لأكون مع الصادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: افق
الطبعة: ١٠
ISBN: 978-964-438-265-9
الصفحات: ٢٤٨

فكيف يطمئن الإنسان بعد ذلك إلى رواة تقربوا للسلطان لنيل الدنيا ولذلك اضطربت الأحاديث وتناقضت وانقسمت الأمة إلى مذاهب ، فما ثبت عند هذا المذهب لم يثبت عند غيره وما صححه هذا يكذبه ذاك.

فكيف نصدق بأن رسول الله قال تركت «كتاب الله وسنتي» وهو الذي كان يعلم بأن المنافقين والمنحرفين سوف يكذبون عليه ، وقد قال :

«كثرت عليّ الكذّابة فمن كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار» (١).

فإذا كانت الكذّابة قد كثرت في حياته فكيف يكلف أمته باتباع سنته وليس لهم معرفة بصحيحها من سقيمها وغثها من سمينها.

الوجه السادس : يروي أهل السنة والجماعة في صحاحهم بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك ثقلين ، أو خليفتين ، أو شيئين ، فمرة يروون كتاب الله وسنة رسوله ، ومرة يروون عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، ومعلوم بالضرورة أن الحديث التالي يضيف إلى كتاب الله وسنة رسوله ، سنة الخلفاء فتصبح مصادر التشريع ثلاثة بدلاً من اثنين وكل هذا يتنافى مع حديث الثقلين الصحيح والمتفق عليه من السنة والشيعة ، ألا وهو «كتاب الله وعترتي» والذي قدمنا في ذكره أكثر من عشرين مصدراً من مصادر أهل السنة الموثوقة فضلاً عن مصادر الشيعة التي لم نذكرها.

الوجه السابع : إذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم علم اليقين بأن أصحابه الذين نزل القرآن بلغتهم ولهجاتهم (كما يقولون) لم يعرفوا كثيراً من تفسيره ولا تأويله ، فكيف بمن يأتي بعدهم وكيف بمن يعتنق الإسلام من الروم والفرس والحبش وكل الأعاجم الذين لا يفهمون العربية ولا يتكلمونها.

وقد ثبت في الأثر أن أبا بكر سئل عن قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا)

__________________

(١)

١٢١

فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني أن أقول في كتاب الله لما لا أعلم (١) كما أن عمر بن الخطاب أيضاً لم يعرف هذا المعنى فعن أنس بن مالك قال : إن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر :

(فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا).

قال : كل هذا عرفناه فما الأب؟ ثمّ قال هذا لعمر الله هو المتكلف ، فما عليك أن لا تدري ما الأب ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه» (٢).

وما يقال هنا في تفسير كتاب الله يقال هناك في تفسير السنة النبوية الشريفة فكم من حديث نبوي بقي موضوع خلاف بين الصحابة وبين المذاهب وبين السنة والشيعة سواء كان الخلاف ناتجاً عن تصحيح الحديث أو تضعيفه ، أم عن تفسير الحديث وفهمه ، وللتوضيح أقدم للقارئ الكريم بعض الأمثلة عن ذلك.

١ ـ الخلاف بين الصحابة في صحة الحديث أو كذبه

هذا ما وقع لأبي بكر في أول أيامه عند ما جاءته فاطمة الزهراء تطالبه بتسليم فدك التي أخذها منها بعد وفاة أبيها فكذبها فيما ادعته من أن أباها رسول الله أنحلها إياها في حياته كما أنها لما طالبته بميراث أبيها ، قال لها بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة».

فكذبته هي الأخرى في نسبة هذا الحديث لأبيها وعارضة بكتاب الله واشتد

__________________

(١) القسطلاني في إرشاد الساري ج ١٠ ص ٢٩٨ وابن حجر في فتح الباري ج ١٣ ص ٢٣٠

(٢) تفسير ابن جرير ج ٣ ص ٣٨ وكنز العمال ج ١ ص ٢٨٧

الحاكم في المستدرك ج ٢ ص ١٤ والذهبي في تلخيصه والخطيب في تاريخه ج ١١ ص ٤٦٨

الزمخشري في تفسيره الكشاف ج ٣ ص ٢٥٣ والخازن في تفسيره ج ٤ ص ٣٧٤.

ابن تيمية في مقدمة أصول التفسير ص ٣٠ تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٧٣

١٢٢

النزاع والخلاف حتى ماتت وهي غاضبة عليه مهاجرة له لا تكلمه كما ورد ذلك في صحيحي البخاري ومسلم.

كذلك إختلاف عائشة أم المؤمنين مع أبي هريرة في الذي يصبح جنباً في رمضان فكانت ترى صحة ذلك بينما يرى أبو هريرة أن من أصبح جنباً أفطر. وإليك القصة بالتفصيل.

أخرج الإمام مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه عن عائشة وأم سلمة زوجي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنهما قالتا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصبح جنباً من جماع غير احتلام في رمضان ثمّ يصوم ، وعن أبي بكر بن عبد الرحمن قال كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة فذكر له أن أبا هريرة يقول من أصبح جنباً أفطر ذلك اليوم فقال مروان : أقسمت عليك يا عبد الرحمن لتذهبن إلى أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة فلتسألنهما عن ذلك فذهب عبد الرحمن وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة فسلم عليها ثمّ قال : يا أم المؤمنين إنا كنا عند مروان بن الحكم فذكر له أن أبا هريرة يقول من أصبح جنباً أفطر ذلك اليوم قالت عائشة : ليس كما قال أبو هريرة يا عبد الرحمن أترغب عما كان رسول الله يصنع ، فقال عبد الرحمن لا والله. قالت عائشة فأشهد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثمّ يصوم ذلك اليوم ، ثمّ خرجنا حتى دخلنا على أم سلمة فسألها عن ذلك فقالت مثل ما قالت عائشة. قال فخرجنا حتى جئنا مروان بن الحكم فذكر له عبد الرحمن ما قالتا ، فقال مروان : أقسمت عليك يا أبا محمد لتركبن دابتي فإنها بالباب فلتذهبن إلى أبي هريرة فإنه بأرضه بالعقيق فلتخبرنه ذلك ، فركب عبد الرحمن وركبت معه حتى أتينا أبا هريرة فتحدث معه عبد الرحمن ساعة ثمّ ذكر له ذلك فقال له أبو هريرة : لا علم لي بذاك إنما أخبرنيه مخبر (١).

أنظر أخي القارئ إلى صحابي مثل ابي هريرة الذي هو عند أهل السنة

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٢ ص ٢٣٢ باب الصائم يصبح جنباً.

موطأ مالك تنوير الحوالك ج ١ ص ٢٧٢ (ما جاء في الذي يصبح جنباً في رمضان).

١٢٣

راوية الإسلام كيف يفتي بأحكام دينية على الظن وينسبها إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو لا يعلم حتى من أخبره بها.

قصة أخرى لأبي هريرة يتناقض فيها مع نفسه

روى عبد الله بن محمد حدثنا هشام بن يوسف أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي مسلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا عدوى ولا صفر ولا هامة ، فقال أعرابي يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن أعدى الأول.

وعن أبي سلمة سمع أبا هريرة بعد يقول قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يوردن ممرض على مصبح ، وأنكر ابو هريرة حديثه الأول قلنا : ألم تحدث أنه لا عدوى فرطن بالحبشية قال ابو سلمة فما رأيته نسي حديثاً غيره ... (١).

* فهذه أيها القارئ اللبيب سنة الرسول ، أو قل ما ينسب للرسول فمرة يقول أبو هريرة إنه لا علم له بحديثه الأول وإنما أخبره مخبر ومرة أخرى عند ما يجابهوه بتناقضه لا يجيبهم بشيء وإنما يرطن بالحبشية حتى لا يفهمه أحد.

خلاف عائشة وابن عمر

روى ابن جريج قال سمعت عطاء يخبر قال أخبرني عروة بن الزبير قال كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة وأنا لنسمع ضربها بالسواك تستن قال فقلت يا أبا عبد الرحمن اعتمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجب قال نعم ، فقلت لعائشة أي أمتاه الا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن قالت وما يقول؟ قلت يقول اعتمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجب ، فقالت «يغفر الله لأبي عبد الرحمن لعمري ما اعتمر في رجب وما اعتمر من عمرة إلا وإنه

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٧ ص ٣١ (باب لا هامة)

صحيح مسلم ج ٧ ص ٣٢ (باب لا عدوى ولا طيرة)

١٢٤

لمعه» قال وابن عمر يسمع فما قال لا ولا نعم سكت (١).

٢ ـ اختلاف المذاهب في السنة النبوية

فإذا كان عمر وأبو بكر يختلفان في سنة النبي (٢) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا كان أبو بكر يختلف مع فاطمة في السنة النبوية (٣) وإذا كان أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يختلفن في سنة النبي (٤) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا كان أبو هريرة يتناقض ويختلف مع عائشة في السنة النبوية (٥) وإذا ابن عمر يختلف مع عائشة في سنة النبي (٦) وإذا كان عبد الله بن عباس وابن الزبير يختلفان في السنة النبوية (٧) وإذا كان علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان يختلفان في السنة النبوية (٨) وإذا كان الصحابة يختلفون في ما بينهم في السنة النبوية (٩) حتى كان للتابعين من بعدهم أكثر من سبعين مذهباً فكان ابن مسعود صاحب مذهب وكذلك ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وابن عيينة وابن جريج والحسن البصري وسفيان الثوري ، ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم كثير ، ولكن المتغيرات السياسية قضت على الجميع ولم تبق إلا المذاهب الأربعة المعروفة عند أهل السنة والجماعة.

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٣ ص ٦١ صحيح البخاري ج ٥ ص ٨٦.

(٢) إشارة إلى اختلافهما في محاربة مانعي الزكاة وقد أشرنا إلى المصادر فارجع إليها.

(٣) إشارة إلى قصة فدك وحديث نحن معشر الانبياء لا نورث ، أشرنا إلى المصادر.

(٤) إشارة إلى قصة رضاعة الكبير التي روتها عائشة وخالف عنها أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٥) إشارة إلى رواية يصبح النبي جنبا ويصوم والذي كذبته عائشة

(٦) إشارة إلى رواية اعتمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعاً إحداهن في رجب وكذبته عائشة.

(٧) إشارة إلى اختلافهما في حلية المتعة وتحريمها (أنظر البخاري ج ٦ ص ١٢٩).

(٨) إشارة إلى اختلافهما في متعة الحج (أنظر البخاري ج ٢ ص ١٥٣).

(٩) في البسملة وفي الوضوء وفي صلاة المسافر وفي الكثير من المسائل الفقهية التي لا يمكن حصرها.

١٢٥

ورغم قلة عدد المذاهب إلا أنهم يختلفون في أغلب المسائل الفقهية وذلك من أجل اختلافهم في السنة النبوية فقد يبني أحدهم حكمه في مسألة طبق ما صححه من حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينما يجتهد غيره برأيه أو يقيس على مسألة أخرى لفقدان النص والحديث.

٣ ـ إختلاف السنة والشيعة في السنة النبوية

أما إختلاف السنة والشيعة في هذه المسألة فقد يكون لسببين رئيسيين أحدهما عدم صحة الحديث عند الشيعة إذا كان أحد الرواة من المطعون في عدالته ولو كان من الصحابة. إذ أن الشيعة لا يقولون بعدالة الصحابة أجمعين كما هو الحال عند أهل السنة والجماعة.

أضف إلى ذلك أنهم يرفضون الحديث إذا تعارض مع رواية الأئمة من أهل البيت ، فهم يقدمون رواية هؤلاء على غيرهم مهما علت مرتبتهم ولهم في ذلك أدلة من القرآن والسنة ثابتة حتى عند خصومهم ، وقد سبق الإشارة إلى بعضها.

أما السبب الثاني في الاختلاف بينهما فهو ناتج عن مفهوم الحديث نفسه إذ قد يفسّره أهل السنة والجماعة على غير تفسير الشيعة كالحديث الذي سبق أن أشرنا إليه وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«إختلاف أمتي رحمة».

إذ يفسره أهل السنة والجماعة بأن في إختلاف المذاهب الأربعة في الأمور الفقهية رحمة للمسلمين.

بينما يفسّره الشيعة بالسفر إلى بعضهم البعض والاعتناء بأخذ العلم ونحوه من الفوائد.

أو قد يكون الاختلاف بين الشيعة وأهل السنة ، ليس في مفهوم الحديث النبوي ، وإنما في الشخص أو الأشخاص المعنيين بهذا الحديث وذلك كقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي».

١٢٦

فأهل السنة يعنون به الخلفاء الأربعة ، أما الشيعة فيعنون به الأئمة الاثني عشر ابتداء من علي بن أبي طالب وانتهاء بالمهدي محمد بن الحسن العسكري (عليه‌السلام).

أو كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلهم من قريش».

فالشيعة يعنون به الأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم‌السلام) بينما لا يجد أهل السنة والجماعة تفسيراً شافياً لهذا الحديث وقد اختلفوا حتى في الأحداث التاريخية التي تتعلق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو الحال في يوم مولده الشريف إذ يحتفل أهل السنة بالمولد النبوي الشريف يوم الثاني عشر من ربيع الأول في حين يحتفل الشيعة في اليوم السابع عشر من نفس الشهر.

ولعمري إن هذا الاختلاف في السنة النبوية أمر طبيعي لا مفر منه إذا لم يكن هناك مرجع يرجع إليه الجميع ويكون حكمه نافذا ، ورأيه مقبولاً لدى الجميع كما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كان يقطع دابر الخلاف ويحسم النزاع ويحكم بما أراه الله فيسلّمون ولو كان في أنفسهم حرج ، وإن وجود مثل هذا الشخص ضروري في حياة الأمة وعلى طول مداها! هكذا يحكم العقل ولا يمكن أن يغفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك وهو يعلم بأن أمته ستتأول كلام الله من بعده ، فكان لزاماً عليه أن يحضر لها معلماً قادراً ليقودها إلى الجادة إذا ما حاولت الانحراف عن الصراط المستقيم ، وقد هيّأ بالفعل لأمته قائداً عظيماً بذل كل جهوده في تربيته وتعليمه منذ ولد إلى أن بلغ الكمال وصار منه بمنزلة هارون من موسى ، فأوكل إليه هذه المهمة النبيلة بقوله

«أنا أقاتلهم على تنزيل القرآن وأنت تقاتلهم على تأويله» (١).

__________________

(١) الخوارزمي في المناقب ص ٤٤. ينابيع المودة ص ٢٣٣.

الإصابة لابن حجر العسقلاني ج ١ ص ٢٥ كفاية الطالب ص ٣٣٤.

منتخب كنز العمال ج ٥ ص ٣٦ إحقاق الحق ج ٦ ص ٣٧.

١٢٧

وقوله :

«أنت يا علي تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي» (١).

فإذا كان القرآن وهو كتاب الله العزيز يتطلب من يقاتل في سبيل تفسيره وتوضيحه ، لأنه كتاب صامت لا ينطق ، وهو حمال أوجه متعددة وفيه الظاهر والباطن فكيف بالأحاديث النبوية؟!

وإذا كان الأمر كذلك في الكتاب والسنة ، فلا يمكن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يترك لأمته ثقلين صامتين أبكمين لا يتورع الذين في قلوبهم زيغ أن يتأولوهما لغرض ويتبعوا ما تشابه منهما ابتغاء الفتنة وابتغاء الدنيا ويكونوا سببا لضلالة من يأتي بعدهم ، لأنهم أحسنوا الظن بهم واعتقدوا بعد التهم ويوم القيامة يندمون فيصدق فيهم قوله تعالى : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ، وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (٢) (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ ، رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ، قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (٣)

وهل كانت الضلالة إلا من ذلك؟ فليس هناك أمة لم يبعث الله فيهم رسولاً أوضح لهم السبيل وأنار لهم الطريق ولكنهم بعد نبيهم راحوا يحرفون ويتأولون ويبدلون كلام الله! فهل يتصور عاقل أن رسول الله عيسى (عليه‌السلام) قال للنصارى بأنه إله؟ حاشا وكلا (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ولكن الأهواء والأطماع وحب الدنيا هو الذي جر النصارى لذلك ألم يبشرهم

__________________

(١) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٢٢ تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٢ ص ٤٨٨.

المناقب للخوارزمي ص ٢٣٦ كنوز الحقائق للمناوي ص ٢٠٣.

منتخب كنز العمال ج ٥ ص ٣٣ ينابيع المودة ص ١٨٢.

(٢) سورة الأحزاب آية ٦٦ ٦٨.

(٣) سورة الأعراف آية ٣٨.

١٢٨

عيسى بمحمد؟ ومن قبله موسى كذلك ، ولكنهم تأولوا اسم محمد وأحمد «بالمنقذ» وهم حتى الآن ينتظرونه.

وهل كانت أمة محمد على مذاهب وفرق متعددة إلى «ثلاث وسبعين كلها في النار إلى فرقة واحدة» إلا بسبب التأويل : وها نحن نعيش اليوم بين هذه الفرق هل هناك فرقة واحدة تنسب لنفسها الضلالة؟ أو بتعبير آخر : هل هناك فرقة واحدة تدعي أنها خالفت كتاب الله وسنة رسوله؟ بالعكس كل فرقة تقول بأنها هي المتمسكة بالكتاب والسنة ، فما هو الحل إذاً؟؟

أكان يغيب الحل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بالأحرى عن الله؟ أستغفر الله إنه لطيف بعباده ويحب لهم الخير فلا بد أن يضع لهم حلا ، ليهلك من هلك على بينة. وليس في شأنه سبحانه إهمال مخلوقاته وتركهم بدون هداية ، اللهم إلا إذا اعتقدنا بأنه هو الذي أراد لهم الاختلاف والفرقة والضلالة ليزجّ بهم في ناره ، وهو اعتقاد باطل فاسد. أستغفره وأتوب إليه من هذا القول الذي لا يليق بجلال الله وحكمته وعدالته.

فقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه ترك كتاب الله وسنة نبيه ليس هو الحل المعقول لقضيتنا ، بل يزيدنا تعقيدا وتأويلاً ولا يقطع دابر المشاغبين والمنحرفين ، ألا تراهم عند ما خرجوا على إمامهم رفعوا شعار : ليس الحكم لك يا علي وإنما الحكم لله! إنه شعار براق يأخذ بلب السامع فيخال القائل به حريصاً على تطبيق أحكام الله ، ورافضاً لأحكام غيره من البشر ، ولكن الحقيقة ليست كذلك.

قال الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ ، وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) (١)

نعم كثيراً ما نغتر بالشعارات البراقة ولا نعرف ما ذا تخفي وراءها ، ولكن

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٠٤.

١٢٩

الإمام علياً يعرف ذلك لأنه باب مدينة العلم ، فأجابهم «إنها كلمة حق يراد بها باطل».

نعم كثيرة هي كلمات الحق التي يراد بها الباطل ، كيف ذلك؟ عند ما يقول الخوارج للإمام علي الحكم لله ليس لك يا علي ، فهل سيظهر الله على الأرض ويفصل بينهم في ما اختلفوا فيه؟ أم أنهم يعلمون أن حكم الله في القرآن ، ولكن علياً تأوّله حسب رأيه؟ فما هي حجتهم ومن يقول بأنهم هم الذين تأولوا حكم الله ، والحال أنه أعلم منهم وأصدق وأسبق للإسلام وهل الإسلام غيره؟

إذن هو شعار براق ليموّهوا به على بسطاء العقول فيكسبوا تأييدهم ليستعينوا بهم على حربه وكسب المعركة لصالحهم كما يقع اليوم فالزمان زمان والرجال رجال والدهاء والمكر لا ينقطع بل يزداد وينمو لأن دهاة هذا العصر يستفيدون من تجارب الأولين ، فكم من كلمة حق يراد بها باطل في يومنا هذا؟ شعارات براقة كالذي يرفعها الوهابيون في وجه المسلمين وهو «التوحيد وعدم الشرك» فمن من المسلمين لا يوافق عليه؟ وكتسمية فرقة من المسلمين أنفسهم «بأهل السنة والجماعة» فمن من المسلمين لا يوافق أن يكون مع الجماعة التي تتبع سنة النبي؟ وكشعار البعثيين «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» فمن من المسلمين لا يغترّ بهذا الشعار ، قبل أن يعرف خفايا حزب البعث ومؤسسه النصراني ميشال عفلق؟

لك الله يا علي بن أبي طالب إن حكمتك بقيت وستبقى مدوية على مسمع الدهر فكم من كلمة حق يراد بها الباطل ، صعد أحد العلماء إلى منصة الخطابة وصاح بأعلى صوته : من قال بأنني شيعي نقول له : أنت كافر ، ومن قال بأنني سني نقول له : أنت كافر ، نحن لا نريد شيعة ولا سنة وإنما نريد إسلاماً فقط إنها كلمة حق يراد بها باطل فأي إسلام يريده هذا العالم؟ وفي عالمنا اليوم إسلام متعدد ، بل وحتى في القرن الأول كان الإسلام متعدداً فهناك إسلام علي وإسلام معاوية وكلاهما له أتباع ومؤيدون حتى وصل الأمر إلى القتال وهناك إسلام

١٣٠

الحسين وإسلام يزيد الذي قتل أهل البيت باسم الإسلام وادعى أن الحسين خرج عن الإسلام بخروجه عليه وهناك إسلام أئمة أهل البيت وشيعتهم ، وإسلام الحكام وشعوبهم ، وعلى مر التاريخ نجد اختلافا بين المسلمين وهناك إسلام متسامح كما يسميه الغرب لأن أتباعه ألقوا بالمودة لليهود والنصارى وأصبحوا يركعون للقوتين العظيمتين وهناك إسلام متشدد يسميه الغرب إسلام التعصب والتحجر أو مجانين الله.

وبعد كل هذا لم يبق معنا مجال للتصديق بحديث «كتاب الله وسنتي» للأسباب التي ذكرت.

وتبقى الحقيقة ناصعة جلية في الحديث الثاني الذي أجمع عليه المسلمون وهو «كتاب الله وعترتي أهل بيتي» لأن هذا الحديث يحل كل المشكلات فلا يبقى إختلاف في تأويل أية آية من القرآن أو في تصحيح وتفسير أي حديث نبوي شريف إذا ما رجعنا إلى أهل البيت الذين أمرنا بالرجوع إليهم وخصوصاً إذا علمنا بأن هؤلاء الذين عيّنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم أهل لذلك ، ولا يشك أحد من المسلمين في غزارة علمهم وفي زهدهم وتقواهم ، وقد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم وأورثهم علم الكتاب فلا يخالفونه ولا يختلفون فيه بل لا يفارقونه حتى قيام الساعة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«إني تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» (١).

«ولأكون مع الصادقين يجب علي قول الحق لا تأخذني في ذلك لومة لائم وهدفي رضا الله سبحانه وإرضاء ضميري قبل رضا الناس عني».

__________________

(١) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج ٥ ص ١٢٢. الدر المنثور للسيوطي ج ٢ ص ٦٠ كنز العمال ج ١ ص ١٥٤. مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٦٢ ينابيع المودة ص ٣٨ و ١٨٣.

عبقات الأنوار ج ١ ص ١٦ الحاكم في المستدرك ج ٣ ص ١٤٨.

١٣١

والحقيقة في هذا البحث هي في جانب الشيعة الذين اتبعوا وصية رسول الله في عترته وقدموهم على أنفسهم وجعلوهم أئمتهم يتقربون إلى الله بحبهم والاقتداء بهم فهنيئاً لهم بالفوز في الدنيا وفي الآخرة حيث يحشر المرء مع من أحب فكيف بمن أحبهم واقتدى بهديهم.

قال الزمخشري في هذا الصدد :

كثر الشك والاختلاف وكل

يدعي أنه الصراط السوي

فتمسكت بلا إله إلا الله

وحبي لأحمد وعلي

فاز كلب بحب أصحاب كهف

فكيف أشقى بحب آل النبي

اللهم اجعلنا من المتمسكين بحبل ولائهم والسائرين على مناهجهم والراكبين سفينتهم والقائلين بإمامتهم والمحشورين في زمرتهم إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

١٣٢

القضاء والقدر

(عند أهل السنة)

كان موضوع القضاء والقدر لغزاً عويصاً في ما مضى من حياتي إذ لم أجد فيه تفسيراً شافياً وكافياً يريح فكري ويقنع قلبي ، وبقيت محتاراً ، بين ما تعلمته في مدرسة اهل السنة من أن الإنسان مسيّر في كل أفعاله بما يوافق : «كل مسيّر لما خلق له» وأن الله سبحانه يبعث إلى الجنين في بطن أمه ملكين من الملائكة فيكتبان أجله ورزقه وعمله ، وإن كان شقياً أو سعيداً (١) ، وبين ما يمليه عقلي وضميري ، من عدالة الله سبحانه وتعالى وعدم ظلمه لمخلوقاته ، إذ كيف يجبرهم على أفعال ثمّ يحاسبهم عليها ويعذبهم من أجل جرم كتبه هو عليهم وأجبرهم عليه.

فكنت كغيري من شباب المسلمين أعيش تلك التناقضات الفكرية في تصوري بأن الله سبحانه هو القوي الجبار الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (٢) وهو فعال لما يريد (٣) وقد خلق الخلق وجعل قسماً منهم في الجنة

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٨ ص ٤٤.

(٢) سورة الأنبياء آية ٢٣.

(٣) سورة البروج آية ١٦.

١٣٣

وقسماً آخر في الجحيم ثمّ هو رحمن رحيم بعباده لا يظلم مثقال ذرة (١) (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٢) (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٣) ثمّ هو أحن عليه من المرأة على ولدها كما جاء ذلك في الحديث الشريف (٤).

وكثيراً ما يتراءى هذا التناقض في فهمي لآيات القرآن الكريم فمرة أفهم بأن الإنسان على نفسه بصيرة وهو المسئول الوحيد عن أعماله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٥).

ومرة أفهم بأنه مسيّر وليس له حول ولا قوة ، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا رزقاً ، (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٦) (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٧).

نعم لست وحدي بل أغلب المسلمين يعيش هذه التناقضات الفكرية ولذلك تجد أغلب الشيوخ والعلماء إذا ما سألتهم عن موضوع القضاء والقدر لا يجدون جواباً يقنعون به أنفسهم قبل إقناع غيرهم ، فيقولون : هذا موضوع لا يجب الخوض فيه ، وبعضهم يحرّم الخوض فيه ويقول : يجب على المسلم أن يؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره وأنه من عند الله.

وإذا ما سألهم معاند : كيف يجبر الله عبده على ارتكاب جريمة ثمّ يزج به في نار جهنم؟ اتّهموه بالكفر والزندقة والخروج عن الدين إلى غير ذلك من التهم

__________________

(١) سورة النساء آية ٤٠.

(٢) سورة فصلت آية ٤٦.

(٣) سورة يونس آية ٤٤.

(٤) صحيح البخاري ج ٧ ص ٧٥.

(٥) سورة الزلزلة آية ٨٧.

(٦) سورة الإنسان آية ٣٠.

(٧) سورة فاطر آية ٨.

١٣٤

الباردة ، فجمدت العقول وتحجرت وأصبح الإيمان بأن الزواج بالمكتوب ، والطلاق بالمكتوب ، وحتى الزنا فهو مكتوب إذ يقولون : مكتوب على كل فرج اسم ناكحه ، وكذلك شرب الخمر ، وقتل النفس وحتى الأكل والشرب ، فلا تأكل ولا تشرب إلا ما كتبه الله لك!

قلت لبعض علمائنا بعد استعراض كل هذه المسائل : إن القرآن يكذّب هذه المزاعم ، ولا يمكن للحديث أن يناقض القرآن! قال تعالى في شأن الزواج (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) (١) فهذا يدل على مرتبة الاختيار وفي شأن الطلاق (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (٢) وهو أيضاً اختيار وفي الزنا قال (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (٣) وهو أيضاً دليل الاختيار وفي الخمر قال (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٤) وهي أيضاً تنهى بمعنى الاختيار.

اما قتل النفس فقد قال فيها : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (٥) وقال : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٦) فهذه أيضاً تفيد الاختيار في القتل.

وحتى بخصوص الأكل والشرب فقد رسم لنا حدوداً فقال : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٧) فهذه أيضاً بالاختيار.

فكيف يا سيدي بعد هذه الأدلة القرآنية تقولون بأن كل شيء من الله

__________________

(١) سورة النساء آية ٣

(٢) سورة البقرة آية ٢٢٩.

(٣) سورة الإسراء آية ٣٢.

(٤) سورة المائدة آية ٩١.

(٥) سورة الأنعام آية ١٥١.

(٦) سورة النساء آية ٩٣.

(٧) سورة الأعراف آية ٣١.

١٣٥

والعبد مسيّر في كل أفعاله؟؟

أجابني : بأن الله سبحانه هو وحده الذي يتصرف في الكون واستدل بقوله (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١).

قلت : لا خلاف بيننا في مشيئة الله سبحانه وإذا شاء الله أن يفعل شيئاً ، فليس بإمكان الإنس والجن ولا سائر المخلوقات أن يعارضوا مشيئته! وأنما اختلافنا في أفعال العباد هل هي منهم ام من الله؟؟

أجابني : لكم دينكم ولي ديني ، وأغلق باب النقاش بذلك. هذه هي في أغلب الأحيان حجة علمائنا ، وأذكر أني رجعت إليه بعد يومين وقلت له : إذا كان اعتقادك أن الله هو الذي يفعل كل شيء وليس للعباد أن يختاروا أي شيء فلما ذا لا تقول في الخلافة نفس القول ، وأن الله سبحانه هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة؟

فقال : نعم أقول بذلك ، لأن الله هو الذي اختار أبا بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ علي ولو شاء الله أن يكون علي هو الخليفة الأول ما كان الجن والإنس بقادرين على منع ذلك.

قلت : الآن وقعت.

قال : كيف وقعت؟

قلت : إما أن تقول بأن الله اختار الخلفاء الراشدين الأربعة ثمّ بعد ذلك ترك الأمر للناس يختارون من شاءوا.

وأما أن تقول بأن الله لم يترك للناس الاختيار وإنما يختار هو كل الخلفاء من وفاة الرسول إلى قيام الساعة؟

أجاب : أقول بالثاني (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ

__________________

(١) سورة آل عمران آية ٢٦.

١٣٦

الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ...).

قلت : إذاً فكل انحراف وكل ضلالة وكل جريمة وقعت في الإسلام بسبب الملوك والأمراء فهي من الله ، لأنه هو الذي أمر هؤلاء على رقاب المسلمين؟

أجاب : وهو كذلك ، ومن الصالحين من قرأ (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمّرنا مترفيها أي جعلناهم أمراء).

قلت متعجباً : إذاً فقتل علي على يد ابن ملجم وقتل الحسين بن علي أراده الله؟؟

فقال منتصراً : نعم طبعاً ألم تسمع قول الرسول لعلي :

«أشقى الآخرين الذي يضربك على هذه حتى تبتل هذه. وأشار إلى رأسه ولحيته كرم الله وجهه».

وكذلك سيدنا الحسين قد علم رسول الله بمقتله في كربلاء وحدث أم سلمة بذلك كما علم بأن سيدنا الحسن سيصلح الله به فرقتين عظيمتين من المسلمين ، فكل شيء مسطر ومكتوب في الأزل وليس للإنسان مفر. وبهذا أنت الذي وقعت لا أنا.

سكتّ قليلاً أنظر إليه وهو مزهو بهذا الكلام ، وظن أنه أفحمني بالدليل ؛ كيف لي أن أقنعه بأن علم الله بالشيء لا يفيد حتماً بأنه هو الذي قدّره واجبر الناس عليه ، وأنا أعلم مسبقاً بأن فكره لا يستوعب مثل هذه النظرية.

سألته من جديد : إذاً فكل الرؤساء والملوك قديماً وحديثاً والذين يحاربون الإسلام والمسلمين نصّبهم الله قال نعم بدون شك.

قلت حتى الاستعمار الفرنسي على تونس والجزائر والمغرب هو من الله قال : بلى ، لما جاء الوقت المعلوم خرجت فرنسا من تلك الأقطار.

قلت سبحان الله! فكيف تدافع سابقاً عن نظرية أهل السنة بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وترك الأمر شورى بين المسلمين

١٣٧

ليختاروا من يشاءون؟

قال : نعم ولا زلت على ذلك وسأبقى على ذلك إن شاء الله!

قلت : فكيف توفّق بين القولين : اختيار الله واختيار الناس بالشورى؟

قال : بما أن المسلمين اختاروا أبا بكر فقد اختاره الله!

قلت : أنزل عليهم الوحي في السقيفة يدلهم على اختيار الخليفة؟

قال : أستغفر الله ليس هناك وحي بعد محمد كما يعتقد الشيعة! (والشيعة كما هو معروف لا يعتقدون بهذا وإنما هي تهمة الصقها بهم اعداؤهم).

قلت : دعنا من الشيعة وأباطيلهم ، وأقنعنا بما عندك! كيف علمت بأن الله أختار أبا بكر؟

قال : لو أراد الله خلاف ذلك لما تمكّن المسلمون ، ولا العالمون خلاف ما يريده الله تعالى؟

عرفت حينئذ أن هؤلاء لا يفكرون ولا يتدبرون القرآن ، وعلى رأيهم سوف لن تستقيم أية نظرية فلسفية أو علمية.

وهذا يذكرني بقصة أخرى كنت أمشي مع صديق في حديقة كان بها نخل كثير وكنت أحدثه في القضاء والقدر فسقطت فوق رأسي تمرة ناضجة أخذتها من فوق الحشائش لأكلها وضعتها في في.

تعجب صديقي قائلاً : لا تأكل إلا ما كتبه الله لك! هذه التمرة سقطت باسمك قلت : ما دمت تؤمن بأنها مكتوبة فسوف لن آكلها. ولفظتها.

قال : سبحان الله! إذا كان الشيء غير مكتوب لك يخرجه الله حتى من بطنك قلت : إذاً سآكلها والتقطتها من جديد لأثبت له بأني مخيّر في أكلها أو تركها بقي صديقي يرقبني حتى مضغتها وابتلعتها ، عند ذلك قال : هي والله كاتبة لك (يقصد كتبها الله إليك) ، وانتصر عليّ بتلك الطريقة لأنه لا يمكن لي بعد ، أن أخرج التمرة من جوفي.

١٣٨

نعم هذه عقيدة أهل السنة في خصوص القضاء والقدر أو قل هذه عقيدتي عند ما كنت سنيا.

ومن الطبيعي أن أعيش بهذه العقيدة مشوش الفكر بين المتناقضات ومن الطبيعي أن نبقى في جمود دائم وننتظر ان يغيّر الله ما بنا ، عوض أن نغيّر نحن ما بأنفسنا لكي يغيّر الله ما بنا ، ونتهرب من المسئولية التي تحمّلناها ونلقي بها عليه سبحانه ، فإذا قلت للزاني أو للسارق أو حتى للمجرم الذي اغتصب فتاة قاصرة وقتلها بعد شهوته فسيجيبك : الله غالب ، قدّر ربي. سبحان هذا الرب الذي يأمر الانسان بدفن ابنته ثمّ يسأله بأي ذنب قتلت؟ سبحانك إن هذا إلا بهتان عظيم!

ومن الطبيعي أن يزدري بنا علماء الغرب ويضحكون لسخافة عقولنا ، بل وينبزوننا بالألقاب فيسمونه «مكتوب العرب» ويجعلونه سببا رئيسياً لجهلنا وتخلفنا.

ومن الطبيعي أيضاً أن يعرف الباحثون بأن هذا الاعتقاد نشأ من الدولة الأموية الذين كانوا يروّجون بأن الله سبحانه هو الذي أعطاهم الملك وأمّرهم على رقاب الناس فيجب على الناس إطاعتهم وعدم التمرد عليهم لأن مطيعهم مطيع لله والخارج عليهم هو متمرد على الله يجب قتله. ولنا في ذلك شواهد عديدة من التاريخ الإسلامي :

فهذا عثمان بن عفان عند ما يطلبون منه أن يعتزل يرفض ويقول لا أخلع قميصاً قمصنيه الله (١) فعلى رأيها الخلافة هي لباس له وقد ألبسه الله إياه فلا ينبغي لأحد من الناس أن ينزعه عنه إلا الله سبحانه يعني بالوفاة.

وهذا معاوية ايضاً يقول : إني لم أقاتلكم لتصوموا ولتزكوا وإنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون فهذا يذهب شوطاً أبعد من

__________________

(١) تاريخ الطبري حصار عثمان وتاريخ ابن الاثير.

١٣٩

عثمان لأنه يتهم رب العزة والجلالة بأنه أعانه على قتل المسلمين ليتآمر عليهم وخطبة معاوية هذه مشهورة (١).

وحتى في اختيار ليزيد ابنه وتوليته على الناس رغم أنوفهم فقد ادعى معاوية أن الله هو الذي استخلف ابنه يزيداً على الناس وذلك ما رواه المؤرخون ، عند ما كتب بيعته إلى الآفاق ، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم ، فكتب إليه يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد (٢).

وكذلك فعل ابن زياد الفاسق عند ما أدخلوا عليه علياً زين العابدين مكبلاً بالأغلال فسأل قائلاً من هذا فقالوا علي بن الحسين! قال : ألم يقتل الله علي بن الحسين فأجابته زينب عمته : بل قتله أعداء الله وأعداء رسوله.

فقال لها ابن زياد : كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك.

قالت : ما رأيت إلا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم ، فانظر لمن الفلح يومئذ ، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة (٣).

وهكذا تفشى هذا الاعتقاد من بني أمية وأعوانهم وسرى في اللأمة الإسلامية عدا شيعة أهل البيت.

__________________

(١) مقاتل الطالبين ص ٧٠ وابن كثير ج ٨ ص ١٣١ وابن أبي الحديد ج ٣ ص ١٦

(٢) الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٥١ بيعة معاوية ليزيد بالشام.

(٣) مقاتل الطالبين مقتل الحسين.

١٤٠