تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٦

التزاوج بين الروح والبدن في هذا الموعد.

(وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) فيتوفاها ، بنحو مؤقّت في حالة النوم ، فتتجمد الحياة بطريقة يفقد معها الإنسان الشعور مع بقاء التنفس ، وبهذا يكون النوم حالة وفاة كما هو الموت كذلك ، (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) فينقلها من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ، (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) لتأخذ بقيّة دورها في الحياة إلى أن يحين موعدها الأخير في هذه الحياة الدنيا ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يرصدون سنّة الله في الكون والإنسان فيتأملون فيها ليصلوا إلى النتائج الفكرية التي تصلهم بالحق في العقيدة بالله ، وتوحي لهم بأن الله وحده هو الذي يملك أمر الإنسان ، بما فيه حياته وموته.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) يتوسلون إليهم في قضاء حاجاتهم وحلّ مشاكلهم ، ونجاتهم من الهلاك ... (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً) لأنهم في موقع الحاجة إلى الله في كل شيء ، فلا يملكون إلّا ما ملّكهم ، (وَلا يَعْقِلُونَ) لأن تلك الأصنام لا تسمع ولا تعقل ، فكيف يمكن أن تستمع إليهم في ما يتحدثون به إليها ، أو يبتهلون فيه في أجواء عبادتهم لها. (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) فهو يملك الأمر كله في الكون وفي الإنسان في الدنيا والآخرة ، (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يتصرف بها كيف يشاء ، وذلك هو مظهر قدرته التي لا يدانيها أحد ، (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وتقفون أمامه لتقدموا حساب أعمالكم إليه ، وتواجهوا مصيركم من خلال حكمه العادل ، مما يفرض عليكم أن تفكروا في مسألة الإيمان به ، والارتباط به في خط الطاعة بطريقة أكثر جدّيّة ، وأن تقبلوا عليه بعقولكم ومشاعركم من موقع المحبّة والإخلاص.

ولكن المشكلة عندهم هي أنهم في غفلة عن الآخرة ، من خلال الأضاليل التي نفذت إلى عقولهم ، فأخلدوا إلى الأرض ، وارتبطوا بالمادّة ،

٣٤١

واستغرقوا في الحسّ ، فابتعدوا ـ بذلك ـ عن التفكير بالله في نطاق التفكير بقضية المصير ، واندفعوا في حالة من التخلف إلى آلهة الأرض ، وأصنام الكفر ، فآمنوا بها وأحبّوها ، والتزموا بها التزام الإيمان المنحرف ، والشعور المتخلّف (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) لأنهم لم يألفوا العظمة التي يمثلها اسمه ، والرحمة التي تفيض من لطفه ، والتوحيد الذي يتمثل في وعي معنى ذاته. وهكذا كانت قلوبهم مشغولة عنه بغيره ، حتى تحوّل ذلك إلى عقدة متأصّلة في شخصياتهم ، فأصبح ذكره ـ بوحدانيته ـ مثيرا للنفور والاشمئزاز وللمشاعر السلبيّة.

(وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) لأنهم عاشوا معهم في إحساسهم الذاتي ، وفي عاداتهم وتقاليدهم المتصلة بهؤلاء ، مما ورثوه من التاريخ المظلم في حياة الآباء والأجداد ، فأوجد ذلك نوعا من الألفة والعاطفة والشعور الإيجابي تجاههم. وبذلك تتحول الحالة الفكرية المضادّة أو الملائمة ، إلى حالة شعورية سلبية أو إيجابية ، في ما يأخذ به الناس أو يدعونه من خلال التصور أو الممارسة.

* * *

٣٤٢

الآيات

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٥٢)

* * *

معاني المفردات

(وَحاقَ بِهِمْ) : نزل بهم.

٣٤٣

(فِتْنَةٌ) : بلية.

* * *

الله يحكم بين العباد

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قل ـ يا محمد ـ في هذا الجوّ الموبوء بالجهل والتخلف ، المملوء بالغفلة والنسيان ، الذي يعيش أفراده في وحول الشرك والعصيان ، ويستغرقون في شهواتهم ، فلا يرتفعون إلى الآفاق الرحبة التي تفتح العقول على الله ، وتطهّر القلوب في روحيّة عبادته ... ، قل كلمتك الخاشعة المبتهلة المنفصلة عن كل هذه الكلمات ، البعيدة عن كل إيحاءاتها المتمرّدة ، ومداليلها المتخلّفة ، وانطلق في مناجاتك بالكلمات المؤمنة التي توحي بعظمة الله ، وتتحدث عن الحقيقة المتمثلة في سيطرة الله على الكون كله ، وفي حكمه على الخلق كلهم ، وتنادي الله بصفاته التي تملأ الروح الإنسانية بالمعاني التي تفتح آفاقها على العلاقة العميقة التي تشده إليه ، وهي علاقة أقوى صلابة وثباتا وامتدادا ، وذلك في موقع خلقه للسماوات والأرض ، وإبداعه لكل شيء فيهما ، وتدبيره للنظام الذي يتحرك في رحابهما ، ليستمعوا إلى هذه الصفة (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ويعيشوا معها إحساسهم بأن وجودهم مستمدّ منه ، وأنّ كل مفردات هذا الوجود التي تكفل لهم استمرار الحياة مخلوقة له خاضعة لإرادته ، ليفكروا به من خلال وجودهم في العمق ، ويستغرقوا في محبته من خلال استغراقهم الواعي في الإحساس بوجودهم المرتبط بوجود الكون كله في قدرته.

(عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أنت ـ يا ربنا ـ الذي تحيط بكل شيء من دون أن يغيب عنك شيء ، فأنت في الغيب ، كما أنت في الشهادة ، محيط بالأمر كله في عمقه وامتداده ، وفي كل السر المخفيّ فيه ، لأن الأشياء كلها حاضرة

٣٤٤

عندك ، لأنك أنت الخالق لها ، العالم بكل خفاياها التي قد تخفى عن بقية المخلوقات ، ولكنها لا تخفى عنك ... وهذا ما يجعلنا ـ يا رب ـ نحسّ بأننا مكشوفون أمامك بما نخفي أو نعلن من أقوالنا وأعمالنا وعلاقاتنا العامة والخاصة ، مما يثير فينا الشعور بأننا سنقف بين يديك لتكون الحكم في كل القضايا التي تختلف فيها في قضايا العقيدة والحياة ، فإذا كنا لا نصل إلى نتيجة حاسمة مرضية في ذلك في ما تثيره من حديث الحوار في هذه الخلافات ، لأن هناك من يتمرّد على الحق ، ويتنكر له من دون أساس ، على خط العناد المستكبر ... ولكن من هو الذي يستطيع أن يعاند حكمك في يوم القيامة؟ فهذه هي الحقيقة التي لا بد للإنسان من أن يعيش في أجوائها الروحية في كل أفكاره.

(أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيعرفون في مثل إشراقة النور أين يقف الحق في قناعاتهم وفي مواقفهم التي كانوا يقتنعون بها أو يمارسونها في الحياة الدنيا ، فينتهي كل الخلاف وتذوب كل الكلمات المعاندة أمام الحكم الحق الصادر من الله. ويقف المعاندون ليواجهوا استحقاقات المصير في عذاب الله وليحاولوا أن يجدوا أيّة فرصة للنجاة منه ، في هذا الموقف الصعب الذي تضيق فيه كل الفرص ، (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والشرك ، وتمرّدوا على الله بعصيانهم لأوامره ونواهيه ، (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) مما يفدي الناس به أنفسهم ، بسبب ما قاموا به من عدوان على بعضهم البعض ، معرّضين أنفسهم بذلك للحكم بالهلاك ، وقد حاولوا في الدنيا أن يلجأوا إلى المال ليكون عوضا عن أنفسهم ، نتيجة الحق الذي أضاعوه ... وهكذا قد يفكر هؤلاء ، فيخيّل إليهم أن الدنيا تشبه الآخرة في ذلك ، وأن الموقف مع الله هو كالموقف مع الناس ، فيتمنون أن يكون لهم ما في الأرض جميعا باعتبار أن حجم المبلغ الذي يقدم إلى الله لا بد من أن يكون كبيرا ، فلو كان لديهم ذلك ، (لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ولكن

٣٤٥

ما قيمة ذلك أمام الله ، وما أسخف هذا التفكير ، ولكنها الحالة النفسية الخائفة القلقة التي يحاصرها هذا الواقع فتلجأ إلى أي شيء حتى الوهم ، لتفتدي به من العذاب ، بعيدا عما إذا كان ذلك ممكنا أو غير ممكن ، معقولا أو غير معقول.

(وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ) من العذاب (ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) لأنهم كانوا في غفلة عن قدرة الله ، وعن حجم عقابه ، مما جعلهم لا يستعدّون لهذا الموقف ، (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) بفعل ما ظهر لهم من النتائج الصعبة القاسية التي تأكل كل ما حصلوا عليه من لذات وشهوات وامتيازات كانوا يعيشونها في الدنيا ، (وَحاقَ بِهِمْ) من العذاب الشديد في نار جهنم ، (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) عند ما كان الأنبياء يحذرونهم لقاء يومهم هذا ، وما فيه من عقاب.

ولعلّ مشكلة الإنسان أنه لا يفكر في قضاياه إلا من خلال اللحظة التي يعيش في داخلها ، فلا يتعاطى معها انطلاقا من المعطيات الحقيقية التي تنفذ إلى داخلها في العمق العميق من الحياة ، وهذا ما صوّره الله في القرآن في أكثر من آية ، كما صوّره في هذه الآية. (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) وهذه هي الحالة الطبيعية التي يعيشها الإنسان في حياته ، في حجم الظاهرة المتكررة مع الكثيرين من أفراده ، فقد يلاحظ المتتبع للسلوك الإنساني أنه قد يختلف في علاقته بالله ونظرته إليه وإلى نفسه ، بين حالة وحالة ، فإذا عرض له المرض أو الفقر أو الخوف ، أو غير ذلك من الأوضاع التي تمثل جانبا من جوانب النقص المادي والمعنوي في حياته الخاصة ، أو غرق في أزماته النفسية من الداخل والخارج ، فإنه يلجأ إلى الله ، ليعيش مع الوجدان الإيماني الذي يبحث فيه الإنسان عن ربه ليبتهل إليه ويخضع له ، ويتوسل إليه في إنقاذه من الواقع السيّئ القلق المهتز الذي يعيش فيه. وتبقى العلاقة بالله مرتبطة بالحاجة إليه ، في الجانب الحسي المباشر في حركة الشعور. ويبقى الشعور بالعبودية المنسحقة أمام الربوبية المطلقة محدودا في هذه الدائرة ، فإذا تبدّل الوضع إلى وضع أفضل وجاءت النعم

٣٤٦

الإلهية لتغمر كل حياته ، وابتعدت الأزمات عن الداخل النفسي ، وعن الواقع الخارجي ، واستراح للغنى بعد الفقر ، وللصحة بعد المرض ، وللأمن بعد الخوف ، وللعلوّ بعد الانحطاط ، نسي ربّه وفضله عليه ، وحركة نعمته في وجوده وفي امتداد حياته ، واستغرق في ذاته ، في العنصر المباشر من حركتها ، وفي الطاقات البارزة في حركته ، فأصبح يتحدث عن هذه النعم الكثيرة التي تملأ كل وجوده ، من خلال الميزة الشخصية التي يملكها ، فيعيد الفضل إلى ما يملكه من علم وخبرة وقوّة وحسن إدارة وذكاء وشطارة ونحو ذلك ، فلا دخل لله بنظره في ذلك ، ولا حاجة به إليه ، بل هو التفوق الذاتي في كل شيء.

ولكنها الغفلة عن الحقيقة الكامنة في عمق الأشياء ، فإنه لا يملك شيئا إلا ما أعطاه الله إياه بشكل مباشر أو غير مباشر ، ولم تكن هذه العطايا امتيازا من الله له ، (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) في ما يفتن الله به عباده ، ويمتحنهم ويختبر إيمانهم ، وهو العالم به ، ليظهر جوهره في أنفسهم وأمام الناس. إن ما يجدونه من السعة والجاه والقوّة يخيّل لهم أنهم يملكونه بأنفسهم ولا يحتاجون إلى الله إلا من عصمه الله منهم ، فكان واعيا للمسألة في عمقها الواقعي ، وفي معناها الإلهي ، مما يجعل من الإنسان عارفا بحاجته إلى الله في كل شيء ، وأنه لا يقدر على أيّ أمر إلا ما أقدره الله عليه في كل قضاياه وقدراته الخاصة والعامة ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم يرتبطون بالجانب الحسي المباشر بالأمور ، ولا يلتفتون إلى ما تحت السطح ، أو في آفاق الغيب ، ليعرفوا أن الله وراء ذلك كله.

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الذين رزقهم الله من مال وجاه وقوّة ، فقالوا إنهم حصلوا عليها من خلال أنفسهم في طاقاتها الذاتية ، (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من هذه الأشياء التي اكتسبوها بقوتهم ـ كما يرون ـ ولم تفدهم كل هذه القوّة ، لأنها لا تمثل أيّة قيمة مستقلة قادرة أمام الله ، فهي من بعض نعمه ، كما أنهم من بعض مخلوقاته.

٣٤٧

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) من أعمال خبيثة وأقوال سيئة وعلاقات منحرفة ونحو ذلك. (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) الذين واجهوك بالعناد والشرك والضلال ، لن يكون مصيرهم مختلفا عن مصير من سبقهم من أولئك. (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) وسيدخلهم الله في دار عذابه ليذوقوا جزاء أعمالهم السيئة. (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) لله في ما يريد أن يؤاخذهم به من العذاب الشديد.

(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فهو الذي يسهّل من أسباب الرزق التي قد تضيق ، وقد تتسع ، لأن حركة الإنسان في الرزق ليست مربوطة بذاتيته المستقلة ، بل هي مربوطة بالتقدير الإلهي الذي جعل لكل شيء قدرا في نطاق علاقة الناس بالواقع المادي في الحياة ، ومن خلال علاقتهم بالأشياء المحيطة بهم ، أو الأشخاص الذين يتحركون معهم. وهذا ما يجب أن يفهموه ليعرفوا أن الله هو الذي يفعل ذلك كله ، لأنه السبب الأعمق للوجود في طبيعته وامتداده ومفرداته. ولو كانت المسألة تابعة للإنسان ، لكانت النتائج كلها في مصلحته ، ولكنها يصطدم بالكثير من القضايا التي تمنعه من الوصول إلى ما يريد مما لا يستطيع مقاومته ، ولا السيطرة عليه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأن الإيمان هو الذي يفسر كثيرا من حقائق الحياة تفسيرا معقولا ، وهو الذي يستلهم من الواقع ، ما يستطيع عبره أن يقوّي إيمانه ، وذلك بفعل ما يغذي به روحه من المفردات الحيّة التي تدعمه بكل قوّة.

* * *

٣٤٨

الآيات

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦١)

* * *

٣٤٩

معاني المفردات

(تَقْنَطُوا) : القنوط : اليأس.

(مَثْوىً) : المقام.

(بِمَفازَتِهِمْ) : المفازة : النجاة.

* * *

(إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)

وهذا نداء من الله الرحمن الرحيم ، لعباده الخاطئين الذين توغّلوا في الخطيئة ، لئلا يستسلموا لليأس ، وأن لا يبتعدوا كثيرا عنه ، وأن يفكروا في مواقفهم على أساس تصحيح الانحراف بالطريقة التي يرجعون بها إلى الله في خطّ عمليّ يلتقون فيه بخط الاستقامة في رحمة الله ومغفرته ... وهو النداء الحميم الذي ينفذ إلى أرواحهم ومشاعرهم ليهزّها بالأمل الكبير ليستيقظ فيها الإحساس ـ من جديد ـ بالله في التفاتة روحية حميمة وفي عودة إلى طاعته في مواقع رضاه ، وهذا ما يشعرهم بأن الله يلاحق خطاياهم بالرحمة والمغفرة عند ما يعودون إليه ، كما يلاحقها بالعقوبة والشدّة عند ما يصرّون على التمرّد عليه ... ثم يضع لهم الشروط العملية للإخلاص بالتوبة ، لئلا تكون مجرّد حالة شعوريّة كلامية ، بل تكون نهجا فكريّا وعمليّا في حركة الشخصية الإنسانية التي تريد اللقاء بالله بقوّة وإخلاص ، في آفاق التغيير من الجذور.

(* قُلْ) يا محمد ، لهؤلاء الخاطئين الذين عاشوا في أوحال الخطيئة

٣٥٠

حتى كادوا أن يغرقوا فيها ، وابتعدوا عن الخط المستقيم حتى أوشكوا أن يستسلموا للضياع في متاهات الكفر والضلال ... ، قل لهم كلمة الرحمة والمغفرة والحنان التي تحتوي كل مشاعرهم وتطلّعاتهم في الحياة : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) وتجاوزوا الحدود ، واستسلموا لليأس (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) في الحياة ، لتعيشوا في إيحاء يائس بأن الوقت قد فات ، فلا مجال للعودة إلى الله ، لأن المسألة قد بلغت في التمرد والخطيئة مبلغا لا يستطيع الإنسان فيه أن يواجه الله بالتوبة ، لكن الذنب مع الله يختلف عن الذنب مع الناس ، فقد يتعقد الناس من الذنوب التي يفعلها بعضهم ضد بعض ، فيحملون في داخل نفوسهم الحقد والأذى إلى المستوى الكبير الذي لا يسمح بقبول التوبة من المذنب ، أو العفو عنه ، لأن الحالة النفسية المعقّدة قد بلغت من التعاظم حدّا كبيرا من التعقيد أحاط بالشخصية كلها ... أما الذنب أمام الله ، فلا يترك أيّ تأثير في ذاته المقدسة في مواقع التعقيد ، لأنه أعظم من ذلك ، فهو الله الّذي لا تقترب الانفعالات من عظمته ، ولا يعرف الحقد مكانا في مواقع قدسه ، بل كل ما هناك ، أنه يغضب على المذنبين بالمعنى العملي للحالة الغضبية الذي يبقى ويزول تبعا للحكمة التي يراها في ذلك ، ولهذا فإن هناك واقعية أكيدة لمسألة التجاوز عن العقوبة في حركة المغفرة للذنب ، والرحمة للشخص على أساس ما يعرفه الله من المعاني الطيبة الكامنة في نفسه ، أو على أساس ملاحظة الظروف الضاغطة في طبيعة النوازع الذاتية أو في عمق الحركة المنطلقة من لهب الغريزة الحارّة ، أو على أساس إفساح المجال للإنسان ليعيد النظر في التمرّد على سلبيّات تاريخه من أجل بداية جديدة لحركة إيمانية جديدة. وهكذا تنطلق القضية من مواقع المغفرة الواسعة والرحمة الشاملة في ما يتسع منهما للإنسان كله ، تبعا لما يعلمه الله من الحكمة في ذلك ، على مستوى قضية الشخص أو قضية الحياة.

(إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) للتائبين من ذنوبهم ، فإن الظاهر أنّ الآية

٣٥١

تتحدث عن سعة المغفرة على أساس الدعوة إلى التوبة التي يعود فيها الناس إلى ربّهم ، وبذلك يكون جوّ الآية قرينة على هذا التقييد ، فلا ينافي مضمونها الشامل للذنوب جميعا ما جاء في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨] فإن الظاهر أن المراد في تلك الآية ، نفي المغفرة من دون توبة ، لأن المعروف أن التوبة تشمل الذنوب جميعا حتى الشرك ، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الذي سبقت رحمته غضبه ، مما يفسح المجال لعباده أن يتطلعوا إليها في الرغبة بالغفران لذنوبهم ، بحيث لا يشعرون باليأس من خطورة ذنوبهم التي وصلوا بها إلى الحدّ الذي تجاوزوا فيه كل الحدود.

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) وارجعوا إليه بالابتعاد عن الآلهة المزعومين الذين ارتبطتم بهم من دون الله ، سواء بالعبادة الخاضعة لهم في عمق النفس المنسحقة أمامهم ، أو بالالتزام والطاعة لكل أوامرهم أو نواهيهم ، أو لكل ما تفرضه الخطوط العامة التي تتمثل في المضمون الوثني للعقيدة ، (وَأَسْلِمُوا لَهُ) في الشعور المنفتح على آفاق عظمته ، بالتسليم المطلق الذي لا يجد معه الإنسان أيّ موقع لإرادته أمام إرادة الله ، فلا يريد الإنسان شيئا إلا حيث يريد الله ، ولا يريد ما لا يريده ... كخطّ في الالتزام والحركة ، فذلك هو الطريق إلى الخلاص الذي لا بد للإنسان من أن يبادر بالسير عليه ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) الذي هو النتيجة الطبيعية للإصرار على الذنوب التي سيواجه الإنسان نتيجتها بعد الموت ، (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) لأن الله هو الذي يعاقب هؤلاء ، فليس هناك أحد ينصرهم أمام الله.

* * *

٣٥٢

(اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن الذي يشتمل على الشريعة المميّزة التي جمعت خلاصة الشرائع ، والعناصر التي تمثل الخط الأحسن الذي تحركت فيه الرسالة ، مما يضمن للإنسان سعادة الدنيا والآخرة ، وصلاح حياته وأمره. وهذا الذي يريده الله من التائبين من عباده ، بأن تتحول توبتهم إلى واقع حيّ إيجابيّ متحرك في تصحيح مسيرة الإنسان نحو الله بالالتزام بالمفردات الشرعية في كل قضاياه ، فلا يكتفوا بالجانب النفسي الذي يمثل الالتزام الروحي بالرفض للماضي الأسود والندم عليه ، لأن البرهان العملي على صدق التوبة ، يتمثل بالتقاء الجانب الشعوري بالجانب العملي (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) عند ما يأتيكم الموت فجأة لتواجهوا من خلاله العذاب الذي تستحقونه إذا لم تلتزموا باتباع القرآن في مفاهيمه وتعاليمه ومناهجه في حركة الإنسان والحياة.

وربما كان وصف القرآن بكونه (أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) بالمقارنة مع الكتب المنزلة الأخرى السابقة عليه ، باعتبار أنه جامع لخلاصات الأفكار العامة فيها مع زيادة اقتضتها الحكمة ، والله العالم.

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) أي لئلا تقول نفس لم تلتزم بالخط الإيماني المرتبط بالله ، كلمات الحسرة على التفريط والتقصير في جانب الله ، في ما يفرضه أمره ونهيه من السلوك المستقيم الذي يؤدّي إلى الله ، لا سيما إذا واجهت الموقف الصعب الذي يجعلها تتذكر الماضي الأسود الساخر من الإيمان والمؤمنين ، والسخرية فرضتها حالة الكبرياء التي تختزن الكفر في داخلها ، وتحمل الظلام في عيونها ... فتتساءل كيف فعلت ما فعلت (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) الذين يواجهون الرسالة بمنطق السخرية ، لا بمنطق العقل المفكر الذي يبحث عن الحقيقة في نداء الرسالة.

٣٥٣

(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) في عقلية متخلّفة منغلقة تضع في حسابها أن الهداية عمليّة يثيرها الله في عمق الشخصية بالطريقة التكوينيّة التي تخلق الهداية في الكيان ، كما تخلق السمع والبصر ونحوهما في الجسد ، فكأن المسألة عندهم مسألة المشيئة الإلهية التي لم تشأ لهم الهداية ، لا مسألة الاختيار الذاتي السيّئ الذي مارسوه من خلال انفعالاتهم الخاصة ، فمنعهم من التحرك في خط التقوى في الفكر والعمل.

(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في عودة إلى أجواء التمنيات غير الواقعية ، عند ما يواجهون الاستحقاق المصيري المتعلّق بدخولهم في النار

انطلاقا من أعمالهم السيّئة ، أو عقائدهم الفاسدة ، فيتحدثون عن إمكانية الرجوع إلى الدنيا ، ليحسنوا الفكر والنهج والعمل ، حتى يتفادوا هذا المصير الشقيّ الأسود. ولكن الله يرد عليهم في مسألة الهداية التي يعتبرونها أمرا إلهيّا لم تتعلق مشيئة الله بحصولهم عليه ، ليعرفهم أنها ليست حالة قهريّة تكوينيّة ، بل هي حالة اختياريّة خاضعة للإمكانات والمعطيات التي يقدّمها الله للإنسان ليهتدي بها من موقع الحسّ الذي يهيّئ المفردات ، والفكر الذي يحرّكها في اتجاه النتائج الفكرية التي تقود إلى الإيمان العميق بالله ، والوحي الذي يوجه الحس والفكر نحو المنهج الصحيح.

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) التي تحدّد لك علامات الهدى المنفتح على الله من أوسع الأبواب وأرحب الآفاق ، (فَكَذَّبْتَ بِها) من دون حجّة ولا برهان ، (وَاسْتَكْبَرْتَ) فمنعتك الكبرياء الذاتية المعقدة عن الخضوع للحقّ النازل من الله ، بالوحي الذي يحمله الرسل ليهتدي به الناس ، لأنك رأيت نفسك فوق مستوى استلهام الهدى من غير ذاتك ، (وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) لما يحققه الكفر لك من مواقع الاستعلاء ، وطبقية الامتيازات ، وشهوانية اللذات.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) فنسبوا إليه الشريك والولد ونحو

٣٥٤

ذلك مما ابتدعوه من بدع وأضاليل في الدين (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) من خلال سواد أعمالهم التي تنعكس على مواقعهم في الآخرة ذلا وسقوطا وانحطاطا ، (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) الذين تحوّلت الكبرياء لديهم إلى عقدة مستعصية تأكل الإيمان كله ، والخير بأجمعه في داخل نفوسهم وخارجها ، وبهذا تتحول إلى مشكلة في مستقبل المصير لديهم ، بدلا من أن تكون حلّا لهم في ما يخيّل إليهم من معنى العلوّ والعزّة ، وما إلى ذلك من المعاني التي ترفع مستواهم أمام الناس ، فإذا بهم يحترقون في نار جهنم ، وتحترق كل امتيازاتهم الطبقية هناك.

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) فهم فازوا بالنعيم الخالد والرضوان العظيم ، (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) من أي موقع من مواقع السوء ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لأنهم لا يعيشون الحرمان مما تشتهيه النفس وتستلذه الروح ، ليكون ذلك أساسا للحزن ، بل يعيشون بدلا من ذلك الامتلاء الروحي بالفرح الكبير الذي يتحرك من خلال ما يتوفر لهم من كل ما تشتهيه الأنفس وتلذّ به الأعين ، وما تتطلبه الروح من المتع الروحية في دار النعيم.

* * *

٣٥٥

الآيات

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ(٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٦٧)

* * *

معاني المفردات

(مَقالِيدُ) : مفاتيح.

(بِيَمِينِهِ) : بقدرته.

* * *

٣٥٦

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)

إنه التوحيد الذي يركّز القرآن عليه كل اهتماماته في إثارة الفكر الإنساني نحوه بمختلف الأساليب الروحية والفكرية ، ويجعل المصير مرتبطا بالانسجام معه والابتعاد عنه ، إيجابا وسلبا.

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فهو الذي ينتهي إليه وجود الأشياء كلها (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) لأن ذلك معنى ملكيته لما خلق ، مما يجعله وحده المهيمن على تدبير كل شؤونه ورعايتها في ما تحتاج في خصائصها وحركتها الداخلية والخارجية.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والمقاليد ـ كما قيل ـ مفاتيحها ، وهي كناية عن كل خزائنها التي تشتمل على غيب الكون كله بما يتصل بالنظام الكوني في ظواهره وخفاياه ، وفي امتداد وجوداته ، فهو المهيمن على ذلك كله ، وهو الذي يعطي من يشاء منه ما يكفل له الربح والفوز في الدنيا والآخرة ، وهم المؤمنون الذين ارتبطوا به في مواقع العقيدة والطاعة والعبادة. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم الذين انقطعوا عن الله ، فلم يرتبطوا به بأيّة رابطة من قريب أو من بعيد ، ولم يقتربوا من مواقع رحمته ومغفرته ، بل ابتعدوا عنها بكفرهم وتمرّدهم ، فخسروا الدنيا والآخرة.

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) في ما تدعونني إليه من عبادة الأصنام والأشخاص الذين لا يملكون من الحياة ومن إدارة شؤونها شيئا ، بل لا يملكون أنفسهم ولا يستطيعون لها نفعا ولا ضرّا ... فكيف تتحركون معي في هذا الاتجاه ، وما هو الأساس في ذلك (أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) بحقائق الكون والعقيدة الذين تبتعدون عن عمق التوحيد في طهارة الفكر في حركته ، لتغرقوا في وحول الشرك وأوساخه؟؟!

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) من الأنبياء الذين كانت دعوتهم كما

٣٥٧

كانت دعوتك إلى الناس أن يعبدوا الله وحده وأن يتّقوه في كل أفعالهم وأقوالهم ، ليكون التوحيد هو المنطلق وهو الهدف الكبير لحياتهم ، (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) لأن القاعدة إذا اهتزت أو سقطت فلن يبقى هناك شيء من الأعمال المرتكزة عليها ، إذ لا قيمة لأيّ عمل لم يرتبط بالله الواحد ، فبالتوحيد ترتبط الأعمال بالله ، (وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين لا يحصلون من جهدهم على شيء ، بعد فقدانهم لروحه ومعناه (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) ولا تعبد معه أحدا غيره (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الذين يشكرونه بالقول والعمل في خط الطاعة.

* * *

كيف نفهم خطاب الله للأنبياء عن إحباط أعمالهم؟

وقد يثأر هنا سؤال : كيف يمكن أن يوجّه الخطاب للنبي ولغيره من الأنبياء بهذه الطريقة ، في الوقت الذي لا يتصور فيه أحد ، أن يصدر منهم أيّ نوع من أنواع الشرك ، لأن صفاء نفوسهم ، وعمق إخلاصهم ، وصدق يقينهم ، يمنع أيّة حالة من حالات الاهتزاز في عقيدتهم ، فكيف يمكن أن يطوف في خيالهم الشرك كفكرة للعقيدة؟

والجواب عن ذلك : إن الأسلوب القرآني يؤكد على قيمة العقيدة من حيث علاقتها بالمصير الإنساني عند الله بمختلف الأساليب ، ولعلّ الحديث مع الأنبياء عن إحباط أعمالهم في حالة التزامهم بالشرك ، يمثل أسلوبا متقدما في هذا الاتجاه ، على أساس أن القضية التوحيدية ، لا تخضع للتمييز بين شخص وآخر ، بما فيهم الأنبياء. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن النبيّ خاضع للأوامر والنواهي الصادرة من الله ، في تكليفه العقيديّ والشرعيّ ، إذ لا فرق بينه وبين الآخرين من موقع بشريّته التي تفرض عليه الالتزام بالمبادئ العقيدية والشرعية العامة والخاصة ، تماما كما يدعو الناس إليها ، وإذا كان النبي

٣٥٨

معصوما ، فإن العصمة لا تمنع من توجيه الخطاب إليه ، لأنها تعني امتناع صدور المعصية منه ، وهذا مما لا يتنافى مع التكليف ، ما دامت العصمة لا تتنافى مع الاختيار ، كما ذكره الباحثون في حديث العصمة.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) في ما تصوروه في آفاق ذاته المقدّسة من إمكانية وجود شريك ، أو ولد له ، في التأثير على إرادته من خلال بعض المقربين منه ، مما يجعله محدود القدرة ، وذلك بسبب ما يعيشونه من التخلف في التصور الذي يربط القضايا الغيبية في العقيدة ، بالقضايا الحسّية في الحياة ، من دون أن يتعمقوا في مواضع قدرة الله وآفاق عظمته.

(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً) بكل سهولها وجبالها وبحارها وأنهارها وسطوحها وأعماقها ، وكل ما فيها من إنسان وحيوان ونبات وجماد (قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي داخلة في قبضته ، تماما كما يسيطر الشخص بقبضة يده على ما في داخلها ، وذلك على سبيل الكناية في التعبير عن السيطرة التامة الشاملة ، (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) يحركها كيف يشاء ويدبّرها كما يريد ، وذلك على نحو الكناية عن قدرته على التصرف بها تماما كالقدرة على ما يكون مطويّا باليمين ، (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) مما ينسبونه إليه من أصنام وأشخاص وظواهر كونية ، تتمتع بقدرة وتدبير ومشاركة في إدارة شؤون العالم.

* * *

٣٥٩

الآيات

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٧٥)

* * *

٣٦٠