لأكون مع الصادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: افق
الطبعة: ١٠
ISBN: 978-964-438-265-9
الصفحات: ٢٤٨

واحدا من علمائنا يكمل معي هذا المشوار ويوقف الباب على رجله كما يقول المثل الشائع عندنا.

فالبعض يبدأ الحديث ، وعندما يجد نفسه عاجزا عن إقامة الدليل على أقواله يتملص بقوله : تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ، والبعض يقول ما لنا ولإثارة الفتن والأحقاد فالمهم أن السنة والشيعة يؤمنون بإله واحد ورسول واحد وهذا يكفي والبعض يقول بإيجاز : يا أخي اتق الله في الصحابة ، فهل يبقى مع هؤلاء مجال للبحث العلمي وإنارة السبيل والرجوع للحق الذي ليس بعده إلا الضلال؟ وأين هؤلاء من أسلوب القرآن الذي يدعو الناس لإقامة الدليل (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) مع العلم بأنهم لو يتوقفون عن طعنهم وتهجمهم على الشيعة لما ألجأونا للجدال معهم حتى بالتي هي أحسن.

٦١
٦٢

أية إكمال الدين تتعلق أيضاً بالخلافة

قوله سبحانه وتعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١) يجمع الشيعة على نزولها بغدير خم بعد تنصيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام علي خليفة للمسلمين وذلك رواية عن أئمة العترة الطاهرة وبذلك تراهم يعدون الإمامة من أصول الدين.

ورغم أن الكثير من علمائنا يروون نزولها في غدير خم بعد تنصيب الإمام علي أذكر منهم على سبيل المثال :

١ ـ تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٢ ص ٧٥.

٢ ـ مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي ص ١٩.

٣ ـ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج ٨ ص ٢٩٠.

٤ ـ الإتقان للسيوطي ج ١ ص ٣١.

٥ ـ المناقب للخوارزمي الحنفي ص ٨٠.

٦ ـ تذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي ص ٣٠

__________________

(١) سورة المائدة آية ٣.

٦٣

٧ ـ تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٤.

٨ ـ روح المعاني للآلوسي ج ٦ ص ٥٥.

٩ ـ البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي ج ٥ ص ٢١٣.

١٠ ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ج ٣ ص ١٩.

١١ ـ ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ١١٥.

١٢ ـ شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج ١ ص ١٥٧.

أقول رغم ذلك لا بد لعلماء اهل السنة من صرف هذه الآية إلى مناسبة أخرى ، وذلك للحفاظ على كرامة السلف الصالح من الصحابة ، وإلا لو سلموا بنزولها في غدير خم لاعترفوا ضمنياً بأن ولاية علي بن أبي طالب هي التي أكمل الله بها الدين وأتم بها على المسلمين نعمته ولتبخرت خلافة الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه ، ولتزعزعت عدالة الصحابة ، ولذابت أحاديث كثيرة مشهورة كما يذوب الملح في الماء ، وهذا أمر مستحيل وخطب فادح ، لأنه يتعلق بعقيدة أمة كبيرة لها تاريخها وعلماؤها وأمجادها ، فلا يمكن لنا تكذيب أمثال البخاري ومسلم الذين يروون بأن الآية إنما نزلت عشية عرفة في يوم الجمعة.

وبمثل ذلك تصبح الروايات الأولى مجرد خرافات شيعية لا أساس لها من الصحة ويصبح الطعن على الشيعة أولى من الطعن على الصحابة فهؤلاء معصومون عن الخطأ (١) ولا يمكن لأي إنسان أن ينتقد أفعالهم وأقوالهم ، أما أولئك الشيعة فهم مجوس ، كفار ، زنادقة وملحدون ومؤسس مذهبهم هو عبد الله بن سبأ (٢) وهو يهودي أسلم في عهد عثمان ليكيد للمسلمين وللإسلام.

__________________

(١) لأنهم يعتقدون بأن الصحابة كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم.

(٢) اقرأ كتاب عبد الله بن سبأ للعلامة العسكري لتعرف بأنه لا وجود له ، وهو من مختلقات سيف بن عمر التميمي المشهور بالوضع والكذب واقرأ كتاب الفتنة الكبرى لطه حسين وإن شئت فاقرأ كتاب الصلة بين التصوف والتشيع للدكتور مصطفى كامل الشيبي لتعرف بأن عبد الله بن سبأ هذا ليس غير سيدنا عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه

٦٤

وهذا أسهل بكثير للتمويه على الأمة التي تربّت على تقديس واحترام الصحابة (أي صحابي كان ولو شاهد النبي مرة واحدة) وأنى لنا أن نقنعهم بأن تلك الروايات ليست خرافات شيعية وإنما هي من أحاديث الأئمة الاثني عشر الذين نص رسول الله على إمامتهم ، الذين نجحت الحكومات الإسلامية في القرن الأول في غرس حب واحترام الصحابة مقابل التنفير من علي وبنيه ، حتى لعنتهم على المنابر وتتبعت شيعتهم بالقتل والتشريد ، فنشأ من ذلك بغض وكراهية لكل الشيعة ، لما روّجته وسائل الإعلام في عهد معاوية من إشاعات وخزعبلات وعقائد فاسدة ضد الشيعة ، وهم (الحزب المعارض) كما يسمى عندنا اليوم لعزلهم والقضاء عليهم.

ولذلك نجد حتى الكتاب والمؤرخين في تلك العصور يسمونهم الروافض ويكفرونهم ويستبيحون دماءهم تزلفاً للحكام ولما انقرضت الدولة الأموية وخلفتها الدولة العباسية نسج بعض المؤرخين على منوالهم وعرف البعض حقيقة أهل البيت (١) فحاول التوفيق والإنصاف فألحق علياً بالخلفاء الراشدين ولكن لم يجرءوا على التصريح بأحقيته ، ولذلك تراهم لا يخرجون في صحاحهم إلا النزر اليسير من فضائل علي والتي لا تتعارض مع خلافة الذين سبقوه ، والبعض منهم وضع كثيراً من الأحاديث في فضل ابي بكر وعمر وعثمان على لسان علي نفسه حتى يقطع بذلك (على زعمه) الطريق على الشيعة الذين يقولون بافضليته.

واكتشفت خلال البحث بأن شهرة الرجال وعظمتهم إنما كانت تقدر ببغضهم لعلي بن أبي طالب ، فالأمويون والعباسيون كانوا يقربون ويعظمون كل من حارب الإمام علي أو وقف ضده بالسيف أو باللسان ، فتراهم يرفعون بعض الصحابة ويضعون آخرين ، ويغدقون الأموال على بعض الشعراء ويقتلون آخرين ، ولعل عائشة أم المؤمنين لم تكن لتحضى بتلك المنزلة عندهم لو لا

__________________

(١) ذلك لأن الأئمة من أهل البيت فرضوا أنفسهم بأخلاقهم وعلومهم التي ملأت الخافقين وبزهدهم وتقواهم والكرامات التي حباهم الله بها.

٦٥

بغضها (١) وحربها لعلي.

ومن ذلك أيضاً تجد العباسيون يعلون من شأن البخاري ومسلم والإمام مالك لأنهم لم يخرجوا من فضائله إلا القليل بل نجد صراحة في هذا الكتاب بان علي بن ابي طالب لا فضل له ولا مزية فقد روى البخاري في صحيحه في باب مناقب عثمان عن ابن عمر قال : كنا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ نترك أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نفاضل بينهم (٢) فعلي عنده كسائر الناس (اقرأ واعجب)!!

كما أن في الأمة فرقاً أخرى كالمعتزلة والخوارج وغيرهم ممن لا يقول بمقالة الشيعة ، ولأن إمامة علي وأولاده من بعده تقطع عليهم الطريق للوصول للخلافة والتحكم في رقاب الناس والتلاعب بمصيرهم وممتلكاتهم كما فعل ذلك بنو أمية وبنو العباس في عهد الصحابة وفي عهد التابعين وإلى يوم الناس هذا. لأن حكام العصر الذين وصلوا إلى الحكم سواء بالوراثة كالملوك والسلاطين ، أو حتى الرؤساء الذين انتخبتهم شعوبهم لا يعجبهم هذا الاعتقاد ؛ أعني أن يعتقد المؤمنون بخلافة أهل البيت ، ويضحكون من هذه الفكرة التيوقراطية ، التي لا يقول بها إلا الشيعة ، وخصوصاً إذا كان هؤلاء الشيعة قد بلغوا من سخافة العقل وسفاهة الرأي أنهم يعتقدون بإمامة المهدي المنتظر الذي سيملأ أرضهم قسطا وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

ونعود الآن لمناقشة أقوال الطرفين في هدوء وبدون تعصب ، لنعرف ما هي

__________________

(١) كانت لا تطيق ذكر اسمه البخاري ج ١ ص ١٦٢ ج ٧ ص ١٨ ج ٥ ص ١٤٠ ويقول المؤرخون لما بلغها خبر مقتله سجدت شكرا لله وقالت في ذلك شعراً

(٢) صحيح البخاري ج ٤ ص ١٩١ وص ٢٠١ كما روى البخاري في صحيحه ج ٤ ص ١٩٥ رواية تنسب إلى محمد بن الحنفية قال : قلت لأبي أي الناس خير بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أبو بكر قلت ثمّ من قال : ثمّ عمر وخشيت أن يقول عثمان قلت ثمّ أنت قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين.

٦٦

المناسبة وما هو سبب نزول آية «إكمال الدين» حتى يتضح لنا الحق فنتبعه وما علينا بعد ذلك من رضا هؤلاء ، أو غضب أولئك ما دمنا نتوخى قبل كل شيء رضا الله سبحانه والنجاة من عذابه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون» (١).

__________________

(١) سورة المائدة آية ١٠٦.

٦٧
٦٨

مناقشة القول بأن الآية نزلت يوم عرفة

أخرج البخاري في صحيحه (١) قال : حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن أناساً من اليهود قالوا : لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، فقال عمر أيّة آية؟ فقالوا : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.)

فقال عمر : إني لأعلم أي مكان أنزلت ، أنزلت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقف بعرفة.

وأخرج ابن جرير عن عيسى بن حارثة الأنصاري قال : كنا جلوساً في الديوان فقال لنا نصراني : يا أهل الإسلام ، لقد أنزلت عليكم آية لو أنزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم وتلك الساعة عيداً ما بقي منا اثنان وهي (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فلم يجبه أحد منا ، فلقيت محمد بن كعب القرظي فسألته عن ذلك ، فقال : ألا رددتم عليه؟ فقال عمر بن الخطاب أنزلت على النبي وهو واقف على الجبل يوم عرفة ، فلا يزال ذلك اليوم عيداً للمسلمين ما بقي منهم

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٥ ص ١٢٧.

٦٩

أحد (١).

أولاً ـ نلاحظ من خلال هذه الروايات أن المسلمين كانوا يجهلون تاريخ ذلك اليوم المشهود ، ولا يحتفلون به مما دعا اليهود مرة والنصارى أخرى أن يقولوا لهم : لو أن هذه الآية فينا نزلت لاتخذنا يومها عيداً مما حدا بعمر بن الخطاب أن يسأل أية آية؟ ولما قالوا : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) قال : إني لأعلم أي مكان أنزلت ، أنزلت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقف بعرفة.

فإننا نشم رائحة الدس والتعتيم من خلال هذه الرواية وأن الذين وضعوا هذا الحديث على لسان عمر بن الخطاب في زمن البخاري أرادوا أن يوفّقوا بين آراء اليهود والنصارى في أن ذلك اليوم هو يوم عظيم يجب أن يكون عيداً وبين ما هم عليه من عدم الاحتفال بذلك اليوم وعدم ذكره بالمرة حتى تناسوه ، والمفروض أن يكون من أكبر الأعياد لدى المسلمين إذ أن الله سبحانه أكمل لهم فيه دينهم وأتم فيه نعمته عليهم ورضي لهم الإسلام ديناً.

ولذلك ترى في الرواية الثانية قول الراوي عند ما قال له النصراني : يا أهل الإسلام ، لقد أنزلت عليكم آية لو أنزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ما بقي منا اثنان.

قال الراوي فلم يجبه أحد منا ؛ وذلك لجهلهم بتاريخ وموقف ذلك اليوم وعظمته ، ويبدو أن الراوي نفسه استغرب كيف يغفل المسلمون عن الاحتفال بمثل ذلك اليوم ولهذا نراه يلقي محمد بن كعب القرظي فيسأله عن ذلك فيرد هذا الأخير بأن عمر بن الخطاب روي أنها أنزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو واقف على الجبل يوم عرفة.

فلو كان ذلك اليوم معروفاً لدى المسلمين على أنه يوم عيد لما جهله هؤلاء الرواة سواء أكانوا من الصحابة أم من التابعين ، لأن الثابت المعروف لديهم أن

__________________

(١) جلال الدين السيوطي الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج ٣ ص ١٨.

٧٠

للمسلمين عيدين اثنين وهما عيد الفطر وعيد الأضحى ، حتى أن العلماء والمحدثين كالبخاري ومسلم وغيرهما تراهم يخرجون في كتبهم كتاب العيدين صلاة العيدين خطبة العيدين إلى غير ذلك من المتسالم عليه لدى خاصتهم وعامتهم ، ولا وجود لعيد ثالث.

وأغلب الظن أن القائلين بمبدإ الشورى في الخلافة ومؤسسي هذه النظرية هم الذين صرفوا نزولها عن حقيقتها يوم غدير خم بعد تأمير الإمام علي ، فكان تحويل نزولها في يوم عرفة أهون وأسهل عن القائلين به لأن يوم الغدير جمع مائة ألف حاج أو يزيدون ، وليس هناك مناسبة في حجة الوداع أقرب إلى الغدير من يوم عرفة في المقارنة إذ أن الحجيج لم يجتمعوا على صعيد واحد إلا فيهما ، فالمعروف أن الناس يكونون متفرقين جماعات وأشتاتاً في كل أيام الحج ولا يجتمعون في موقف واحد إلا في عرفة.

ولذلك نرى أن القائلين بنزولها يوم عرفة يقولون بنزولها مباشرة بعد خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشهيرة والتي أخرجها المحدثون.

وإذا كان النص بالخلافة على علي بن أبي طالب قد صرفوه عن حقيقته وباغتوا الناس (بمن فيهم علياً نفسه والذين كانوا منشغلين معه بتجهيز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودفنه) بالبيعة لابي بكر في سقيفة بني ساعدة على حين غفلة ، وضربوا بنصوص الغدير عرض الجدار وجعلوه نسيا منسيا ، فهل يمكن لأي أحد بعد الذي وقع أن يحتج بنزول الآية يوم الغدير؟

فليست الآية أوضح في مفهومها من حديث «الولاية» وإنما تحمل في معناها إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب ليس إلا ، وإن كانت تنطوي على إشعار بحصول حدات لهم في ذلك اليوم هو الذي سبب كمال الدين.

ومما يزيدنا يقيناً بصحة هذا الاعتقاد ، ما رواه ابن جرير عن قبيصة بن أبي ذؤيب قال : قال كعب «لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه»! فقال عمر : وأي آية يا

٧١

كعب؟ فقال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فقال عمر : لقد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي نزلت فيه ، نزلت في يوم جمعة ، ويوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيد (١).

ثانياً ـ على أن القول بنزول الآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) في يوم عرفة يتنافى مع آية البلاغ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) والتي تأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإبلاغ أمر مهم لا تتم الرسالة إلا به ، والتي سبق البحث وتبين نزولها بين مكة والمدينة بعد حجة الوداع وهو ما رواه أكثر من مائة وعشرين صحابياً وأكثر من ثلاثمائة وستين من علماء أهل السنة والجماعة ، فكيف يكمل الله الدين ويتم النعمة في يوم عرفة ثمّ بعد أسبوع يأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو راجع إلى المدينة بإبلاغ شيء مهم لا تتم الرسالة إلا به؟؟ كيف يصح ذلك يا أولي الألباب؟؟؟

ثالثاً ـ إن الباحث المدقق إذا أمعن النظر في خطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم عرفة لا يجد فيها أمراً جديداً يجهله المسلمون والذي يمكن اعتباره شيئاً مهما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة ، إذ ليس فيها إلا جملة من الوصايا التي ذكرها القرآن أو ذكرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدة مناسبات وأكد عليها يوم عرفة. وإليك ما جاء في الخطبة على ما سجله كل الرواة :

ـ إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة شهركم هذا ويومكم هذا.

ـ اتقوا الله ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها.

ـ الناس في الإسلام سواء لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

ـ كل دم كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي ، وكل ربا كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي.

__________________

(١) الدر المنثور للسيوطي في تفسيره لآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) سورة المائدة.

٧٢

ـ أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر ... ألا وأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض.

ـ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله منها أربعة حرم.

ـ أوصيكم بالنساء خيراً ، إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكتاب الله.

ـ أوصيكم بمن ملكت أيمانكم فاطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون.

ـ إن المسلم أخو المسلم ، لا يغشه ولا يخونه ولا يغتابه ولا يحل له دمه ولا شيء من ماله.

ـ إن الشيطان قد يئس أن يعبد بعد اليوم ولكن يطاع فيما سوى ذلك من أعمالكم التي تحتقرون.

ـ أعدى الأعداء على الله قاتل غير قاتله ، وضارب غير ضاربه ومن كفر نعمة مواليه فقد كفر بما أنزل الله على محمد ، ومن انتمى إلى غير أبيه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

ـ إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله وإني رسول الله ، وإذا قالوها عصموا مني دماءهم ، وأموالهم إلا بحق وحسابهم على الله.

ـ لا ترجعوا بعدي كفاراً ، مضلين يضرب بعضكم رقاب بعض.

هذا كل ما قيل في خطبة عرفة من حجة الوداع وقد جمعت فصولها من جميع المصادر الموثوقة حتى لا يبقى شيء من وصاياه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي ذكرها المحدثون إلا أخرجتها فهل فيها شيء جديد بالنسبة للصحابة؟ كلا فكل ما جاء فيها مذكور في القرآن ومبيّن حكمه في السنة النبوية ، فقد قضى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حياته كلها يبيّن للناس ما نزل إليهم ويعلمهم كل صغيرة وكبيرة ، فلا وجه لنزول آية «إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الله» بعد هذه الوصايا التي يعرفها المسلمون ، وإنما أعادها عليهم للتأكيد لأنهم لأول مرة يجتمعون عليه

٧٣

بذلك العدد الهائل ولأنه أخبرهم قبل الخروج إلى الحج بأنها حجة الوداع فكان واجباً عليه أن يسمعهم تلك الوصايا.

أما إذا أخذنا بالقول الثاني : وهو نزول الآية يوم غدير خم بعد تنصيب الإمام علي خليفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين ، فإن المعنى يستقيم ويكون مطابقاً ، لأن الخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهمّ الأمور ولا يمكن أن يترك الله عباده سدى ولا ينبغي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذهب دون استخلاف ويترك أمته هملا بدون راع وهو الذي ما كان يغادر المدينة إلا ويستخلف عليها أحداً من أصحابه فكيف نصدق بانه التحق بالرفيق الأعلى وما فكر في الخلافة؟؟؟

وإذا كان الملحدون في عصرنا يؤمنون بهذه القاعدة ويسرعون إلى تعيين خلف للرئيس حتى قبل موته ليسوس أمور الناس ولا يتركونهم يوماً واحداً بدون رئيس!

فلا يمكن أن يكون الدين الإسلامي وهو أكمل الأديان وأتمها والذي ختم الله به كل الشرائع أن يهمل أمراً مهمّاً كهذا.

وقد عرفنا في ما تقدم بأن عائشة وابن عمر وقبلهما ابو بكر وعمر أدركوا كلهم بأنه لا بد من تعيين الخليفة وإلا لكانت فتنة ، كما أدرك ذلك من جاء بعدهم من الخلفاء فكلهم عيّنوا من بعدهم فكيف تغيب هذه الحكمة على الله وعلى رسوله؟؟؟

فالقول بأن الله سبحانه أوحى إلى رسوله في الآية الأولى «آية البلاغ» وهو راجع من حجة الوداع بأن ينصّب علياً خليفة له بقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي يا محمد إن لم تبلغ ما أمرتك به بأن علياً هو ولي المؤمنين بعدك فكأنك لم تكمل مهمتك التي بعثت بها ، إذ إن إكمال الدين بالإمامة أمر ضروري لكل العقلاء.

٧٤

ويبدو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخشى معارضتهم له أو تكذيبهم ، فقد جاء في بعض الروايات : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وقد أمرني جبرئيل عن ربي أن أقوم في هذا المشهد وأعلم كل أبيض وأسود : أن علي بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والإمام بعدي ، فسألت جبرئيل أن يستعفي لي ربي لعلمي بقلة المتقين وكثرة المؤذين لي واللائمين لكثرة ملازمتي لعلي وشدة إقبالي عليه حتى سموني أذناً ، فقال تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) ولو شئت أن أسميهم وأدل عليهم لفعلت ولكني بسترهم قد تكرمت ، فلم يرض الله إلا بتبليغي فيه فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم ولياً وإماما وفرض طاعته على كل أحد .. الخطبة (١).

فلما أنزل الله عليه (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أسرع في نفس الوقت وبدون تأخير بامتثال أمر ربه فنصب علياً خليفة من بعده وأمر أصحابه بتهنئته بإمارة المؤمنين ففعلوا وبعدها أنزل الله عليهم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.)

أضف إلى كل ذلك أننا نجد بعض علماء أهل السنة والجماعة يعترفون صراحة بنزول آية البلاغ في إمامة علي فقد رووا عن ابن مردويه عن ابن مسعود قال كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك إن علياً مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس (٢).

وبعد هذا البحث إذا أضفنا روايات الشيعة عن الأئمة الطاهرين يتجلى لنا

__________________

(١) أخرجها بكاملها الحافظ ابن جرير الطبري في كتاب الولاية كما أخرج جلال الدين السيوطي في الدر المنثور ج ٢ ص ٢٩٨ خطبة في نفس المعنى بألفاظ متقاربة.

(٢) تفسير فتح القدير للشوكاني ج ٣ ص ٥٧.

جلال الدين السيوطي في الدر المنثور ج ٢ ص ٢٩٨ عن ابن عباس.

٧٥

بأن الله أكمل دينه بالإمامة ولذلك كانت الإمامة عند الشيعة أصلاً من أصول الدين.

وبإمامة علي بن ابي طالب أتم الله نعمته على المسلمين لئلا يبقوا هملاً تتجاذبهم الأهواء وتمزقهم الفتن فيتفرقوا كالغنم بدون راع

ورضي لهم الإسلام ديناً ، لأنه اختار لهم أئمة أذهب عنهم الرجس وطهرهم وأتاهم الحكمة وأورثهم علم الكتاب ليكونوا أوصياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجب على المسلمين أن يرضوا بحكم الله واختياره ، ويسلموا تسليماً ، لأن مفهوم الإسلام العام هو التسليم لله قال تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١).

ومن خلال كل ذلك يفهم بأن يوم الغدير اتخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم عيد إذ بعد تنصيب الإمام علي وبعد أن نزل عليه قوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) الآية : قال الحمد لله على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضي الرب برسالتي وولاية علي بن ابي طالب من بعدي (٢) ثمّ عقد له موكباً للتهنئة وجلس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خيمة وأجلس علياً بجانبه وأمر المسلمين بما فيهم زوجاته أمهات المؤمنين أن يدخلوا عليه أفواجا ويهنئوه بالمقام ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، ففعل الناس ما أمروا به وكان من جملة المهنئين لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب بهذه المناسبة أبو بكر وعمر.

فقد جاءا إليه يقولان له : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت

__________________

(١) سورة القصص آية ٦٨ ٦٩ ٧٠.

(٢) الحاكم الحسكاني عن أبي سعيد الخدري في تفسيره للآية.

والحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه «ما نزل من القرآن في علي».

٧٦

مولانا ومولى كل مؤمن ومؤمنة (١)

ولما عرف حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرح النبي واستبشاره في ذلك اليوم قال : أتاذن لي يا رسول الله أن أقول في هذا المقام أبياتاً تسمعهن ، فقال : قل على بركة الله ، لا تزال يا حسان ، مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.

فأنشد يقول :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم فاسمع بالرسول مناديا

إلى آخر الأبيات التي ذكرها المؤرخون (٢).

ولكن ورغم كل ذلك فإن قريشاً اختارت لنفسها وأبت أن تكون في بني هاشم النبوة والخلافة فيجحفون على قومهم بجحاً بجحا ، كما صرّح بذلك عمر بن الخطاب لعبد الله بن عباس في محاورة دارت بينهما (٣).

فلم يكن في وسع أحد أن يحتفل بذلك العيد بعد ذكراه الأولى التي احتفل بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإذا كانوا قد تناسوا نص الخلافة وتلاشى من أذهانهم ولم يمض عليه من

__________________

(١) روى هذه القصة كل من الإمام ابي حامد الغزالي في كتابه سر العالمين ص ٦ كما رواها الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ج ٤ ص ٢٨١.

والطبري في تفسيره ج ٣ ص ٤٢٨ والبيهقي ، والثعلبي ، والدارقطني والفخر الرازي وابن كثير وغيرهم.

(٢) الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه ما نزل من القرآن في علي.

الخوارزمي المالكي الأصبهاني في كتاب المناقب ص ٨٠ الكنجي الشافعي في كفاية الطالب

جلال الدين السيوطي في كتابه الازدهار فيما عقده الشعراء من الأشعار.

(٣) الطبري في تاريخه ج ٥ ص ٣١.

تاريخ ابن الاثير ج ٣ ص ٣١ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٢ ص ١٨.

٧٧

الوقت غير شهرين ومع ذلك لم يتكلم به أحد ، فكيف بذكرى الغدير التي مضى عليها عام كامل ، على أن هذا العيد مربوط بذلك النص على الخلافة فإذا انعدم النص وزال السبب لم يبق لذلك العيد أثر يذكر.

ومضت على ذلك السنون حتى رجع الحق إلى أهله بعد ربع قرن ، فأحياها الإمام علي من جديد بعد ما كادت تقبر وذلك في الرحبة عند ما ناشد أصحاب محمد ممن حضر عيد الغدير أن يقوموا فيشهدوا أمام الناس ببيعة الخلافة فقام ثلاثون صحابياً منهم ستة عشر بدرياً وشهدوا (١) والذي كتم الشهادة وادعى النسيان ، كأنس بن مالك الذي أصابته دعوة علي بن أبي طالب فلم يقم من مقامه ذلك إلا ابرص فكان يبكي ويقول أصابتني دعوة العبد الصالح لأني كتمت شهادته (٢) وبذلك أقام أبو الحسن الحجة على هذه الأمة ومنذ ذلك العهد وحتى يوم الناس هذا وإلى قيام الساعة يحتفل الشيعة بذكرى يوم الغدير وهو عندهم العيد الأكبر ، كيف لا وهو اليوم الذي أكمل الله لنا فيه الدين وأتم فيه علينا النعمة ورضي بالإسلام لنا دينا ، وهو يوم عظيم الشأن عند الله ورسوله والمؤمنين ، ذكر بعض علماء أهل السنة عن أبي هريرة أنه قال : لما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد علي وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ... إلى آخر الخطبة ، فأنزل الله عزوجل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) قال أبو هريرة وهو يوم غدير خم من صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً (٣).

__________________

(١) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج ٤ ص ٣٧٠ وكذلك ج ١ ص ١١٩. النسائي في الخصائص ص ١٩ كنز العمال ج ٦ ص ٣٩٧ ابن كثير في تاريخه ج ٥ ص ٢١١.

ابن الأثير في أسد الغابة ج ٤ ص ٢٨ وابن حجر العسقلاني في الإصابة ج ٢ ص ٤٠٨ السيوطي في جمع الجوامع.

(٢) مجمع الزوائد للهيثمي ج ٩ ص ١٠٦ ابن كثير في تاريخه ج ٥ ص ٢١١.

ابن الاثير في أسد الغابة ج ٣ ص ٣٢١ حلية الأولياء ج ٥ ص ٢٦.

أحمد بن حنبل ج ١ ص ١١٩.

(٣) ابن كثير في كتاب البداية والنهاية ج ٥ ص ٢١٤.

٧٨

أما روايات الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) في فضائل ذلك اليوم فحدث ولا حرج ، والحمد لله على هدايته أن جعلنا من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين والمحتفلين بعيد الغدير.

وخلاصة البحث أن حديث الغدير «من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار» هو حديث أو بالأحرى هي حادثة تاريخية عظيمة أجمعت الأمة الإسلامية على نقلها ، فقد مر علينا ذكر ثلاثمائة وستين من علماء أهل السنة والجماعة وأكثر من ذلك من علماء الشيعة.

ومن أراد البحث والمزيد فعليه بكتاب الغدير للعلامة الاميني.

وبعد الذي عرضناه لا يستغرب أن تنقسم الأمة الإسلامية إلى سنة وشيعة ، تمسكت الأولى بمبدإ الشورى في سقيفة بني ساعدة ، وتأولت النصوص الصريحة وخالفت بذلك ما أجمع عليه الرواة من حديث الغدير ، وغيره من النصوص.

وتمسكت الثانية بتلك النصوص فلم ترض عنها بدلا وبايعت الأئمة الاثني عشر من أهل البيت ولم تبغ عنهم حولاً والحق أنني عند ما أبحث في مذهب أهل السنة والجماعة خصوصاً في أمر الخلافة ، أجد المسائل مبنية على الظن والاجتهاد ، لأن قاعدة الانتخاب ليس فيها دليل قطعي على أن الشخص الذي نختاره اليوم هو أفضل من غيره لأننا لا نعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ولأننا في الحقيقة مركّبون من عواطف وعصبيات وأنانية كامنة في نفوسنا وستلعب هذه المركبات دورها إذا ما أوكل إلينا اختيار شخص من بين أشخاص.

وليست هذه الأطروحة خيالاً أو أمر مبالغاً فيه ، فالمتتبع لهذه الفكرة فكرة اختيار الخليفة سيجد أن هذا المبدأ الذي يطبّل له لم ينجح ولا يمكن له أن ينجح أبداً.

فهذا أبو بكر زعيم الشورى بالرغم من وصوله إلى الخلافة (بالاختيار

٧٩

والشورى) ، نراه عند ما شارف على الوفاة أسرع إلى تعيين عمر بن الخطاب خليفة له! دون استعمال طريقة الشورى. وهذا عمر بن الخطاب الذي ساهم في تأسيس خلافة أبي بكر نراه بعد وفاة أبي بكر يعلن على الملأ بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها (١).

ثمّ بعد ذلك نرى أن عمراً عند ما طعن وأيقن بدنو أجله عيّن ستة أشخاص ليختاروا بدورهم واحداً منهم ليكون خليفة ، وهو يعلم علم اليقين أن هؤلاء النفر على قلّتهم سيختلفون رغم الصحبة والسبق للإسلام والورع والتقوى فستثور فيهم العواطف البشرية التي لا ينجو منها إلا المعصوم ، ولذلك نراه لحسم الخلاف رجح كفة عبد الرحمن بن عوف فقال : إذا اختلفتم فكونوا في الشق الذي فيه عبد الرحمن بن عوف ونرى بعد ذلك بأنهم اختاروا الإمام علياً ليكون خليفة ولكنهم اشترطوا عليه أن يحكم فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين أبي بكر وعمر وقبل علي كتاب الله وسنة رسوله ورفض سنة الشيخين (٢) وقبل عثمان هذه الشروط فبايعوه بالخلافة. وقال علي في ذلك :

«فيا لله وللشورى متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، لكني أسففت إذا أسفّوا وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره مع هن وهن ..» (٣).

وإذا كان هؤلاء وهم نخبة المسلمين وهم خاصة الخاصة تعلب بهم العواطف فيكون فيهم الحقد وتكون فيهم العصبية بين هن وهن (يقول محمد عبده في شرحه لهذه الفقرة : يشير الإمام علي إلى أغراض أخرى يكره ذكرها) فعلى الدنيا بعد ذلك السلام.

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٦ باب رجم الحبلى من الزنا.

(٢) تاريخ الطبري وابن الأثير بعد موت عمر بن الخطاب واستخلاف عثمان.

(٣) شرح نهج البلاغة لمحمد عبده ج ١ ص ٨٨.

٨٠