لأكون مع الصادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: افق
الطبعة: ١٠
ISBN: 978-964-438-265-9
الصفحات: ٢٤٨

على أن عبد الرحمن بن عوف ندم فيما بعد على اختياره ، وغضب على عثمان واتهمه بخيانة العهد لما حدث في عهده ما حدث وجاءه كبار الصحابة يقولون له : يا عبد الرحمن هذا عمل يديك. فقال لهم : ما كنت أظن هذا به ولكن لله عليّ أن لا أكلمه أبداً. ثمّ مات عبد الرحمن بن عوف وهو مهاجر لعثمان ، حتى رووا أن عثمان دخل عليه في مرضه يعوده فتحول بوجهه إلى الحائط ولم يكلمه (١).

ثمّ كان بعد ذلك ما كان وقامت الثورة على عثمان وانتهت بقتله ، ورجعت الأمة بعد ذلك للاختيار من جديد وفي هذه المرة اختاروا علياً ، ولكن يا حسرة على العباد : فقد اضطربت الدولة الإسلامية وأصبحت مسرحاً للمنافقين ولأعدائه المناوئين والمستكبرين والطامعين لارتقاء منصة الخلافة بأي ثمن وعلى أي طريق ولو بإزهاق النفوس البريئة ، وقد تغيّرت أحكام الله ورسوله على مر تلك السنين الخمس والعشرين ووجد الإمام علي نفسه وسط بحر لجي وأمواج متلاطمة وظلمات حالكة وأهواء جامحة وقضى خلافته في حروب دامية فرضت عليه فرضاً من الناكثين والقاسطين والمارقين ولم يخرج منها إلا باستشهاده سلام الله عليه وهو يتحسّر على أمة محمد وقد طمع فيها الطليق بن الطليق معاوية بن أبي سفيان وأضرابه كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومروان بن الحكم وغيرهم كثيرون ، وما جرّأ هؤلاء على ما فعلوه إلا فكرة الشورى والاختيار.

وغرقت أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بحر من الدماء ، وتحكم في مصيرها سفهاؤها وأراذلها وتحوّلت الشورى بعد ذلك إلى الملك العضوض ، إلى القيصرية والكسروية.

وانتهت تلك الفترة التي أطلقوا عليها اسم الخلافة الراشدة وبها سموا الخلفاء الأربعة بالراشدين والحق أنه حتى هؤلاء الأربعة لم يكونوا خلفاء بالانتخاب والشورى سوى أبي بكر وعلي ، وإذا استثنينا أبا بكر لأن بيعته كانت

__________________

(١) تاريخ الطبري وابن الأثير في حوادث سنة ٣٦ للهجرة محمد عبده في شرح النهج ج ١ ص ٨٨.

٨١

فلتة على حين غفلة ولم يحضرها «الحزب المعارض» كما يقال اليوم وهم علي وسائر بني هاشم ومن يرى رأيهم ، لم يبق معنا من عقدت له بيعة بالشورى والاختيار إلا علي بن أبي طالب الذي بايعه المسلمون رغم أنفه وتخلف عنه بعض الصحابة فلم يفرض عليهم ولا هددهم.

وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون علي بن أبي طالب خليفة لرسول الله بالنص من الله وكذلك بالانتخاب من المسلمين وقد أجمعت الأمة الإسلامية قاطبة سنة وشيعة على خلافة علي واختلفوا على خلافة غيره كما لا يخفى أقول يا حسرة على العباد لو أنهم قبلوا ما اختاره الله لهم لأكلوا من فوق رءوسهم ومن تحت أرجلهم ولأنزل الله عليهم بركات من السماء ولكان المسلمون اليوم أسياد العالم وقادته كما أراد الله لهم لو اتبعوه (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.)

ولكن إبليس اللعين عدونا المبين : قال مخاطباً رب العزة : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١).

فلينظر العاقل اليوم إلى حالة المسلمين في العالم ، وهم أذلاء لا يقدرون على شيء يركضون وراء الدول معترفين بإسرائيل وهي ترفض الاعتراف بهم ولا تسمح لهم حتى بالدخول إلى القدس التي أصبحت عاصمة لها ، وإذا ما رأيت بلاد المسلمين اليوم ترى أنهم تحت رحمة أمريكا وروسيا وقد أكل الفقر شعوبهم وقتلهم الجوع والمرض ، في حين تاكل كلاب أوروبا شتى أنواع اللحوم والأسماك ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وقد تنبأت سيدة النساء فاطمة الزهراء سلام الله عليها عند ما خاصمت أبا بكر وخطبت خطبتها في نساء المهاجرين والأنصار وقالت في آخرها مخبرة عن مآل الأمة :

__________________

(١) سورة الأعراف آية ١٦ ١٧

٨٢

«أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ، ثمّ احتلبوا ملأ القعب دماً عبيطاً وزعافاً مبيداً ، هناك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما أمسّه الأولون ، ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفساً واطمئنوا للفتنة جأشاً ، وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتد غاشم وهرج شامل ، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً فيا حسرة لكم ، وأنى بكم ، وقد عمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون» (١).

صدقت سيدة النساء فيما تنبأت به وهي سليلة النبوة ومعدن الرسالة ، وقد تجسدت أقوالها في حياة الأمة ومن يدري لعل الذي ينتظرها أبشع مما انقضى ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم.

العنصر المهم في البحث

بقي عنصر واحد في كل هذا البحث يستحق العناية والدرس وربما هو الاعتراض الوحيد الذي كثيراً ما يثار عند ما يفحم المعاندون بالحجج الدامغة فتراهم يلجئون إلى الاستغراب واستبعاد أن يكون قد حضر تنصيب الإمام علي مائة الف صحابي ثمّ يتواطئون كلهم على مخالفته والإعراض عنه وفيهم خيرة الصحابة وأفضل الأمة! وهذا ما وقع لي بالذات عند اقتحام البحث ، فلم أصدّق ولا يمكن لأحد أن يصدّق إذا ما طرحت القضية بهذا الطرح ، ولكن عند ما ندرس القضية من جميع الجوانب يزول الاستغراب لأن المسألة ليست كما نتصورها أو كما يعرضها أهل السنة فحاشى أن يكون مائة الف صحابي خالفوا أمر الرسول ، فكيف وقعت الواقعة إذن؟

__________________

(١) الطبري في دلائل الإمامة

ـ بلاغات النساء لابن طيفور.

ـ أعلام النساء تأليف عمر رضا كحالة ج ٤ ص ١٢٣.

ـ ابن أبي الحديد في شرح النهج.

٨٣

أولاً ـ لم يكن يسكن المدينة المنورة كل من حضر بيعة الغدير وانما كان كما هو المفروض وعلى أكبر تقدير ثلاثة أو أربعة آلاف منهم يسكنون المدينة ، وإذا عرفنا أن هؤلاء فيهم الكثير من الموالى والعبيد والمستضعفين الذين قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مناطق عديدة وليس لهم في المدينة قبيلة ولا عشيرة أمثال أهل الصفة ، فلا يبقى معنا إلا نصفهم يعني ألفين فقط وحتى هؤلاء فهم خاضعون لرؤساء القبيلة ونظام العشيرة التي ينتمون إليها ، وقد أقرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك فكان إذا قدم عليه وفد ولى عليهم زعيمهم وسيدهم ، ولذلك وجدنا اصطلاحاً على تسميتهم في الإسلام بأهل الحل والعقد.

وإذا ما نظرنا إلى مؤتمر السقيفة الذي انعقد عند وفاة الرسول مباشرة وجدنا أن الحاضرين الذين اتخذوا قرار اختيار أبي بكر خليفة لا يزيد على مائة شخص على أكثر تقدير لأنه لم يحضر من الأنصار وهم أهل المدينة إلا أسيادهم وزعماؤهم ، كما لم يحضر من المهاجرين وهم أهل مكة الذين هاجروا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا ثلاثة أو أربعة أشخاص يمثلون قريش ويكفي دليلاً أن نتصور ما هو حجم السقيفة فكلنا يعرف ما هي السقيفة التي ما كانت تخلو منها أي دار فليست هي قاعدة الحفلات ولا قصر المؤتمرات ، فإذا ما قلنا بحضور مائة شخص في سقيفة بني ساعدة فذلك مبالغة منا حتى يفهم الباحث بأن المائة ألف لم يكونوا حاضرين ولا سمعوا حتى ما دار في السقيفة إلا بعد زمن بعيد فلم تكن هناك مواصلات جوية ولا هواتف لاسلكية ولا أقمار صناعية.

وبعد اتفاق هؤلاء الزعماء على تعيين أبي بكر ورغم معارضة سيد الأنصار سعد بن عبادة زعيم الخزرج وابنه قيس ، إلا أن الأغلبية الساحقة (كما يقال اليوم) أبرمت العقد وتصافقت عليه في حين كان أغلب المسلمين غائبين عن السقيفة وكان بعضهم مشغولاً بتجهيز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مذهولاً بخبر موته وقد أرعبهم عمر بن الخطاب وخوّفهم إن قالوا بموته (١).

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٤ ص ١٩٥.

٨٤

أضف إلى ذلك أن أغلب الصحابة عبّأهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جيش أسامة وأكثرهم كانوا معسكرين بالجرف ولم يحضروا وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا حضروا مؤتمر السقيفة.

فهل يعقل بعد هذا الذي وقع أن يعارض أفراد القبيلة أو العشيرة زعيمهم فيما أبرمه خصوصاً وأن فيما أبرمه الفضل العميم والشرف الكبير الذي تسعى إليه كل قبيلة منهم ، ومن يدري لعله يلحقهم في يوم من الأيام شرف الرئاسة على كل المسلمين ، ما دام صاحبها الشرعي قد أبعد وأصبح الأمر شورى يتداولونه بينهم بالتناوب ، فكيف لا يفرحون بذلك وكيف لا يؤيدونه؟

ثانياً ـ إذا كان أهل الحل والعقد من سكان المدينة قد أبرموا أمراً فليس للقاصين البعيدين من أطراف الجزيرة أن يعارضوا ، وهم لا يدرون ما يدور في غيابهم فوسائل النقل في ذلك العهد كانت بدائية ، ثمّ أنهم يتصوّرون بأن سكان المدينة يعيشون مع رسول الله فهم أعلم بما يستجد من أحكام قد ينزل بها الوحي في أي ساعة وفي أي يوم ثمّ بعد ذلك ما يهم رئيس القبيلة البعيد عن العاصمة من امر الخلافة شيئاً فبالنسبة إليه سواء أكان أبو بكر خليفة أو علي أو أي شخص آخر ، فاهل مكة أدرى بشعابها والمهم عنده هو بقاؤه على رئاسة عشيرته ولا ينازعه فيها أحد

ومن يدري لعل البعض منهم تساءل عن الأمر وأراد أن يستطلع الخبر غير أن أجهزة الحكم أسكتته سواء بالترغيب أو بالترهيب ، ولعل في قصة مالك بن نويرة الذي امتنع عن دفع الزكاة إلى ابي بكر ما يؤكد حصول ذلك.

والمتتبع لتلك الأحداث التي وقعت في حرب مانعي الزكاة أيام أبي بكر يجد كثيراً من التناقضات ولا يقتنع بما أورده بعض المؤرخين للحفاظ على كرامة الصحابة وخصوصاً الحاكمين منهم.

ثالثاً ـ عنصر المفاجأة في القضية لعب دوراً كبيراً في قبول ما يسمى اليوم «بالأمر الواقع» فلقد عقد مؤتمر السقيفة على حين غفلة من الصحابة الذين

٨٥

شغلوا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن هؤلاء الإمام علي والعباس وسائر بني هاشم والمقداد وسلمان وأبي ذر وعمار والزبير وغير هؤلاء كثيراً ولما خرج أصحاب السقيفة يزفّون أبا بكر إلى المسجد داعين إلى البيعة العامة والناس يقبلون على البيعة أفواجاً وزرافات طوعاً وكرهاً ، لم يكن علي واتباعه قد فرغوا بعد من واجبهم المقدّس الذي فرضته عليهم أخلاقهم السامية فلا يمكن لهم أن يتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون تغسيل وتكفين وتجهيز ودفن ويتسارعوا إلى السقيفة ليتنازعوا حول الخلافة.

وما إن فرغوا من واجبهم حتى استتب الأمر لأبي بكر وبات من يتخلف عن بيعته معدوداً من أصحاب الفتنة الذي يشق عصا المسلمين فيجب على المسلمين مقاومته أو حتى قتله إن لزم الأمر. ولذلك نرى عمر قد هدّد سعد بن عبادة بالقتل لما امتنع عن بيعة أبي بكر وقال اقتلوه إنه صاحب فتنة (١) وهدّد بعد ذلك المتخلفين في بيت علي بحرق الدار ومن فيها ، وإذا عرفنا رأي عمر بن الخطاب في خصوص البيعة فهمنا بعد ذلك كثيراً من الألغاز التي بقيت محيّرة.

فعمر يرى بأنه يكفي لصحة البيعة أن يسبق إليها أحد المسلمين فيجب على الآخرين متابعته ومن عصى منهم فهو خارج من ربقة الإسلام ويجب قتله.

فلنستمع إليه يتحدّث عن نفسه في خصوص البيعة كما أخرجه البخاري في صحيحه (٢) ، قال : يحكي عما وقع في السقيفة :

«فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف فقلت : أبسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون (٣) والأنصار ونزونا على

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٦.

تاريخ الطبري تاريخ الخلفاء لابن قتيبة.

(٢) صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٨ باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.

(٣) ذكر كل المؤرخون بأنه لم يحضر في السقيفة إلا أربعة من المهاجرين فقوله : فبايعته وبايعه المهاجرون يعارضه قوله وخالف عنا علي والزبير ومن معهما قاله في نفس الخطبة أنظر صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٦.

٨٦

سعد بن عبادة فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ، فقلت : قتل الله سعد بن عبادة ، قال عمر : وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما نخالفهم فيكون فساد ، فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يقتلا».

فالمسألة عند عمر ليست انتخاباً واختياراً وشورى وإنما يكفي أن يبادر أحد المسلمين بالبيعة لتكون حجة على الباقين ولذلك قال لأبي بكر : أبسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعه بدون مشورة ولا تريّث خوفاً من أن يسبق إليها أحد آخر ، وقد عبّر عمر عن هذا الرأي بقوله : خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا (خشي عمر أن يسبقه الأنصار فيبايعوا رجلاً منهم) ويزيدنا وضوحاً أكثر عند ما يقول : فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما نخالفهم فيكون فسادا (١).

وحتى نكون منصفين في الحكم ومدققين في البحث يجب علينا أن نعترف بأن عمر بن الخطاب غيّر رأيه في البيعة في آخر أيام حياته وذلك عند ما جاءه رجل بمحضر عبد الرحمن بن عوف في آخر حجة حجها فقال : يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول : لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمّت فغضب عمر ، ولهذا قام في الناس خطيباً فور رجوعه إلى المدينة فقال من جملة ما قال في خطبته :

«إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول والله لو مات عمر بايعت فلاناً فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ألا وإنها كانت كذلك ولكن الله وقى شرها ... (٢) ثمّ يقول : من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يقتلا ...» (٣).

__________________

(١ و ٢ و ٣) صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٦.

٨٧

ليت عمر بن الخطاب كان هذا الرأي يوم السقيفة ولم يستبد على المسلمين ببيعته لأبي بكر التي كانت فلتة وقى الله شرها كما شهد هو بذلك. ولكن أنى لعمر أن يكون على هذا الرأي الجديد لأنه حكم على نفسه وعلى صاحبه بالقتل إذ يقول في رأيه الجديد : «من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة ان يقتلا».

بقي علينا أن نعرف لما ذا غيّر عمر رأيه في آخر حياته بالرغم من أنه يعرف أكثر من غيره بأنه برأيه الجديد نسف بيعه أبي بكر من أساسها إذ أنه هو الذي سبق لبيعته من غير مشورة من المسلمين فكانت فلتة ، ونسف أيضاً بيعته هو لأنه وصل للخلافة بنص أبي بكر عليه عند الموت من غير مشورة من المسلمين حتى أن بعض الصحابة دخلوا على أبي بكر مستنكرين عليه أن يولي عليهم فظاً غليظاً (١) ، ولما خرج عمر ليقرأ على الناس كتاب أبي بكر سأله رجل : ما في الكتاب يا أبا حفص؟ قال : لا أدري ، ولكني أول من سمع وأطاع ، قال الرجل : لكني والله أدرى ما فيه : أمّرته عام أول ، وأمّرك العام (٢).

وهذا نظير قول الإمام علي لعمر (عند ما رآه يحمل الناس قهراً لبيعة أبي بكر) أحلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً ... (٣).

والمهم أن نعرف لما ذا غيّر عمر رأيه في البيعة! أكاد أعتقد بأنه سمع بأن بعض الصحابة يريد بيعة علي بن أبي طالب بعد موت عمر وهذا ما لا يرضاه عمر أبداً وهو الذي عارض النصوص الصريحة وعارض أن يكتب لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم ذلك الكتاب (٤) لأنه عرف فحواه حتى اتهمه بالهجر وخوف

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ص استخلاف عمر بن الخطاب.

شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ ص.

(٢) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج ١ ص ٢٥.

باب مرض أبي بكر واستخلافه عمر رضي الله عنهما.

(٣) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج ١ ص ١٨.

(٤) صحيح مسلم ج ٥ ص ٧٥ (كتاب الوصية) صحيح البخاري ج ٧ ص ٩.

٨٨

الناس حتى لا يقولوا بموته (١) وذلك لئلا يتسابق الناس لبيعة علي ، وشيد بيعة أبي بكر وحمل الناس عليها بالقهر وهدد كل من تخلف بالقتل (٢) كل ذلك في سبيل إبعاد علي عن الخلافة ، فكيف يرضى أن يقول قائل : بأنه سيبايع فلاناً لو قد مات عمر ، وخصوصاً بأن هذا القائل (الذي بقي اسمه مجهولاً ولا شك أنه من عظماء الصحابة) يحتج بما فعله عمر نفسه في بيعته لأبي بكر إذ يقول : فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت. أي أنها بالرغم من كونها وقعت على حين غفلة من المسلمين وبدون مشورة منهم فقد تمت وأصبحت حقيقة ولذا جاز لعمر أن يفعلها مع أبي بكر فكيف لا يجوز له أن يفعلها هو بنفس الطريقة مع فلان ونلاحظ هنا أن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب يتحاشون ذكر اسم هذا القائل كما يتحاشون ذكر اسم الذي نريد بيعته ، ولما كان لهذين الشخصين أهمية كبيرة لدى المسلمين نرى أن عمر غضب لهذه المقالة وبادر في اول جمعة بأن خطب الناس وآثار موضوع الخلافة بعده وطلع عليهم برأيه الجديد فيها حتى يقطع الطريق على هذا الذي يريد إعادة الفلتة لأنها ستكون لصالح خصمه ، على أننا فهمنا من خلال البحث بأن هذا المقالة ليست رأي فلان وحده وإنما هي رأي كثير من الصحابة ولذلك يقول البخاري : فغضب عمر ثمّ قال : إنني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذّر هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم .. (٣).

فتغير عمر لرأيه في البيعة كان معارضة لهؤلاء الذين يريدون أن يغصبوا الناس أمورهم ويبايعوا علياً ، وهذا ما لا يرضاه عمر لأنه يعتقد بأن الخلافة هي من أمور الناس وليست حقاً لعلي بن أبي طالب وإذا كان هذا الاعتقاد صحيحاً فلما ذا أجاز هو لنفسه أن يغصب الناس أمورهم بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٤ ص ١٩٥.

(٢) صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٨ وتاريخ الخلفاء ج ١ ص ١٩.

(٣) صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٥.

٨٩

وآله وسلم ويسارع لبيعة أبي بكر من غير مشورة المسلمين؟

وموقف أبي حفص من أبي الحسن معروف ومشهور وهو إبعاده عن الحكم ما استطاع لذلك سبيلاً.

وهذا الاستنتاج لم نستوحه من خطبته السابقة فحسب ولكن المتتبع للتاريخ يعرف أن عمر بن الخطاب كان هو الحاكم الفعلي حتى في خلافة أبي بكر ولذلك نرى أبا بكر يستأذن من أسامة بن زيد أن يترك له عمر بن الخطاب ليستعين به على امر الخلافة (١) ومع ذلك نرى علي بن أبي طالب يبقى بعيداً عن المسئولية فلم يولوه منصباً ولا ولاية ولا أمّروه على جيش ولا ائتمنوه على خزينة وذلك طوال خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، وكلنا يعلم من هو علي بن أبي طالب.

والأغرب من كل هذا أننا نقرأ في كتب التاريخ بأن عمر لما أدركته الوفاة تأسف أن لا يكون أبو عبيدة بن الجراح أو سالم مولى أبي حذيفة من الأحياء حتى يوليهم من بعده ، ولكنه ولا شك تذكر بأنه سبق أن غيّر رأيه في مثل هذه البيعة واعتبرها فلتة وغصباً لأمور المسلمين ، فلا بد له إذن أن يخترع طريقة جديدة في البيعة لتكون حلًّا وسطاً بين بين فلا يستبد أحد فيسبق بالبيعة لمن يراه صالحاً لها ويحمل الناس على متابعته كما فعل هو مع أبي بكر وكما فعل ابو بكر معه هو أو كما يريد أن يفعل فلان الذي ينتظر موت عمر ليبايع صاحبه فهذا غير ممكن بعد أن حكم عمر عليها بالفلتة والاغتصاب. ولا يمكن له أيضاً أن يترك الأمر شورى بين المسلمين ، وقد حضر مؤتمر السقيفة عقب وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأى بعينيه ما وقع من الاختلاف الذي كادت تزهق فيه الأرواح وتهرق فيه الدماء.

واخترع أخيراً فكرة أصحاب الشورى أو الستة الذين لهم وحدهم حق اختيار الخليفة وليس لأحد من المسلمين أن يشاركهم في ذلك ، وكان عمر يعلم

__________________

(١) كما نص على ذلك ابن سعد في طبقاته وأكثر المؤرخين الذين ذكروا سرية أسامة بن زيد.

٩٠

أن الخلاف بين هؤلاء الستة لا مفرّ منه ولذلك أوصى عند الاختلاف أن يكونوا مع الفريق الذي فيه عبد الرحمن بن عوف ولو أدى الأمر إلى قتل الثلاثة الذين يخالفون عبد الرحمن هذا في حال انقسام الستة إلى قسمين وهو محال لأن عمر يعرف بأن سعد بن أبي وقاص ابن عم لعبد الرحمن وكلاهما من بني زهرة ويعلم أن سعد لا يحب علياً وكان في نفسه شيء منه لأن علياً قتل أخواله من عبد شمس كما يعرف عمر أن عبد الرحمن بن عوف هو صهر عثمان لأن زوجته أم كلثوم هي أخت عثمان ، ويعلم أيضاً أن طلحة ميّال لعثمان لصلات بينهما على ما ذكره بعض رواة الأثر وقد يكفي في ميله إلى عثمان انحرافه عن علي لأنه تيمي وقد كان بين بني هاشم وبني تيم مواجد لمكان الخلافة في أبي بكر (١).

كان عمر يعلم كل ذلك ومن أجل هذا كان اختياره لهؤلاء بالذات.

اختار عمر هؤلاء الستة وكلهم من قريش وكلهم من المهاجرين وليس فيهم واحد من الأنصار وكلهم يمثّل ويتزعم قبيلة لها أهميتها وتأثيرها.

١ ـ علي بن أبي طالب زعيم بني هاشم.

٢ ـ عثمان بن عفان زعيم بني أمية.

٣ ـ عبد الرحمن بن عوف زعيم بني زهرة.

٤ ـ سعد بن أبي وقاص هو من بني زهرة وأخواله بني أمية

٥ ـ طلحة بن عبيد الله هو سيد بني تيم.

٦ ـ الزبير بن العوام هو ابن صفية عمة الرسول وهو زوج أسماء بنت أبي بكر.

فهؤلاء هم أهل الحل والعقد وحكمهم نافذ على كل المسلمين سواء منهم سكان المدينة (عاصمة الخلافة) أو غيرهم في كل العالم الإسلامي وما على المسلمين إلا السمع والطاعة بدون نقاش ومن يخرج منهم عن ذلك فهو مهدور

__________________

(١) محمد عبده في شرح نهج البلاغة ج ١ ص ٨٨.

٩١

الدم. وهذا بالذات الذي أردنا تقريبه من ذهن القارئ بخصوص السكوت عن نص الغدير ، فيما تقدم.

وإذا كان عمر ، يعلم نفسيات هؤلاء الستة وعواطفهم وطموحاتهم فإنه بلا شك قد رشّح عثمان بن عفان للخلافة أو أنه كان يعلم أن الأكثرية من هؤلاء الستة لا يرضون بعلي وإلا لما ذا وبأي حق يرجّح كفة عبد الرحمن بن عوف على علي بن أبي طالب والحال أن المسلمين منذ وجدوا وحتى اليوم إنما يتنازعون في أفضلية علي وأبي بكر ولم نسمع أحداً يقارن علياً بعبد الرحمن بن عوف.

وهنا أقف وقفة لا بد منها ، لأسأل أهل السنة والجماعة القائلين بمبدإ الشورى وأهل الفكر الحر كافة ، أسأل كل هؤلاء كيف توفّقون بين الشورى بمعناها الإسلامي وبين هذه الفكرة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على الاستبداد بالرأي ، لأنه هو الذي اختار هؤلاء النفر وليس المسلمون ، وإذا كان وصوله للخلافة فلتة فبأي حق يفرض على المسلمين أحد هؤلاء الستة؟!

والذي يبدو لنا أن عمر يرى الخلافة حقاً من حقوق المهاجرين وحدهم وليس من حق أحد أن ينازعهم هذا الأمر ، بل أكثر من هذا يعتقد عمر كما يعتقد أبو بكر بأن الخلافة ملك لقريش وحدها ، إذ في المهاجرين من ليسوا من قريش ، بل فيهم من ليسوا من العرب ، فلا يحق لسلمان الفارسي ولا لعمار بن ياسر ، ولا لبلال الحبشي ولا لصهيب الرومي ولا لأبي ذر الغفاري ولا لألوف الصحابة الذين ليسوا من قريش أن يتصدوا للخلافة.

وليس هذا مجرد ادعاء! حاشا وكلا ، بل هي عقيدتهم التي سجلها التاريخ والمحدثون من أفواههم فلنعد إلى نفس الخطبة التي أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما :

يقول عمر بن الخطاب : أردت أن أتكلم وكنت زوّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر : على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر

٩٢

والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل حتى سكت فقال ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل (مخاطباً الأنصار) ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش (١).

إذن ، يتبين لنا بوضوح بأن أبا بكر وعمر لا يؤمنان بمبدإ الشورى والاختيار ويقول بعض المؤرخين بأن أبا بكر احتج على الأنصار بحديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الخلافة في قريش» وهو حديث صحيح لا شك فيه وحقيقته (كما نص على ذلك البخاري ومسلم وكل الصحاح عند السنة وعند الشيعة) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلهم من قريش».

وأصرح من هذا الحديث قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان» (٢) وقوله «الناس تبع لقريش في الخير والشر» (٣).

فإذا كان المسلمون قاطبة يؤمنون بهذه الأحاديث فكيف يقول قائل بأنه ترك الأمر شورى بين المسلمين ليختاروا من يشاءون؟

ولا يمكن لنا أن نتخلص من هذا التناقض إلا إذا أخذنا بأقوال أئمة أهل البيت وشيعتهم وبعض علماء السنة الذين يؤكدون بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نص على الخلفاء وعيّنهم بعددهم وأسمائهم ، وبذلك يمكن لنا أيضاً أن نفهم موقف عمر وحصره الخلافة في قريش وعمر من عرف باجتهاده مقابل النصوص حتى في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلح الحديبية (٤).

__________________

(١) صحيح مسلم باب الوصية.

(٢ و ٣) صحيح مسلم ج ٦ ص ٢ و ٣ صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٧

(٤) صحيح البخاري ج ٢ ص ٨١ صحيح مسلم باب صلح الحديبية

٩٣

والصلاة على المنافقين (١) ، ورزية يوم الخميس (٢) ، ومنعه التبشير بالجنة (٣) أكبر شاهد على ما نقول. فلا يستغرب منه أن يجتهد بعد موت النبي في نص حديث الخلافة فلا يرى وجوباً بقبول النص على علي بن أبي طالب الذي هو أصغر قريش ، وحصر حق الاستخلاف بقريش وحدها ، وهو الذي حدا بعمر أن يختار قبل موته ستة من عظماء قريش ليوفّق بين أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يرتئيه هو من حق قريش وحدها في الخلافة ، ولعل إقحام علي في الجماعة مع العلم المسبق بأنهم لا يختارونه ، هو تدبير من عمر ليجبر علياً على الدخول معهم في اللعبة السياسية كما يسمونها اليوم وحتى لا تبقى له حجة عند شيعته ومحبيه الذين يقولون بأولويته ، ولكن الإمام علياً تحدث عن كل ذلك في خطبة أمام عامة الناس فقال في ذلك :

«فصبرت على طول المدة وشدة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ، فيا لله وللشورى ، متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، لكني أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره مع هن وهن ...» الخطبة (٤).

رابعاً ـ إن الإمام علي سلام الله عليه احتج عليهم بكل شيء ولكن بدون جدوى ، وهل يستجدي الإمام علي بيعة الناس الذي صرفوا وجوههم عنه ومالت قلوبهم لغيره إما حسداً له على ما أتاه الله من فضله ، وإما حقداً عليه لأنه قتل صناديدهم وهشّم أبطالهم ، وأرغم أنوفهم ، وأخضعهم وحطم كبرياءهم بسيفه وشجاعته حتى أسلموا واستسلموا وهو مع ذلك شامخ يذود عن ابن عمّه لا

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٢ ص ٧٦.

(٢) صحيح البخاري ج ١ ص ٣٧.

(٣) صحيح البخاري ج ١ باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة في صفحة ٤٥

(٤) نهج البلاغة شرح محمد عبده ج ١ ص ٨٧.

٩٤

تأخذه في الله لومة لائم ، ولا يثني عزمه من حطام الدنيا شيء وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم ذلك علم اليقين وكان في كل مناسبة يشيد بفضائل أخيه وابن عمه لكي يحبّبه إليهم فيقول : حب علي إيمان وبغضه نفاق (١) ويقول علي مني وأنا من علي (٢) ويقول علي ولي كل مؤمن بعدي (٣) ويقول علي باب مدينة علمي وأبو ولدي (٤) ويقول : علي سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين (٥)

ولكن مع الأسف ما زادهم ذلك إلا حسداً وحقداً ولذلك استدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل موته فعانقه وبكى ، وقال له : يا علي : إني أعلم ان لك ضغائن في صدور قوم سوف يظهرونها لك بعدي. فإن بايعوك فاقبل وإلا فاصبر حتى تلقاني مظلوماً (٦) فإذا كان أبو الحسن سلام الله عليه لزم الصبر بعد بيعة أبي بكر فذلك بوصية الرسول له وفي ذلك من الحكمة ما لا يخفى.

خامساً ـ أضف إلى كل ما سبق أن المسلم إذا ما قرأ القرآن الكريم وتدبّر آياته يعرف من خلال قصصه التي تناولت الأمم والشعوب السابقة أنه وقع فيهم أكثر مما وقع فينا ، فها هو قابيل يقتل أخاه هابيل ظلماً وعدواناً وها هو نوح جد الأنبياء بعد ألف سنة من الجهاد لم يتبعه من قومه إلا القليل وكانت امرأته وابنه من الكافرين ، وها هو لوط لم يوجد في قريته غير بيت من المؤمنين ، وها هم الفراعنة الذين استكبروا في الأرض واستعبدوا الناس لم يكن فيهم غير مؤمن يكتم إيمانه ،

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١ ص ٦١.

(٢) صحيح البخاري ج ٣ ص ١٦٨.

(٣) مسند أحمد ج ٥ ص ٢٥ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٢٤.

(٤) المستدرك للحاكم ج ٣ ص ١٢٦.

(٥) منتخب كنز العمال ج ٥ ص ٣٤.

(٦) الرياض النضرة في مناقب العشرة للطبري باب فضائل علي بن أبي طالب.

٩٥

وها هم إخوة يوسف أبناء يعقوب وهم عصبة يتآمرون على قتل أخيهم الصغير بغير ذنب اقترفه ولكن حسداً له لأنه أحب إلى أبيهم ، وها هم بنو إسرائيل الذين أنقذهم الله بموسى وفلق لهم البحر وأغرق أعداءهم فرعون وجنوده بدون أن يكلفهم عناء الحرب ، ما إن خرجوا من البحر ولم تجفّ أقدامهم فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا : يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون.

ولما ذهب إلى ميقات ربه واستخلف عليهم أخاه هارون تآمروا عليه وكادوا يقتلونه وكفروا بالله وعبدوا العجل ثمّ بعد قتلوا أنبياء الله قال تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (١).

وها هو سيدنا يحيا بن زكريا وهو نبي وحصور ومن الصالحين يقتل ويهدى رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل وها هم اليهود والنصارى يتآمرون على قتل وصلب سيدنا عيسى ، وها هي أمة محمد تعد جيشاً قوامه ثلاثين ألفاً لقتل الحسين ريحانة رسول الله وسيد شباب أهل الجنة ولم يكن معه غير سبعين من أصحابه فقتلوهم جميعاً بما في ذلك أطفاله الرضع.

فأي غرابة بعد هذا؟ أي غرابة بعد قول الرسول لأصحابه :

«ستتبعون سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ، قالوا : أتراهم اليهود والنصارى؟ قال : فمن إذن؟؟» (٢).

أي غرابة ونحن نقرأ في البخاري ومسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) سورة البقرة آية ٨٧.

(٢) صحيح البخاري ج ٤ ص ١٤٤ وج ٨ ص ١٥١.

٩٦

«يؤتى بأصحابي يوم القيامة إلى ذات الشمال فأقول إلى أين؟ فيقال إلى النار والله ، فأقول : يا رب هؤلاء أصحابي فيقال : أنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك : فأقول : سحقاً لمن بدل بعدي ولا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم» (١).

أي غرابة بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة» (٢)

وصدق العلي العظيم رب العزة والجلالة العليم بذات الصدور إذ يقول :

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) سورة يوسف آية ١٠٣.

(بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) سورة المؤمنون آية ٧٠.

(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) سورة الزخرف آية ٧٨.

(أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) سورة يونس آية ٥٥.

(يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) سورة التوبة آية ٨.

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) سورة يونس آية ٦٠.

(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) سورة النحل آية ٨٣

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) الفرقان آية ٥٠.

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٧ ص ٢٠٩ وصحيح مسلم في باب الحوض.

(٢) سنن ابن ماجة كتاب الفتن ج ٢ رقم الحديث ٣٩٩٣.

مسند أحمد ج ٣ ص ١٢٠ سنن الترمذي في كتاب الايمان.

٩٧

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) سورة يوسف آية ١٠٦.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) سورة الأنبياء آية ٢٤.

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) النجم آية ٦١.

٩٨

حسرة وأسى

كيف لا أتحسر؟ بل كيف لا يتحسر كل مسلم عند قراءة مثل هذه الحقائق على ما خسره المسلمون بإقصاء الإمام علي عن الخلافة التي نصّبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها ، وحرمان الأمة من قيادته الحكيمة. وعلومه الكثيرة.

وإذا ما نظر المسلم بغير تعصب ولا عاطفة ، لوجده أعلم الناس بعد الرسول ، فالتاريخ يشهد أن علماء الصحابة استفتوه في كل ما أشكل عليهم وقول عمر بن الخطاب أكثر من سبعين مرة «لو لا علي لهلك عمر» (١) في حين أنه (عليه‌السلام) لم يسأل أحداً منهم أبداً.

كما أن التاريخ يعترف بأن علي بن أبي طالب أشجع الصحابة وأقواهم ، وقد فر الشجعان من الصحابة في مواقف عديدة من الزحف في حين ثبت هو (عليه‌السلام) في المواقف كلها ، ويكفيه دليلاً الوسام الذي وسمه به رسول الله

__________________

(١) مناقب الخوارزمي ص ٤٨ الاستيعاب ج ٣ ص ٣٩ تذكرة السبط ٨٧ مطالب السئول ص ١٣ تفسير النيسابوري في سورة الأحقاف فيض القدير ج ٤ ص ٣٥٧.

٩٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما قال :

«لأعطين غداً رايتي إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرّار ليس فراراً امتحن الله قلبه للإيمان» (١)

فتطاول إليها الصحابة فدفعها إلى علي بن أبي طالب.

وباختصار فإن موضوع العلم والقوة والشجاعة التي يختص بها الإمام علي موضوع معروف لدى الخاص والعام ولا يختلف فيه اثنان وبقطع النظر عن النصوص الدالة على إمامته بالتصريح والتلميح فإن القرآن الكريم لا يعترف بالقيادة والإمامة إلا للعالم الشجاع القوي ، قال الله سبحانه وتعالى في وجوب إتباع العلماء.

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢).

وقال تعالى في وجوب قيادة العالم الشجاع القوي (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ ، قالَ : إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ، وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٣)

ولقد زاد الله سبحانه للإمام علي بالنسبة إلى كل الصحابة زاده بسطة في العلم فكان بحق «باب مدينة العلم» وكان هو المرجع الوحيد للصحابة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان الصحابة كلما عجزوا عن حل يقولون «معضلة وليس لها إلا أبو الحسن» (٤)

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٤ ص ٥ وص ١٢ ج ٥ ص ٧٦ و ٧٧.

صحيح مسلم ج ٧ ص ١٢١ باب فضائل علي بن أبي طالب.

(٢) سورة يونس آية ٣٥.

(٣) سورة البقرة آية ٢٤٧.

(٤) مناقب الخوارزمي ص ٥٨ تذكرة السبط ٨٧ ابن المغازلي ترجمة علي ص ٧٩.

١٠٠