تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٦

الحالب ورضعتي الراضع ـ كما قيل ـ وقد استعمل على سبيل الكناية.

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أي قسطنا ونصيبنا من العذاب (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) أي قبل يوم القيامة استعجالا له على سبيل الاستهزاء بالفكرة التي تطرحها الرسالة ويؤكدها الرسول.

* * *

٢٤١

الآيات

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)(٢٦)

* * *

٢٤٢

معاني المفردات

(ذَا الْأَيْدِ) : ذا القوة.

(أَوَّابٌ) : تواب.

(وَالْإِشْراقِ) : الصباح.

(مَحْشُورَةً) : مجموعة.

(وَشَدَدْنا) : قوينا.

(الْخَصْمِ) : المدعي على غيره حقا من الحقوق.

(الْمِحْرابَ) : مكان العبادة.

(تُشْطِطْ) : الشطط : تجاوز الحد.

(أَكْفِلْنِيها) : أعطنيها واجعلني كافلها.

(وَعَزَّنِي) : غلبني.

(مَآبٍ) : مرجع.

* * *

جولة استعراض لتجربة الرسل في آفاق التاريخ

وهذا حديث مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لاقى الكثير من العنت والمشقة في مواجهته للتحديات وللصعوبات في حركة الرسالة ، وجولة معه في آفاق التاريخ تستعرض تجربة الرسل الذين لاقى كل واحد منهم لونا معيّنا من المشاكل التي أحاطت به في نفسه ، وفي تجربته الخاصة ، وفي دعوته ، مما

٢٤٣

يعطي للنبي نوعا من السكينة النفسية تثبته إزاء ما يتعرض له من مشاكل وآلام.

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) مما يجابهونك به بكلمات غير مسئولة ، أو يتهمونك به من اتّهامات ظالمة ، فإن الرسالة التي تجابه التيار الفكري للمجتمع أو التيار الاجتماعي للناس بما يشتمل عليه من تقاليد وعادات ومفاهيم ، ستقف في الموقع المضاد للوضع العام ، وهذا ما سيعرّضها لضربات التيّار الصعبة ، ولا شك أن الصبر على تلك الآلام يؤدي إلى الاستمرار والامتداد في حركة الرسالة ، (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) الذي يمثل حلقة أساسية في سلسلة الأنبياء الذين عاشوا التجربة المتحركة الحيّة في ساحة الرسالة ، (ذَا الْأَيْدِ) أي القوّة التي تتمثل فيها صلابته وشدّته في الحرب وفي مواجهة الرجال (إِنَّهُ أَوَّابٌ) راجع إلى ربه ومنفتح عليه إلى أقصى حد.

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) فتهتز لتسبيحه أو تشاركه التسبيح عند ما يبدأ أناشيد التسابيح الإلهية الخاشعة بطريقة معجزة ، (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) أي مجموعة له في أوقات التسبيح ، فتسبح معه ، أو تجتمع لديه لتستمع له في خشوع وانسجام ، (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) راجع إلى الله في إخلاصه له وإحساسه بعبوديته له.

(وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) فأعطيناه القوّة الثابتة التي تثبّت له قواعده وتمنعه من الاهتزاز بكل الوسائل التي يحتاجها من المال والرجال ونحو ذلك.

(وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) التي تتمثل في وعي الأشياء بقدر ما تحتاجه ، مما يتطلب دراسة كل العناصر المتعلقة بها ، وتحريك الواقع العملي ، مما يعبر عنه بوضع الشيء في محله ، وقد قيل إن كلمة الحكمة مشتقة من إحكام الأمور وتقويتها.

وقد نلاحظ في التأكيد الكبير على عنصر الحكمة في الكتاب وفي الرسالة والرسول ، أن هذا المبدأ يمثل الأساس في حركة المسؤولية في الحياة ، بحيث لا تتحرك مواقعها إلا في الدائرة التي يملك فيها الإنسان أو

٢٤٤

الخط وعي الفكرة المنطلقة منها ، والحركة السائرة في طريقها ، فلا يكفي في خط المسؤولية في الشخص والمنهج أن يكون هناك علم في مستوى الحاجة ، بل لا بد من أن يتوفر إلى جانب ذلك وعي دقيق للخطوط العملية التي تحرك ذلك في الاتجاه السليم.

وهذا هو المبدأ الذي ينبغي لنا ملاحظته في كل مواقع القيادة للأمة التي يؤكد البعض فيها على جانب التفوّق العلمي ، دون التركيز على التفوق أو الكفاءة في الجانب الإداري ، وهذا ما يجعل الساحة فارغة من العنصر القيادي الحركي ، أو خاضعة للأسلوب القلق المرتبك في هذا المجال.

(وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي القول الحاسم الذي يستطيع ، من خلال الفكرة الواضحة القويّة ، أن يوضّح الأمور ، ويحدّد المعنى ، ويتقن التعبير عنه إلى أقصى الغايات ويدخل فيه العلم بالقضاء بين المتخاصمين في خصوماتهم على أساس العدل.

وهكذا كان داود ، من الشخصيات التقيّة الخاشعة لله ، المسبّحة له ، القويّة في مواقع السلطة ، الحكيمة في مواقع القرار والحركة العملية ، الفاصلة في ساحة الخلاف.

* * *

قصة داود مع الخصمين

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) فتسلّقوا سور المحراب ، ونزلوا على داود ، (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ) لطبيعة دخولهم غير الطبيعيّ عليه ، فقد فاجأوه عند ما كان منقطعا إلى العبادة والابتهال إلى الله ، ولعلهم ظهروا بشكل قد لا يكون مألوفا لديه ، أو غير ذلك مما يوجب الفزع النفسي ، كحالة إنسانيّة طبيعيّة ، تماما ، كما هي الاختلاجات العضوية الجسدية التي

٢٤٥

تتولد عن أيّة حركة مثيرة للإحساس ، ولذلك فلا مجال للحديث الفكريّ ـ الكلامي عن دلالة الفزع على الخوف الذي لا يناسب الأنبياء الذين لا يخافون إلا من الله ، لأن هناك فرقا بين الخوف الذي تسقط الإرادة معه وتتحرك في اتجاه الانحراف وبين الخوف الذي يدفع إلى الحذر الذي تمليه عملية دفاع الإنسان عن نفسه ، (قالُوا لا تَخَفْ) فلسنا من اللصوص الذين جاؤوا إليك ليعتدوا عليك أو على مالك ، كما توحي طريقتنا في الدخول ، ولكننا جئنا لأمر آخر يتصل بالخلاف الدائر بيننا ، فنحن (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) فهناك جانب يدّعي على جانب آخر فيتهمه بالعدوان عليه (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِ) بعد معرفة طبيعة القضية المتنازع عليها ، من خلال المعطيات الواقعية التي تمثل العناصر الحقيقية للموضوع ، (وَلا تُشْطِطْ) أي لا تتبع سبيل الشطط ، وهو تجاوز الحد الذي هو كناية عن تجاوز الحق بالحكم الجائر ، (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي إلى الطريق السويّ المستقيم الذي لا ميل فيه ولا انحراف.

(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي أعطنيها أو اجعلها في سلطتي ، وغلبني في القول فلم يدع لي مجالا لأيّ مقال.

(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) فليس من العدل أن يفكر بهذه الطريقة التي تمثل الجشع الذاتي ، والأنانية الطامعة ، والاستضعاف الظالم ، إذ كيف يطلب إضافة نعجة أخيه إلى نعاجه ، ولا يتركها له ليستفيد منها في قضاء حاجاته الغذائية ، وكيف يضغط الغنيّ على الفقير ، ويفرض سلطته عليه ، ليسلبه ما عنده ... إن هذا هو الظلم بعينه.

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) أي الشركاء ، وقد يلاحظ أن القصة لا توحي بشراكة بينهما ، فيمكن أن يكون المراد من الكلمة المعنى الذي يقترب من ذلك ولو في الشكل ، بملاحظة المشاركة في الرعي ، أو في المكان ، أو في الانتفاع

٢٤٦

أو نحو ذلك (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) بفعل ما يملكه من عناصر القوّة الضاغطة التي تدفعه إلى العدوان عليه ، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) فهؤلاء هم الذين يمنعهم إيمانهم من البغي انطلاقا من العمق الروحي الذي يدفعهم إلى التحرك في خط الصلاح.

وهكذا أطلق داود الحكم ، وتدخّل في تفسير المسألة من ناحية اعتبارها مظهرا من مظاهر الانحراف الاجتماعي الذي يتعلق بسلب حقوق الناس ، ولم يكن قد استمع إلى الطرف الآخر مما تقتضيه طبيعة إدارة الحكم في جانب الشكل والمضمون ، إذ كان عليه أن يدرس الدعوى من خلال الاستماع إلى حجة المدّعي ودفاع المدّعى عليه ، لأن مسألة الغنى والفقر ، والكثرة والقلة ، لا يصلحان أساسا للحكم على الغني الذي يملك الكثير لحساب الفقير الذي يملك القليل أو لا يملك شيئا في دائرة الحق المختلف فيه.

ولكن المشاعر العاطفية قد تجذب الإنسان إلى الجانب الضعيف في الدعوى ، لتثير فيه الإحساس بالمأساة التي يعيشها هذا الإنسان من خلال ظروفه الصعبة ، بينما يعيش الإنسان الآخر الراحة والسعة لغياب أية مشاكل يعاني منها ، مما يجعل من الحكم على الضعيف تعقيدا لمشكلته بينما لا يمثل الحكم عليه لمصلحة الضعيف مشكلة صعبة بالنسبة إليه ، هذا بالإضافة إلى أنّ طبيعة الواقع الذي يتحرك في حياة الناس ، تستبعد أن يكون هذا الفقير معتديا على الغني ، لا سيّما في هذا الشيء البسيط ، بينما يمكن أن يكون الغني في جشعه وطمعه معتديا على الفقير من موقع قوّته ، كما هي حال الأقوياء بالنسبة إلى الضعفاء.

(وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي أوقعناه في الفتنة ، أي في البلاء والاختبار الذي يفتتن به الإنسان فيكون معرّضا للخطأ لوقوعه تحت ضغط الأجواء المثيرة المحيطة به ، وانتبه بعد إصدار حكمه لمصلحة صاحب النعجة ، إلى استسلامه

٢٤٧

للمشاعر العاطفية أمام مأساة هذا الإنسان الفقير ، وخطئه في عدم الاستماع إلى وجهة النظر الأخرى ، (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) على هذا الخطأ في إجراءات الحكم الشكلية (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) أي رجع إلى الله تائبا ومخلصا. (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) الخطأ الذي لم يؤد إلى نتيجة سلبية كبيرة في الحياة العامة ، ولم يصل إلى الموقف الحاسم في تغيير الواقع ، (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) وهي المنزلة والحظوة (وَحُسْنَ مَآبٍ) في ما يرجع إليه من رحمة الله ورضوانه.

* * *

قصة داود أمام علامات الاستفهام

ومن المفيد أمام هذه القصة إثارة عدة نقاط :

النقطة الأولى : هل هذان الخصمان من الملائكة كما يتحدث بعض المفسرين أو من غيرهم؟

قد يطرح الاحتمال الأول من خلال ظهور خصوصيات القصة في ذلك كتسوّرهم المحراب ودخولهم عليه دخولا غير عاديّ بحيث أفزعوه ، مما لا يعهد حصوله من البشر ، وكذا تصوّره بأن ما حدث كان فتنة من الله له لا واقعة عادية مما قد يوحي بأنه لم يجدهما أمامه بعد الحكم ، فقد غابا عنه بشكل غير طبيعيّ ، وقد نفهم ذلك من قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) الظاهر في أن الله ابتلاه لينبهه ويسدّده في خلافته وحكمه بين الناس ، كل ذلك يؤيد كونهم من الملائكة ، وقد تمثلوا له في صورة رجال من الإنس.

وقد لا يرى البعض في ذلك كله دليلا على ما تقدم ، فيعتبر ما حدث شيئا عاديا قد يحدث لأيّ واحد من الناس.

٢٤٨

النقطة الثانية : كيف نفهم المسألة في دائرة فكرة عصمة الأنبياء ، أمام تصريح الآية بالاستغفار والرجوع إلى الله بعد الفتنة التي لم يستطع أن يتجاوزها بنجاح ، فأخطأ في إدارة مسألة الحكم في الجانب الإجرائي منه؟

ربما تطرح القضية ، على أساس أن الخصمين إذا كانا من الملائكة ، فإنها لا تكون تكليفا حقيقيا ، بل هي قضية تمثيلية على سبيل التدريب العملي ليتفادى التجارب المستقبلية على صعيد ممارسته الحكم بين الناس ، تماما كما هي قضية آدم التي كانت قضيّة امتحانية لا تكليفا شرعيّا ، فلم تكن هناك معصية بالمعنى المصطلح ، وبذلك يكون الاستغفار مجرد تعبير عن الانفتاح على الله والمحبة له ، والخضوع له في ما يمكن أن يكون قد صدر عنه من صورة الخطيئة ، لا من واقعها ، وأمّا إذا كان الخصمان من البشر ، فقد يقال بأن القضاء الصادر من داود لم يكن قضاء فعليّا حاسما بل كان قضاء تقديريّا ، بحيث يكون قوله : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) ، بتقدير قوله : لو لم يأت خصمك بحجة بيّنة.

ولكن هذا الطرح لا يمنع صدور الخطأ منه ، فإنه لم ينتبه إلى أن الخصمين ملكان ، بل كان يمارس القضاء بالطريقة الطبيعية على أساس أنهما من البشر ، وبذلك فلم تكن المشكلة هي إنفاذ الحكم ليتحدث متحدّث بأن المسألة قد انكشفت قبل إنفاذه ، أو أنها لم تكن واقعية بل كانت تمثيليّة ، بل المشكلة هي الخطأ في طريقة إجراء الحكم.

وفي هذا الإطار لا بد من الاعتراف بأن مثل هذه الأخطاء لا تتنافى مع مقام النبوّة ، لا سيّما إذا كانت الأمور جارية في بداياتها للإيقاع به في الخطأ من أجل أن يكون ذلك بمثابة الصدمة القويّة التي تمنع عن الخطأ في المستقبل.

وقد أكّد الإمام الرضا عليه‌السلام ذلك بما روي عنه في عيون أخبار الرضا ، قال الراوي وهو يسأله عن خطيئة داود عليه‌السلام : يا ابن رسول الله ما كانت

٢٤٩

خطيئته؟ فقال : ويحك إن داود عليه‌السلام إنما ظن أنه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه ، فبعث الله إليه عزوجل الملكين فتسوّرا المحراب ، فقال : (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ* إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) فعجّل داود على المدعى عليه ، فقال : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) ولم يسأل المدّعي البينة على ذلك ، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له : ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه» (١).

وقد ذكرنا في هذا التفسير أن علينا أخذ الفكر في طبيعة العقيدة من نصوص القرآن الظاهرة ، لا من أفكار خارجة عنه ، مما قد تتحرك به الفلسفات غير الدقيقة.

النقطة الثالثة : لقد تحدثت التوراة عن قصة داود عليه‌السلام بطريقة مثيرة تتنافى مع أخلاقيته وتصوره بصورة رجل لا يتورع عن ارتكاب الجريمة في سبيل شهواته.

فقد جاء فيها ما ملخصه ـ في ما رواه صاحب تفسير الميزان ـ : «وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشي على سطح بيت الملك ، فرأى من على السطح امرأة تستحم ، وكانت المرأة جميلة المنظر جدا ، فأرسل داود ، وسأل عن المرأة فقيل : إنها بتشبع امرأة أوريا الحثي ، فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت عليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود أنها حبلى.

وكان أوريا في جيش لداود يحاربون بني عمون ، فكتب داود إلى يوآب أمير جيشه يأمره بإرسال أوريا إليه ، ولما أتاه وأقام عنده كتب مكتوبا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا وكتب في المكتوب يقول : اجعلوا أوريا في وجه الحرب

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٧ ، ص : ٢٠١.

٢٥٠

الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت ففعل به ذلك فقتل وأخبر داود بذلك.

فلما سمعت امرأة أوريا بأنه قد مات ندبت بعلها ، ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له ابنا ، وأما الأمر الذي فعله داود ، فقبح في عين الرب.

فأرسل الرب ناثان النبي إلى داود فجاء إليه ، وقال له : كان رجلان في مدينة واحدة ، واحد منهما غنيّ ، والآخر فقير ، وكان للغني غنم وبقر كثيرة جدا ، وأما الفقير فلم يكن له شيء إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها وربّاها فجاء ضيف إلى الرجل الغني فعفا أن يأخذ من غنمه ومن بقره ليهيئ للضيف الذي جاء إليه ، فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيّأ لضيفه ، فحمي غضب داود على الرجل جدا ، وقال لناثان : حي هو الرب ، إنه يقتل الرجل الفاعل ذلك وترد النعجة أربعة أضعاف لأنه فعل هذا الأمر ولأنه لم يشفق.

فقال ناثان لداود : أنت هو الرجل يعاتبك الرب ، ويقول : سأقيم عليك الشرّ من بيتك وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك فيضطجع معهن قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس جزاء لما فعلت بأوريا وامرأته.

فقال داود لناثان : قد أخطأت إلى الرب : فقال ناثان لداود : الرب أيضا قد نقل عنك خطيئتك ، لا تموت غير أنه من أجل أنك قد جعلت بهذا الأمر أعداء الرب يشمتون فالابن المولود لك من المرأة يموت ، فأمرض الله الصبي سبعة أيام ثم قبضه ثم ولدت امرأة أوريا بعده لداود ابنه سليمان» (١).

وقد جاء في أن الإمام ، الرضا عليه‌السلام قال لابن الجهم : «وأمّا داود فما يقول من قبلكم فيه؟ قال : يقولون : إن داود كان يصلي في محرابه إذ

__________________

(١) م. س. ، ج : ١٧ ، ص : ٢٠٠.

٢٥١

تصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور ، فقطع داود صلاته ، وقام يأخذ الطير إلى الدار ، فخرج في إثره ، فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه ، فسقط الطير في دار أوريا بن حيان.

فاطلع داود في إثر الطير ، فإذا بامرأة أوريا تغتسل ، فلما نظر إليها هواها وكان قد أخرج أوريا في بعض غزواته ، فكتب إلى صاحبه أن قدّم أوريا أمام التابوت ، فقدم فظفر أوريا بالمشركين ، فصعب ذلك على داود ، فكتب إليه ثانية أن قدّمه أمام التابوت فقدم فقتل أوريا وتزوج داود بامرأته.

قال : فضرب الرضا عليه‌السلام يده على جبهته وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله إلى التهاون في صلاته حتى خرج في إثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل ...

فقال : يا بن رسول الله فما قصته مع أوريا؟ قال الرضا عليه‌السلام : إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا ، فأوّل من أباح الله عزوجل له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود عليه‌السلام فتزوج بامرأة أوريا لما قتل وانقضت عدتها فذلك الذي شق على الناس من قتل أوريا (١).

وهكذا نلاحظ في رواية التوراة المزعومة أن بعض المفسرين درجوا على إخضاع مسألة الخصمين لهذه القصة لتكون الخصومة التمثيلية بمثابة تنبيه لداود على ما فعله في علاقته بهذه المرأة بمشابهة القصة الواقعة ، وقد حفلت كتب التفسير بالكثير من هذه الإسرائيليات المخالفة لأبسط قواعد الأخلاق في حياة النبي داود مما لا يتناسب مع الصفات التي ذكرها القرآن ، من جهة روحيته العالية ، وتسبيحه لله وكونه أوابا ، وإيتائه الحكمة وفصل الخطاب.

* * *

__________________

(١) م. س. ، ج : ١٧ ، ص : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

٢٥٢

(إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) في ما أعطاك الله من موقع الخلافة الشرعية في الأرض من خلال صفتك الرسالية التي تبلغ فيها الرسالة للناس وتحرّكها في حياتهم ، وتجسدها واقعا حيّا في صفاتك الشخصية التي تتمثل فيها المعاني الروحية حتى ترسخ قيم الرسالة في حياة الناس والالتزام الشرعي الأخلاقي بكل حلالها وحرامها ، لتكون قدوة لهم. وليست هذه الخلافة مجرّد حالة تكريمية ، أو موقع عمليّ في حركة الحياة العامة بعيدا عن موقع السلطة الحاكمة ، بل هي حركة في الحكم والسلطة العادلة.

(فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) لأن موقعك هو موقع إقامة الحق في الفكر والواقع على مستوى الدعوة ، وعلى مستوى الحكم في الخلافات التي تحدث بين الناس ، وعلى صعيد ما يمارسونه من سلوكهم العام والخاص ، (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) لأن الخليفة الرسالي هو الذي يجعل هواه العملي تبعا لرسالته ، فلا حرية له في أن يكون له هواه الخاص المنطلق من مزاجه الذاتي وعلاقاته الشخصية ، وملاحظاته الخاصة الحادثة من انفعالاته وعواطفه ، لأنه مسئول عن إدارة شؤون الناس العامة وعن الوصول إلى القول الفصل في قضاياهم العملية في الحياة ، مما يفرض فيه أن يعيش التجرد من عاطفته وأن يكون موضوعيا في نظرته إلى الأمور ، لئلا ينحرف عن سبيل الله ، فيؤثر تأثيرا سلبيا على تصرفاته الخاصة في التزامه الشرعي الأخلاقي ، وعلى حركة العدل في الحكم بين الناس.

(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) في اتباعهم الهوى ، وانحرافهم عن خط التقوى الرسالية ، (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) جزاء على أعمالهم (بِما نَسُوا يَوْمَ

٢٥٣

الْحِسابِ) لأن الذاكر للقيامة الذي يعيش هاجس الحساب بين يدي الله بما يترتب عليه من ثواب الله وعقابه لا يتجرأ على الله بالمعصية ، والتمرد على نهجه الذي أراد لعباده أن يتبعوه.

وقد أثار البعض الحديث في تفسير الآية من ناحية علاقتها بعصمة النبي بأنها واردة في مورد تنبيه الآخرين على المبدأ من حيث الحكم بالحق وعدم اتباع الهوى ، من الناس الذين يتحملون مسئولية الخلافة ممن يمكن أن ينحرفوا عن الخط المستقيم ، لعدم عصمتهم الذاتية ، أمّا داود وأمثاله من الأنبياء ، فهم المعصومون عن الانحراف ، فلا يحكمون إلّا بالحق ، ولا يتبعون الباطل.

ولكننا نلاحظ أن عصمة الأنبياء ليست حالة تكوينية مخلوقة مع النبي في تكوينه الذاتي ، بل هي حالة اختياريّة تنبع من توجيه الله له في حركة إيمانية وفي أوامر الله ونواهيه التي تحدّد له مسار الخط المستقيم في ما يأخذ به أو يدعه وفي لطف الله به في ما يقوّيه من ملكاته الروحية والعملية ، فهو عبد مأمور كبقية العباد ، مما يجعله واقعا تحت سلطة التكليف الذي تتحرك العصمة في دائرته ، فهو معصوم عن معصية أوامر الله ونواهيه ، وعن الانحراف عن خطّه المستقيم. وهذا ما نلاحظه في الأسلوب القرآني الذي يخاطب الأنبياء بما يخاطب به الناس ويهددهم على الانحراف في حال حدوثه ، بما يهدّد به الآخرين.

* * *

٢٥٤

الآيات

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩)

* * *

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً)

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) من دون غاية تنتهي إلى هدف معيّن في تكوينها وحركتها ، ومن دون حكمة عميقة كامنة في كل الظواهر الكونية والإنسانية في ما تخضع له من القوانين التي تنظّم وجودها وتخطط حركتها ، بحيث توحي بالنظام الحكيم القائم على الحق والحكمة في وجوده كله. فالله لا يخلق ما يخلق عبثا ، ولا يفعل ما يفعل لهوا ولعبا ، لأن ذلك يتنافى مع

٢٥٥

كماله وجلاله. وإذا كان الله قد خلق الوجود كله على أساس الحق ، فلا بد للإنسان ، الذي هو جزء من الكون الحيّ المتحرك نحو غاية حكيمة مبنيّة على الحقّ من أن يتحرك على أساس الاختيار الواعي في نطاق تعاليم الله ومنهاجه العملي في الحياة ، في ما أنزله من شرائعه.

وهكذا يرفض الله الباطل في حركتهم ، كما يرفضه في وجودهم ، ولكن الكافرين لا ينسجمون مع الخط الرسالي الكوني ، لاعتقادهم بعبثية الحياة والنهج المرتكز على الباطل في ما يتخيلونه من أفكار ، و (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الذين يعملون وفق الظن لا اليقين ، فيستسلمون لخيالاتهم الطارئة ، ولا ينطلقون مع تفكيرهم العميق المبني على التأمّل والمعرفة (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) التي هي جزاء الكافرين المعاندين لله ولرسله ، وهذا الذي أقام الله عليه الحياة العملية للناس ، محددا الجزاء في العقاب والثواب ، ليجزي المحسنين بإحسانهم ، والمسيئين بإساءتهم ، انسجاما مع مبدأ العدل الذي يرفض التساوي بين السائرين على الخط المستقيم وبين المنحرفين عنه.

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فهل يمكن أن نجعل هؤلاء المؤمنين والمصلحين لأمور البلاد والعباد (كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) الذين ينطلقون من قاعدة الكفر الذي يعمل لإفساد التصور في العقيدة ، والحركة في الحكم والمنهج ممّا يسيء إلى التوازن في سير الحياة ، فتفسد أوضاعها العامة والخاصة؟! (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ) الذين يلتزمون أوامر الله ونواهيه ويراقبونه في سرّهم وعلانيتهم (كَالْفُجَّارِ) الذين يرتكبون المعاصي بفجور ويبتعدون عن المعاني الإنسانية الروحية في علاقاتهم بالحياة وبالله وبالناس؟!

وإذا كان الله لا يساوي بين هؤلاء وهؤلاء من موقع الحق الذي يفرض إيصال المحسن أو المسيء إلى حقه المتناسب مع سلوكه ، فلأن ضوابط القيم الإلهية الروحية هي الحاكمة على مسار سلوك الإنسان في علاقاته العامة

٢٥٦

وتعامله مع الصالحين والفاسدين ، والكافرين والمؤمنين ، والمتقين والفجّار ، فلا مجال للمساواة في النظرة الروحية بين هؤلاء وهؤلاء ... مع ملاحظة تأكيد المساواة في الحقوق والواجبات العامة ، فإن العدل الذي يفرض عدم المساواة في النظرة التقييمية ، هو الذي يفرض المساواة في حساب الثواب والعقاب.

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) بما تمثله البركة من امتداد النفع العام والخاص في حياة الناس على مستوى الحياة الفكرية والعملية ، (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) ويتأملوها ليأخذوا منها المعرفة الشاملة بالحق المنفتح على الحياة كلها ، وعلى الإنسان كله ، (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) الذين يحرّكون عقولهم في آياته ، فيدفعهم ذلك إلى الانفتاح على الله في موقع عظمته ، وفواضل نعمته ، ليعرفوا موقعهم منه وموقعه منهم ، وكيف يعبدونه ، في ما يريده من مستوى عبادته ، وكيف يطيعونه في منهج شريعته ، وكيف يتقونه في حركة حياتهم.

* * *

٢٥٧

الآيات

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ)(٤٠)

* * *

معاني المفردات

(الصَّافِناتُ) : جمع الصافنة من الخيل.

(الْجِيادُ) : جمع جواد وهو من الخيل السريع.

(تَوارَتْ) : غابت.

٢٥٨

(فَطَفِقَ) : شرع.

(بِالسُّوقِ) : جمع ساق.

(رُخاءً) : سهلة طيّعة.

(أَصابَ) : قصد.

(الْأَصْفادِ) : السلاسل.

(فَامْنُنْ) : فأعط.

(أَمْسِكْ) : امنع.

* * *

مع قصة سليمان

وهذا حديث عن سليمان الذي تميزت حياته بالملك الواسع ، والقوّة الكبيرة ، فقد سخّر الله له ما لم يسخره ـ من الناحية الفعلية ـ لأحد من الأنبياء قبله ، ولكن ذلك لم يبعده عن روحانية العلاقة بالله في خط الرسالة ، وعن تقوى الممارسة العملية في طاعة الله.

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ) في إحساسه بالعبودية لله ، كصفة ذاتية يعيشها في أعماقه فكريا وشعوريّا ، بحيث تتحول إلى خطّ عمليّ في حياته (إِنَّهُ أَوَّابٌ) مقبل على الله ، مرتبط به ، منفتح عليه في كل أموره في كل أموره في ما تعنيه هذه الكلمة من المبالغة في الرجوع إليه ، باعتباره الوجهة الوحيدة التي يتوجّه إليها في كل علاقاته وقضاياه.

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) وهي الخيول التي تقوم على ثلاث قوائم وترفع إحدى يديها ، السريعة في عدوها ، وكأن المشهد يوحي

٢٥٩

باستعراض عسكريّ تقوم به الخيل ، حيث كانت من وسائل القوّة التي تستخدم في جهاد الأعداء ، فأراد أن يستعرضها أمام عينيه ليعرف مدى نشاطها ، وما يمكن أن تحقق له من قوّة ، (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) قيل : إن كلمة أحببت تتضمن معنى فعل يتعدى بعن كأنه قيل : أحببت حب الخير عن ذكر ربي ، أو جعلت حب الخير مجزيا أو مغنيا عن ذكر ربي ، وتطلق كلمة الخير على الخيل ، وبذلك يكون المعنى ، أنه قدّم حبّ الخيل على ذكر الله حتى شغل عن صلاته ، (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) أي حتى غابت الشمس ، وفاتته صلاة العصر بسبب ذلك ، وهذا هو المشهور بين المفسرين ، من أن استعراض الخيل أمامه امتدّ بحيث شغله عن الإقبال على صلاته.

وقد أثار بعض المفسرين احتمال أن يكون انشغاله بحب الخير عن ذكر ربه منطلقا من أمر الله ، ليكون استعراضه وحبه لها عملا عباديا ليتهيأ بها للجهاد في سبيل الله ، وبذلك يكون الشاغل له عن عبادة الله ، عملا يختزنها ـ أي العبادة لله تعالى ـ في داخله.

ولعل الأساس في هذا التوجيه التفسيري ، هو الخروج بعمل سليمان عن كونه مخالفا لموقعه الرسالي ، في انشغاله باستعراض الخيل عن عبادة الله الواجبة في وقت معين.

ولكن ما تقدم ليس بحجة قوية لا سيما إذا كانت الصلاة موقتة بوقت معيّن في ذلك العصر ، بحيث يذهب وقتها بغروب الشمس وتواريها بالحجاب ، كما يظهر من بعض الروايات ، لذا فإن الانشغال عنها المؤدّي إلى تركها ، بعمل آخر مرض لله ، موسع في وقته ، غير مبرّر شرعا.

ولهذا فقد يكون من الأقرب إبقاء الآية على ظاهرها الذي يوحي بأن سليمان كان في مقام توبيخ نفسه أو الاعتذار إلى الله عما حدث ، وهو ما لا يتناسب بالتأكيد مع التوجيه المذكور الذي قد لا يكون له معنى ، إلا أن يقال :

٢٦٠