لأكون مع الصادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: افق
الطبعة: ١٠
ISBN: 978-964-438-265-9
الصفحات: ٢٤٨

وزاده بسطة في الجسم فكان بحق أسد الله الغالب وأصبحت قوّته وشجاعته مضرب الأمثال عبر الأجيال حتى روى المؤرخون فيها قصصاً تقارب المعجزات كاقتلاع باب خيبر وقد عجز عن تحريكه فيما بعد عشرون صحابياً (١) واقتلاع الصنم الأكبر هبل (٢) من فوق سطح الكعبة ، وتحويل الصخرة العظيمة التي عجز الجيش كله عن تحريكها (٣) وغير ذلك من الروايات المشهورة.

وقد أشاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بابن عمه علي وأبان فضله وفضائله في كل مناسبة وعرّف بخصائصه ومزاياه فمرة يقول :

«إن هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا» (٤).

ومرّة يقول له :

«أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» (٥).

وأخرى يقول :

«من أراد أن يحيا حياتي ، ويموت موتي ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي فليتول علي بن أبي طالب فإنه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة» (٦).

والمتتبع لسيرة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجده لم يكتف بالأقوال والأحاديث فيه فحسب بل إن أقواله تجسّدت في أعماله فلم يؤمّر في حياته على علي أحداً من الصحابة بالرغم من تأميرهم على بعضهم البعض فقد أمر على

__________________

(١ و ٢ و ٣) شرح النهج لابن أبي الحديد في المقدمة.

(٤) تاريخ الطبري ج ٢ ص ٣١٩ تاريخ ابن الاثير ج ٢ ص ٦٢.

(٥) صحيح مسلم ج ٧ ص ١٢٠ صحيح البخاري في فضائل علي.

(٦) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٢٨ والطبراني في الكبير

١٠١

أبي بكر وعمر في غزوة ذات السلاسل عمرو بن العاص (١).

كما أمر عليهم جميعاً شاباً صغيراً وهو أسامة بن زيد وذلك في سرية أسامة قبل موته صلى الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أما علي بن أبي طالب فلم يكن في بعث إلا وهو الأمير حتى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث في مرة بعثين وأمّر بعثين وأمّر علياً على بعث وخالد بن الوليد على بعث وقال لهم : إذا افترقتم فكل واحد على جيشه وإذا التقيتم فعلي على الجيش كله.

ونستنتج من كل ما تقدم بأن علياً هو ولي المؤمنين بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ينبغي لأحد أن يتقدم عليه.

ولكن مع الأسف الشديد فقد خسر المسلمون خسارة فادحة ، وهم يعانون حتى اليوم ويجنون ثمار ما غرسوه ، وقد عرف الثالون غبّ ما أسسه الأولون.

وهل يمكن لأحد أن يتصور خلافة راشدة كخلافة علي بن أبي طالب لو اتبعت هذه الأمة ما اختاره الله ورسوله فعلي كان بإمكانه أن يقود الأمة طول ثلاثين عاما على نسق واحد كما قادها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبدون أي تغيير ، ذلك لأن أبا بكر وعمراً غيّرا واجتهدا بأدائهما مقابل النصوص وأصبح فعلهما سنة متبعة ، ولما جاء عثمان للخلافة غيّر أكثر حتى قيل أنه خالف كتاب الله وسنة رسوله وسنة أبي بكر وعمر وأنكر عليه الصحابة ذلك وقامت عليه ثورة شعبية عارمة أودت بحياته وسببت فتنة كبرى في الأمة لم يندمل جراحها حتى الآن.

أما علي بن أبي طالب فكان يتقيد بكتاب الله وسنة رسوله لا يحيد عنهما قيد أنملة وأكبر شاهد على ذلك أنه رفض الخلافة عند ما اشترطوا عليه أن يحكم مع كتاب الله وسنة رسوله ، سنة الخليفتين.

__________________

(١) السيرة الحلبية غزوة ذات السلاسل وطبقات ابن سعد وكل من ذكر غزوة ذات السلاسل.

١٠٢

ولسائل أن يسأل : لما ذا يتقيد علي بكتاب الله وسنة رسوله بينما اضطر أبو بكر وعمر وعثمان للاجتهاد والتغيير؟

والجواب هو أن علياً عنده من العلم ما ليس عندهم وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصّه بألف باب من العلم يفتح لكل باب ألف باب (١) وقال له :

«أنت يا علي تبيّن لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي» (٢).

أما الخلفاء فكانوا لا يعلمون كثيراً من أحكام القرآن الظاهرية فضلاً عن تأويله فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما في باب التيمم بأن رجلاً سأل عمر بن الخطاب أيام خلافته فقال : يا أمير المؤمنين إني أجنبت ولم أجد الماء فما ذا أصنع؟ قال له عمر : لا تصل!! وكذلك لم يعرف حكم الكلالة حتى مات وهو يقول وددت لو سألت رسول الله عن الكلالة بينما حكمها مذكور في القرآن الكريم ، ولذا كان عمر الذي يقول عنه أهل السنة والجماعة بأنه من الملهمين على هذا المستوى العلمي ، فلا تسأل عن الآخرين الذين أدخلوا البدع في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير سوى اجتهادات شخصية.

ولقائل أن يقول : إذا كان الأمر كذلك فلما ذا لم يبيّن الإمام علي للأمة ما اختلفوا فيه بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والجواب هو : أن الإمام علياً لم يأل جهداً في تبيين ما أشكل على الأمة وكان مرجع الصحابة في كل ما أشكل عليهم فكان يأتي ويوضّح وينصح فكانوا يأخذون منه ما يعجبهم وما لا يتعارض مع سياستهم ويدعون ما سوى ذلك والتاريخ أكبر شاهد على ما نقول.

__________________

(١) كنز العمال ج ٦ ص ٣٩٢ رقم الحديث ٦٠٠٩ وكذلك في حلية الأولياء ينابيع المودة ص ٧٣ و ٧٧ تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٢ ص ٤٨٣.

(٢) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٢٢ تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٢ ص ٤٨٨.

١٠٣

والحقيقة هي : لو لا علي بن أبي طالب والأئمة من ولده لما عرف الناس معالم دينهم ، ولكن الناس كما أعلمنا القرآن لا يحبون الحق فاتبعوا أهواءهم واخترعوا مذاهب في مقابل الأئمة من أهل البيت الذين كانت الحكومات تحسب عليهم أنفاسهم ولا تترك لهم حرية التحرك والاتصال المباشر.

فكان علي يصعد على المنبر ويقول للناس : سلوني قبل أن تفقدوني ، ويكفي علياً أن ترك نهج البلاغة ، والأئمة من أهل البيت سلام الله عليهم تركوا من العلم ما ملأ الخافقين وشهد لهم بذلك أئمة المسلمين سنة وشيعة

وأعود للموضوع فأقول على هذا الأساس : لو قدّر لعلي أن يقود الأمة ثلاثين عاماً على سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعم الإسلام ولتغلغلت العقيدة في قلوب الناس أكثر وأعمق ولما كانت فتنة صغرى ولا فتنة كبرى ولا كربلاء ولا عاشوراء ، ولو تصوّرنا قيادة الأئمة الأحد عشر بعد علي والذي نص عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذين امتدت حياتهم عبر ثلاث قرون لما بقي في الأرض ديار لغير المسلمين ولكانت الأرض اليوم على غير ما نشاهده اليوم ولكانت حياتنا إنسانية. بمعناها الحقيقي. ولكن قال الله تعالى :

(الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (١) وقد فشلت الأمة الإسلامية في الامتحان كما فشلت الأمم السابقة كما نص على ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) في العديد من المناسبات ، كما أكد عليه القرآن الكريم في العديد من الآيات (٣).

__________________

(١) سورة العنكبوت آية ٢.

(٢) كحديث إتباع سنة اليهود والنصارى شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. أخرجه البخاري ومسلم وسبقت الإشارة إليه وكحديث الحوض الذي يقول فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم.

(٣) كقوله تعالى : (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) آل عمران : آية ١٤٤.

وكقوله له سبحانه وتعالى : (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخدوا هذا القرآن مهجوراً ...) الفرقان آية ٣٠.

١٠٤

شواهد أخرى على ولاية علي

وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون ولاية علي هي الاختبار للمسلمين فكل إختلاف وقع فبسببها ولأنه سبحانه لطيف بعباده فلا يؤاخذ التالين بما فعل الأولون فجلّت حكمته وحف تلك الحادثة بأحداث أخرى جليلة تشبه المعجزات حتى تكون حافزاً للأمة فينقلها الحاضرون ويعتبر بها اللاحقون عسى أن يهتدوا للحق من طريق البحث

الشاهد الأول : يتعلق بعقوبة من كذب بولاية علي وذلك أنه بعد شيوع خبر غدير خم وتنصيب الإمام علي خليفة على المسلمين ، وقول الرسول لهم : فليبلغ الشاهد الغائب.

وصل الخبر إلى الحارث بن النعمان الفهري ولم يعجبه ذلك (١) فأقبل على رسول الله ، وأناخ راحلته أمام باب المسجد ودخل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) يدلنا على أن هناك من الأعراب الذين يسكنون خارج المدينة يبغضون علي بن أبي طالب ولا يحبوه ، كما أنهم لا يحبون محمد ولذا ترى هذا الجلف يدخل على النبي فلا يسلم ويناديه يا محمد : وصدق الله إن يقول : (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله).

١٠٥

وسلم فقال : يا محمد إنك أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا منك ذلك ، وأمرتنا أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة ونصوم رمضان ونحج البيت ، ونزكي أموالنا فقبلنا منك ذلك ثمّ لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك وفضلته على الناس وقلت «من كنت مولاه فعلي مولاه» فهذا شيء منك أو من الله؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد احمرّت عيناه : والله الذي لا إله إلا هو إنه من الله وليس مني قالها ثلاثاً.

فقام الحارث وهو يقول :

«اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأرسل علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم».

قال : فوالله ما بلغ ناقته حتى رماه الله من السماء بحجر فوقع على هامته فخرج من دبره ومات ، وأنزل الله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ.)

وهذه الحادثة نقلها جمع غفير من علماء أهل السنة غير الذين ذكرناهم (١) فمن أراد مزيداً من المصادر فعليه بكتاب الغدير للعلامة الأميني.

__________________

(١) شواهد التنزيل للحسكاني ج ٢ ص ٢٨٦.

تفسير الثعلبي في سورة سأل سائل بعذاب واقع.

تفسير القرطبي ج ١٨ ص ٢٨٧.

تفسير المنار رشيد رضا ج ٦ ص ٤٦٤.

ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ٣٢٨.

الحاكم في ما استدركه على الصحيحين ج ٢ ص ٥٠٢.

السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٧٥.

تذكرة الخواص لابن الجوزي ص ٣٧.

١٠٦

الشاهد الثاني : يتعلق بعقوبة من كتم الشهادة بحادثة الغدير وأصابته دعوة الإمام علي.

وذلك عند ما قام الإمام علي أيام خلافته ، في يوم مشهود إذ جمع الناس في الرحبة ونادى من فوق المنبر قائلاً :

«أنشد الله كل امرئ مسلم سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم غدير خم «من كنت مولاه فعلي مولاه» إلا قام فشهد بما سمع ، ولا يقم إلا من رآه بعينيه وسمعه بأذنيه».

فقام ثلاثون صحابياً منهم ستة عشر بدرياً ، فشهدوا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيده ، فقال الناس :

«أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : نعم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ...» الحديث.

ولكن بعض الصحابة ممن حضروا واقعة الغدير أقعدهم الحسد أو البغض للإمام ، فلم يقوموا للشهادة ومن هؤلاء أنس بن مالك حيث نزل إليه الإمام علي من المنبر وقال له : مالك يا أنس لا تقوم مع أصحاب رسول الله فتشهد بما سمعته منه يومئذ كما شهدوا؟ فقال : يا أمير المؤمنين كبرت سني ونسيت ، فقال الإمام علي : إن كنت كاذباً فضربك الله ببيضاء لا تواريها العمامة ، فما قام حتى ابيض وجهه برصاً ، فكان بعد ذلك يبكي ويقول : أصابتني دعوة العبد الصالح لأني كتمت شهادته.

وهذا القصة مشهورة ذكرها ابن قتيبة في كتاب المعارف (١) حيث عدّ أنساً من أصحاب العاهات في باب البرص وكذلك الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (٢)

__________________

(١) كتاب المعارف لابن قتيبة الدينوري ص ٢٥١.

(٢) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج ١ ص ١١٩.

١٠٧

حيث قال : فقاموا إلا ثلاثة لم يقوموا فاصابتهم دعوته.

وتجدر الإشارة هنا بأن نذكر هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم الإمام أحمد برواية البلاذري (١) قال بعدها أورد مناشدة الإمام علي للشهادة ، وكان تحت المنبر أنس بن مالك والبراء بن عازب ، وجوير بن عبد الله البجلي ، فأعادها فلم يجبه منهم أحد فقال : اللهم من كتم هذه الشهادة وهو يعرفها فلا تخرجه من الدنيا حتى تجعل به آية يعرف بها قال : فبرص أنس بن مالك ، وعمي البراء بن عازب ، ورجع جرير أعرابياً بعد هجرته فأتى الشراة فمات في بيت أمه.

وهذه القصة مشهورة تناقلها جمع كبير من المؤرخين (٢).

(فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ)

والمتتبع يعرف من خلال هذه الحادثة (٣) التي أحياها الإمام علي بعد مرور ربع قرن عليها وبعد ما كادت تنسى يعرف ما هي قيمة الإمام علي وعظمته ومدى علوّ همته وصفاء نفسه ، وهو في حين أعطى للصبر أكثر من حقه ، ونصح لأبي بكر وعمر وعثمان ما علم أن في نصحهم مصلحة الإسلام والمسلمين ، كان مع ذلك يحمل في جنباته حادثة الغدير بكل معانيها وهي حاضرة في ضميره في كل لحظات حياته فما إن وجد فرصة سانحة لبعثها وإحيائها من جديد حتى حمل غيره

__________________

(١) أنساب الأشراف للبلاذري في جزئه الأول وج ٢ ص ١٥٢.

(٢) تاريخ ابن عساكر المسمى بتاريخ دمشق ج ٢ ص ٧ وج ٣ ص ١٥٠

* شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد تحقيق محمد أبو الفضل ج ١٩ ص ٢١٧.

* عبقات الأنوار ج ٢ ص ٣٠٩.

* مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي ص ٢٣.

* السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٣٧.

(٣) وهو مناشدة الإمام علي يوم الرحبة الصحابة ليشهدوا بحديث الغدير وقد روى هذه الحادثة جمع غفير من المحدثين والمؤرخين سبق الإشارة إليهم أمثال : أحمد بن حنبل وابن عساكر. وابن أبي الحديد وغيرهم

١٠٨

للشهادة بها على مسمع ومرأى من الناس.

وانظر كيف كانت طريقة إحياء هذه الذكرى المباركة وما فيها من الحكمة البالغة لإقامة الحجة على المسلمين من حضر منهم الواقعة ومن لم يحضر ، فلو قال الإمام : أيها الناس لقد أوصى بي رسول الله في غدير خم على الخلافة ، لما كان لذلك وقعاً في نفوس الحاضرين ولاحتجوا عليه عن سكوته طوال تلك المدة.

ولكنه لما قال : أنشد الله كل إمرئ مسلم سمع رسول الله يقول ما قال يوم غدير خم ، إلا قام فشهد ، فكانت الحادثة منقولة بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على لسان ثلاثين صحابياً منهم ستة عشر بدرياً وبذلك قطع الإمام الطريق على المكذبين والمشككين وعلى المحتجين عن سكوته طوال تلك المدة ، لأن في سكوت هؤلاء الثلاثين معه وهم من عظماء الصحابة لدليل كبير على خطورة الموقف وعلى أن السكوت فيه مصلحة الإسلام كما لا يخفى.

١٠٩
١١٠

تعليق على الشورى

رأينا فيما سبق بأن الخلافة على قول الشيعة هي باختيار الله سبحانه ، وتعيين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وحي يوحي به إليه.

وهذا القول يتماشى تماماً مع فلسفة الإسلام في كل أحكامه وتشريعاته إذ أن الله سبحانه هو الذي (يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ، ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (١).

وبما أن الله سبحانه أراد أن تكون أمة محمد خير أمة أخرجت للناس فلا بد لها من قيادة حكيمة ، رشيدة ، عالمة ، قوية ، شجاعة ، تقية ، زاهدة ، في أعلى درجات الإيمان ، وهذا لا يتأتى إلا لمن اصطفاه الله سبحانه وتعالى ، وكيّفه بميزات خاصة تؤهله للقيادة والزعامة : قال الله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٢).

وكما أن الأنبياء اصطفاهم الله سبحانه فكذلك الأوصياء. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) سورة القصص آية ٦٨.

(٢) سورة الحج آية ٧٥.

١١١

«لكل نبي وصي ، وأنا وصيي علي بن أبي طالب» (١).

وفي حديث آخر قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«أنا خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء» (٢).

وعلى هذا الأساس فإن الشيعة سلموا أمرهم لله ورسوله ، ولم يبق منهم من يدّع الخلافة لنفسه أو يطمع فيها ، لا بالنص ولا بالاختيار ، أولاً لأن النص ينفي الاختيار والشورى وثانياً لأن النص قد وقع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أشخاص معدودين ومعيّنين (٣) بأسمائهم ، فلا يتطاول إليها منهم متطاول وإن فعل فهو فاسق خارج عن الدين.

أما الخلافة عند أهل السنة والجماعة فهي بالاختيار والشورى وبذلك فتحوا الباب الذي لا يمكن غلقه على أي واحد من الأمة وأطمعوا فيها كل قاص ودان ، وكل غث وسمين ، وحتى تحولت من قريش إلى الموالي والعبيد وإلى الفرس والمماليك وإلى الأتراك والمغول.

وتبخرت تلك القيم والشروط التي اشترطوها في الخليفة لأن غير المعصوم بشر مليء بالعاطفة والغرائز ، وبمجرد وصوله إلى الحكم لا يؤمن أن ينقلب ويكون أسوأ مما كان والتاريخ الإسلامي خير شاهد على ما نقول.

وأخشى أن يتصور بعض القراء بأنني أبالغ ، فما عليهم إلا أن يتصفحوا تاريخ الأمويين والعباسيين وغيرهم حتى يعرفوا بأن من تسمى أمير المؤمنين كان يتجاهر بشرب الخمر ويلاعب القرود ويلبسهم الذهب وأن (أمير المؤمنين) يلبس جاريته لباسه لتصلي بالمسلمين ، وأن (أمير المؤمنين) تموت جاريته حبابة فيسلب

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر الشافعي ج ٣ ص ٥ مناقب الخوارزمي ص ٤٢ ينابيع المودة ص ٧٩.

(٢) ينابيع المودة ج ٢ ص ٣ نقلاً عن الديلمي المناقب للخوارزمي ذخائر العقبى.

(٣) روى العدد البخاري ومسلم وروى العدد والأسماء صاحب ينابيع المودة ج ٣ ص ٩٩.

١١٢

عقله وأن (أمير المؤمنين) يطرب لشاعر فيقبل ذكره. ولما ذا نستغرق في هؤلاء الذين حكم المسلمون بأنهم لا يمثلون إلا الملك العضوض ولا يمثلون الخلافة وذلك للحديث الذي يروونه وهو قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«الخلافة من بعدي ثلاثون عاماً ثمّ تكون ملكاً عضوضاً».

وليس هذا موضوع بحثنا فمن أراد الاطلاع على ذلك فعليه مراجعة تاريخ الطبري وتاريخ ابن الأثير وأبي الفداء وابن قتيبة وغيرهم.

وإنما أردت بيان مساوي الاختيار وعقم النظرية من أساسها لأن من نختاره اليوم قد ننقم عليه غداً ويتبيّن لنا بأننا أخطأنا ولم نحسن الاختيار كما وقع ذلك لعبد الرحمن بن عوف نفسه عند ما اختار للخلافة عثمان بن عفان وندم بعد ذلك ، ولكن ندمه لم يفد الأمة شيئاً بعد توريطها ، وإذا كان صحابي جليل من الرعيل الأول وهو عثمان لا يفي بالعهد الذي أعطاه لعبد الرحمن بن عوف ، وإذا كان صحابي جليل من الرعيل الأول وهو عبد الرحمن بن عوف لا يحسن الاختيار ، فلا يمكن لعاقل بعد ذلك أن يرتاح لهذه النظرية العقيمة ، والتي ما تولد عنها إلا الاضطراب وعدم الاستقرار وإراقة الدماء ، فإذا كانت بيعة أبي بكر فلتة كما وصفها عمر بن الخطاب وقد وقى الله المسلمين شرها ، وقد خالف وتخلف عنها جمع غفير من الصحابة ، وإذا كانت بيعة علي بن أبي طالب بعد ذلك على رءوس الملأ ولكن بعض الصحابة نكث البيعة ، وانجرّ عن ذلك حرب الجمل ، وحرب صفين ، وحرب النهروان ، وزهقت فيها أرواح بريئة فكيف يرتاح العقلاء بعد ذلك لهذه القاعدة التي جرّبت وفشلت فشلاً ذريعاً من بدايتها وكانت وبالاً على الخليفة ولا يقدرون بعد ذلك على تبديله أو عزله ، وقد حاول المسلمين جهدهم عزل عثمان فأبى قائلاً : لا أنزع قميصاً قمّصنيه الله.

ومما يزيدنا نفوراً من هذا النظرية ، ما نراه اليوم في دول الغرب المتحضّرة والتي تزعم الديمقراطية في اختيار رئيس الدولة ، وترى الأحزاب المتعددة تتصارع وتتساوم وتتسابق للوصول إلى منصة الحكم بأي ثمن ، وتصرف من أجل ذلك

١١٣

البلايين من الأموال التي تخصص للدعاية بكل وسائلها وتهدر طاقات كبيرة على حساب المستضعفين من الشعب المسكين الذي قد يكون في أشد الحاجة إليها ، وما أن يصل أحدهم إلى الرئاسة حتى تأخذه العاطفة فيولّي أنصاره وأعضاء حزبه وأصدقائه وأقاربه في مناصب الوزراء والمسئوليات العظمى والمراكز المهمة في الإدارة ويبقى الآخرون يعملون في المعارضة مدة رئاسته المتفق عليها أيضاً فيخلقون له المشاكل والعراقيل ويحاولون جهدهم فضحه والإطاحة به ، وفي كل ذلك خسارة فادحة للشعب المغلوب على أمره ، فكم من قيم إنسانية سقطت وكم من رذائل شيطانية رفعت باسم الحرية والديمقراطية وتحت شعارات برّاقة ، فأصبح اللواط قانوناً مشروعاً والزنا بدلاً من الزواج تقدماً ورقيّا وحدث في ذلك ولا حرج.

فما أعظم عقيدة الشيعة في القول بأن الخلافة أصل من أصول الدين ، وما أعظم قولهم بأن هذا المنصب هو باختيار الله سبحانه ، فهو قول سديد ورأي رشيد يقبله العقل ويرتاح إليه الضمير ، وتؤيده النصوص من القرآن والسنة ، ويرغم أنوف الجبابرة والمتسلطين ، والملوك والسلاطين ، ويفيض على المجتمع السكينة والاستقرار.

١١٤

الاختلاف في الثقلين

عرفنا فيما سبق ومن خلال الأبحاث المتقدمة رأي الشيعة وأهل السنة في الخلافة وما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاه الأمة على قول الفريقين.

فهل ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمته شيئاً؟ تعتمد عليه وترجع إليه فيما قد يقع فيه الخلاف الذي لا بد منه والذي سجله كتاب الله بقوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ، فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (١).

نعم ، لا بد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يترك للأمة قاعدة ترتكز عليها ، فهو إنما بعث رحمة للعالمين ، وهو حريص على أن تكون أمته خير الأمم ولا تختلف بعده ولهذا روى عنه أصحابه والمحدثون بأنه قال :

«تركت فيكم الثقلين ، ما إن تمسكتم بهما ، لن تضلوا بعدي أبداً ، كتاب

__________________

(١) سورة النساء آية ٥٩.

١١٥

الله وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا على الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (١).

وهذا الحديث صحيح ثابت أخرجه المحدثون من الفريقين السنة والشيعة. ورووه في مسانيدهم وفي صحاحهم عن طريق ما يزيد على ثلاثين صحابياً.

وبما أنني وكالعادة لا أحتجّ بكتب الشيعة ولا بأقوال علمائهم فكان لزاماً علي أن أذكر فقط علماء السنة الذين أخرجوا حديث الثقلين معترفين بصحته حتى يكون البحث دائماً موضوعياً يتصف بالعدل والإنصاف (وإن كان العدل والإنصاف يقتضي ذكر قول الشيعة أيضاً).

وهذه قائمة وجيزة عن رواة هذا الحديث من علماء السنة :

١ ـ صحيح مسلم كتاب فضائل علي بن أبي طالب ج ٧ ص ١٢٢.

٢ ـ صحيح الترمذي ج ٥ ص ٣٢٨.

٣ ـ الإمام النسائي في خصائصه ص ٢١.

٤ ـ الامام أحمد بن حنبل ج ٣ ص ١٧.

٥ ـ مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٠٩.

٦ ـ كنز العمال ج ١ ص ١٥٤.

٧ ـ الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٩٤.

٨ ـ جامع الأصول لابن الأثير ج ١ ص ١٨٧.

٩ ـ الجامع الصغير للسيوطي ج ١ ص ٣٥٣.

١٠ ـ مجمع الزوائد للهيثمي ج ٩ ص ١٦٣.

١١ ـ الفتح الكبير للنبهاني ج ١ ص ٤٥١.

١٢ ـ أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير ج ٢ ص ١٢.

١٣ ـ تاريخ ابن عساكر ج ٥ ص ٤٣٦.

__________________

(١) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٤٨.

١١٦

١٤ ـ تفسير ابن كثير ج ٤ ص ١١٣.

١٥ ـ التاج الجامع للأصول ج ٣ ص ٣٠٨.

أضف إلى هؤلاء ابن حجر الذي ذكره في كتابه الصواعق المحرقة معترفاً بصحته والذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته على شرط الشيخين والخوارزمي الحنفي وابن المغازلي الشافعي والطبراني في معجمه ، وكذلك صاحب السيرة النبوية في هامش السيرة الحلبية وصاحب ينابيع المودة وغيرهم ...

فهل يجوز بعد هذا أن يدعي أحد أن حديث الثقلين «كتاب الله وعترتي» لا يعرفه أهل السنة وإنما هو من موضوعات الشيعة؟؟ قاتل الله التعصب والجمود الفكري والحمية الجاهلية.

إذن ، فحديث الثقلين الذي أوصى فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسك بكتاب الله وعترته الطاهرة ، هو حديث صحيح عند أهل السنة كما مر علينا وعند الشيعة هو أكثر تواتراً وسنداً عن الأئمة الطاهرين.

فلما ذا يشكك البعض في هذا الحديث ويحاولون جهدهم أن يبدلوه «بكتاب الله وسنتي» ورغم أن صاحب كتاب «مفتاح كنوز السنة» يخرج في صفحة ٤٧٨ بعنوان «وصيته (ص) بكتاب الله وسنة رسوله» نقلاً عن البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة غير أنك إذا بحثت في هؤلاء الكتب الأربعة المذكورة فسوف لن تجد إشارة من قريب أو من بعيد إلى هذا الحديث نعم قد تجد في البخاري «كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة» (١) ولكنك لا تجد لهذا الحديث وجوداً.

وغاية ما يوجد في صحيح البخاري وفي الكتب المذكورة حديث يقول : «حدثنا طلحة بن مصرّف قال : سألت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما ، هل كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى؟ فقال : لا ، فقلت : كيف كتب على

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٨ ص ١٣٧.

١١٧

الناس الوصية أو أمروا بالوصية؟ قال : أوصى بكتاب الله» (١).

ولا وجود لحديث لرسول الله يقول فيه «تركت فيكم الثقلين كتاب الله وسنتي» وحتى على فرض وجود هذا الحديث في بعض الكتب فلا عبرة به ، لأن الإجماع على خلافه كما تقدم

ثمّ لو بحثنا في حديث «كتاب الله وسنتي» لوجدناه لا يستقيم مع الواقع لا نقلا ولا عقلا ، ولنا في رده بعض الوجوه.

الوجه الأول : اتفق المؤرخون والمحدثون بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منع من كتابة أحاديثه ، ولم يدع أحد أنه كان يكتب السنة النبوية في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تركت فيكم «كتاب الله وسنتي» لا يستقيم أما بالنسبة لكتاب الله فهو مكتوب ومحفوظ في صدور الرجال وبإمكان أي صحابي الرجوع إلى المصحف ولو لم يكن من الحفاظ.

أما بالنسبة للسنة النبوية فليس هناك شيء مكتوب أو مجموع في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالسنة النبوية كما هو معلوم ومتفق عليه ، كل ما قاله الرسول أو فعله أو أقرّه ، ومن المعلوم أيضاً أن الرسول لم يكن يجمع أصحابه ليعلمهم السنة النبوية بل كان يتحدث في كل مناسبة وقد يحضر بعضهم وقد لا يكون معه إلا واحد من أصحابه فكيف يمكن للرسول والحال هذه ، ان يقول لهم تركت فيكم سنتي؟؟

الوجه الثاني : لما أشتد برسول الله وجعه وذلك قبل وفاته بثلاثة أيام طلب منهم أن يأتوه بالكتف والدواة ليكتب لهم كتاباً لا يضلوا بعده أبداً ، فقال عمر بن

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٣ ص ١٨٦.

صحيح الترمذي كتاب الوصايا.

صحيح مسلم كتاب الوصايا.

صحيح ابن ماجة كتاب الوصايا.

١١٨

الخطاب إن رسول الله ليهجر وحسبنا كتاب الله! (١)

فلو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال لهم من قبل تركت فيكم «كتاب الله وسنتي» لما جاز لعمر بن الخطاب أن يقول : حسبنا كتاب الله! ، لأنه بذلك يكون هو والصحابة الذين قالوا بمقالته رادّين على رسول الله ولا أظن أن أهل السنة والجماعة يرضون بهذا.

ولذلك فهمنا أن الحديث وضعه بعض المتأخرين الذين يعادون أهل البيت وخصوصاً بعد إقصائهم عن الخلافة ، وكأن الذي وضع حديث «كتاب الله وسنتي» استغرب أن يكون الناس تمسكوا بكتاب الله وتركوا العترة واقتدوا بغيرهم ، فظن أنه باختلاق الحديث سيصحح مسيرتهم ويبعد النقد والتجريح عن الصحابة الذين خالفوا وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الوجه الثالث : من المعروف أن أول حادثة اعترضت أبا بكر في أوائل خلافته هي قراره محاربة مانعي الزكاة ، رغم معارضة عمر بن الخطاب له واستشهاده بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله عصم مني ماله ودمه إلا بحقها وحسابه على الله»

فلو كانت سنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معلومة ما كان أبو بكر يجهلها وهو أولى الناس بمعرفتها.

ولكن عمر بعد ذلك اقتنع بتأويل أبي بكر للحديث الذي رواه وقول أبي بكر بأن الزكاة هي حق المال ، ولكنهم غفلوا أو تغافلوا عن سنة الرسول الفعلية التي لا تقبل التأويل وهي قصة ثعلبة الذي امتنع عن دفع الزكاة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزل فيه قرآن ولم يقاتله رسول الله ولا أجبره على دفعها وأين

__________________

(١) صحيح البخاري باب مرض النبي ووفاته ج ٥ ص ١٣٨.

صحيح مسلم كتاب الوصية ج ٢ ص ١٦.

١١٩

أبو بكر وعمر من قصة أسامة بن زيد الذي بعثه رسول الله في سرية ، ولما غشي القوم وهزمهم لحق رجلا منهم فلما أدركه قال : لا إله إلا الله! فقتله أسامة ، ولما بلغ النبي ذلك قال : يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ قال : كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (١).

ولكن هذا لا يمكن أن نصدق بحديث «كتاب الله وسنتي» لأن الصحابة أول من جهل السنة النبوية فكيف بمن جاء بعدهم وكيف بمن بعد مسكنه عن المدينة؟

الوجه الرابع : من المعروف أيضاً أن كثيراً من أعمال الصحابة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت مخالفة لسنته.

فإما أن يكون هؤلاء الصحابة يعرفون سنته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخالفوها عمداً ، اجتهاداً منهم في مقابل نصوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهؤلاء ينطبق عليهم قول الله سبحانه وتعالى : (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٢)

وأما أنهم كانوا يجهلون سنته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يحق لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحال هذه أن يقول لهم تركت فيكم سنتي وهو يعلم أن أصحابه وأقرب الناس إليه لم يحيطوا بها علما فكيف بمن يأتي بعدهم ولم يعرفوا ولم يشاهدوا النبي.

الوجه الخامس : من المعلوم أيضاً أنه لم تدوّن السنة إلا في عهد الدولة العباسية وأن أول كتاب كتب في الحديث هو موطأ الإمام مالك ، وذلك بعد الفتنة الكبرى ، وبعد واقعة الحرة واستباحة المدينة المنورة ، وقتل الصحابة فيها صبرا ،

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٨ ص ٣٦ وكتاب الديات.

وصحيح مسلم أيضاً ج ١ ص ٦٧

(٢) سورة الأحزاب آية ٣٦.

١٢٠