لأكون مع الصادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: افق
الطبعة: ١٠
ISBN: 978-964-438-265-9
الصفحات: ٢٤٨

١
٢

٣

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، المتفضّل علينا بالهداية والعناية والتمكين ، والمنعم على عباده بكل خير وسعادة ليكونوا صالحين ، من توكّل عليه كفاه وحفظه من كيد الشياطين ، ومن تنكّب عن صراطه فهو من المخذولين.

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، ناصر المستضعفين والمظلومين ، وحبيب المساكين الذين آمنوا بالله رغبة فيما أعدّه سبحانه لعباده الصادقين ..

وعلى آله الطيبين الطاهرين ، الذين أعلى الله مقامهم على سائر المخلوقين ، ليكونوا قدوة العارفين ، ومنار الهدى وسفينة النجاة التي من تخلف عنها كان من الهالكين ..

.. ثمّ الرضا والرضوان على أصحابه الميامين الذين بايعوه وناصروه ولم يكونوا من الناكثين ، وثبتوا بعده على العهد وما بدلوا وما انقلبوا وكانوا من الشاكرين .. وعلى من تبعهم باحسان وسار على هديهم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.

٥

(رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي.)

رب وافتح بصيرة كل من يقرأ كتابي على الحقيقة التي تهدي بها عبادك المخلصين.

أما بعد ؛ فقد لقي كتابي «ثمّ اهتديت» قبولاً حسناً لدى القراء الأعزاء الذين أبدوا بعض الملاحظات الهامة حول موضوعات متفرقة في الكتاب المذكور وطلبوا المزيد من التوضيح في المسائل التي اختلف في فهمها كثير من المسلمين سنة وشيعة ؛ ومن أجل رفع اللبس والغموض عن ذلك لمن أراد التحقيق والوقوف على جليّة الأمر فقد ألّفت هذا الكتاب بنفس الأسلوب الذي اتبعته هناك ، ليسهل على الباحث المنصف الوصول إلى الحقيقة من أقرب سبلها ، كما وصلت إليها من خلال البحث والمقارنة ؛ وقد اسميته على بركة الله «مع الصادقين» اقتباساً من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.)

ومن من المسلمين يرفض أو يزهد في أن يكون مع أولئك الصادقين؟!

هذا ما اقتنعت به شخصياً ، وما أحاول توضيحه لغيري ما استطعت إلى ذلك سبيلاً ، دون فرض لرأيي بل ومع احترامي لرأي غيري ، فالله وحده الهادي وهو الذي يتولى الصالحين ..

وقد اعترض البعض على عنوان الكتاب السابق «ثمّ اهتديت» لانطوائه على غموض قد يبعث على التأمل والتساؤل حول ما إذا كان الآخرون على ضلالة ؛ وما مدلول تلك الضلالة إن قصد هذا المعنى؟ وعلى هذا الاعتراض أجيب موضحاً :

أولاً : جاء في القرآن الكريم لفظ الضلالة بمعنى النسيان ؛ قال تعالى : (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) (١) وقال عزوجل : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) (٢). كما ورد في القرآن الكريم

__________________

(١) طه ٥٢

(٢) البقرة ٢٨٢.

٦

لفظ الضلالة تعبيراً عن حالة التحقيق والبحث والتفتيش ؛ قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (١) أي وجدك تبحث عن الحقيقة فهداك إليها ؛ والمعروف من سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قبل نزول الوحي عليه كان يهجر قومه في مكة ليختلي في غار حراء الليالي العديدة باحثاً عن الحقيقة.

ومن هذا المعنى أيضاً قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«الحكمة ضالة المؤمن أين ما وجدها أخذها»

فعنوان كتابي الأول يتضمن هذا المعنى ..

ثانياً : وعلى فرض أن العنوان يتضمن معنى الضلالة التي تقابل الهداية فيما نقصده على المستوى الفكري من إصابة المنهج الإسلامي الصحيح الذي يضعنا على الصراط المستقيم ، كما عقّب بعض القراء بذلك ؛ فليكن كذلك ، وهو الواقع الذي يتهيّب مواجهته البعض بروح رياضية بنّاءة ، ونفس موضوعيّ خلّاق .. ينسجم في الفهم مع قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً».

فالحديث واضح وصريح في الإشارة إلى ضلال من لم يتمسك بهما معاً (الكتاب والعترة).

وعلى كل حال فأنا مقتنع بأنني اهتديت بفضل الله سبحانه وتعالى إلى التمسك بكتاب الله وعترة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.

فكتابي الأول والثاني يحملان عناوين من القرآن الكريم وهو أصدق الكلام وأحسنه ، وكل ما جمعته في الكتابين إن لم يكن الحق فهو أقرب ما يكون إليه

__________________

(١) الضحى ٧.

٧

لأنه مما اتفق عليه المسلمون سنة وشيعة وما ثبت عند الفريقين أنه صحيح. فكانت النتيجة ولادة هذين الكتابين بحمد الله «ثمّ اهتديت ولأكون مع الصادقين»

والله أسأل أن يهدي أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجمعهم حتى يكونوا خير أمة ويقودوا العالم بأسره إلى النور والهداية تحت لواء الإمام المهدي المنتظر الذي وعدنا به جده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً وليتم نوره ولو كره الكافرون.

٨

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ومولانا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين

أما بعد فإن الدين يعتمد بنحو أساسي على العقائد التي تكون منه مجموعة الأصول والمرتكزات التي يؤمن بها معتنقوا هذا الدين أو ذاك. والتي لا بد أن يقوم إيمانهم بها على الدليل القاطع والبرهان الجلي الذي ينطلق من المسلمات العقلية التي يؤمن بها جميع الناس ، ليتسنى له إقناعهم بما يدعوهم إليه ، ورغم ذلك فإنه ثمة أفكار يصعب على العالم تفسيرها .. مثلما يصعب على العقل التصديق بها عند الوهلة الأولى ، من ذلك مثلاً أن تكون النار «برداً وسلاماً» في حين أن العلم والعقل يتفقان على أنها حرارة مهلكة ، أو أن تقطع الطير إلى أجزاء متناثرة فوق الجبال ثمّ تدعى فتأتي تسعى ، في حين أن العلم والعقل يستبعدان ذلك ؛ أو أن يشفى الأعمى والأبرص والأكمه بمجرد مسح عيسى (ع) ، بل وإحياء الموتى ، في حين أن العلم والعقل لا يجدان تفسيراً لهذا .. وهي أمور تندرج في باب المعجزات التي أجراها الله تعالى على أيدي أنبيائه (عليهم‌السلام) ، وهي موجودة لدى المسلمين واليهود والنصارى ..

٩

وإنما أجرى الله سبحانه وتعالى تلك المعجزات والخوارق على أيدي أنبيائه ورسله عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام ، ليفهم العباد بأن عقولهم قاصرة عن الإدراك والإحاطة بكل شيء ، لأنه سبحانه لم يؤتهم من العلم إلا قليلاً ، ولعل في ذلك صلاحهم وكمالهم النسبي ، فقد كفر الكثير بنعمة الله وأنكر الكثير وجوده سبحانه ، واعتز الكثير منهم بالعلم والعقل حتى عبدوهما من دون الله ، هذا مع قلة العلم وقصور العقل ، فكيف لو أعطاهم علم كل شيء؟!

ونظراً لأهمية العقيدة ومركزيتها في إيمان المسلم فإن كتابي هذا قد تناول جملة من العقائد الإسلامية التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، والتي كانت مسرحاً لاختلاف فرق المذاهب الإسلامية ؛ فعقدت فصلاً خاصاً بمعتقدات أهل السنة والشيعة في القرآن الكريم والسنة النبوية ؛ ثمّ تطرقت بعد ذلك لسائر المسائل التي اختلفوا فيها وشنّع بعضهم على البعض الآخر بدون مبرر ؛ هادفاً من ذلك بيان ما رأيته الحق ، راغباً في مساعدة من يريد البحث عنه ، آملاً أن يساهم ذلك في قيام الوحدة الإسلامية على اساس فكري متين ، والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى ويجمع كلمة المسلمين على الصواب إنه عزيز قدير ..

١٠

القرآن الكريم عند أهل السنة والجماعة وعند الشيعة الامامية الاثني

عشرية

هو كلام الله المنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو المرجع الأعلى للمسلمين في أحكامهم وعباداتهم وعقائدهم ؛ من شك فيه أو أهانه فقد برئ من ذمة الإسلام ، فهم المسلمون كافة متفقون على تقديسه واحترامه والتعبد بما ورد فيه ..

ولكنهم اختلفوا في تفسيره وتأويله ، ومرجع الشيعة في التفسير والتأويل يعود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشروحات الأئمة من أهل البيت (عليهم‌السلام) ، ومرجع أهل السنة والجماعة يعود إلى أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً ولكنهم يعتمدون على الصحابة دون تمييز أو أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المعروفة في نقل الأحاديث وشرحها وتفسيرها ..

وبطبيعة الحال نشأ من ذلك اختلاف في العديد من المسائل الإسلامية وخصوصاً الفقهية منها ، وإذا كان الاختلاف بين المذاهب الأربعة من مدرسة أهل السنة والجماعة ظاهراً ، فلا غرابة في أن يكون بينهم وبين مدرسة أهل البيت (عليهم‌السلام) أظهر ..

١١

وكما ذكرت في مستهل الكتاب فإنني سوف لن أتطرق إلا إلى بعض الأمثلة بغية الاختصار ، وعلى من يريد البحث والاستزادة أن يغوص في أعماق البحر لاستخراج ما يمكنه من الحقائق الكامنة والجواهر المخفية!

يتفق أهل السنة مع الشيعة في القول بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن للمسلمين كل أحكام القرآن وفسّر كل آياته ، ولكنهم اختلفوا فيمن ينبغي الرجوع إليه بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغية التعرّف إلى ذلك البيان والتفسير ، فذهب أهل السنة إلى الاعتماد على الصحابة دون تمييز ومن بعدهم الأئمة الأربعة وعلماء الأمة الاسلامية ؛ أما الشيعة فقالوا : أن الأئمة من أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم المؤهلون لذلك وصفوة من الصحابة المنتجبين ؛ فأهل البيت (عليهم‌السلام) هم أهل الذكر الذين أمرنا الله تعالى بالرجوع إليهم في قوله عزوجل : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١) وهم الذين اصطفاهم الله تعالى وأورثهم علم الكتاب في قوله عزوجل : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (٢) ولكل ذلك جعلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدل القرآن والثقل الثاني الذي أمر المسلمين بالتمسك به فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً» (٣).

وفي لفظ مسلم كتاب الله أهل بيتي اذكّركم الله في أهل بيتي قالها ثلاث مرات (٤).

__________________

(١) النحل : آية ٤٣ ؛ تفسير الطبري ج ١٤ ص ١٠٩ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٧٠.

(٢) فاطر آية ٣٢.

(٣) أخرجه الترمذي في صحيحة ج ٢ ص ٣٢٩ والنسائي والإمام أحمد.

(٤) صحيح مسلم ج ٢ ص ٣٦٢ باب فضائل علي بن أبي طالب.

١٢

ومن المعلوم أن أهل البيت (عليهم‌السلام) كانوا أعلم الناس وأورعهم وأتقاهم وأفضلهم ؛ وقد قال فيهم الفرزدق :

إن عدّ أهل التقى كانوا أئمتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

وأسوق هنا مثالاً واحداً للتذكير بطبيعة الرابطة بين أهل البيت (عليهم‌السلام) والقرآن الكريم ؛ فقد قال تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (١).

فهذه الآيات تشير بدون لبس إلى أن أهل البيت (عليهم‌السلام) وعلى رأسهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم الذين يدركون معاني القرآن الغامضة ، لأنا لو أمعنا النظر في القسم الذي أقسم به رب العزة والجلالة لوجدنا ما يلي : إذا كان الله تعالى يقسم بالعصر وبالقلم وبالتين وبالزيتون فعظمة القسم بمواقع النجوم بيّنة لما تنطوي عليه من أسرار وتأثير على الكون بأمره سبحانه ، ونلاحظ تعزيز القسم في صيغة النفي والإثبات ؛ فبعد القسم يؤكد سبحانه : أنه لقرآن كريم. في كتاب مكنون ، والمكنون ما كان باطناً ومستتراً ، ثمّ يقول عزوجل : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) ؛ و (لا) هنا للنفي ، ويمسه تعني يدركه ويفهمه وليس المقصود بها لمس اليد ، فهناك فرق بين اللمس والمس. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢) وقال أيضاً عز من قائل : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) (٣) ، فالمس هنا يتعلق بالعقل والإدراك لا بلمس اليد ؛ وكيف يقسم الله سبحانه وتعالى بأن لا يلمس القرآن (باليد) إلا من تطهر ، والتاريخ يحدثنا بأن بعض الجبارين قد عبثوا به ومزقوه ، وقد شاهدنا الإسرائيليين يدوسونه بأقدامهم نستجير بالله ويحرقونه عند ما

__________________

(١) الواقعة : آية ٧٥ ٧٩.

(٢) الأعراف : أية ٢٠١.

(٣) البقرة : آية ٢٧٥.

١٣

احتلوا بيروت في اجتياحهم سيئ الصيت ، وقد نقلت أجهزة التلفزة عن ذلك صوراً بشعة ومذهلة. فالمدلول لقوله تعالى هو أنه لا يدرك معاني القرآن المكنون إلا نخبة من عباده الذين اصطفاهم وطهرهم تطهيراً ، والمطهرون في هذه الآية اسم مفعول أي وقع تطهيرهم ، وقد قال عزوجل : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١)

فقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) معناه : لا يدرك حقيقة القرآن إلا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته (عليهم‌السلام) ، ولذلك قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس» (٢).

وما يذهب إليه الشيعة في ذلك يستند إلى القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المروية حتى في صحاح أهل السنة كما وجدنا.

__________________

(١) الأحزاب : آية ٣٣.

(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك ج ٣ ص ١٤٩ عن ابن عباس وقال هذا حديث صحيح الإسناد.

١٤

السنة النبوية الشريفة عند أهل السنة والجماعة وعند الشيعة الإمامية

هي كل ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو فعله ، أو أقرّه. وهي المرجع الثاني عندهم بعد القرآن الكريم في أحكامهم وعباداتهم وعقائدهم.

يضيف أهل السنة والجماعة إلى السنة النبوية سنة الخلفاء الراشدين الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وذلك لحديث يروونه :

«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ» (١)

وليس أدل على ذلك من اتباعهم سنة عمر بن الخطاب في صلاة التراويح التي نهى عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢). والبعض منهم يضيفون إلى سنة الرسول سنة الصحابة بأجمعهم (أي صحابي كان) وذلك لحديث يروونه :

__________________

(١) مسند الإمام بن حنبل ج ٤ ص ١٢٦.

(٢) صحيح البخاري ج ٧ ص ٩٩ باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله.

١٥

«أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وحديث «أصحابي أمنة لأمتي» (١)

أما حديث أصحابي كالنجوم فهو لا ينسجم مع العقل والمنطق والحقيقة العلمية إذ أن العرب لم يكونوا ليهتدوا في مسيرهم الصحراوي لمجرد اقتدائهم بأي نجم من النجوم وإنما كانوا يهتدون باتباع نجوم معينة محددة معروفة لها اسماؤها ، كما أن هذا الحديث لا تؤيده الأحاديث اللاحقة والممارسات التي بدت من بعض الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن منهم من ارتد (٢) ، كما أنهم اختلفوا في كثير من الأمور التي سببت الطعن (بعضهم في بعض) (٣) ، ولعن بعضهم بعضاً (٤) ، وقتل بعضهم بعضاً (٥) ، وأقيم الحد على بعض (الصحابة) لشرب الخمر والزنا والسرقة وغير ذلك ؛ فكيف يقبل عاقل بهذا الحديث الذي يأمر بالاقتداء بمثل هؤلاء؟ وكيف يكون من يقتدي بمعاوية الخارج على إمام زمانه أمير المؤمنين في حربه للإمام علي (عليه‌السلام) مهتدياً؟ وهو يعلم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمّاه إمام الفئة الباغية (٦)؟ وكيف يكون من المهتدين من يقتدي بعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وبسر بن أرطاة وقد قتلوا الأبرياء لتدعيم ملك الأمويين. وأنت أيها القارئ اللبيب إذا قرأت حديث أصحابي كالنجوم يتبيّن لك أنه موضوع لأنه موجّه إلى الصحابة فكيف يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا أصحابي اقتدوا باصحابي؟! ..

أما حديث يا أصحابي عليكم بالأئمة من أهل بيتي فهم يهدونكم من بعدي فهو أقرب إلى الحق لأنه له شواهد عديدة تؤيده في السنة النبوية ...

__________________

(١) صحيح مسلم في كتاب فضائل الصحابة ومسند أحمد بن حنبل ج ٤ ص ٣٩٨.

(٢) كالذين حاربهم أبو بكر وسمّوا بأهل الردة.

(٣) كما طعن أكثر الصحابة في عثمان حتى قتلوه.

(٤) كما فعل ذلك معاوية الذي كان يأمر بلعن علي.

(٥) كحروب الجمل وصفين والنهروان وغيرها.

(٦) حديث «ويح عمار تقتله الفئة الباغية»

١٦

والشيعة الإمامية يقولون بأن المقصود بحديث «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» هم الأئمة الاثنا عشر من أئمة أهل البيت سلام الله عليهم وهم الذين أوجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على أمته أن تتمسك بهم وتتبعهم كما تتمسك وتتبع كتاب الله (١).

ولما آليت على نفسي فإني لا أستدل إلا بما يحتج به الشيعة من صحاح أهل السنة والجماعة فإني قد اقتصرت على ذلك ، وإلا فإن في كتب الشيعة أضعاف ذلك وبعبارات أكثر صراحة ووضوحاً (٢).

على أن الشيعة لا يقولون بأن أئمة أهل البيت سلام الله عليهم لهم حق التشريع بمعنى أن سنتهم هي اجتهاد منهم ، بل يقولون بأن كل أحكامهم هي من كتاب الله وسنة رسوله التي علّمها رسول الله علياً وعلّمها علي أولاده فهو علم يتوارثونه ولهم في ذلك أدلة كثيرة نقلها علماء أهل السنة والجماعة في صحاحهم ومسانيدهم وتواريخهم. ويبقى السؤال دائماً يعود بإلحاح : لما ذا لم يعمل أهل السنة والجماعة بمضمون هذه الأحاديث الصحيحة عندهم ..؟؟؟

ثمّ بعد ذلك يختلف الشيعة والسنة في تفسير الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سبق لنا توضيحه في فقرة اختلافهم في تفسير القرآن ، بالنسبة لمعنى الخلفاء الراشدين الذي ورد في حديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصححه كل من الفريقين ، ولكن يفسره السنة على أنهم الخلفاء الأربعة

__________________

(١) صحيح الترمذي ج ٥ ص ٣٢٨ صحيح مسلم ج ٢ ص ٣٦٢ النسائي في الخصائص كنز العمال ج ١ ص ٤٤ مسند الامام أحمد بن حنبل ج ٥ ص ١٨٩ الحاكم في المستدرك ج ٣ ص ١٤٨ الصواعق المحرقة لابن حجر ص ١٤٨ الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٩٤ الطبراني ج ١ ص ١٣١.

(٢) أضرب لذلك مثلاً واحداً : أخرج الصدوق في الإكمال بسنده إلى الإمام الصادق عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله (ص) الأئمة من بعدي اثنا عشر. أولهم علي وآخرهم القائم ، هم خلفائي وأوصيائي.

١٧

الذين اعتلوا منصّة الخلافة بعد رسول الله ، ويفسره الشيعة على أنهم الخلفاء الاثنى عشر وهم أئمة أهل البيت سلام الله عليهم.

ذلك إنا نرى هذا الاختلاف شائعاً في كل ما يتعلق بالأشخاص الذين زكّاهم القرآن والرسول أو أمر باتباعهم ، مثال ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل» أو «العلماء ورثة الأنبياء» (١).

فأهل السنة والجماعة يعمّمون هذا الحديث على كل علماء الأمة بينما يخصصه الشيعة بالأئمة الاثني عشر ومن أجل ذلك يفضّلونهم على الأنبياء ما عدا أولي العزم من الرسل.

والحقيقة أن العقل يميل إلى هذا التخصيص.

أولاً : لأن القرآن أورث علم الكتاب للذين اصطفى من عباده وهو تخصيص ، كما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصّ أهل بيته بأمور لم يشركهم فيها بأحد ، حتى سمّاهم سفينة النجاة وسمّاهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى والثقل الثاني الذي يعصم من الضلالة.

فظهر من هذا ، أن قول أهل السنة والجماعة يعارض هذا التخصيص الذي أثبته القرآن والسنة النبوية ، وإن العقل لا يرتاح إليه لما فيه من الغموض وعدم المعرفة بالعلماء الحقيقيين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم ، وعدم تمييزهم عن العلماء الذين فرضهم على الأمة الحكّام الأمويون والعباسيون ، وما أبعد الفرق بين أولئك العلماء وبين الأئمة من أهل البيت الذين لا يذكر التاريخ لهم أستاذا تتلمذوا على يديه سوى أن يتلقّى الابن عن أبيه ومع ذلك فقد روى علماء أهل السنة في علومهم روايات عجيبة وخصوصاً الإمام الباقر والإمام الصادق والإمام الرضا الذي أفحم بعلومه أربعين قاضياً جمعهم إليه المأمون وهو

__________________

(١) صحيح البخاري ج ١ كتاب العلم. صحيح الترمذي كتاب العلم أيضاً

١٨

لا يزال صبياً (١).

ومما يؤكد تميز أهل البيت عن غيرهم ما يظهر لنا من إختلاف أصحاب المذاهب الأربعة عند أهل السنة والجماعة في كثير من المسائل الفقهية بينما لا يختلف الأئمة الاثنا عشر من أئمة أهل البيت في مسألة واحدة.

ثانياً : لو أخذنا بقول أهل السنة والجماعة في تعميم هذه الآيات والأحاديث على كل علماء الأمة لوجب أن تتعدد الآراء والمذاهب على مر الأجيال ولأصبح هناك آلاف المذاهب ولعل علماء أهل السنة والجماعة تفطنوا لما لهذا الرأي من سخافة وتفريق لوحدة العقيدة فأسرعوا إلى غلق باب الاجتهاد منذ زمن بعيد.

أما قول الشيعة فهو يدعو إلى الوحدة والالتفاف حول أئمة معروفين خصهم الله تعالى والرسول بكل المعارف التي يحتاجها المسلمون في كل العصور ، فلا يمكن لأي مدّع بعد ذلك أن يتقول على الله وعلى الرسول ويبتدع مذهباً يلزم الناس باتباعه ، فاختلافهم في هذه المسألة كاختلافهم في المهدي الذي يؤمن به الفريقان ، ولكن المهدي عند الشيعة معلوم معروف أبوه وجده ، وعند أهل السنة والجماعة لا يزال مجهولاً وسيولد في آخر الزمان ولذلك ترى كثيراً منهم ادعى المهدية ، وقد قال لي شخصياً الشيخ إسماعيل صاحب الطريقة المدنية بأنه هو المهدي المنتظر ، وقالها أمام صديق لي كان من أتباعه ثمّ استبصر فيما بعد.

أما عند الشيعة فلا يمكن لأي مولود عندهم أن يدّعي ذلك وحتى لو سمى أحدهم ابنه بالمهدي فهو تيمّنا وتبركا بصاحب الزمان كما يسمّي أحدنا ابنه محمداً أو علياً ، ولأن ظهور المهدي عندهم هو في حد ذاته معجزة لأنه ولد منذ اثني عشر قرناً وتغيّب.

ثمّ بعد كل هذا قد يختلف أهل السنة والجماعة في معنى الحديث الثابت

__________________

(١) العقد الفريد لابن عبد ربه والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ج ٣ ص ٤٢.

١٩

الصحيح عند الفريقين حتى لو كان الحديث لا يتعلق بالأشخاص ومن ذلك مثلاً حديث :

«إختلاف أمتي رحمة».

الذي يفسره اهل السنة والجماعة : بأن إختلاف الأحكام الفقهية في المسألة الواحدة هو رحمة للمسلم الذي بإمكانه أن يختار أي حكم يناسبه ويتماشى مع الحل الذي يرتضيه ففي ذلك رحمة به ، لأنه إذا كان الإمام مالك مثلاً متشدداً في مسألة ما ، فإن بإمكان المسلم أن يقلد أبا حنيفة المتساهل فيها.

أما عند الشيعة فهم يفسّرون الحديث على غير هذا المعنى ويروون أن الإمام الصادق (عليه‌السلام) لما سئل عن هذا الحديث «اختلاف أمتي رحمة» قال صدق رسول الله! فقال السائل إذا كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم نقمة! فقال الصادق : ليس حيث ذهبت ويذهبون (يعني في هذا التفسير) إنما قصد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إختلاف بعضهم إلى بعض يعني يسافر بعضهم إلى بعض وينفر إليه ويقصده لأخذ العلم عنه واستدل على ذلك بقول الله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١).

ثمّ أضاف قائلاً فإذا اختلفوا في الدين صاروا حزب إبليس.

وهو كما نرى تفسير مقنع ولأنه يدعو لوحدة العقيدة لا للاختلاف فيها (٢).

ثمّ إن الحديث بمفهوم أهل السنة والجماعة غير معقول لأنه يدعو للاختلاف والفرقة وتعدد الآراء والمذاهب وكل هذا يعارض القرآن الكريم الذي يدعونا للوحدة والالتفاف حول شيء واحد : يقول سبحانه : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً

__________________

(١) سورة التوبة : آية ١٢٢.

(٢) البسملة في الصلاة مكروهة عند المالكية وواجبه عند الشافعية ومستحبة عند الحنفية والحنابلة قالوا : بإخفاتها صلى في الصلاة الجهرية

٢٠