تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٦

الآيتان

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١)

* * *

معاني المفردات

(أَوِّبِي) : سبّحي.

(سابِغاتٍ) : دروعا كاملات.

(وَقَدِّرْ) : عدّل.

(السَّرْدِ) : التتابع ، وسرد الحديد : نظمه.

* * *

٢١

ولقد آتينا داود فضلا

في القرآن لمحات خاطفة عن النبيّ داود ، في فضل الله عليه مما أولاه من نعمه ، وفي دوره في موقع الخلافة في الأرض على مستوى الحكم ، وفي بعض اللقطات الجزئية من أحكامه ، وهناك حديث عابر عن بعض ما آتاه الله من نعمه ، في ما يوحي ذلك بقربه منه.

(* وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) فأوحينا إلى الجبال (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) وألهمناها (وَالطَّيْرَ) مثل ذلك ، فكان داود يفتح قلبه لله ، ويحرك شفتيه بذكره ، وينطلق التسبيح الخاشع من كل روحه ، كلمات مثل السحر ، وصوتا في صفاء النور ونقاء الينبوع يهمي ويهمي فتنساب منه الأنغام في عفويّة الترنيمة الحلوة وفي غيبوبة المشاعر الحالمة ، فتمتزج حلاوة صوته بحلاوة كلماته ، ليمتزجا معا بالحب الإلهي في قلبه ، حتى كان الحديث عن مزامير داود ، الذي كانت مناجاته كمثل المزامير في حلاوة النغم ، وعذوبة اللحن ، من دون تكلّف ولا تعقيد ، وهكذا كانت الجبال تسبّح معه ، وترجّع كل أصداء الكلمات ، وكل تقاطيع النغمات ، وكانت الطير تنسجم في أجواء التسبيح معه ، فتشعر كما لو كان الكون كله ينطلق ـ من خلاله ـ في تسبيحة واحدة لله الواحد القهار.

* * *

كيف نفهم تسبيح الجبال والطير؟

وقد نستطيع الأخذ بظاهر القرآن ـ في ما لم يثبت استحالته أو خلافه ـ فلا نرى أيّ مانع من أن ترجّع الجبال صدى صوته ، والطير نغمات تسبيحه

٢٢

بالطريقة الحسيّة المادية : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] في ما أبدعه الله في تكوينها من ذلك في مسار التجربة الخاصة لداود عليه‌السلام. على أن هناك آخرين لا يقتصرون في التصرف بظاهر القرآن على المورد الذي لا يتفق فيه الظاهر مع الحقيقة القطعية ، حيث يكون الأخذ بالظاهر مرادفا للأخذ بالمستحيل أو الذي لا يتفق فيه مع الدليل الثابت بشكل مقبول ، بل يجدون الاطمئنان العقلي أو النفسي عند ما تتوفر الأجواء المحيطة بالموضوع كافيا في الخروج عن الظاهر ، فهم في الوقت الذي لا ينكرون فيه أن يكون للجبال وعي التسبيح في ما لا نفهمه منها ، أو يكون للطير وعي الانسجام مع داود بطريقة إراديّة ، لا يجدون المسألة قريبة من الذهنية العامة التي يخاطب فيها القرآن الناس في تصورهم للأشياء من خلال المفردات الحسية الموجودة لديهم ، إذ يبدو أن ترجيع الجبال أو تسبيح الطير معه وارد على سبيل الاستعارة ، تماما كما يقول الناس إن الكون كله يتحرك معه ، أو يسبّح معه ، ونحو ذلك.

(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) فجعلناه ليّنا في يديه يتصرف به كيف يشاء ، ويصنعه كما يريد ، (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) وهي الدروع الواسعة ، (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي اقتصد فيه واجعله متناسقا متناسبا في حلقاته. وهكذا هيّأ الله له هذه المهنة المهمّة وهي صنع الدروع ليستطيع أن يعيش من كدّ يمينه ، ليكون قدوة للناس ، لا سيّما العاملين في الخط الديني الرسالي الذين تسمح لهم مواقع نشاطهم بالعمل في سبيل العيش ليعرفوا أن العمل شرف للعامل ، ورسالة في حياته من خلال علاقته بالهدف الكبير في حركة المسؤولية.

وقد ثار جدل كبير بين المفسرين ، حول ما إذا كانت هذه الإلانة للحديد لداود ، جارية على سبيل الإعجاز ، كما هو الظاهر من النسبة المباشرة لله ، ومن اعتبار هذا الأمر كرامة لداود ، وميزة له على الآخرين ، أو كانت جارية على الوضع الطبيعي ، ليكون الحديث عنه كالحديث عن كل الأفعال الإرادية

٢٣

الاختيارية للناس التي ينسبها الله إلى نفسه ، باعتباره مصدر القدرة الأساس في كل شيء ، ولتكون المسألة ، هي ما يريد الله أن يبيّنه من ممارسة داود لعملية صنع الدروع بشكل متقن بحيث تحمي المقاتل من الآخرين ، وتجعل له حرية الحركة في القتال ، للتدليل على الجانب العملي في حياته؟

ونحن في الوقت الذي لا نمانع فيه أن تكون المسألة على سبيل الإعجاز ، لا ننفي أن يكون الرأي الآخر قريبا من الصحة ، لا سيّما إذا لاحظنا أن المعجزة التي تمثل الطريقة الخارقة للعادة ، لا تأتي إلا كأسلوب من أساليب التحدي ، أو مواجهة التحدي ؛ ولكن هذا الجدل لا يمثل حاجة عقيدية وعمليّة على كل حال ، إذ يكفي في مسألة الإيمان الاعتقاد بإمكان المعجزة ، وبالتصديق بها في حالة ثبوتها ، لا بالإيمان بأيّة وجهة نظر اجتهادية في تعيين المعجزة.

(وَاعْمَلُوا صالِحاً) كأسلوب من أساليب شكر النعمة بما يمثله العمل الصالح من الانفتاح على الله ، والانسجام مع خط رضاه ، ليكون ذلك بمثابة اعتراف واقعيّ بالجميل والخطاب لداود ولقومه ، أو لأهله ، على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يفوتني شيء منها فيما خفي أو ظهر.

* * *

٢٤

الآيات

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)(١٤)

* * *

معاني المفردات

(غُدُوُّها) : سيرها بالغداة.

(وَرَواحُها) : سيرها بالعشي.

(الْقِطْرِ) : الحديد أو الرصاص.

(يَزِغْ) : يعدل.

(مَحارِيبَ) : معابد.

٢٥

(وَتَماثِيلَ) : جمع تمثال ، وهو صورة الشيء.

(وَجِفانٍ) : جمع جفنة ، وهي القصعة.

(كَالْجَوابِ) : جمع جابية ، وهي الحوض الكبير.

(راسِياتٍ) : ثابتات.

(مِنْسَأَتَهُ) : المنسأة : العصا الكبيرة.

* * *

مع سليمان عليه‌السلام في تسخير الله ألطافه له

وهذه إطلالة سريعة على النبي سليمان عليه‌السلام الذي جعل الله له ميزة معينة في الخدمات غير العادية التي هيّأها الله له مما كان يحتاجه في تنقلاته أو في مشاريعه العمرانية ، أو في حاجاته الإنسانية الاجتماعية ، وليس من الضروري أن يكون في ذلك نوع من التفضيل ، في ميزان القيمة النبوية ، ليتساءل البعض هل نستطيع التأكيد على فضل سليمان على سائر الأنبياء ، لأنه ـ وحده ـ الذي أعطاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده؟

والجواب عن ذلك أن تمييز نبيّ عن نبيّ بما يمكّنه الله من شؤون الحياة لا يتصل بدرجته عند الله بالقياس إلى النبي الآخر ، بل يتصل بدوره والحاجة العملية لحركة الرسالة على صعيد الواقع.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي سخرنا له الريح (غُدُوُّها شَهْرٌ) بحيث تقطع بالغداة مسيرة شهر كامل ، (وَرَواحُها شَهْرٌ) بحيث تقطع بالعشيّ مسيرة شهر كامل ، على الجمال أو الخيل أو الأقدام ، (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) وهو النحاس أو الحديد ، فأذاب الله له الصلب ، كما ألان الحديد لداود ـ أبيه ـ لحاجته إليه

٢٦

في شؤون الإعمار أو غيره ، أو أرشده إلى أسباب ذلك.

(وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) ما يحتاج إليه من بناء مراكز العبادة كبيت المقدس أو غيره ، وذلك من خلال تسخير الله لهم لخدمته ، لأن الإنس لا يملكون السيطرة الذاتية على استخدام الجن ، (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) أي ينحرف عن شريعة الله في ما يريد الله للعباد أن يفعلوه أو يتركوه (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) فذلك هو جزاء المنحرفين من العصاة والمتمردين ، (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) للعبادة (وَتَماثِيلَ) وهي الصور المجسمة أو مطلق الصور.

وقد جاء عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه‌السلام جوابا عن سؤال بعض أصحابه عن المراد بالتماثيل ، قال : ما هي تماثيل الرجال والنساء ، ولكنها تماثيل الشجر وشبهه (١). وقد استفاد منها بعض الفقهاء حرمة صنع تماثيل الإنسان ، لأن نفي موافقة سليمان على ذلك يوحي بالحرمة ، وتحفّظ البعض في استفادة ذلك منه ، لأن كفاية المرجوحية في صحة النفي حتى على مستوى الكراهة ، لا تلزم المؤمنين بالترك.

(وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) وهي صحاف الطعام الكبيرة الواسعة كالجواب التي هي الحياض التي يجبى فيها الماء أي ينقل إليها ويجمع فيها ، (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) وهي التي يطبخ فيها الطعام ، وهي ثابتة في الأرض ، لتأمين حاجاته في تلبية أضيافه أو عمّاله الذين يأكلون على مائدته.

* * *

__________________

(١) الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، ط : ١ ، ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م ، ج : ١٦ ، ص : ٣٧٣.

٢٧

اعملوا آل داود شكرا

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) فقد عزّز الله مكانتكم بالنبوّة ، وأفاض عليكم من نعمه الشيء الكثير مما لم يعطه للكثير من عباده ورسله ، فلا بد من الانطلاق في خط الشكر العملي ، في الدعوة إلى الله ، والعمل في سبيله ، والسير في طريق طاعته ، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الذين يملكون عمق المعرفة بالله ، في مواقع عظمته ونعمته ، وحقه العظيم على عباده في عبادتهم له ، وشكرهم لنعمائه. ولعل التأكيد على قلّة الشاكرين من عباده يوحي بأن مسألة الكثرة لا تمثل قيمة إنسانيّة في مضمون قرارها وحركتها ومنهجها العملي في الحياة ، لأنها ترتبط بالسطح الظاهر للأشياء ولا ترتبط بالعمق مما يجعلهم بعيدين عن خط الصواب. وليس معنى ذلك ، أن القلّة تمثل ـ دائما ـ معنى القيمة الإنسانية في مضمون الفكر وحركته ، بل إن المعنى العميق في ذلك ، هو عدم اعتبار الكثرة العددية أساسا للإيجاب ، كما أنّ القلّة العددية لا تمثل أساسا للسلب ، فلا بد من دراسة المضمون الداخلي للفكرة للقبول بها أو لرفضها.

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) لم يعرفوا به ساعة حدوثه و (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) وهي الأرضة (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) أي عصاه ، (فَلَمَّا خَرَّ) إلى الأرض (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) الحقيقة الإيمانية التي تؤكد على استقلال الله بعلم الغيب ، فلا يملك أحد من عباده أيّة ملكة في هذا المجال ، إلّا بمقدار ما يعطيهم من مفردات الغيب ، في ما يحتاجون إليه خلافا للفكرة الشعبية التي تؤمن بأن الجن يعلمون الغيب ، ويقيمون علاقات خاصة مع الإنس ، فيطلعوهم على الغيب ليضروا به بعض الناس ، ولينفعوا بعضا آخر ، أو ليكتشفوا أسرارهم ، وربما كان الجن يعتقدون في أنفسهم ذلك ، بما قد يستوحونه من غيب بعض الأمور من خلال ملامحها ، في ما يجدونه من المفردات التي توحي

٢٨

بمستقبلها ، أو في ما يطّلعون عليه من خفايا الأمور في الآفاق الواسعة التي يتحركون فيها مما لم يطّلع عليه البشر ، ولكنهم واجهوا هذه الحقيقة ـ من خلال هذه التجربة الفريدة ـ فقد استمروا على العمل القاسي وهم يحسبون أن سليمان ينظر إليهم ويراقبهم ، وعرفوا (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) الذي كانوا يعيشون فيه القهر والمذلّة والهوان.

وقد نحتاج إلى تسجيل ملاحظة حذرة على الروايات التي حدّدت المدّة التي مضت على جهلهم بوفاة سليمان الذي بقي ـ وهو ميت ـ متكئا على عصاه ، مفتوح العينين ، كما لو كان يراقبهم ، حتى جاءت الأرضة وأكلت عصاه ، فانكسرت فوقع ، وعرفوا بموته.

فقد نلاحظ أن بقاء سليمان في هذا الوقت الطويل ، لا بد من أن يلفت أنظارهم وأنظار الآخرين لا سيما إذا لا حظنا استمراره في الليل والنهار ، مما لم يعهد ذلك منه ولا من غيره ، وعدم تناوله للأكل والشرب ، كما نلاحظ أن الأرضة لا تحتاج إلى هذا الوقت الطويل لتأكل عصاه ، فلا بد من أن يكون للمسألة وجه آخر (١) ، ووقت محدود ينسجم مع طبيعة الأشياء ، والله العالم.

* * *

__________________

(١) ورد في بعض الروايات أنه قال لأهله ـ عند ما أحسّ بدنوّ أجله ـ لا تخبروا الجن بموتي حتى يفرغوا من بنائه ودخل محرابه ، وقام متكئا على عصاه فمات وبقي قائما سنة ، وتم البناء ثم سلّط الله على منسأته الأرضة حتى أكلتها ، فخر ميتا فعرف الجن بموته ، وكان يحسبونه حيا لما كانوا يشاهدونه من طول قيامه قبل ذلك.

٢٩

الآيات

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(١٩)

* * *

معاني المفردات

(سَيْلَ الْعَرِمِ) : المراد بكلمة العرم : المسناة التي تحبس الماء ، وقيل : العرم ، اسم واد كان يجتمع فيه سيول من أودية شتى ، وقيل : العرم ، المطر الشديد ، وقيل : السّيل الذي لا يطاق.

٣٠

(خَمْطٍ) : الخمط هو شجر الأراك ، وقيل : هو شجر الغضا ، وقيل : هو كل شجر له شوك.

(وَأَثْلٍ) : الأثل الطرفاء.

* * *

قصة سبأ كما وردت في القرآن

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) وهي قبيلة من العرب سميت باسم الأب الذي تناسلت منه ، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ـ كما قيل ـ وكانت تسكن اليمن ، (فِي مَسْكَنِهِمْ) أي بلدهم (آيَةٌ) أي علامة تهديهم إلى الله وتدلّهم عليه وعلى رعايته لعباده وعنايته بهم في ما يفيض عليهم من نعمه الوافرة ، مما يمكن أن يجعلوه أساسا للتأمل والتفكير الذي يقودهم إلى المزيد من معرفتهم بالله وارتباطهم به مما تفرضه حاجاتهم العامة والخاصة له ، فالله أعدّ للناس كل ما يتصل بوجودهم واستمرار حياتهم.

(جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) والجنة هي البستان المشتمل على الخضرة والفاكهة والورود المتنوعة بأشكالها وألوانها وخصائصها وعناصرها الذاتية ، في طعمها وريحها ومنظرها بما يملأ العين والقلب والحياة. وهكذا كان على اليمين بستان ممتد يشمل المنطقة كلها ، وبستان ممتد على الشمال بالمستوى نفسه. وقد تنوّعت كلمات المفسرين ، وخيالاتهم ، أو استيحاءاتهم في تصوير الروعة الناضرة والنعم الوافرة ، فقيل : إن ديارهم كانت على وتيرة واحدة ، إذ البساتين عن يمينهم وشمالهم متصلة بعضها ببعض ، وكان من كثرة النعم أن المرأة كانت تمشي والمكتل على رأسها فيمتلئ بالفواكه من غير أن تمس يدها شيئا ، وقيل : إنه لم يكن في قريتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب

٣١

ولا حيّة ، وكان الغريب إذا دخل بلدهم ، وفي ثيابه قمل ودواب ماتت ، إلى غير ذلك من الأقوال.

وكانت كل هذه النعم الوافرة تقول لهم بلسان ربهم الذي أودع في قلوبهم سرّ الوحي بالإيمان ، والمعرفة بالله والشكر له ، (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) بالكلمة المنفتحة على نعمه ، المعترفة بفضله ، وبالعمل الصالح الذي يتجسد فيه رضاه ، ويلتقي بالمعنى الإيماني العميق المتصل به في كل مواقع نعمه ، (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) في مائها وهوائها وثمارها وروائحها ، (وَرَبٌّ غَفُورٌ) في ما يوحي به معنى الغفران ، من الرحمة والعطف والحنان الإلهي الذي لا ينتظر فيه الرب عباده ليخطئوا حتى يعاقبهم ، بل إنه ينتظرهم ليرجعوا إليه ـ بعد الخطأ ـ ليغفر لهم. ومن خلال ذلك فإن الآية توحي للناس بأن بإمكانهم الاطمئنان للاستمرار في حياتهم ، بالانفتاح على النعم الوافرة الطيبة التي يغدقها الله عليهم ، من خلال رحمته وعفوه ومغفرته ، ورعايته لهم في كل أمورهم الخاصة والعامة ، فليسوا مهملين ، وليسوا ضائعين ، لأن الربّ الذي خلقهم ، لن يتركهم للضياع ، ولن يقسو عليهم بالعقاب ، ما دام هناك شكر واع للنعمة ، وحركة منطلقة في خط الإيمان. وهذا هو النداء المتحرك الدائم في كل عصر ومصر ، لأن الله لا يزال يتعهّد عباده بنعمه ، ويدعوهم إلى شكره ، لأن ذلك هو الذي يفتح قلوبهم عليه ، من خلال حاجتهم إليه ، ويفتح حياتهم على وحيه وشريعته من خلال إيمانهم الواعي العميق بربوبيته.

أيها الناس ، لقد رزقكم الله نعمة الحياة في نعمة الوجود ، ونعمة الاستمرار في الحياة من خلال ما أودعه من مفردات النعم الكثيرة في نعمة البقاء ، فاغترفوا من ينابيع نعمه ، وكلوا من مائدته ، واشكروا له ، فأنتم في الكون الواسع الممتد تعيشون في بلدة طيبة ، تحتوي نعما طيبة ، وتتحركون في عناية رب غفور ، يغفر لكم ذنوبكم ، ليضمكم إلى كنف رحمته.

٣٢

(فَأَعْرَضُوا) وتمرّدوا ، واستعانوا بنعم الله على معصيته ، وابتعدوا عن خطه المستقيم ، وأهملوا حسابات الله في حساباتهم ، وأغلقوا أسماعهم عن سماع مواعظه ، (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) وكان القوم في حالة استرخاء لذيذ غافل عن كل شيء ، مستسلم لكل أحلام اللذّة والشهوة والغيّ والسلطان ، ينتظرون الموسم الجنيّ المثقل بالثمار ، الواعد بكل ربح كبير ومال وفير ، ويستعدون لبداية موسم جديد. وكان الماء يأتي أرض سبأ من أودية اليمن ، وكان هناك جبلان يجتمع ماء المطر والسيول بينهما ، فسدّوا ما بين الجبلين ، فإذا احتاجوا إلى الماء ، نقبوا السدّ بقدر الحاجة ، ليسقوا زروعهم وبساتينهم ، فلمّا كذّبوا رسلهم وتركوا أمر الله بعث الله جرذا نقبت ذلك الردم ، وفاض عليهم الماء سيلا جارفا لكل شيء.

(وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ) الزاهيتين المثمرتين الرائعتين (جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ) وبذلك تحوّلت الجنائن الغنّاء الخضراء إلى أشجار لا تغني شيئا ، فليس هناك إلا الشوك ، (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) وهو النبق الذي لا يأكله إلا حيوان جائع أو إنسان أضناه الفقر والعوز.

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) لأنهم لم يكفروا من موقع حجّة مضادّة ، بل من موقع تمرّد طاغ وعناد مكابر.

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي قرى الشام التي أنعم الله عليها بالخصب والرخاء والماء والشجر ، (قُرىً ظاهِرَةً) أي متواصلة بحيث يظهر بعضها لبعض ، وكان متجرهم ـ كما يقول صاحب مجمع البيان : «من أرض اليمن إلى الشام» (١) ، وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى ، حتى يرجعوا وكانوا لا يحتاجون إلى زاد من وادي سبأ إلى الشام (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي

__________________

(١) الطبرسي ، أبو علي الفضل بن الحسن ، دار المعرفة ، ط : ١ ، ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م ، ج : ٤ ، ص : ٦٠٥.

٣٣

قسمنا السير فيها بحيث كانت مراحل السير متوازنة ، فيصبح المسافر في واحدة منها ، ويمسي في أخرى في أجواء ملائمة ، (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) لأن الأوضاع التي كانت تسود خط السير في كل القرى المتتابعة كانت طبيعية آمنة ، بعيدة عن أجواء النزاع والخلاف ، مما يجعل السائر فيها يشعر بالأمن والطمأنينة والاستقرار النفسي.

وهكذا كان وضع قوم سبأ في حلّهم وترحالهم ، في أمان واطمئنان ، فلا يخشى أحد منهم على نفسه ، ولا على ماله ، ولا يحتاج في سفره إلى أيّ جهد. ولكنهم كفروا بنعمة الله ، ولم يشكروا له ، (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) فقد مللنا من هذا الرخاء الذي لا يثير فينا جهدا ، ولا يكلفنا تعبا ، ولا يخلق لنا مشكلة ، ـ قالوها ـ من موقع كفرهم بالنعمة ، وابتعادهم عن الله ، فلم يطلبوها بألسنتهم ، ولكن أعمالهم فرضت ذلك ، فكأنّ أعمالهم تنادي بذلك. وربما كان الأمر جاريا على سبيل الحقيقة ، فإن الناس قد يملّون من الرخاء فيطلبون الشدّة ، ولهذا طلبوا أن تكون طريقهم إلى الشام ، طريق فلاة وصحراء ، يعانون فيها جهد السير وظمأ القلب وجوع الجسد ، (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالابتعاد بها عن الطريق المستقيم الذي يوفر عليهم كل النتائج السلبية في الحياة (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) تتناقلها الأجيال ، للعبرة أو للتسلية ، (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرقناهم في كل البلاد ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي دلالات (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ليعرف كيف ينقذ الصبر والشكر صاحبه من الهلاك.

* * *

٣٤

الآيتان

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)(٢١)

* * *

ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ) أي على أهل سبأ ، أو كل من كان على شاكلتهم ممن كفر بالله وتمرد عليه (إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) فقد توعّد بني آدم ، بأن يغويهم ويضلّهم ويبعدهم عن الصراط المستقيم ، وكان يفكر بتحقيق ذلك بوسائله الخاصة التي يغري بها الناس ، فيحرّك وساوسهم بوساوسه ، ويثير غرائزهم بمغرياته ، ويحسّن لهم السوء بتزيينه ، ويقبح لهم الحسن بأضاليله ، وكان يغلب على ظنه النجاح من خلال دراسته للأجواء المحيطة بالواقع. وهكذا كان ظنه يصدق مع فريق ، ويكذب مع فريق آخر ، ولكن الكثيرين هم الذين يسقطون في حبائله ، ويخضعون لإغراءاته ، وهؤلاء هم الكافرون والعصاة والمتمردون على الله ، الذين زيّن لهم الشيطان طريق الباطل ، (فَاتَّبَعُوهُ)

٣٥

وأطاعوه (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الذين انفتحوا على الله من مواقع الحق المشرق في آفاق الفكر الواعي الممتد في كل رحاب الحياة ، فيزنون الأمور بموازينها ، ويقيسون القضايا المتنازع عليها بمقاييسها الدقيقة ، ويناقشون الأفكار بحكمة ، ويبلورون القناعات بعمق وصفاء ... هؤلاء الذين لا يدخلون الغرائز في آفاق العقيدة ، ولا يثيرون الأفكار في ساحة الشهوات ، ولا يحركون المواقف في أجواء الأطماع ، بل يضعون كل شيء موضعه ، فللفكر موقعه ، وللغريزة مواقعها ، ففي الفكر عمق الانتماء وامتداد القناعة ، وفي الغريزة حاجة الحس وغذاء الجسد ، فلا يختلط موقع أحدهما بموقع الآخر ، لتتوازن القضايا عندهم في طبيعتها ، وتتركز في نتائجها.

(وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) فليس له أن يقهر أحدا على اعتناق فكرة معينة ، أو يجبر أحدا على سلوك طريق معين ، فللإنسان حريته في اختياره ، من خلال ما يملكه من عقل وإرادة. وكما الإرادة تخضع لتوجيهات العقل والإيمان ، فقد تميل إلى الشهوات المحرمة التي يثيرها إبليس بوسوسته وتزيينه وإثارته للإغراء في أكثر من موقع للإنسان ، ليقف الناس بين الحق والباطل ، والخير والشرّ ، وليعيشوا حركة الاهتزاز في عملية الاختيار ، ولم يكن ذلك (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) على أساس الالتزام بالعمق الفكري للمسألة الذي يضع الإيمان بالآخرة في نصابها الصحيح من موقعها في ساحة الحقيقة ، ومن اعتبارها أساسا لإبعاد الوجود الإنساني ـ وفق إرادة الله ـ عن دائرة العبث (مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) لخضوعه للاهتزاز الفكري المشدود إلى اهتزاز الحسّ في مألوفاته وفي غرائزه وشهواته ، فلا يستقر على رأي ، ولا يطمئن إلى موقف ، (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) لا يفوته أيّ شيء مما يحدث في الكون ، ولا مما يفكر به الإنسان.

وقد توحي كلمة (لِنَعْلَمَ) بأن تحريك الشيطان للدخول في مشاعر الإنسان ، يستهدف أن يعلم الله المؤمنين من الشاكّين ، مما يعني أن الله يحتاج

٣٦

إلى بعض الوسائل العملية التي تعرّفه خفايا الناس ، وهو أمر لا تقرّه العقيدة الإيمانية التي تعتقد بأن الله عالم بكل شيء ، فكل شيء حاضر لديه بشكل مطلق ، ولكن الظاهر أن المراد به لنظهر المؤمن من الشاكّ باعتبار أن ذلك سبيل للإظهار الذي هو سبب العلم من حيث طبيعة الأشياء ، لا على أساس علم الله.

* * *

٣٧

الآيات

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٢٥)

* * *

معاني المفردات

(شِرْكٍ) : نصيب.

(ظَهِيرٍ) : معين.

(فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) : ذهب الفزع عنهم.

٣٨

(أَجْرَمْنا) : أذنبنا.

* * *

لمن السماوات والأرض؟

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) في نداء التحدي الكبير الذي تطلقه في ساحة هؤلاء المشركين الذين جعلوا لله شريكا من خلقه ، فأعطوه صفات الألوهية ، واستغرقوا في ذاته ، واندمجوا في الإخلاص له ، وتحركوا في خط عبادته ، حتى نسوا الله ، قل لهم ، يا محمد ، ادعوا هؤلاء الشركاء ليقدموا ما عندهم من إمكانات ومعطيات وسترى أنهم لا يقدّمون شيئا ، أيّ شيء ، لعجزهم عن ذلك ، فهم (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) مما يمكن أن يكون مظهرا من مظاهر القدرة ، أو يعبّر عن سرّ من أسرار شخصية الإله ، (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) أي من نصيب يتقاسمونه مع الله ، لأن كل شيء في السماوات والأرض ، هو ملك الله وحده ، لأنه من خلقه. (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) أي ليس لله من كل هؤلاء الذين تدعون من دونه ، من معين يعينه لأنه لا يحتاج إليهم من قريب أو من بعيد ، فهو الخالق لهم ، وكيف يحتاج الخالق إلى المخلوق؟ (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ) فليست هناك مراكز قوى تفرض نفسها على الله من موقع القوّة الذاتية التي تترك تأثيراتها على قراره ، فيمن يعطيه أو فيمن يمنعه لتكون هناك نقاط ضعف في قدرته أو في عظمته الإلهية ليحتاج الناس إلى التوسل إليه بالشفعاء حتى يصلوا من خلالهم إلى مواقع رحمته ورضاه ، وليتعبدوا لهم للحصول على رضاهم الذي يؤدي للحصول على رضاه. فليس هناك أحد أقرب إليه من أحد ، من حيث الذات ، فهو الذي يقرّب بعض الناس إليه ، ويمنحهم درجة القرب إليه من خلال أعمالهم ، ويبقيهم في دائرة الخضوع له المنتظرين لإذنه في كل ما يفعلون أو يتركون ، فيعرفون أنهم لا يملكون الشفاعة أمامه لأيّ شخص

٣٩

لأنهم لا يملكون معه أيّ شيء ، (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) في ذلك فأراد تكريمه بالشفاعة لبعض الخاطئين الذين يريد أن يغفر لهم ، بحيث تكون الشفاعة وظيفة إلهية محدّدة الموقع معيّنة الشخص والدور ، من دون زيادة ولا نقصان. وفي ضوء ذلك ، نفهم أن الشفاعة ليست حالة ذاتية للشفعاء لدى الله ، بل هي مهمّة محدّدة في دائرة المهمات التي قد يوكلها إلى بعض عباده ، لمصلحة يراها ، في وقت محدود ، ودور خاصّ ، مما يفرض على المؤمنين عدم الاستغراق في ذات النبي أو الولي طلبا للشفاعة ، بل في توجيه الخطاب لله أن يمنحه الشفاعة من خلالهما.

(حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) أي إذا ذهب الفزع عن قلوبهم ، والظاهر أن الضمير يعود إلى المشركين الذين يواجهون الموقف الصعب يوم القيامة ، فلا يجدون ناصرا ولا معينا ، ويعرفون أنه لا مجال للهرب ولا للنجاة ، فيعيشون في أجواء الفزع التي لا يملكون ـ معها ـ أن يفكروا بهدوء ، أو يجيبوا عن أي سؤال ، لأن الفزع يعطل تفكيرهم عن الحركة ، فإذا ذهب الفزع ملكوا فكرهم وأمكنهم أن يواجهوا السؤال بهدوء (قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) وهو سؤال توجهه الملائكة إليهم ، أي كيف رأيتم طبيعة وحي الله الذي بلّغكم به الأنبياء في حديثهم عن اليوم الآخر ، وعن الحساب الذي ينتظركم فيه؟ هل ترونه حقا ، كما تشاهدونه الآن ، أو تجدونه باطلا ، كما كنتم تزعمون في الدنيا؟ (قالُوا الْحَقَ) فليس هناك أيّ باطل في ما جاءت به الرسل ، وها نحن نراه بكل تفاصيله ، في هذا اليوم ، فنجد أن الله وحده هو الحق ، وأن ما كنا ندعو إليه هو الباطل ، (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) في سموّ عظمته ، وفي سعة قدرته.

(* قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في نداء المعرفة الذي يريد أن يقتلع الجواب من الأعماق حيث ترقد حقائق العقيدة ، فمن هو الذي ينزل الماء من السماء فتصبح الأرض مخضرّة ، وتتحوّل أعماقها إلى ينابيع؟ ومن هو

٤٠