تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٦

هذا الأمر غير وارد في عمق العقيدة ، لأن النبوّة لا معنى لها في ذات الله ، فهي تعبّر عن الحاجة والتجسّد واشتراك الولد في بعض صفات الرب (سُبْحانَهُ) فهو المتعالي في عظمته ، والمنزّه عن هذه الأمور ، فليس لأحد أن ينسب إليه ذلك لأنه (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) الذي لا يشاركه أحد في صفاته ، فهو الواحد في ذاته ، وصفاته التي تمثل الوحدة من الذات ، هي عين ذاته ، والذي يقهر بقوته كل شيء ، فلا حاجة به إلى أحد ، في دائرة الشريك أو في دائرة الولد. وهكذا يجري أسلوب الآية ليطرح المسألة بالأسلوب الجدليّ ، الذي لا حقيقة له لامتناعه في طبيعته ، لأن الألوهية المطلقة لا تتناسب مع هذه التصورات.

وقد يخطر بالبال أن يكون المعنى جاريا على نفي الولد بالتأكيد على أن كل شيء مخلوق له ومنفعل به ، وليس ـ هو ـ منفعلا بأيّ شيء في ما تقتضيه الولدية من انفعال الأب بالولد ، من ناحية جسدية ، أو من ناحية عاطفية ، فهو منفصل عن كل مخلوقاته ، فإذا أراد اصطفاء أحد وتكريمه وتقريبه إليه لحكمة يراها في علمه ، فإنه يصطفيه ممن يشاء من خلقه ، فيمن يخلقه منهم ، لا من خلال والديّته له بأيّ معنى كانت النسبة المذكورة.

ولعلّ الأساس في هذا الاحتمال في معنى الآية ، هو أن هناك اختلافا بين معنى الولد وبين معنى الاصطفاء من مخلوقاته ، مما لا يجعل الجزاء متناسبا مع الشرط ، لأنه لا يصلح أن يكون نتيجة له ومسببا عنه ، فلا بد من أن يكون هناك نوع من تصوير الامتناع في ذلك في سياق الكلمة والتركيز على جانب الاصطفاء كبديل له وربما كان هذا الاحتمال هو الذي أراده صاحب تفسير الكشاف بقوله : «يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصح لكونه محالا ، ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضهم ، ويختصهم ويقرّبهم كما يختص الرجل ولده ويقرّبه ، وقد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به وغرّكم اختصاصه إياهم ، فزعمتم أنهم أولاده جهلا منكم به وبحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام

٣٠١

والأعراض. كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه ، وهم الملائكة ، إلّا أنكم لجهلكم به ، حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا ، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم ، فجعلتموهم بنات ، فكنتم كذابين كفارا مبالغين في الافتراء على الله وملائكته غالين في الكفر» (١) والله العالم.

* * *

خلق السماوات والأرض بالحق

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) فليس هناك أي عبث في كل تفاصيل وجودهما ، وليس هناك باطل في كل عمقهما التكويني ، بل هو السر الذي يمثل المعنى الكامل في الخلق في ما يتضمنه من حكمة تجعل لكل منهما دورا في حركة الكون وموقعا في دائرة نظامه. ومن هنا ، كان الباحثون الذين يرصدون ظواهرهما الكونية ، يختزنون في أنفسهم بأن لكل ظاهرة قانونا طبيعيا يسيرهما في كل شؤونهما. مما يجعلهم يبحثون عنه في خصوصيته ، لا في أصل وجوده ، من دون فارق بين الكافر والمؤمن ، لأن ذلك ظاهر في الحركة الكونية التي تتمثل في وجودهما ، من دون حاجة الى استدلال عليه.

(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي يطرح هذا على هذا فيدخله فيه ، فينقص منه ، ويطرح ذاك على ذاك فيترك مثل هذا التأثير فيه .. وهكذا يتحركان باستمرار ، فلا يلغي أحدهما الآخر ، ليقوما بتنظيم الحياة في الآفاق التي يتحركان فيها في تحديد الزمن الذي يخضع له حركة الأشياء. وقد تحدث سيد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن» عن هذه الفقرة من الآية ، فاستوحى من كلمة يكوّر التي توحي بمعنى الكرة ، كروية الأرض باعتبار أن

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ٣ ، ص : ٣٧٨.

٣٠٢

الليل والنهار تابعان لها فقال : «إن التعبير بيكوّر يقسرني قسرا على النظر في موضوع كروية الأرض».

إنها تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ، فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكوّر يغمره الضوء ويكون نهارا ، ولكن هذا الجزء لا يثبت ، لأن الأرض تدور وكلما تحرّكت بدأ الليل يغمر سطح الأرض الذي كان عليه النهار ، وهذا السطح مكوّر فالنهار عليه يكون مكوّرا ، والليل يتبعه مكوّرا ، وهكذا في حركة دائبة.

وهذا الاستيحاء طريف ، ولكن لا ظهور للفظ فيه ، لأن الظاهر أن مساقهما هو «مساق» (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الحج : ٦١] ذلك ولا تسمح نسبة التكوير إلى الليل والنهار ، بإضافتها إلى الأرض.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) في ما جعله الله لهما من قانون يحدّد حركتهما المادية والمعنوية ، ودوائرهما التي يسبحان فيها في نطاق الحدود الزمنية التي تنتهي إليها الحركة ، أو ينتهي إليها الوجود ، ليكون وجودهما المتحرك مؤثرا في حركة النظام الكوني في الأرض ، من جهة استمرار الحياة عليها ، ومن جهة بعض المؤثرات الأخرى ، التي لولاها لما كان هناك نظام متوازن يسمح للموجودات الحية أو النامية بالحياة ، (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) الذي يحفظ الكون بقوّته التي تحتوي عزته ويرحم الإنسان الذي قد يخطئ في القيام بمسؤوليته ، فيغفر له.

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وهي ـ على ما يظهر ـ آدم أبو البشر الذي كان الأصل في بداية الوجود الإنساني ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) وهي حواء ، حيث يتكامل الوجود عبر الامتداد في عملية التناسل التي أودع الله فيها قانون الامتداد الإنساني في الأرض بما يمثل الوحدة في التنوع.

٣٠٣

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) وهي الإبل والبقر والضأن والمعز التي تنقسم إلى الذكر والأنثى فتكون ثمانية.

وقال صاحب الميزان : «وتسمية خلق للأنعام إنزالا لها ، باعتبار أنه تعالى يسمي ظهور الأشياء في الكون بعد ما لم يكن إنزالا من خزائنه التي هي عنده ومن الغيب إلى الشهادة. قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر: ٢١](١).

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) في ما يتطور به النمو الإنساني من نطفة إلى علقة إلى مضغة وهكذا ، (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) وهي ظلمة البطن والرحم والمشيمة ، في ما قيل ، وجاءت به الرواية عن الإمام الباقر عليه‌السلام.

وهذه الظواهر الكونية ، ممثلة في خلق الكون ، والإنسانية ، ممثلة في وجود الإنسان ، تشكّل للمتأمل بما فيها من إبداع الخلق وحكمة التدبير ، الدليل الفطري الذي ينطلق به الوجدان على وجود الله ، لأن ذلك هو التفسير الوحيد لطبيعة الوجود وإبداعه.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) فانظروا إليه في رحاب خلقه في الكون ، واقرأوه في كتاب الوجود. (لَهُ الْمُلْكُ) فهو الذي يملك الأمر كله من خلال أنه خلق الوجود كله. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لأن من عداه مخلوق له محتاج إليه ، خاضع في كل تفاصيل وجوده لتدبيره ، فكيف يكون شريكا له ، وكيف يكون ربا للمخلوق الذي يمثله في خصائصه العامة في الوجود والحاجة. (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) وتنتقلون بعقولكم وأفكاركم من الحق إلى الباطل ومن عبادته إلى عبادة غيره من دون معنى ولا أساس.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٧ ، ص : ٢٣٩.

٣٠٤

الآيتان

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُور(٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ)(٨)

* * *

معاني المفردات

(وِزْرَ) : الوزر : الذنب.

(خَوَّلَهُ) : أعطاه.

* * *

الله غني عن عباده

(إِنْ تَكْفُرُوا) بعد ظهور كل الدلائل على مضمون الإيمان المنفتح على

٣٠٥

الله في وحدانية وجوده وتدبيره وقدرته المطلقة على الكون كله ، (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) فلن ينقص من ملكه شيء بكفركم ، لأن مسألة الكفر والإيمان تتصل بالحاجة الإنسانية إلى الارتباط بالله ، والوعي لربوبيته في حركة الطاعة ، تماما كما هو الارتباط في طبيعة الوجود ، ليتكامل للإنسان نظامه التشريعي في معنى المسؤولية في وحي الله ، إلى جانب نظامه التكويني ، في معنى حركته الوجودية في تدبير الله.

(وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) لأن الكفر يسيء إلى حياتهم حيث التصور الباطل لمضمون الكفر ينحرف بالإنسان عن خط التوازن ونهج الاستقامة في الحياة ، مما يبعد به عن مصلحته الحقيقية التي ترتبط بالاقتراب من الله ، والسير على خط هداه.

(وَإِنْ تَشْكُرُوا) بما يمثله الشكر من الإيمان بالله والطاعة له ، (يَرْضَهُ لَكُمْ) لأنه الرحيم الذي يريد لكم أن تشكروه ليكون ذلك أساسا لرضاه عنكم ورحمته بكم ولاستقامة أموركم في الدنيا والآخرة. وبذلك تكون مسألة الكفر والشكر مسألة الإنسان في حاجته إلى ذلك ، وفي رضى الله عنه أو عدم رضاه.

* * *

المسؤولية عن الأعمال فردية

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فلا يحمل إنسان عبء غيره في دائرة المسؤولية الجزائية عند الله ، لأن المسؤولية في العقيدة الإسلامية فردية ، فلا يتحمل الإنسان إلا عمله ، ولا علاقة له بعمل غيره إلّا بقدر صلته به من ناحية التسبيب والتأثير ، (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في ما أحصاه الله في علمه ، ليواجهكم بالحقيقة الكاملة التي تواجهون بها نتائج

٣٠٦

المسؤولية (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) لأنه يعلم كل شيء ويعلم من خفايا الإنسان ما لا يعلمه من نفسه.

* * *

الإيمان بين الانفعال والثبات

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) بفعل شعوره بالحاجة التي تحاصره من كل مكان ، وعجزه عن حلّ مشاكله الخاصة أو العامة ، فيرجع إلى الله مبتهلا إليه في إخلاص عميق طارئ يستغرق فيه ، ليشهد الله على قلبه بإخلاصه له (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) لأن الإنسان الذي لا يعيش في داخله الإيمان العميق بالله ، يرتبط باللحظة الحاضرة من موقع الانفعال الذي تثيره الأوضاع الطارئة ، فإذا زالت قساوة الأوضاع وزال الانفعال المتوتر من داخله ... وهذا هو الفرق بين المؤمن الواعي الذي ينطلق إيمانه من عمق الفكر والمعاناة ، وبين المؤمن المنفعل الذي يخضع في حركة إيمانه للحاجة الطارئة ، فيعيش الأول حضور الله في شخصيته باستمرار ، بينما يعيش الآخر العقيدة بالله في حالة انفعالية سريعة تبدو ثم تزول. ولهذا فإنه يستغرق في أجواء الحس ، ويستمد شعوره من الانفعال بالعظمة البارزة للآخرين من حوله ، وللأسرار المزعومة الموهومة للأشياء المحيطة به ، فتتضخم تصوراته وتنحرف ليتخذ من ذلك كله آلهة من دون الله ، وليتحرك من أجل أن يربط الناس بها ، وهذا هو واقعه الضالّ ، في ما استغرق فيه من شهوات الحس ، (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) مستغلا في ذلك بلاغة كلامه ، وحلاوة منطقة ، وقوّة موقعه ، وكثرة أولاده وأتباعه للتأثير على الناس الذين ينفعلون بهذه الأمور ، في غياب الوعي الفكريّ الناقد والشخصية

٣٠٧

المستقلة القويّة فيستسلمون للضلال ، ويبتعدون عن طريق الله.

(قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) قل له ـ يا محمد ـ وليقل له العاملون من بعدك ، من الموقع الذي يفكر فيه في دائرة الكفر التي يتحرك ضمنها ، وهو الاستمتاع بالحرية المنفلتة غير المسؤولة حيث يمارس شهواته ولذّاته ، ويسعى لتحقيق امتيازاته الطبقية وغير الطبقية من خلال الذين ينتفعون منه ، أو ينتفع بهم ، فهو إنسان يطلب المتعة ولا يطلب الرسالة ، ويفكر بالدنيا ولا يفكر بالآخرة ، ويلتفت إلى الناس ولا يلتفت إلى الله.

قل له تمتع بكفرك الذي كنت تجد في نتائجه الدنيوية متعة ، لأنك ترتبط بالمتعة من الجانب المباشر ، ولا تفكر بها من الجانب غير المباشر الذي يمثل عاقبة الأمور. فها هو الموقف الذي تقفه الآن ، فانظر كيف تتمتع بكفرك في النتيجة المضادة لما تفكر به. فها هي النار التي تنتمي إليها الآن من خلال انتمائك للكفر في الدنيا.

* * *

٣٠٨

الآيتان

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١٠)

* * *

معاني المفردات

(قانِتٌ) : قائم بالطاعة.

(آناءَ) : جمع آن ، أي ساعة من الزمن.

* * *

٣٠٩

أجر العاملين الصابرين

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) في ما يعنيه القنوت من الالتزام بطاعة الله في روحية الخاشع الخاضع المتمثل في هذا المظهر العبادي الذي يمثل الانسحاق تحت تأثير إرادة الله ، وفي التعبير العميق للسجود بما يمثله من الاستسلام الكلّي أمام أوامر الله ونواهيه ، في ما يحبه أو يسخطه ، (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) فهو في قلق دائم من خطأ يقع فيه أو خطيئة يمارسها ، أو انحراف يبتعد فيه عن الاستقامة فيحتاط لذلك في النظرة والمعرفة والممارسة حذرا من الوقوع في ما يجلب له الهلاك في الآخرة ، (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) من جهة ما يؤمّله من رحمة الله التي وصف بها نفسه كعنوان لعلاقته بعباده لجهة سبقها لغضبه ، ولجهة اتساعها لكل شيء ، ومن جهة ما يأخذ به نفسه من الوقوف عند مواقع رحمته في ما يحبه من طاعته ، ويبتعد به عن معصيته.

هل يستوي هذا العبد المطيع الخاضع الخائف من النار ، الراجي رحمة الله ، مع الكافر الضالّ المضلّ الذي يتمرد على الله ويستهين بعذابه؟

وهل يكون الجواب إلا أنهما لا يستويان عند الله ، بل يتميز المؤمن الشاكر على الكافر المتمرد (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) في القيمة الإنسانية التي يمثل العلم في حساباتها ، المستوى الكبير الذي يفتح شخصية الإنسان على الآفاق الرحبة في الحياة بأسرارها العميقة ، وامتداداتها البعيدة ، ورحابها الواسعة ، وقضاياها المعقدة ، وشؤونها المتنوعة ، وحساباتها الدقيقة بحيث يملك من خلاله ، وضوح الرؤية للأشياء ، فيفكر في نور ، ويتحرك في نور ، بينما يمثل الجهل الأفق الضيق ، والظلام الدامس ، والتخلف المتعفّن ، والعقلية المعقّدة ، والنظرة القلقة الحائرة ، وغموض الوعي للأمور ، وبذلك يتحرك الإنسان في الليل المظلم في فكره وشعوره وحركته في خط الحياة.

فلا يستوي الذين يملكون العلم ، في القيمة الإنسانية ، والذين لا

٣١٠

يملكونه ، بل يتقدم العلماء على الجهلاء عند الناس وعند الله الذي يريد لعباده أن يأخذوا بأسباب العلم ، وينطلقوا في رحابه ، ويتعمقوا في أسراره ، ليحصلوا على الهدى من خلاله ، وليصلوا إلى معرفة الله في وعي الإيمان ، وحركة الالتزام. وقد استوحى الإمام علي عليه‌السلام هذا المعنى فقال : «قيمة كل امرئ ما يحسنه» (١) فأعطى المعرفة دور القيمة ، في مقابل الذين أعطوا القيمة للمال وللجاه ، ولغير ذلك من متاع الدنيا وقيم المادّة.

(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي العقول ، في ما يوحي به ذلك من حركة العقل في حياة الإنسان ، في إغناء الذات بالفكر المتأمّل الذي يفتح الوعي على الساحة من حوله ، ليحدّد له الفاصل بين الحق والباطل ، والخير والشرّ ، والحسن والقبح ، والهدى والضلال ، لتنطلق إرادته في رشد الاختيار ، ليتذكر ربّه ، فيعبده حق عبادته ، ومسئوليته ، فيقوم بها كما يجب ، ومصيره ، فيخطط له على خير ما يرام ... وهكذا يبتعد بالعقل عن الغفلة ، وينأى عن النسيان والسقوط.

وهكذا نجد أن هذه الآية جمعت في فقراتها العناصر الثلاثة في تكامل الشخصية الإنسانية الإسلامية :

١ ـ العقل الذي يبدع للإنسان خط التوازن في المعرفة.

٢ ـ العلم الذي يفتح له آفاق الحياة ـ من خلال حركة الفكر ـ في موارده ومصادره ومفرداته ، ليعي ـ بواسطته ـ كيف يسلك الخط المستقيم في حياته.

٣ ـ الالتزام الدقيق بأوامر الله ونواهيه في عباداته ومعاملاته وعلاقاته العامة والخاصة ، وهذا ما يؤمنه الخوف من الآخرة ، والرجاء برحمة الله.

__________________

(١) نهج البلاغة ، ص : ٤٨٢ ، قصار الحكم : ٨١.

٣١١

وهذه الأمور يريد الله للإنسان أن يحركها في حياته ، كي يحصل على النتائج الكبيرة في قضية المصير.

* * *

الله يبادل الإحسان إحسانا

وتأتي بعد ذلك آية حركيّة أخرى يبلّغ الله فيها رسوله ليقول للمؤمنين الذين يعانون من المشركين التحديات الصعبة ، سيما من جهة ما يتعرضون له من أساليب الإذلال والضغط النفسي والجسدي والعائلي : إن عليهم متابعة السير في خط الالتزام في ما يريدهم الله ، وما يحسنون به لأنفسهم وللحياة من حولهم من الأعمال الصالحة والمواقف الكبيرة ، سيبادلهم الله به إحسانا في الآخرة ... وإنّ عليهم أن لا يخضعوا للضغوط القاسية التي تريد أن تحاصرهم وتضغط على إرادتهم ، وذلك بالبحث عن الوسائل التي تحررهم منها. (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا) فجعلوا الإيمان عنوان سلوكهم العملي ، باعتباره التجسيد لإيمانهم الفكري والروحي ، (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) فإن التقوى تمثل موقف الصدق للإيمان لأنها توحي بالعمق الروحي في مضمون الالتزام ، بما تمثله من انضباط شامل ؛ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا) بالعمل الصالح في مضمون تقوى الله ومراقبته في الفكر والحركة ، (حَسَنَةٌ) قد تأخذ حجما صغيرا محدودا ، وقد تأخذ حجما كبيرا مضاعفا ، تبعا لنوعية العمل في حجمه وروحيته.

وقد تكون كلمة الدنيا ظرفا للحسنة التي يمنحها الله للمحسنين ، وذلك بما يعطيهم من طمأنينة الروح ، وهدوء البال ، ونعيم الرزق ، ومواقع الخير ، ولكن الظاهر أن الدنيا ظرف للإحسان الذي يقوم به المحسنون ، وبذلك تكون الحسنة شاملة لأجر الدنيا والآخرة معا في ما أطلقه الله منها.

٣١٢

(أَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ)

(وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) فيمكن لكم أن تهاجروا فيها إذا اشتد الحصار عليكم ، وأطبقت الضغوطات من حولكم ، ليمنعكم هؤلاء المشركون من القيام بالتزاماتكم الإيمانية ، وأعمالكم الصالحة ، فالله لا يريد للمؤمن أن يستسلم لضعفه أمام القوى الطاغية المستكبرة أو يستضعف نفسه في ساحاتهم ، بل يريد له أن يأخذ بأسباب القوة في مواقع أخرى ليرجع إلى مواقعه الأولى من قاعدة القوّة الجديدة المكتسبة ، حتى تظل إرادة القوّة في عملية تكوين الشخصية للإنسان المؤمن.

وقد يعتبر البعض هذا التوجيه القرآني بالهجرة من أرض الوطن إلى أرض أخرى ، للتخفّف من الضغوط ، نوعا من أنواع الهروب من الساحة ، لأن المفروض للمؤمنين أن يصمدوا في مواقع الصراع.

ولكننا نلاحظ على هذه الفكرة ، أنّ الآية واردة في مقام الرخصة للذين يخافون أن يسقطوا أمام الضغوط ويضعفوا في ساحة التحديات ، لأنهم لا يملكون الظروف التي تسمح لهم بالصمود ، ولا يملكون القوّة التي تمنحهم الاستمرار على الثبات ، فهم يخافون من نقاط ضعفهم أن تستيقظ لتسقطهم من حيث لا يشعرون ، وليست الآية واردة في الأشخاص الذين يملكون إمكانات الصمود والاستمرار ، إذ هؤلاء عليهم أن يصمدوا ليحققوا للموقف الإسلامي القوّة من خلال مواقعهم ومواقفهم ، بالمستوى الذي قد لا يجوز فيه لهم الخروج إلى أرض أخرى ، وموقع آخر. وهذا ما نستوحيه من الحديث عن سعة الأرض ، فإنها إشارة لمن تضيق به أرضه ، لا لمن تتسع لحركته ولو كان ذلك بطريقة صعبة.

٣١٣

(إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) فتلك هي القيمة الروحية العملية التي تمثل الشرط الأساس لكل فكر يريد أن يتجذر في العقل من خلال الدعوة ، ولكل مشروع يريد أن يتقدم في خط الواقع من خلال الحركة ، ولكل علاقة تريد أن تربط الأمّة بسلسلة من العلاقات العامة التي تشدّها إلى ساحة الوحدة ، ولكل عمل صالح يتحرك في داخل الذات أو المجتمع ، ولكل طاعة لله يريد الإنسان المؤمن من خلالها أن يؤكّد فيها عبوديته لله من قاعدة الإخلاص المتحرك في خط التقوى ، فلا مجال لتحقيق هذه النقاط ، من دون الصبر الجميل العميق الذي يواجه الحرمان المفروض من كل تلك المشاريع الخاصة والعامة على حياة الإنسان المادية والمعنوية ، الأمر الذي يجعل من الصبر قيمة القيم ، وعمق الحركة الممتدة في كل مواقع الخير للإنسان. ولهذا جعل الله أجر الصابرين غير محدود ، فليست هناك حسابات معينة ، ولا حدود خاصة لرحمة الله في ذلك كله.

وقد جاء في تفسير العياشي بالإسناد عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله ـ جعفر الصادق عليه‌السلام ـ : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان ، ثم تلا هذه الآية (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)» (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٧٦٧.

٣١٤

الآيات

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ(١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) (٢٠)

* * *

معاني المفردات

(ظُلَلٌ) : جمع ظلة ، أي ما يستظل به من حر أو برد.

٣١٥

(الطَّاغُوتَ) : مصدر بمعنى الطغيان.

* * *

الله يريد لرسوله أن يعبّر عن الموقف الحاسم

كيف يريد الله لرسوله أن يعبّر عن موقفه الحاسم في التزامه بخط الدعوة في عبادة الله بإخلاص ، وفي إسلامه أمره له ، وفي خوفه من عذابه ، أمام هؤلاء المشركين الذين يعبدون الأوثان من دون وعي للمعاني الكامنة في ذلك ، من انسحاق إنسانيتهم تحت تأثير عوالم التخلف ، وسقوط مواقفهم في دائرة الجهل وأجواء الاستكبار الذاتي في نفوسهم ، مما يمنعهم من رؤية الحقيقة أو الالتزام بها؟!

كان الموقف بحاجة إلى صدمة إعلانيّة قويّة ، يقف فيها النبي ليعلن موقفه الذاتي في عملية الاختيار ، ليصدم بذلك تردّد المتردّدين وعناد المعاندين ، عند ما يخرج الموقف عن أجواء الجدال ، حيث يأخذ الجميع حريتهم في اللعب على الألفاظ والقفز على المواقف ، ونحو ذلك ممّا يبتعد فيه الحديث عن الجديّة الملتزمة ليتحول إلى موقف للاختيار الحاسم ، كأسلوب من أساليب التأثير النفسي القويّ من جهة ، ليوحي إليهم بأنه لن يتخذ غير هذا الموقف ، لأن هناك قوّة ربّانية عظيمة تفرضه عليه ، ولأن هناك قوّة فكريّة عميقة في داخله توحي له بذلك ، فلا مجال لأن يفكروا بأن هناك اهتزازا في قرار الموقف لديه ليجرّبوا كيف يضغطون على نفسيته ، وكيف يقدمون إليه الطروحات القائمة على التسوية المعتمدة على أنصاف الحلول ليكون المطلوب منه أن يأخذ من الكفر شيئا ، ومن الإيمان شيئا آخر ، ليختاروا ـ هم ـ بعد ذلك ما يأخذون به من الموقف.

٣١٦

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) فقد أراد الله لي أن التزم الإخلاص بعبادته ، لأكون النبيّ الذي يلتزم الخط الذي يدعو له ، كمسؤولية دينيّة ذاتية ، تماما كما أريد لكم أن تلتزموه من موقع هذه المسؤولية الموجّهة إليكم ، فليس الموقف موقف الدعوة التي لا يلتزمها صاحبها ، إنّما يوجهها إلى الآخرين بعيدا عن التزامه الذاتي ، بل هو موقف الرسالة التي تفرض مفاهيمها وخططها ومسئوليتها على حاملها ، قبل أن يفرضها على الآخرين.

(وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) لأعلن الإسلام كعنوان لكل مواقفي في الحياة ، وكواجهة لشخصيتي الملتزمة ، لأكون الشخص الأوّل الذي يكون قدوة للناس ، في ما يدعوهم إليه.

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) لأنّ الله لا يفرّق في عقابه للذين يتمردون على أوامره ونواهيه ، بين شخص وآخر ، فكما يعذب الناس العاديين على معصيته ، فإنه يعذب الرسل ، لو حدث منهم ما يشابه ذلك ، لأن الله لا يرتبط بأحد من خلقه بأية علاقة خاصة إلا من خلال العمل.

(قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) فهذا هو الموقف الذي ألتزمه انطلاقا من الأمر الإلهيّ الصادر إليّ ، ومن قناعتي الفكرية والروحية بذلك ، وضرورة أن تترجم هذه القناعة في الممارسة العملية. (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) فلن يغيّر ذلك من موقفي شيئا ، لأن القناعات الحقيقية لا تتأثر بالمواقف الأخرى للذين يلتزمون الموقف الخاطئ (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) في ما ينفصلون به عن خط الإيمان بالله والالتزام بأوامره ونواهيه ، فإن ذلك هو الموقف الذي يحدد موقع الخسارة أو الربح عند الله ، في الاتجاه السلبي أو الإيجابيّ. (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) لأنها الخسارة التي لا تعوّض ، باعتبار أن لا عمل بعدها ، بل الحساب الذي يحدّد للإنسان مصيره.

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) فهي تحيط بهم من جميع

٣١٧

الجهات ، فتطبق عليهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، فلا مجال عندهم للخلاص منها بأيّة وسيلة من الوسائل. (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) الذين يخافون عذابه ، وينفعلون بتخويفه ليتّقوه في أقوالهم وأفعالهم. (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) لتكفلوا لأنفسكم ولأهليكم الذين تقودونهم إلى التقوى ، النجاة من العذاب ، والحصول على رضا الله ـ سبحانه.

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) في ما تمثله هذه الكلمة من الأوثان والأشخاص والقوى الطاغية التي تطرح نفسها ، أو يطرحها الناس للطاعة والعبادة من دون الله بكل مستلزماتها الروحية والعملية ، (أَنْ يَعْبُدُوها) فرفضوا عبادتها من موقع وعيهم للباطل المتمثل فيها من الناحية الرمزيّة والواقعية ، ومعرفتهم بأن الله وحده هو الذي يستحق العبادة والطاعة في كل شيء ، لأنه المالك المهيمن على كل أمر ، وبذلك حددوا موقفهم تحديدا دقيقا. (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) والتزموا نهجه وشريعته ، وأقبلوا عليه في وحدة متكاملة تتضمن الرفض للطاغوت والالتزام بالله ، لأن ذلك هو الذي يحقق خط التوازن في العقيدة والالتزام ، فلا يكفي الإنسان أن يرفض الطاغوت بل لا بد له من أن يحدّد الجهة التي يلتزمها في موقع الإيمان والطاعة ، لأن الله لا يكتفي بالموقف السلبي للإنسان ، بل يجب أن يلتقي بالجانب الإيجابي الذي يمثل حركته في الحياة. وهذا هو ما استطاع هؤلاء المؤمنون أن يؤكدوه عند ما رفضوا عبادة الطاغوت والتزموا عبادة الله ، فجعل (لَهُمُ الْبُشْرى) عند الله ، في ما يبشر الله به عباده من رحمته ورضوانه ونعيمه في جنته ، لأنهم انفتحوا على الحق من موقع التأمّل الواعي والتفكير العميق ، والاختيار الحرّ ، فاستحقوا الكرامة عند الله.

* * *

٣١٨

بشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه

(فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) في عملية اختيار للسماع من أجل أن يجعلوه وسيلة للمعرفة والهداية ، انطلاقا من شعورهم بالمسؤولية في مسألة الوصول إلى الحق والالتزام به ، ولذلك فإنهم يدخلون في التمييز بين القول الطيب والقول الخبيث ، والكلام الحسن والكلام السيئ ، فيختارون الطيب والحسن ، فإذا وقفوا بين الحسن والأحسن اختاروا الأحسن من أجل العمل باتجاهه ، (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).

وفي ضوء ذلك ، كانت خطواتهم مدروسة بدقّة وتأمّل ومعاناة ، فلا يتبعون الهوى ، ولا يخضعون للانفعال ، وتلك هي صفة المسلمين الملتزمين في انفتاحهم على الخط الذي يسيرون عليه ، فهم يعيشون قلق المعرفة ، ويتحركون وراء كل كلمة حقّ وخير ورشاد ، ليستمعوا إليها بقلوبهم وعقولهم وآذانهم ، ويناقشوها بكل مفرداتها الإجمالية والتفصيلية ، ويلاحقوا كل احتمالاتها ليصلوا إلى القناعة من موقع وضوح الرؤية ، لتتحول القناعة اليقينية إلى ممارسة عملية. وقد أطلق الله القول فلم يحدد له وجها معينا ، ليوحي بأن هؤلاء الناس لا يتعقدون من سماع أيّ قول لأيّ قائل ، ما دامت المسألة لديهم أن يفكروا بما يسمعونه ، وأن لا يتبعوا إلا ما يقتنعون به من موقع المعاناة الفكرية ، (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) بفعل ما ألهمهم من طلب الحق والسعي إلى معرفته والالتزام به.

(وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذوو العقول ، لأن طبيعة هذا النهج الذي يجعلونه أساسا لحياتهم في الأخذ بأسباب الفكر المتحرك الباحث وراء كل احتمال من أجل الحقيقة ، هو الذي يفرضه العقل ، ويوجه صاحبه إلى المنطق السليم ، والموقف المتّزن. (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) بكفره وعناده

٣١٩

وضلاله ، خير ، أم الذي استحق الجنة بإيمانه (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) ممن لا مجال لحصوله على مغفرة الله لأنه لا يتعلق من الله بشيء.

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) جزاء على ما عانوه من آلام الطاعة والجهاد من خلال الأوضاع التي يعيشها المؤمنون في ساحة الصراع بين الحق والباطل في داخل أنفسهم وخارجها. (وَعْدَ اللهِ) الذي وعد به عباده المتقين (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) فهو أصدق من وعد في الدنيا والآخرة.

* * *

٣٢٠