعجم والعجم قال الشاعر :

ولقد رأيت معاشرا

قد ثمّروا مالا وولدا

وقال آخر :

مهلا فداء لك الأقوام كلهم

وما أثمر من مال ومن ولد

ففي البيت الأول شاهد ولد بسكون اللام وفي الثاني شاهد لفتحها مع ضم الواو في الأول وفتحا في الثاني.

(٢) الإد والإدة : الداهية والأمر الفظيع. قال ابن عباس : الإدّ : المنكر العظيم.

(٣) (تَكادُ) بالتاء قراءة العامة ، وقرأ نافع بالياء يكاد.

(٤) الهدّ : الهدم بصوت شديد ، والهدّة : صوت وقع الحائط ونحوه.

(٥) روى البخاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : (يقول الله تبارك وتعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك. فأمّا تكذيبه إياي فقوله : ليس يعيدني كما بدأني ، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأمّا شتمه إيّاي : فقوله : اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

(٦) (إِنْ) نافية بمعنى ما. في الآية دليل على عدم جواز ملك الوالد للولد ولا الولد للوالد ، وفي الحديث الصحيح : (لا .. ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه). فإذا لم يملك الأب ابنه فلأن لا يملك الابن أباه من باب أولى.

٣٣٤

وإنس وجن إلا آتى الرحمن عبدا خاضعا ذليلا منقادا يوم القيامة كيف يعقل اتخاذه ولدا ، (١) إذ الولد يطلب للحاجة إليه ، والغنى عن كل خلقه ما هي حاجته إلى عبد من عباده يقول هذا ولدي اللهم إنا نبرؤا إليك مما يقوله الجاهلون بك الضالون عن طريق هدايتك.

وقوله تعالى : (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) أي علمهم واحدا واحدا فلو كان بينهم إله معه أو ولد له لعلمه ، فهذا برهان آخر على بطلان تلك الدعوة الجاهلية الباطلة الفاسدة وقوله : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) هذا رد على أولئك الذين يدعون أنهم إن بعثوا يكون لهم المال والولد والشفيع والنصير. فأخبر تعالى أنه ما من أحد إلا ويأتيه يوم القيامة فردا ليس معه شافع ولا ناصر ، ولا مال ولا سلطان.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عظم الكذب على الله بنسبة الولد أو الشريك إليه أو القول عليه بدون علم.

٢ ـ بيان أن كل المخلوقات من أجلّها إلى أحقرها ليس فيها غير عبد لله فنسبة الانسان أو الجان أو الملك إلى الله تعالى هي عبد لرب مالك قاهر عزيز حكيم.

٣ ـ بيان إحاطة الله بخلقه ومعرفته لعددهم فلا يغيب عن علمه أحد منهم ، ولا يتخلف عن موقف القيامة فرد منهم إذ الكل يأتي الله تعالى يوم القيامة فردا.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

__________________

(١) روى أحمد في المسند أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله أن يشرك به ويجعل له ولد وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم) أخرجاه في الصحيحين ، وفي لفظ إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم.

٣٣٥

شرح الكلمات :

(وُدًّا) : أي حبا فيعيشون متحابين فيما بينهم ويحبهم ربهم تعالى.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) : أي يسرنا القرآن أي قراءته وفهمه بلغتك العربية.

(قَوْماً لُدًّا) : أي ألداء شديدوا الخصومة والجدل بالباطل وهم كفار قريش.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا) : أي كثيرا من أهل القرون من قبلهم أهلكناهم.

(هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) : أي هل تجد منهم أحدا.

(أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) : أي صوتا خفيا والجواب لا لأن الاستفهام إنكاري.

معنى الآيات :

يخبر تعالى أن الذين آمنوا بالله وبرسوله وبوعد الله ووعيده فتخلوا عن الشرك والكفر وعملوا الصالحات وهي أداء الفرائض وكثير من النوافل هؤلاء يخبر تعالى أنه سيجعل لهم في قلوب عباده المؤمنين محبة (١) وودا وقد فعل سبحانه وتعالى فأهل الإيمان والعمل الصالح متحابون متوادون ، وهذا التوادد بينهم ثمرة لحب الله تعالى لهم. وقوله تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي هذا القرآن الذي كذب به المشركون سهلنا قراءته عليك إذ أنزلناه بلسانك (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) من عبادنا المؤمنين وهم الذين اتقوا عذاب الله بالايمان وصالح الأعمال بعد ترك الشرك والمعاصي ، (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) (٢) وهم كفار قريش وكانوا ألداء أشداء في الجدل والخصومة ، وقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ (٣) مِنْ قَرْنٍ) أي وكثيرا من أهل القرون السابقة لقومك أهلكناهم لما كذبوا رسلنا وحاربوا دعوتنا (هَلْ تُحِسُ (٤) مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) فتراه بعينك أو تمسه بيدك ، (أَوْ تَسْمَعُ (٥) لَهُمْ رِكْزاً) أي صوتا خفيا اللهم لا فهلا يذكر هذا قومك

__________________

(١) روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إنّ الله تعالى إذا أحبّ عبدا دعا جبريل عليه‌السلام فقال : إني أحب فلانا فأحبّه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول : إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ـ قال : ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل عليه‌السلام وقال : إني أبغض فلانا فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال : فيبغضونه ثم يوضع له البغضاء في الأرض).

(٢) (لُدًّا) : جمع الألد ، وهو : الشديد الخصومة ، ومنه قوله تعالى : (ألدّ الخصام) وقال الشاعر :

أبيت نجيا للهموم كأنني

أخاصم أقواما ذوي جدل لدّا

(٣) في الآية تهديد وتخويف لأهل مكة المصرين على الكفر والشرك والتكذيب. وكم : خبرية ، والقرن : الجيل والأمة. ويطلق على الزمان الذي تعيش فيه الأمة وشاع إطلاقه على المائة سنة.

(٤) والإحساس : الإدراك بالحس. والاستفهام إنكاري.

(٥) قيل : الرّكز : ما لا يفهم من صوت أو حركة.

٣٣٦

فيتعظوا فيتوبوا إلى ربهم بالإيمان به وبرسوله ولقائه ويتركوا الشرك والمعاصي.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ أعظم بشرى تحملها الآية الأولى وهي حب الله وأوليائه لمن آمن وعمل صالحا.

٢ ـ بيان كون القرآن ميسرا أن نزل بلغة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أجل البشارة لأهل الإيمان والعمل الصالح والنذارة لأهل الشرك والمعاصي.

٣ ـ إنذار العتاة والطغاة من الناس أن يحل بهم ما حل بمن قبلهم من هلاك ودمار والواقع شاهد أين أهل القرون الأولى؟

سورة طه

مكية وآياتها مائة وخمس وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

شرح الكلمات :

(طه) : أي يا رجل.

(إِلَّا تَذْكِرَةً) : أي يتذكر بالقرآن من يخشى عقاب الله عزوجل.

٣٣٧

(عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) : أي ارتفع عليه وعلا.

(وَما تَحْتَ الثَّرى) : الثرى التراب الندي يريد ما هو أسفل الأرضين السبع.

(وَأَخْفى) : أي من السر ، وهو ما علمه الله وقدر وجوده وهو كائن ولكن لم يكن بعد.

(الْحُسْنى) : الحسنى مؤنث الأحسن المفضل على الحسن.

معنى الآيات :

قوله تعالى (طه) (١) لفظ طه جائز أن يكون من الحروف المقطعة ، وجائز أن يكون معناه يا رجل (٢) ورجح الأمر ابن جرير لوجوده في لغة العرب طه بمعنى يا رجل وعلى هذا فمعنى الكلام يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ردا على النضر بن الحارث الذي قال إن محمدا شقي بهذا القرآن الذي أنزل عليه لما فيه من التكاليف فنفى الحق عزوجل ذلك وقال (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) وإنما أنزلناه ليكون (٣) تذكرة ذكرى يذكر بها من يخشى ربه فيقبل على طاعته متحملا في سبيل ذلك كل ما قد يلاقي في طريقه من أذى قومه المشركين بالله الكافرين بكتابه والمكذبين لرسوله ، وقوله : (تَنْزِيلاً (٤) مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) أي هذا القرآن الذي ما أنزلناه لتشقى به ولكن تذكرة لمن يخشى نزّل تنزيلا من الله الذي خلق الأرض والسموات العلى : (الرَّحْمنُ (٥) عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) أي رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما الذي استوى على عرشه استواء يليق به يدبر أمر مخلوقاته ، الذي (لَهُ (٦) ما فِي السَّماواتِ وَما فِي

__________________

(١) نزلت (طه) قبل إسلام عمر رضي الله عنه لما روي : أنه دخل على بيت ختنه سعيد بن زيد فوجده يقرأها مع زوجه فاطمة بنت الخطاب أخت عمر رضي الله عنهم أجمعين فطلبها فلم يعطها حتى اغتسل فلمّا قرأها لان قلبه ورق للإسلام.

(٢) قيل : إن طه بمعنى : يا رجل لغة معروفة في عكل حتى إنك إذا ناديت المرء بيا رجل لم يجبك حتى تقول : طه وأنشد الطبري في هذا قول الشاعر :

دعوت بطه في القتال فلم يجب

فخفت عليه أن يكون مزيلا

(٣) التذكرة : خطور المنسي بالذهن لأنّ التوحيد مستقر في الفطرة والإشراك مناف لها فسماع القرآن كقراءته يثير كامن التوحيد في فطرة الإنسان.

(٤) (تَنْزِيلاً) حال من القرآن ، المراد منها التنويه بشأن القرآن والإعلان عن خطره.

(٥) (الرَّحْمنُ) يجوز أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أي : هو الرحمن جل جلاله. ويجوز أن تكون مبتدأ واختير اسم الرحمن لأن المشركين ينكرون اسم الرحمن جهلا منهم وعنادا.

(٦) تقديم الجار والمجرور : مؤذن بالحصر ، وهو كذلك ، إذ ليس لأحد ملك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وما تحت الثرى سواه عزوجل.

٣٣٨

الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) (١) من الأرضين السبع. وقوله (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) أيها الرسول أو تسر (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٢) من السر ، وهو ما قدره الله وهو واقع في وقته المحدد له فعلمه تعالى ولم يعلمه الإنسان بعد. وقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي الله المعبود بحق الذي لا معبود بحق سواه (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التي لا تكون إلا له ، ولا تكون لغيره من مخلوقاته. وهكذا عرّف تعالى عباده به ليعرفوه فيخافونه ويحبونه فيؤمنون به ويطيعونه فيكملون على ذلك ويسعدون فلله الحمد وله المنة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إبطال نظرية أن التكاليف الشرعية شاقة ومرهقة للعبد.

٢ ـ تقرير عقيدة الوحي وإثبات النبوة المحمدية.

٣ ـ تقرير الصفات الإلهية كالاستواء ووجوب الإيمان بها بدون تأويل أو تعطيل أو تشبيه بل اثباتها على الوجه الذي يليق بصاحبها عزوجل.

٤ ـ تقرير ربوبية الله لكل شيء.

٥ ـ تقرير التوحيد وإثبات أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى.

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا

__________________

(١) (ما تَحْتَ الثَّرى) : هو باطن الأرض كله.

(٢) وجائز أن يكون أخفى السر : حديث النفس إذ هو أخفى من السر إذ السر ينطق به ، وخاطر النفس لا ينطق به.

٣٣٩

فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

شرح الكلمات :

(هَلْ أَتاكَ) : قد أتاك فالاستفهام للتحقيق.

(حَدِيثُ مُوسى) : أي خبره وموسى هو ابن عمران نبي بني إسرائيل

(إِذْ رَأى ناراً) : أي حين رؤيته نارا.

(لِأَهْلِهِ) : زوجته بنت شعيب ومن معها من خادم أو ولد.

(آنَسْتُ ناراً) : أي ابصرتها من بعد.

(بِقَبَسٍ) (١) : القبس عود في رأسه نار.

(عَلَى النَّارِ هُدىً) : أي ما يهديني الطريق وقد ضل الطريق إلى مصر.

(فَلَمَّا أَتاها) : أي النار وكانت في شجرة من العوسج ونحوه تتلألؤ نورا لا نارا.

(نُودِيَ يا مُوسى) : أي ناداه ربه قائلا له يا موسى ....!

(الْمُقَدَّسِ طُوىً) (٢) : طوى اسم للوادي المقدس المطهر.

(اخْتَرْتُكَ) : من قومك لحمل رسالتي إلى فرعون وبني إسرائيل.

(فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) : أي إليك وهو قوله تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا).

(لِذِكْرِي) : أي لأجل أن تذكرني فيها.

(أَكادُ أُخْفِيها) (٣) : أي أبالغ في اخفائها حتى لا يعلم وقت مجيئها أحد.

__________________

(١) القبس والمقباس يقال : قبست منه نارا أقبس قبسا فقبسني أي : أعطاني منه قبسا بتحريك السين مفتوحة ، واقتبست منه علما لأنّ العلم نور ، من مادة النار التي هي الضياء والإشراق.

(٢) طوى بالكسر وبالضم أشهر وبه قراءة عامة القراء ، وهو اسم للوادي وفي لفظه ما يشير إلى أنه مكان فيه ضيق كالثوب المطوي أو لأن موسى طواه سيرا.

(٣) لما كانت الساعة مخفية الوقوع أثار قوله تعالى (أَكادُ أُخْفِيها) تساؤلات كثيرة أقربها إلى الواقع ثلاثة. الأول : إخفاء الحديث عنها لأنّ الحديث عنها لا يزيد المعاندين من منكري البعث إلّا عنادا. والثاني : أنّ كاد زائدة والتقدير : أنّ الساعة آتية أخفيها. والثالث : أن أخفيها بمعنى : أزيل خفاءها بأن أظهرها فتكون الهمزة للسلب نحو أعجم الكتاب : أزال عجمته وأشكى زيدا : إذا أزال شكواه.

٣٤٠