تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٦

الذي يخرج النبات من الأرض فيتفتّح عن كل ما يبني للجسد قوّته ، ويعطي للحياة حيويّتها ونضارتها واستمرارها؟ ويبدأ التفكير يفرض نفسه عليهم عند ما يثيرون علامات الاستفهام أمام كل هؤلاء الذين يشركون بهم ، ويتعبدون لهم من دون الله ، فلا يرون لهم حولا ولا قوّة في ذلك كله ، بل يرونهم أعجز من ذلك ، لأنهم لا يملكون لأنفسهم ضرّا ولا نفعا في كل شيء إلا بالله. ويستمر السؤال في إلحاحه ، ويأتي الجواب (قُلِ اللهُ) الذي يبقى في معناه يثير الفكر ، ويغني المعرفة ، ويحقق القناعة الإيمانية في نهاية المطاف ، وقد يكون في هذا الأسلوب الذي يثير السؤال من دون انتظار للجواب بعض الإيحاء بأن الفكرة واضحة في انسجامها مع خط الإيمان ، بحيث إن المسألة لا تحتاج إلى أخذ وردّ ، مع توجيه الإنسان إلى أن الإسلام يحترم فكره ، ولهذا فإنه يثير المعرفة من موقع الفكر ، لا من موقع الفرض.

* * *

خط الحياد الفكري في أسلوب الدعوة

(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وهذا هو الأسلوب الإنساني الرائع في تحريك أجواء الحوار في خط الحياد الفكري حيث يطلق المحاور المؤمن الفكرة في دائرة الاحتمال الذي يساوي بين فرضية الخطأ والصواب ، أو الهدى والضلال ، ليتقدم إلى الآخرين بروحية الباحث عن الحق في نطاق الفكرة ، فيطرح المسألة في ساحة الشك ، كما لو كان يعيش الاهتزاز الإيمانيّ ، باحثا عن الكلمات التي توضح له موقع الخطأ من موقع الصواب الذي يلتزمه ، أو يلتزمه الآخرون.

وفي ضوء ذلك ، نفهم أن حركة الحوار في الإسلام ترتكز على أساس

٤١

القاعدة العلمية التي ترى في الشك طريقا إلى اليقين ، وترفض القناعات القائمة على أساس إهمال الحوار وإغفال الفكر والإصرار على العناد ، مما يجعل من الحوار الفكري حركة إيجابية في الجواب عن علامات الاستفهام المنفتحة على كل آفاق الحرية في المعرفة ، بما يثيره العقل من قضايا ومشاكل وآراء.

وقد جاءت هذه الآية لتؤكد على هذه القاعدة الفكرية الحوارية التي تؤكد قاعدة «الشك في طريق اليقين» ، فأكدت على أن الأسلوب العملي السليم هو الذي يعتمد على تفريغ الموقف من الأفكار المسبقة التي تحوّل الموقف إلى عقدة تفرض نفسها على كل مواطن الحوار ، وتشكّل حاجزا يمنع الأطراف من الشعور بحريّة الحركة في ما يقبلون ويرفضون ، ويتمثل ذلك في اعتبار الشك في الفكرة موقفا مشتركا بين الطرفين ، يوحي لكلّ منهما بضرورة إعادة النظر في القضية ومحاولة مواجهتها من جديد ، كما لو لم يواجهها من قبل ، فليس هناك حكم سابق من أيّ من الطرفين على الخصم بالهدى أو بالضلال ، بل هو الموقف المشترك الذي يريد أن يصل إلى الحقيقة من خلال الحوار الإيجابي القائم على الوعي والشعور العميق بالحاجة إلى الوقوف مع خط الإيمان بالنتائج أيّا كانت ، وهذا ما تجسّده هذه الآية ، فقد نلاحظ أن النبي ـ كما علّمه الله ـ لم يعط في أسلوبه هذا لنفسه صفة الهدى ، ولم يدمغ خصمه بصفة الضلال ، مع إيمانه العميق بأن المسألة في واقعها الأصيل لا تبتعد عن ذلك ، ليترك الحوار يأخذ مجراه دون تعقيد وصولا إلى النتيجة الحاسمة من موقع الحرية الفكرية المنطلقة مع الحوار في الخط الصحيح.

وقد تكون قيمة هذا الأسلوب أنه يجرد الموقف من أيّة حساسيات إيحائية في النظرة إلى الذات ، وإلى الآخرين ، حيث يترك الفكرة بعيدة عن الالتزامات المؤيدة في جانب صاحبها ، أو المضادة في الجانب الآخر ، خلافا للطريقة المعروفة في الأسلوب المطروح علميا للحوار ، الذي يقول : «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» بينما الطرح القرآني

٤٢

البديل الذي يبلغ القمة في إنسانية الطرح وحياديته ، يرفع شعار «رأيي ورأي غيري يحتمل الخطأ والصواب في درجة واحدة».

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) فنحن نتحمل ـ وحدنا ـ مسئولية ما ارتكبناه من جرائم ، لأن الله جعل المسؤولية فردية ، في ما يواجهه الفرد من التبعات أمام أوامر الله ونواهيه ، (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فأنتم تتحملون مسئولية عملكم ، ولا نتحمل مسئولية شيء منها ، لأنها ليست متعلقة بنا ، فإنّ الأوامر والنواهي في تكاليفكم ، موجهة إليكم لا إلينا ، فلا مشكلة من هذه الناحية مما يخافه كل واحد على نفسه من عمل الطرف الآخر ، بل المشكلة هي مسئوليتنا عن الدعوة إلى الحق الذي حمّلنا الله إياه لنبلغكم به ، ومسئوليتكم أن تفتحوا قلوبكم لهذه الدعوة ، لتفكروا بها ، ولتقتنعوا بها من أقرب طريق.

* * *

٤٣

الآيات

(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ)(٣٠)

* * *

معاني المفردات

(يَفْتَحُ) : يحكم.

(الْفَتَّاحُ) : الحاكم.

* * *

٤٤

ويبقى الأسلوب الهادىء في الحوار

ويبقى الأسلوب الهادىء الذي يريد أن يلامس الأعماق بالثقة المليئة بالقوّة ، المنفتحة على الله ، في أشدّ الأوقات حراجة ، والواثقة بحضوره القويّ الذي ينشر إشعاعاته على العقل والقلب والحياة ، بحيث يثق المحاور المؤمن بأن الحديث عنه ـ سبحانه ـ في نهاية الحوار الذي يريد الطرف الآخر أن يغلقه ، يمكن أن يفتح قلبه ، ويحطّم جموده ، ويهز مقاومته.

(قُلْ) لهؤلاء الذين تحاورهم ليتحدثوا إليك بما عندهم ، ولتتحدث إليهم بما عندك ، لتلتقيا على الحق الذي تدعوهم إليه من أوسع الآفاق الروحية والفكرية ، قل لهؤلاء إذا رأيتهم يعرضون عن أسلوبك الذي تنفتح عليه كل القلوب ، وتنحني أمامه كل العقول في عمقه وإنسانيته وحيويته ، ويبتعدون عن الاستماع إليك ، ويغلقون الأبواب في وجهك ، قل لهؤلاء ، وكلّمهم بلغة أخرى ، قد تجعلهم يرتعدون ويخافون عند ما يجدون كلامك مليئا بالثقة العميقة ، وبالقوّة الحاسمة ... قل لهم : مهما ابتعدتم وأعرضتم وتمردتم ، فلن ينتهي الموقف بيننا إلى اللّاشيء ، بل نصل إلى النتيجة الأخيرة بين يدي الله ، (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) وهو الحكم العادل الذي يحكم بين الناس كلهم من موقع قوّته وعدله (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ) ليحكم في ما بيننا ، لمن الحق وعلى من الحق (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) الذي يفتح كل الأبواب على الحق ، ويعلم دقائق الأمور وبواطنها وأسرارها ، فهو الذي يطلع على ما قد لا يطّلع عليه الإنسان من نفسه.

(قُلْ) لهم ، لهؤلاء الذين تحركوا في خط الشرك ، والتزموا عقليته ونهجه في غيبوبة الغفلة البعيدة عن إدراك حقائق الأشياء ، كلاما يصدمهم ويهز وجدانهم حتى يستيقظ ، وتحدّهم بالسؤال : (أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أين هم؟ ما هي قوتهم؟ ما هي قيمتهم؟ هل يملكون القوّة التي يرتفعون بها

٤٥

إلى مدارج العلو في رحاب الألوهية العظيمة؟ هل يستحقون هذا الشرف الذي أعطيتموهم إياه ، بعبادتكم إيّاهم ، وبخضوعكم لهم ، والتزامكم بمنهج الفكر والشعور الذي يتحرك في خطوطهم العامة والخاصة. (كَلَّا) فليس الأمر كما تزعمون أو كما تتخيلون ، فهم لا يستحقون ذلك كله ، فرفضوهم من موقع أنهم لا يمثلون الحق ، بل يمثّلون الباطل ، لأن الله ـ وحده ـ هو الحق ، (بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب ، (الْحَكِيمُ) الذي تتحرك كل أفعاله من موقع الحكمة التي توازن بين الأشياء كلها فلا تخطئ في شيء منها ، مهما كان دقيقا.

قل لهؤلاء كل ذلك ، وأكّد لهم حقيقة الوحدانية ، وضلال الشرك ، وقل ، لكل الناس ، من غير هؤلاء ، هذه الحقيقة التي تفرض نفسها على الوجدان الإنساني عند ما يعيش لحظات الصفاء وعمق الوعي النقيّ ، فإنك رسول الله إلى الجميع ، لتبشرهم بالجنة والرضوان في رحاب الله ، ولتنذرهم بالنار وبالسخط الإلهيّ في رحاب الآخرة. وتلك هي حقيقة الشمول في رسالتك ، للحياة كلها ، وللناس كلهم.

* * *

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) أي عامّة للناس كلهم ، العرب والعجم وسائر الأمم ، (بَشِيراً) لهم بالجنة ، (وَنَذِيراً) لهم من النار (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم لم يرتبطوا بالجانب المشرق من الصورة ، فحوّلوا عيونهم عن النور المتلألئ فيها ، ولم ينفتحوا على القضايا الراقدة في عمق الواقع ، التي تحتاج إلى الكثير من الجهد والمعاناة ، في البحث والتأمل

٤٦

والتفكير ، بل كانوا يتوقفون عند ظواهر الأمور ، لأنهم لا يطيقون التعب في الوصول إلى الحقيقة ، (وَيَقُولُونَ) وهم يمتدون في ضلالهم وارتباكهم في وعيهم للقضايا العقيدية التي تثيرها أمامهم ليتساءلوا عن موعد الحساب وعن التوقيت ، ليكون السؤال مجرد لهو لتمضية الوقت وملء الفراغ (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي تعدوننا به في لحظات الحساب الذي يتحرك في خطى الثواب والعقاب (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في هذه الدعوى ، لأن من يثير مثل هذا الأمر الخطير البعيد عن الحسّ ، لا بد من أن يحدّد ملامحه ، ويعيّن موعده ، (قُلْ) لهم ما يجلو هذه الحقيقة التي تفرض عليك مسئولية في العقيدة وفي الالتزام والعبادة. قل إن المسألة لا تتعلق بمعرفة التوقيت ، لأن ذلك ليس مهمّا في الموضوع ، فقد يغلق عنا الله أبواب المعرفة ، في هذا الأمر ، لحكمة يراها ، إذ يريد أن يختبر عباده ، ليعيشوا غموض الموعد مما يفرض عليهم البقاء في حال استنفار دائم أمامه ، بل المسألة هي الإيمان بالفكرة نفسها ، قل لهؤلاء الحقيقة العارية التي تخاطبهم بأسلوب التحدي الكبير (لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً) لأنه لا مجال للتأخير أمام الموعد المحدّد ، (وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) فلا مجال لأن يسبق الوقت الموعد المعين عند الله ، لأن الصدق الإلهي لا يمكن أن يبتعد عن ساحة الحقيقة على كل حال.

* * *

٤٧

الآيات

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣٣)

* * *

معاني المفردات

(يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) : يحيل بعضهم الخطأ على البعض الآخر.

* * *

٤٨

عدوانية الكافرين في رفضهم الالتزام بالرسالة

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من المشركين الذين أنكروا التوحيد والآخرة ، وكذبوا رسول الله ورفضوا الالتزام بالخط الرسالي (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوراة والإنجيل أو من أمر الآخرة ، في إصرار على المنهج الفكري والعملي المرتكز على الوثنيّة المرتبطة بالحسّ ، المتعبّدة للمادّة ، الخاضعة لقيم المنفعة واللذة ، المتحركة مع قانون الامتيازات الطبقية ، وفي تأكيد للرفض المطلق لكل حديث عن الوحي الإلهي ، ضمن أيّ كتاب من الكتب السماويّة ، مهما قدمّت إليهم البراهين ، لأنهم ليسوا في موقع المناقشة والأخذ والردّ للبحث عن الحقيقة ، بل في موقع العناد وتسجيل النقاط المضادة على الرسالة والرسول ، حتى إذا جابهتهم الأدلة بالحقيقة ، أعلنوا عن عنادهم ، وكشفوا خفايا تفكيرهم. ويترك الأسلوب القرآني الحديث عن رد الفعل النبويّ ، مما يمكن أن يتحدث به النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جوابا عن كلامهم ، أو ما يمكن أن يتحدث المسلمون به ردّا عليهم ليوحي للفكر أن يسترجع الموقف في دراسة تحليلية لشخصية هؤلاء ، فينتهي إلى نتيجة حاسمة ، وهي أن مثل هذه الكلمات لا تحتاج إلى جواب ، بل إن كل هم أصحابها يختزل بالبحث عن ساحة ملتهبة للتحدّي العدواني ، ولهذا يفترض بالمعالجة أن تختار العقاب.

* * *

وقفة الظالمين عند ربهم

وهكذا ينقلنا الله ـ بسرعة ـ إلى يوم القيامة ، لنرى هذا المجتمع المشرك ، وقد وقف أفراده ، ممن هم في مستوى القيادة ، وممن هم في مستوى

٤٩

القاعدة ، في وقفة الذلّ والعار ، أمام ضوضاء الجدال المرير بين المستكبرين الذين نشروا الشرك في حياة الناس المستضعفين ، وبين المستضعفين الذين خضعوا لهم انطلاقا من ظروفهم الصعبة الضاغطة عليهم ، وحاجاتهم الكثيرة الملحّة. (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في وقفة الحساب التي يتقدمون فيها إلى أعمالهم ليواجهوا مصيرهم في الآخرة ، بعد أن عاشوها في الدنيا في طريق اللذة والمنفعة ، وفي هذا الموقف يتكلم الجميع بمرارة ، فالمستضعفون يبحثون عن الجهة التي يحمّلونها مسئولية أعمالهم ، ليتخفّفوا من النتائج الصعبة التي يواجهونها في قضية مصيرهم المحتوم في النّار ، فلعلهم يستطيعون الهروب منه ، ليتحمّله الآخرون ، أو التخفف منه ليشاركوهم فيه ، ولذا جاء الحديث وفق هذه الطريقة (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) فيردّه عليه في عملية جدال متحرّك.

* * *

حوار المستضعفين والمستكبرين

(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) من هؤلاء الذين عاشوا ضعف الإرادة في مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وسقطوا تحت تأثيره ، مما جعلهم عاجزين عن أن يقولوا «لا» بقوّة الرفض ، عند ما يميل الموقف إلى الرفض ، ولا يملكون أن يقولوا «نعم» ، عند ما يميل الموقف إلى القبول ، بل يقبلون ما يراد لهم أن يقبلوه ، ويرفضون ما يراد لهم أن يرفضوه ، وهكذا كانوا يرفضون الإيمان لأن المستكبرين أرادوا لهم أن يرفضوه ، ليلتزموا الكفر من دون أن يدرسوا المسألة بعمق في طبيعتها ونتائجها السلبية أو الإيجابية في الدنيا والآخرة. وها هم يواجهون النار وجها لوجه ، فيحاولون الهروب منها بما يقولونه (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) الذين كانوا يملكون المال والجاه والرجال والقوّة ،

٥٠

فيخضعون حركة الواقع من حولهم لسلطتهم ، ويستغلون حاجة الآخرين المحرومين من ذلك كله إليهم ، ليجعلوا من تلك الحاجات قيودا في أيديهم ، وسبيلا إلى إذلالهم ، وها هم يقولون بلهجة ممزوجة بالنقمة والتوسل : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) لأن طريق الهدى كانت مفتوحة أمامنا ، ولأن قلوبنا كانت منفتحة على كلمات الأنبياء ، كما كانت أرواحنا قريبة إلى أجواء الصفاء .. وكان من الطبيعيّ أن نلتقي مع الدعاة إلى الله على خط الإيمان ، ولكنكم وقفتم أمامنا ، لتسدّوا علينا كل الطرق المفتوحة على الله ، ولتغلقوا عنا كل أبواب الخير والهدى والفلاح ولتعكّروا علينا كل صفاء الحياة وطمأنينة الروح وهدوء الفكر ، حتى ابتعدنا عن الإيمان من خلال دعوتكم إلى الكفر.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) وعند ما رأى المستكبرون أن حراجة الموقف ودقّته يفرضان عليهم الجواب ، وقد كانوا في الدنيا لا يعبأون بالمستضعفين ، ولا يسمحون لهم بالمناقشة ، ولا يردون عليهم‌السلام والكلام ، ولكن المسألة الآن تختلف عن السابق لأن الجميع يقفون في مستوى واحد أمام المسؤولية بين يدي الله ، فلا فرق بين كبير وصغير ، الأمر الذي يجعل المستكبرين يخافون من تحمّلهم مسئولية إضلال هؤلاء ، مما يزيد عذابهم فوق ما يستحقونه من العذاب .. وهكذا أطلقوا الرد عليهم بقوّة ، كما لو كانوا يتكلمون معهم في الدنيا (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) فما هي علاقتنا بذلك ، فإذا كان ثمّة ضغوط منا على أجسادكم ، فهل كنا نضغط على عقولكم وقلوبكم ، ونسيطر على قناعتكم ، وهل يملك أحد أن يضغط على عقل أحد ، أو يملك قلبه من دون إرادته؟ إنها إرادتكم التي اختارت هذا النهج في الكفر ، فليست المسألة أنكم كنتم خاضعين لضغوطنا ، (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) بما اخترتموه من الكفر والعصيان والضلال ، تماما كما هي المسألة بما اخترناه ـ نحن ـ من الاجرام في حق الله ، وحق أنفسنا.

(وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الذي

٥١

مارستموه معنا ، مما كنتم تديرونه من أسباب المكر والحيلة في الليل والنهار من خلال استغلالكم لكل نقاط الضعف فينا ، لتحاربونا بنقاط القوّة عندكم ، في ما نحتاجكم فيه من مال وقوّة وسلطان ، وما تثيرونه في غرائزنا من لذّات وشهوات ، وما تعدوننا به من أطماع وطموحات .. فيزحف كل ذلك إلى عقولنا ، وينساب إلى مشاعرنا ، ويتحرك في غرائزنا ، فنستسلم لكم استسلاما مطلقا لا شعوريا. كما لو كنا مشدودين إلى سحر ساحر (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ) إنكم أخضعتمونا للفكرة التي تربط العقيدة بالحس ، وتبعدها عن الغيب ، فإذا كنا لا نرى الله بأعيننا ، فعلينا كما أوحيتم لنا ، أن نكفر به بعقولنا ، حتى لو رأيناه في قلوبنا وإحساسنا الداخلي (وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) مما صنعتموه من أصنام ، وممن أوحيتم لنا بأنهم في موقع الألوهية من خلال ما تثيرونه حولهم من أسرار ، وما تثيرونه في عقولنا نحوهم من خيالات وأوهام .. ولم ينفع هذا الكلام ، (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) واستعادوا كل تاريخ حياتهم في الدنيا ، وشعروا بالندم العميق الذي يحرق كل مشاعرهم الآن ، قبل أن تحترق أجسادهم في النار ، وعاشوا العذاب النفسي الداخلي في ما أسرّوه من الندم (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من المستكبرين والمستضعفين (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لأن الله لا يعاقب أحدا إلا بذنبه.

* * *

٥٢

الآيات

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٣٩)

* * *

معاني المفردات

(مُتْرَفُوها) : الذين يتنعمون في الملذات كما يشاءون.

(وَيَقْدِرُ) : يضيّق.

(زُلْفى) : قربى.

(مُعاجِزِينَ) : معاندين ، ظانين أنهم يعجزون الله ، وقيل معاجزين مسابقين.

* * *

٥٣

المترفون في سلوكهم ضدّ الرسالات

لعل مشكلة الكثيرين من المجتمعات في ضلالها وكفرها وفسقها وفجورها وظلمها وانحرافها ، هي مشكلة المترفين الذين لا يمثل الترف لديهم حالة من النعيم المادي يعيشونه في حياتهم ويتيح تحقيق ما يطلبونه لأنفسهم من ملذات ومشتهيات من خلال ما يملكونه من المال والجاه ، بل يمثل حالة نفسية متعالية ، ووضعا طبقيّا معقدا ، من خلال المواقع التي يتحركون فيها ، والقضايا التي يثيرونها ، والصراع الذي يخوضونه ضد دعاة الإيمان والخير والصلاح ، الذين يريدون تغيير المجتمع الطبقي إلى مجتمع يتساوى أفراده في الحقوق والواجبات ، وتغيير القيم الإنسانية العامة ، من قيم مادية يكون فيها للمال الحظ الأوفر والدرجة العليا في الحياة الاجتماعية العامة ، إلى قيم روحية ، يكون فيها للإيمان والخلق والعمل الصالح ، في ما تمثله التقوى على الصعد الفكرية والأخلاقية والعملية في حياة الناس ، النصيب الكبير.

ويقف هؤلاء المترفون دائما ليواجهوا الرساليين ، بكل وسائل المواجهة الإعلامية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، بما يطلقونه من أضاليل ، وما يثيرونه من شبهات واتهامات ، وما يحركونه من فتن ومؤامرات ، حفاظا على امتيازاتهم الذاتية والطبقية من خط الرسالات ، ودعاة الإصلاح ، وهذا هو ما تتناوله هذه الآيات في معالجتها للتحديات التي تواجه المرسلين والمنذرين ، لتناقش الطروحات المنحرفة التي يحاول هؤلاء المترفون التأثير من خلالها ، على ذهنية الناس البسطاء.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) لينذر الناس بعذاب الله ، إذا انحرفوا عن خط الإيمان برسالته (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) الذين يعتبرون الترف ، في عمقه المالي والطبقي ، وامتداده الاجتماعي والسياسي ، أساسا للقيمة الذاتية عندهم ، (إِنَّا

٥٤

بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) لأن الرسالات تعمل على تحرير الإنسان من الخضوع لإنسان مثله تحت ضغط حاجاته ، وتأثير نقاط ضعفه ، فهي توحي إليه بأن الله هو الذي يرعى حاجاته وحاجات المخلوقات التي تعيش معه ، وأن الآخرين من الطغاة والأغنياء من مترفي الأمم ، لا يخرجون عن دائرة الحاجة أمام الله ، فما من نعمة يتقلبون فيها ، إلا وهي مستمدة من الله ، فهو الذي منحهم إيّاها وأنعم عليهم بها ، وهو القادر على أن يسلبهم إياها ، كما تعمل الرسالات أيضا على تغيير مفهوم الإنسان للحياة في قيمها العامة والخاصة ، في الجانب الروحي والماديّ منها ، والهدف أن تجعل الناس المستضعفين أحرارا في حياتهم ، وأقوياء في مواقفهم ، من خلال كونهم مؤمنين في عقيدتهم رفض العبودية إلا لله ، والتمرّد على كل الشرائع إلا شريعة الله .. وهكذا كان المترفون يعلنون الكفر بالرسالات في مواجهة الأنبياء للحفاظ على امتيازاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في دائرة الظلم والطغيان.

* * *

منطق القوة لدى المترفين

(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) مما يجعلنا الأقوى موقعا وموقفا وشأنا من هؤلاء الرسل الفقراء المعدمين الذين لا يملكون ما نملك من الكثرة في الأموال والأولاد والأتباع (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) لأن الله لا يمكن أن يعذّب الطبقة العليا من الناس التي تمثل المستوى الكبير في الحياة على صعيد المال والمعرفة والقوة ، ففي خيالهم أن امتيازات الدنيا تحكم امتيازات الآخرة بحكم سيطرة القيم المادية عليهما معا.

* * *

٥٥

منطق الرسالة في مواجهة منطقهم

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فليست السعة في الرزق تمثل امتيازا للغني ، بما يرزقه الله ، وليس التقدير في العيش ، يمثل احتقارا للفقير ، بما يضيّقه الله عليه من رزقه ، بل الأمر يختلف في طبيعته باختلاف حركة الحكمة التي يجسدها التخطيط الإلهي الخاص بأرزاق النّاس في الحياة ، بما يصلح به أمورهم في طبيعة حياتهم. فقد يكون الفقر بلاء للفقير ، ليختبر الله به صبره وإيمانه ، ليرفع درجته من خلال ذلك فيكون خيرا له ، وقد يكون الغنى بلاء للغني ليختبر به شكره وتقواه ، فإذا لم يشكر كان ذلك شرا له ، فتسقط درجته. فلا بد من أن ينظر للمسألة من هذه الجهة ، لتتوازن النظرة في مجريات الحياة في حركة الرزق فيها ، ليعرف الناس عمق المعنى في ذلك كله ، فلا تغريهم المظاهر ولا تسلبهم الثروة التي يملكها الآخرون استقامة نظرتهم إلى الواقع ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم يرتبطون بالسطح الظاهر للقضايا ولا ينفذون إلى العمق.

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) مما قد يوحي به كلامكم الذي تؤكدون فيه أنكم لستم بمعذبين ، لأنكم أكثر أموالا وأولادا ، فكيف تفكرون بهذه الطريقة؟ وكيف يمكن أن يقرّب الله إنسانا لكثرة أمواله وأولاده ، مع أنه هو الذي أعطاه ذلك كله ، وهو الذي قسم العطايا بين خلقه ، فكيف يميزهم بالقيمة ، ما ميّزهم به من حيث الحكمة والبلاء ، لا من حيث المنزلة والمقام ، فلا يميز الله عبدا عن غيره في أيّ موقع من المواقع (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) فأعطوا الله من جهدهم الفكري ما جعلهم أقرب إليه في عقولهم وقلوبهم من خلال الإيمان بوجوده ، والإخلاص لتوحيده ، ومن جهدهم الجسدي ما جعلهم أقرب إليه في نشاطهم العملي الذي يراعي تقوى الله

٥٦

(فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) الذي يتضاعف فيه الثواب تبعا لقيمة الجهد المبذول ، لا سيما ما يواجهه المؤمن من جهاد النفس ، في التحديات الداخلية في حاجاته وغرائزه ، ومن جهاد العدو في التحديات الخارجية التي يفرضها خصوم الرسالة وأعداؤها (بِما عَمِلُوا) من الأعمال الصالحة ، لأن الله جعل ثوابه تابعا للعمل في حياة الناس ، (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ) أي في غرفات الجنة ، وهي البيوت العالية فيها ، وقد تكون كناية عن علوّ الدرجة (آمِنُونَ) لا يصيبهم فيها سوء ولا خوف مما كانوا يحذرون منه في الدنيا ، لأن الجنة هي دار السلام والاطمئنان والاستقرار الأبدي.

(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) يعملون على تعجيز الدعاة إلى الله وتثبيطهم وإثارة الخوف في نفوسهم ، بما يخطّطونه من خطط الشرّ ، وما يثيرونه من أجواء الكفر ، وما يقومون به من مشاريع الضلال ، (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) لأن ذلك هو النتيجة الطبيعية لأعمالهم وأوضاعهم.

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) هو مصدر نظام الرزق في الحياة ، وهو ضمانة استمراره في تلبية حاجات الإنسان ، فمنه يستمد الثقة الكبيرة بالاستقرار والطمأنينة في ذلك ، فهو الذي يعطي السعة لمن يريد أن يوسع عليه ، ويضيّق على من يرى المصلحة والحكمة أن يضيّق عليه ، (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) فليس لكم أن تخافوا من الفقر إذا أنفقتم مما رزقكم الله من مال ، لأن المسألة لا تتعلق بجهدكم الذاتي في تحصيل المال ، لتخافوا من الضياع وفقدان التعويض إذا أذهبتم ما لديكم منه ، فانطلقوا مع العطاء وانتظروا العوض من الله في الدنيا مثل الآخرة (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأنه الذي لا يمنع أحدا رزقه ممن أطاعه وممن عصاه من دون حاجة إلى أيّ شيء من المرزوقين.

* * *

٥٧

الآيات

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٤٥)

* * *

معاني المفردات

(نَكِيرِ) : الإنكار ، ويراد به في الآية الهلاك.

* * *

٥٨

القرآن يناقش أفكار الانحراف العقيدي

وتتنوع الأساليب في الحديث عن الانحراف في مسألة العبادة ، فيجري تصوير مواقف بعض المخلوقات الروحانية كالملائكة الذين كان المشركون يقصدونهم بالعبادة ، فيوجه الله السؤال إليهم عن طبيعة موقعهم في هذه الدائرة العبادية ، ويكون الجواب الطبيعي أنهم ليسوا في هذا الموقع ، في ما يرونه من أنفسهم من إخلاصهم لله ، ومن خلال إحساسهم بأنهم عباده الذين يعيشون في ولاية الله ورعايته لهم في كل أمورهم ، فلا قيمة لأحد ، مهما كانت مشاعره تجاههم ، ومهما كان إخلاصه لهم ، أمام الله ، فلا يقبلون أن يضعوا أنفسهم في موقع المعبود ، ولا يقبلون من أحد أن يضعهم في هذا الموقع ، وتظهر هذه الحقيقة في هذا الحوار الإلهيّ مع الملائكة.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) العابدين والمعبودين في يوم القيامة (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) هل توافقونهم على هذا النهج ، وهل ترضيكم هذه العبادة لكم من دون الله؟ (قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) إنك ـ أنت ـ يا ربنا خالقنا ورازقنا وراعينا ومالك كل أمورنا الصغيرة والكبيرة ، فليس لنا من الأمر إلّا ما قضيت ولا من الخير إلا ما أعطيت ، فهل يمكن أن نفكر ـ لحظة ـ بأن يجعلنا أحد من هؤلاء الناس أولياء لهم من دونك ، بأن ننصرهم في ما يدعوننا إليه ، وأن نشفع لهم في ما يشفّعوننا به ، فما ذا نملك لهؤلاء من نصرة وشفاعة؟! إننا نرفض ذلك كله ، من موقع عبوديتنا وعبوديتهم لك (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) وهم يشعرون أنهم ملائكة ، فيعبدونهم خوفا منهم ، ورغبة في اتقاء شرورهم ، في ما يعتقدونه بهم من قدرات خارقة ، وعلم بالغيب (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) وقد قيل ، في تفسير الآية ، إن المراد أنهم كانوا يطيعون الجن في تزيينهم لهم عبادة الملائكة وغيرهم من دون الله.

٥٩

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) فلا ولي ولا شفيع من دون الله ، سواء كانوا من الإنس أو من الجن ، أو من الملائكة ، فأين تذهبون؟ وكيف تفكرون؟ فهذا ، أيها المشركون ، هو الموقف الحاسم الذي يواجه فيه كل واحد منكم مصيره المحتوم الذي لن يكون في مستوى السعادة الذي يأمله ويرضاه لنفسه ، فها هم الملائكة الذين جعلتموهم شفعاء يتبرءون منكم ومن عبادتكم لهم ، من موقع خضوعهم لله ، وإقرارهم بعبادته ، (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر أو بالشرك ، (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) عند ما كنتم ترفضون اليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب ، وتسخرون من فكرة النار ، فها هي النار التي كنتم بها وبعذابها تكذبون ، إنها الحقيقة ، فذوقوا الآن طعم الحقيقة.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) تؤكد لهم نبوّتك ورسالتك ، ووحي الله الذي أنزله عليك في كتابه (قالُوا) لبعضهم البعض (ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) إنه المنطق الذي يهرب من مواجهة الحقيقة في مضمونها الفكري العميق ، ليثير المسألة في اتجاه إثارة المشاعر المعادية للرسول عبر تحريك العصبيات العائلية القائمة على الإخلاص لعقيدة الآباء والأجداد ، لينتفض الناس في مظاهرة مجنونة تستهدف حماية إرث هذا التاريخ الذي قد لا يكون له أيّ معنى ، في ما يحترم فيه الفكر ، وتنفتح فيه الحقيقة ... وتلك هي حالة كل الذين يريدون أن يصادروا الفكر الحيّ التغييري ، في المجتمعات المتخلفة ، عند ما يعملون على تجميع عناصر الإثارة المضادة التي تخاطب الغرائز والعصبيات والمشاعر الحادّة لإسقاط الفكرة في الساحة العامة من دون مناقشة. وهكذا أطلق هؤلاء أمام بعضهم البعض فكرة حماية مقدسات الآباء (وَقالُوا) عن القرآن (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ) كذب (مُفْتَرىً) فهو منسوب إلى الله من دون أساس ، بل هو افتراء (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) في أسلوب مثير جديد ، لا يستهدف الفهم والوعي ، بل التشويش والتشويه والإثارة

٦٠