لأكون مع الصادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: افق
الطبعة: ١٠
ISBN: 978-964-438-265-9
الصفحات: ٢٤٨

للقرآن أو في فهم السنة النبوية الشريفة منشؤه وسببه الخلافة وما أدراك ما الخلافة التي أصبحت بعد السقيفة أمراً واقعاً يستنكر بسببها أحاديث صحيحة وآيات صريحة وتختلق من أجل تثبيتها وتصحيحها أحاديث أخرى لا أساس لها في السنة النبوية الصحيحة ، وهذا يذكّرني بإسرائيل والأمر الواقع ذلك أن الرؤساء والملوك العرب اجتمعوا واتفقوا أن لا اعتراف بإسرائيل ولا تفاوض معها ولا سلم فما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة ، وبعد سنوات قليلة اجتمعوا من جديد ليقطعوا هذه المرّة علاقاتهم مع مصر التي اعترفت بالكيان الصهيوني وبعد سنوات قليلة أعادوا علاقاتهم مع مصر ولم يطعنوا بعلاقتها بإسرائيل مع أن إسرائيل لم تعترف بحق الشعب الفلسطيني ولم تغيّر شيئاً من موقفها بل زادت في تعنتها وضاعفت قمعها للشعب الفلسطيني ، فالتاريخ يعيد نفسه وقد اعتاد العرب التسليم بالأمر الواقع.

٤١

رأي أهل السنة والجماعة في الخلافة ومناقشته

رأيهم معروف وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توفي ولم يعين أحدا للخلافة ، ولكن أهل الحل والعقد من الصحابة اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ، وولوا أمرهم أبا بكر الصديق لمكانته من رسول الله ، ولأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلفه في الصلاة أيام مرضه ، فقالوا : رضيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمر ديننا فكيف لا نرضاه لأمر دنيانا؟ ويتلخص قولهم في :

١ الرسول لم ينص على أحد.

٢ لا تكون الخلافة إلا بالشورى.

٣ استخلاف أبي بكر وقع من طرف كبار الصحابة.

نعم هذا رايي عند ما كنت مالكياً أدافع عنه بكل ما أوتيت من قوة وأستدلّ عليه بآيات الشورى. وأحاول جهدي التبجح بأن الإسلام هو دين الديمقراطية في الحكم وأنه السابق لهذا المبدأ الإنساني الذي تفخر به الدول المتحضرة الراقية.

وأقول : إذا كان الغرب ما عرف النظام الجمهوري إلا في القرن التاسع عشر فإن الإسلام عرفه وسبق إليه من القرن السادس.

٤٢

ولكن وبعد لقائي بعلماء الشيعة وقراءة كتبهم والاطلاع على ادلتهم المقنعة التي هي موجودة في كتبنا غيّرت رأيي الأول لما أسفرت الحجة عن وجهها لأنه لا يليق بجلال الله سبحانه أن يترك أمة بدون إمام وهو القائل : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) كما لا يليق برحمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يترك أمته بدون راع ، وبالخصوص إذا عرفنا أنه كان يخشى على أمته الفرقة (١) والانقلاب على الأعقاب (٢). والتنافس على الدنيا (٣) حتى يضرب بعضهم رقاب بعض (٤) ، ويتبعوا سنن اليهود والنصارى (٥).

وإذا كانت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر تبعث إلى عمر بن الخطاب حين طعن فتقول له : «استخلف على أمة محمد ولا تدعهم بعدك هملاً فإني أخشى عليهم الفتنة» (٦).

وإذا كان عبد الله به عمر يدخل على أبيه حين طعن فيقول له : «إن الناس زعموا أنك غير مستخلف ، وإنه لو كان راعي إبل أو راعي غنم ثمّ جاءك وتركها رأيت أن قد ضيّع فرعاية الناس أشد» (٧)

وإذا كان أبو بكر نفسه وهو الذي استخلفه المسلمون بالشورى يحطم هذا المبدأ ويسارع إلى استخلاف عمر من بعده ليقطع بذلك دابر الخلاف والفرقة والفتنة ، وهو الأمر الذي تنبأ به علي (عليه‌السلام) حينما شدد عليه عمر لمبايعة أبي بكر فقال له :

__________________

(١) الترمذي وأبو داود وابن ماجة ومسند أحمد بن حنبل ج ٢ ص ٣٣٢.

(٢) صحيح البخاري ج ٧ ص ٢٠٩ باب الحوض. وج ٥ ص ١٩٢.

(٣) صحيح البخاري ج ٤ ص ٦٣.

(٤) صحيح البخاري ج ٧ ص ١١٢.

(٥) صحيح البخاري ج ٤ ص ١٤٤ وج ٨ ص ١٥١.

(٦) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج ١ ص ٢٨.

(٧) صحيح مسلم ج ٦ ص ٥ باب الاستخلاف وتركه.

٤٣

«أحلب حلبا لك شطره واشدد له اليوم يردده عليك غداً» (١).

أقول إذا كان أبو بكر لا يؤمن بالشورى ، فكيف نصدق بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك الأمر بدون استخلاف وهل أنه لم يكن يعلم ما علمه أبو بكر وعائشة وعبد الله بن عمر ، وما يعلمه كل الناس بالبداهة ، من إختلاف الآراء وتشتت الأهواء عند ما يوكل إليهم أمر الاختيار وبالخصوص إذا كان الأمر يتعلق بالرئاسة واعتلاء منصة الخلافة ، كما وقع ذلك بالفعل حتى في اختيار أبي بكر يوم السقيفة ، إذ أننا رأينا خلاف سيد الأنصار سعد بن عبادة وابنه قيس بن سعد ، وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام (٢) والعباس بن عبد المطلب وسائر بني هاشم وبعض الصحابة الذين كانوا يرون الخلافة حقاً لعلي (عليه‌السلام) وتخلفوا في داره عن البيعة حتى هددوه بالحرق (٣).

في مقابل ذلك نرى الشيعة الإمامية يثبتون عكس مقالة أهل السنة ويؤكدون بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيّن علياً للخلافة ونص عليه في عدة مناسبات وأشهرها في غدير خم.

وإذا كان الإنصاف يقتضي منك أن تستمع إلى خصمك ليدلي برأيه وحجته في قضية وقع الخلاف فيها معك ، فكيف إذا احتج خصمك بما تشهد أنت نفسك بوقوعه» (٤).

وليس دليل الشيعة دليلاً واهياً أو ضعيفاً حتى يمكن التغاضي عنه وتناسيه بسهولة وإنما الأمر يتعلق بآيات من الذكر الحكيم أنزلت في هذا الشأن وأولاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العناية والأهمية ما سارت به الركبان

__________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج ١ ص ١٨.

(٢) صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٦ باب رجم الحبلى من الزنا.

(٣) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ج ١ ص ١٨ وما بعدها.

(٤) وذلك أنه ليس هناك دليل عند الشيعة إلا وفي كتب السنة مصداقه.

٤٤

وتناقله الخاص والعام حتى ملأت كتب التاريخ والأحاديث وسجّله الرواة جيلاً بعد جيل.

١ ـ ولاية علي في القرآن الكريم

قال الله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (١).

أخرج الإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره الكبير (٢) بالإسناد إلى ابي ذر الغفاري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتين وإلا صمتا ، ورأيته بهاتين وإلا عميتا ، يقول :

«علي قائد البررة وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله».

أما إني صليت مع رسول الله ذات يوم ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد شيئاً ، وكان علي راكعا فأومأ بخنصره إليه وكان يتختم بها ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، فتضرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الله عزوجل يدعوه فقال : اللهم إن أخي موسى سألك «(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ، وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) فأوحيت إليه (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) «اللهم وأني عبدك ونبيك ، فاشرح لي صدري ويسر لي أمري ، وأجعل لي وزيراً من أهلي علياً أشدد به ظهري» قال أبو ذر ، فوالله ما استتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلمة حتى هبط عليه الأمين جبرائيل بهذه الآية : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ

__________________

(١) سورة المائدة آية ٥٥ ٥٦.

(٢) أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الثعلبي المتوفى سنة ٣٣٧ ه‍ ذكره ابن خلكان وقال : كان أوحد زمانه في علم التفسير صحيح النقل موثوق به.

٤٥

وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (١).

ولا خلاف عند الشيعة في أنها نزلت في علي بن أبي طالب رواية عن أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) وهي من الأخبار المتسالم عليها عندهم فقد رويت في العديد من كتب الشيعة المعتبرة عندهم مثل :

١ ـ بحار الانوار للمجلسي.

٢ ـ إثبات الهداة للحر العاملي.

٣ ـ تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي.

٤ ـ تفسير الكاشف لمحمد جواد مغنية.

٥ ـ الغدير للعلامة الأميني وغير هؤلاء كثير.

كما روى نزولها في علي بن أبي طالب من علماء أهل السنة والجماعة جمع غفير أذكر منهم فقط علماء التفسير.

١ ـ تفسير الكشاف للزمخشري ج ١ ص ٦٤٩.

٢ ـ تفسير الطبري ج ٦ ص ٢٨٨.

٣ ـ زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي ج ٢ ص ٣٨٣.

٤ ـ تفسير القرطبي ج ٦ س ٢١٩.

٥ ـ تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٢٦.

٦ ـ تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٧١.

٧ ـ تفسير النسفي ج ١ ص ٢٨٩.

٨ ـ شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج ١ ص ١٦١.

٩ ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ج ٢ ص ٢٩٣.

١٠ ـ أسباب النزول للإمام الواحدي ص ١٤٨.

__________________

(١) الجمع بين الصحاح الستة. صحيح النسائي مسند أحمد ابن حجر في صواعقه وكذلك رواها ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة.

٤٦

١١ ـ أحكام القرآن للجصاص ج ٤ ص ١٠٢.

١٢ ـ التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي ج ١ ص ١٨١.

وما لم أذكره من كتب السنة أكثر مما ذكرت.

٢ ـ آية البلاغ تتعلق أيضا بولاية علي :

قال تعالى : (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (١).

يقول بعض المفسرين من أهل السنة والجماعة بأن هذه الآية نزلت في بداية الدعوة عندما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقيم حرسا يحرسونه خوفا من القتل والاغتيال فلما نزلت (والله يعصمك من الناس) قال «إذهبوا فإن الله قد عصمني».

فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن شقيق قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعقبه ناس من أصحابه فلما نزلت (والله يعصمك من الناس) فخرج فقال :

«يا أيها الناس إلحقوا بملاحقكم فإن الله قد عصمني من الناس» (٢).

وأخرج ابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر تركنا له أعظم دوحة وأظلها فينزل تحتها فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها ، فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله يمنعني منك. ضع عنك السيف فوضعه ، فنزلت (والله يعصمك من الناس) (٣).

__________________

(١) سورة المائدة آية ٦٧.

(٢) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج ٣ ص ١١٩.

(٣) نفس المصدر السابق.

٤٧

كما أخرج الترمذي والحاكم وأبو نعيم عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحرس حتى نزلت (والله يعصمك من الناس) فأخرج رأسه من القبة فقال : أيها الناس ، انصرفوا فقد عصمني الله.

وأخرج الطبراني وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحرس وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجلا من بني هاشم يحرسونه ، فقال : يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من تبعث.

ونحن إذا تأملنا في هذه الأحاديث وهذه التأويلات وجدناها لا تستقيم ومفهوم الآية الكريمة ولا حتى مع سياقها فكل هذه الروايات تفيد بأنها نزلت في بداية الدعوة حتى أن البعض يصرح بأنها في حياة أبي طالب يعني قبل الهجرة بسنوات كثيرة ، وبالخصوص رواية أبي هريرة التي يقول فيها " كنا إذا صحبنا رسول الله في سفر تركنا له أعظم دوحة ... الخ " فهذه الرواية ظاهرة الوضع لأن أبا هريرة لم يعرف الإسلام ولا رسول الله إلا في السنة السابعة للهجرة النبوية كما يشهد هو نفسه بذلك (١) فكيف يستقيم هذا ، وكل المفسرين سنة وشيعة أجمعوا على أن سورة المائدة مدنية وهي آخر ما نزل من القرآن؟؟؟

فقد خرج أحمد وأبو عبيد في فضائله والنحاس في ناسخه والنسائي وابن المنذر والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة ، فقالت : لي يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت نعم ، فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم من حرام فحرموه (٢).

__________________

(١) فتح الباري ج ٦ ص ٣١ البداية والنهاية ج ٨ ص ١٠٢ سير أعلام النبلاء للذهبي ج ٢ ص ٤٣٦ الإصابة لابن حجر ج ٣ ص ٢٨٧.

(٢) جلال الدين السيوطي الدر المنثور ج ٣ ص ٣.

٤٨

كما أخرج أحمد والترمذي وحسنه الحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمرو قال : آخر سورة نزلت سورة المائدة (١).

وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب القرطني قال : نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع ، فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته ، فانصدعت كتفها فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (٢).

وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس قال : نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسير في حجة الوداع وهو راكب راحلته ، فبركت به راحلته من ثقلها (٣).

وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المائدة من آخر القرآن تنزيلا ، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها (٤).

فكيف يقبل العاقل المنصف بعد كل هذا ، ادعاء من قال بنزولها في أول البعثة النبوية؟ وذلك لصرفها عن معناها الحقيقي ، أضف إلى ذلك أن الشيعة لا يختلفون في أن سورة المائدة هي آخر القرآن نزولا وأن هذه الآية بالذات (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ...) والتي تسمى آية البلاغ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة عقيب حجة الوداع في غدير خم قبل تنصيب الإمام علي علما للناس ليكون خليفته من بعده وذلك يوم الخميس ، وقد نزل بها جبرائيل (عليه السلام) بعد مضي خمس

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج ٣ ص ٤.

(٣) الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي ج ٣ ص ٤.

(٤) نفس المصدر السابق.

٤٩

ساعات من النهار فقال : يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك : يا أيها الرسول (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس).

على أن قوله سبحانه وتعالى (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) يدل دلالة واضحة بأن الرسالة انتهت أو هي على وشك النهاية ، وإن بقي فقط أمر مهم لا يكتمل الدين إلا به.

كما تشعر الآية الكريمة بأن الرسول كان يخشى تكذيب الناس له إذا ما دعاهم لهذا الأمر الخطير ، ولكن الله سبحانه لم يمهله للتأجيل فالأجل قد قرب ، وهذه الفرصة هي أحسن الفرص وموقفها هو أعظم المواقف إذ اجتمع معه صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مائة ألف رافقوه في حجة الوداع وما زالت قلوبهم عامرة بشعائر الله مستحضرة نعي الرسول نفسه إليهم.

وقوله لهم : لعلي لا ألقاكم بعد عامكم هذا ويوشك أن يأتي رسول ربي وادعى فأجيب ، وهم سيفترقون بعد هذا الموقف الرهيب للعودة إلى ديارهم ولعلهم لا تتاح لهم فرصة اللقاء مرة أخرى بهذا العدد الكبير ، وغدير خم هو مفترق الطرقات فلا يمكن لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يفوت هذه الفرصة بأي حال من الأحوال. كيف وقد جاءه الوحي بما يشبه التهديد على أن كل الرسالة منوطة بهذا البلاغ والله سبحانه قد ضمن له العصمة من الناس فلا داعي للخوف من تكذيبهم فكم كذبت رسل من قبله ولكن لم يثنهم ذلك عن تبليغ ما أمروا به فما على الرسول إلا البلاغ ، ولو علم الله مسبقا بأن أكثرهم للحق كارهون (١) ولو علم بأن منهم مكذبين (٢) ما كان سبحانه ليتركهم بدون إقامة الحجة عليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا

__________________

(١) سورة الزخرف آية ٧٨.

(٢) سورة الحاقة آية ٤٩.

٥٠

حكيما (١).

على أن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة في من سبقه من إخوانه الرسل الذين كذبتهم أممهم قال تعالى : (ولن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين ، وكذب موسى فأمليت للكافرين ، ثم أخذتهم فكيف كان نكير) (٢).

ونحن إذا تركنا التعصب المقيت ، وحب الانتصار للمذهب لوجدنا أن هذا الشرح هو المناسب لعقولنا ويتماشى مع سياق الآية والأحداث التي سبقتها وأعقبتها.

وقد أخرج كثير من علمائنا نزولها في غدير خم في شأن تنصيب الإمام علي وصححوا تلك الروايات ووافقوا بذلك إخوانهم من علماء الشيعة ، وأذكر على سبيل المثال من علماء السنة :

١ ـ الحافظ أبو نعيم في كتابه نزول القرآن.

٢ ـ الإمام الواحدي في كتابه أسباب النزول ص ١٥٠.

٣ ـ الإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره الكبير.

٤ ـ الحاكم الحسكاني في كتابه شواهد التنزيل لقواعد التفضيل ج ١ ص ١٨٧.

٥ ـ جلال الدين السيوطي في كتابه الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج ٣ ص ١١٧.

٦ ـ الفخر الرازي في تفسيره الكبير ج ١٢ ص ٥٠.

٧ ـ محمد رشيد رضا في تفسير المنار ج ٢ ص ٨٦ ج ٦ ص ٤٦٣.

٨ ـ تاريخ دمشق لأبي عساكر الشافعي ج ٢ ص ٨٦.

٩ ـ فتح القدير للشوكاني ج ٢ ص ٦٠.

__________________

(١) سورة النساء آية ١٦٥.

(٢) سورة الحج آية ٤٢ ـ ٤٤.

٥١

١٠ ـ مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي ج ١ ص ٤٤.

١١ ـ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٥.

١٢ ـ ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ١٢٠.

١٣ ـ الملل والنحل للشهرستاني ج ١ ص ١٦٣.

١٤ ـ ابن جرير الطبري في كتاب الولاية.

١٥ ـ ابن سعيد السجستاني في كتاب الولاية.

١٦ ـ عمدة القارئ في شرح البخاري لبدر الدين الحنفي ج ٨ ص ٥٨٤.

١٧ ـ تفسير القرآن لعبد الوهاب البخاري.

١٨ ـ روح المعاني للآلوسي ج ٢ ص ٣٨٤.

١٩ ـ فرائد السمطين للحمويني ج ١ ص ١٨٥.

٢٠ ـ فتح البيان في مقاصد القرآن للعلامة السيد صديق حسن خان ج ٣ ص ٦٣.

فهذا نزر يسير ممن يحضرني وهناك أضعاف هؤلاء من علماء أهل السنة ذكرهم العلامة الأميني في كتاب الغدير.

فماذا يا ترى فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما أمره ربه بإبلاغ ما أنزل إليه؟؟

يقول الشيعة ، بأنه جمع الناس على صعيد واحد في ذلك المكان وهو غدير خم ، وخطبهم خطبة بليغة طويلة وأشهدهم على أنفسهم فشهدوا بأنه صلى الله عليه وآله وسلم أولى بهم من أنفسهم وعند ذلك رفع يد علي بن أبي طالب وقال :

«من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار» (١).

__________________

(١) وهو ما يسمى بحديث الغدير وقد أخرجه علماء الشيعة وعلماء السنة على حد سواء.

٥٢

ثم ألبسه عمامته وعقد له موكبا وأمر أصحابه بتهنئته بإمرة المؤمنين ففعلوا وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر يقولان بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة (١).

وبعدما فرغوا أنزل الله عليه (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).

هذا ما يقوله الشيعة وهو عندهم من المسلمات ولا يختلف فيه عندهم اثنان ، فهل لهذه الحادثة ذكر عند أهل السنة والجماعة؟ وحتى لا ننحاز إليهم ويعجبنا قولهم : فقد حذرنا الله سبحانه بقوله : (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ..) (٢).

فالواجب أن نحتاط ونبحث هذا الموضوع بكل حذر وننظر في أدلة الفريقين بكل نزاهة مبتغين في ذلك رضاه سبحانه.

والجواب نعم ، إن كثيرا من علماء أهل السنة يذكرون هذه الحادثة بكل أدوارها وها هي بعض الشواهد من كتبهم.

١ ـ أخرج الإمام أحمد بن حنبل من حديث زيد بن أرقم قال : نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بواد يقال له وادي خم ، فأمر بالصلاة فصلاها بهجير ، قال فخطبنا ، وظلل لرسول الله بثوب على شجرة سمرة من الشمس فقال :

«ألستم تعلمون ، أو ألستم تشهدون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟

__________________

(١) أحمد بن حنبل في مسنده ج ٤ ص ٢٨١ والطبري في تفسيره والرازي في تفسيره الكبير ج ٣ ص ٦٣٦ وابن حجر في صواعقه والدار قطني والبيهقي والخطيب البغدادي والشهرستاني وغيرهم.

(٢) سورة البقرة آية ٢٠٤.

٥٣

قالوا : بلى قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاده ...» (١).

٢ ـ أخرج الإمام النسائي في كتاب الخصائص عن زيد بن أرقم قال : لما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن ، ثم قال :

«كأني دعيت فأجبت وإني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، ثم قال : إن الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن ، ثم إنه أخذ بيد على فقال : من كنت وليه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. قال أبو الطفيل فقلت لزيد : سمعته من رسول الله فقال : وإنه ما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينيه وسمعه بأذنيه» (٢).

٣ ـ أخرج الحاكم النيسابوري عن زيد بن أرقم من طريقين صحيحين على شرط الشيخين قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم ، أمر بدوحات فقممن فقال :

«كأني دعيت فأجبت وإني تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله تعالى وعترتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، ثم قال : إن الله عز وجل مولاي وأنا مولى كل مؤمن ثم أخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاده ...» (٣).

٤ ـ كما أخرج هذا الحديث مسلم في صحيحه يسنده إلى زيد بن أرقم

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ج ٤ ص ٣٧٢.

(٢) النسائي في كتاب الخصائص ص ٢١.

(٣) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٠٩.

٥٤

ولكنه اختصره فقال : قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال :

«أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال : وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ...» (١).

تعليق ـ بالرغم من أن الإمام مسلم اختصر الحادثة ولم يروها بكاملها إلا أنها بحمد الله كافية وشافية ولعل الاختصار كان من زيد بن أرقم نفسه لما اضطرته الظروف السياسية إلى كتمان حديث الغدير وهذا نفهمه من سياق الحديث إذ يقول الراوي : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال له حصين ، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا ، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا بن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفونيه ، ثم قال : قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما ...

فيبدو من سياق الحديث أن حصينا سأل زيد بن أرقم عن حادثة الغدير وأخرجه أمام الحاضرين بهذا السؤال وكان بدون شك يعلم بأن الجواب الصريح على ذلك يسبب له مشاكل مع الحكومة التي كانت تحمل الناس على لعن علي بن أبي طالب ، ولهذا نجده يعتذر للسائل بأنه كبرت سنه وقدم عهده ونسي بعض

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٧ ص ١٢٢ باب فضائل علي بن أبي طالب وذكر الحديث أيضا الإمام أحمد والترمذي وابن عساكر وغيرهم.

٥٥

الذي كان يعي ثم يضيف طالبا من الحاضرين بأن يقبلوا ما يحدثهم به ولا يكلفوه ما يريد السكوت عنه.

ومع خوفه ، ومع اختصاره للحادثة واقتضابها فقد أوضح زيد بن أرقم (جزاه الله خيرا) كثيرا من الحقائق وألمح لحديث الغدير بدون ذكره ، وذلك قوله قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة ، ثم بعد ذلك ذكر فضل علي وأنه شريك القرآن في حديث الثقلين كتاب الله وأهل بيتي بدون أن يذكر اسم علي وترك للحاضرين أن يستنتجوا ذلك بذكائهم لأن كل المسلمين يعرفون أن عليا هو سيد أهل بيت النبوة.

ولذلك نرى حتى الإمام مسلم نفسه فهم من الحديث ما فهمناه وعرف ما عرفناه فتراه يخرج هذا الحديث في باب فضائل علي بن أبي طالب رغم أن الحديث ليس فيه ذكر لاسم علي بن أبي طالب (١).

٥ ـ أخرج الطبراني في المعجم الكبير بسند صحيح عن زيد بن أرقم وعن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغدير خم تحت شجرات فقال :

«أيها الناس يوشك أن أدعى فأجيب وإني مسؤول وإنكم مسؤولون فماذا أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وجاهدت ونصحت ، فجزاه الله خيرا. فقال : أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن جنته حق وأنا ناره حق ، وأن الموت حق وأن البعث حق بعد الموت ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا : بلى نشهد بذلك. فقال اللهم إشهد ، ثم قال : يا أيها الناس إن الله مولاي ، وأنا

مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فهذا مولاه ـ يعني عليا ـ اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، ثم قال : يا أيها الناس إني فرطكم ، وإنكم واردون علي الحوض ، حوض أعرض ما بين بصرى إلى

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٧ ص ١٢٢ باب فضائل علي بن أبي طالب.

٥٦

صنعاء ، فيه عدد النجوم قدحان من فضة ، وإني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين ، كيف تخلفوني فيهما الثقل الأكبر كتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله تعالى وطرفه بأيديكم ، فاستمسكوا به لا تضلوا ولا تبدلوا ، وعترتي أهل بيتي فإنه نبأني اللطيف الخبير أنهما لن ينقضيا حتى يردا علي الحوض» (١).

٦ ـ كما أخرج الإمام أحمد من طريق البراء بن عازب من طريقين ، قال : كنا مع رسول الله ، فنزلنا بغدير خم ، فنودي فينا الصلاة جامعة ، وكسح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي ، فقال :

«ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : بلى قال : ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا : بلى قال : فأخذ بيد علي ، فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، قال فلقيه عمر بعد ذلك ، فقال له : هنيئا يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة» (٢).

وباختصار فقد روى حديث الغدير من أعلام أهل السنة زيادة عمن ذكرنا ، الترمذي وابن ماجة ، وابن عساكر وأبي نعيم ، وابن الأثير ، والخوارزمي ، والسيوطي ، وابن حجر والهيثمي ، وابن الصباغ المالكي ، والقندوزي الحنفي ، وابن المغازلي وابن كثير ، والحمويني ، والحسكاني ، والغزالي ، والبخاري في تاريخه.

على أن العلامة الأميني صاحب كتاب الغدير ذكر من علماء أهل السنة

__________________

(١) ابن حجر في صواعقه ص ٢٥ نقلا عن الطبراني والحكيم الترمذي.

(٢) مسند الإمام أحمد بن حنبل الجزء الرابع صفحة ٢٨١. كذلك في كنزل العمال جزء ١٥ ص ١١٧. فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ١ ص ٣٥٠.

٥٧

والجماعة الذين رووا حديث الغدير وأخرجوه في كتبهم على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم من القرن الأول للهجرة وحتى القرن الرابع عشر فكان عددهم يزيد عن ثلاثمائة وستين عالما ، ولمن أراد التحقيق فعليه بمراجعة كتاب الغدير (١).

أفيمكن بعد كل هذا. أن يقول قائل بأن حديث الغدير هو من مختلقات الشيعة.

والعجيب الغريب أن أغلب المسلمين عندما تذكر له حديث الغدير ، لا يعرفه أو قل لم يسمع به والأعجب من هذا كيف يدعي علماء أهل السنة بعد هذا الحديث المجمع على صحته ، بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يستخلف وترك الأمر شورى بين المسلمين.

فهل هناك للخلافة حديث أبلغ من هذا وأصرح يا عباد الله؟؟ وإني لأذكر مناقشتي مع أحد علماء الزيتونة في بلادنا عندما ذكرت له حديث الغدير محتجا به على خلافة الإمام علي فاعترف بصحته ، بل وزاد في الحبل وصلة فأطلعني على تفسيره للقرآن الذي ألفه بنفسه ، والذي يذكر فيه حديث الغدير ويصححه ويقول بعد ذلك :

«وتزعم الشيعة بأن هذا الحديث هو نص على خلافة سيدنا علي كرم الله وجهه ، وهو باطل عند أهل السنة والجماعة لأنه يتنافى مع خلافة سيدنا أبي بكر الصديق وسيدنا عمر الفاروق وسيدنا عثمان ذي النورين ، فلا بد من تأويل لفظ المولى الوارد في الحديث على معنى المحب والناصر ، كما ورد ذلك في الذكر الحكيم ، وهذا ما فهمه الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام رضي الله تعالى عليهم أجمعين ، وهذا ما أخذه عنهم التابعون وعلماء المسلمين ، فلا عبرة لتأويل الرافضة لهذا الحديث لأنهم لا يعترفون بخلافة الخلفاء ويطعنون في صحابة الرسول وهذا وحده كاف لرد أكاذيبهم وإبطال مزاعمهم» انتهى كلامه في

__________________

(١) كتاب الغدير للعلامة الأميني في إحدى عشر مجلدا وهو كتاب قيم جمع فيه صاحبه كل ما يتعلق بحديث الغدير من كتب أهل السنة والجماعة.

٥٨

الكتاب.

سألته : هل الحادثة وقعت بالفعل في غدير خم؟

أجاب : لو لم تكن وقعت ما كان ليرويها العلماء والمحدثون!

قلت : فهل يليق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمع أصحابه في حر الشمس المحرقة ويخطب لهم خطبة طويلة ليقول لهم بأن علي محبكم وناصركم؟ فهل ترضون بهذا التأويل؟ أجاب : إن بعض الصحابة اشتكى عليا وكان فيهم من يحقد عليه ويبغضه ، فأراد الرسول أن يزيد حقدهم فقال لهم بأن عليا محبكم وناصركم ، لكي يحبوه ولا يبغضوه.

قلت : هذا لا يتطلب إيقافهم جميعا والصلاة بهم وبدأ الخطبة بقوله : ألست أولى بكم من أنفسكم لتوضيح معنى المولى ، وإذا كان الأمر كما تقول فكان بإمكانه أن يقول لمن اشتكى منهم عليا «إنه محبكم وناصركم» وينتهي الأمر بدون أن يحبس في الشمس تلك الحشود الهائلة وهي أكثر من مائة ألف فيهم الشيوخ والنساء ، فالعاقل لا يقنع بذلك أبدا!

فقال : وهل العاقل يصدق بأن مائة ألف صحابي لم يفهموا ما فهمت أنت والشيعة؟؟

قلت : أولا لم يكن يسكن المدينة المنورة إلا قليل منهم. وثانيا : إنهم فهموا بالضبط ما فهمته أنا والشيعة لذلك روى العلماء بأن أبا بكر وعمر كانا من المهنئين لعلي بقوله : " بخ بخ لك يا بن أبي طالب أمسيت وأصبحت مولى كل مؤمن ".

قال : فلماذا لم يبايعوه إذا بعد وفاة النبي؟ أتراهم عصوا وخالفوا أمر النبي؟ أستغفر الله من هذا القول.

قلت : إذا كان العلماء من أهل السنة يشهدون في كتبهم بأن بعضهم ـ

٥٩

أعني من الصحابة ـ كانوا يخالفون أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبحضرته (١) ، فلا غرابة في ترك أوامره بعد وفاته ، وإذا كان أغلبهم يطعن في تأميره أسامة بن زيد لصغر سنه رغم أنها سرية محدودة ولمدة قصيرة فكيف يقبلون تأمير علي على صغر سنه ولمدة الحياة ، وللخلافة المطلقة؟ ولقد شهدت أنت بنفسك بأن بعضهم كان يبغض عليا ويحقد عليه!!.

أجابني متحرجا : لو كان الإمام علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استخلفه ، ما كان ليسكت عن حقه وهو الشجاج الذي لا يخشى أحدا ويهابه كل الصحابة.

قلت : سيدي هذا موضوع آخر لا أريد الخوض فيه لأنك لم تقتنع بالأحاديث النبوية الصحيحة وتحاول تأويلها وصرفها عن معناها حفاظا على كرامة السلف الصالح ، فكيف أقنعك بسكوت الإمام علي أو باحتجاجه عليهم بحقه في الخلافة؟

ابتسم الرجل قائلا : أنا والله من الذين يفضلون سيدنا عليا كرم الله وجهه على غيره ، ولو كان الأمر بيدي لما قدمت عليه أحدا من الصحابة ، لأنه باب مدينة العلم وهو أسد الله الغالب ، ولكن مشيئة الله سبحانه هو الذي يقدم من يشاء ويؤخر من يشاء ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

ابتسمت بدوري له وقلت : وهذا أيضا موضوع آخر يجرنا للحديث عن القضاء والقدر وقد سبق لنا أن تحدثنا فيه وبقي كل منا على رأيه ، وإني لأعجب يا سيدي لماذا كلما تحدثت مع عالم من علماء أهل السنة وأفحمته بالحجة سرعان ما يتهرب من الموضوع إلى موضع آخر لا علاقة له بالبحث الذي نحن بصدده قال : وأنا باق على رأيي لا أغيره. ودعته وانصرفت. بقيت أفكر مليا لماذا لا أجد

__________________

(١) صحيح البخاري ومسلم إذ أخرجا عدة مخالفات لهم كما في صلح الحديبية وكما في زرية يوم الخميس وغير ذلك كثير.

٦٠