تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٦

الآيات

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)(١١٣)

* * *

٢٠١

معاني المفردات

(شِيعَتِهِ) : شيعة الرجل الجماعة السائرون على طريقته ودينه.

(أَإِفْكاً) : افتراءه زورا وباطلا.

(أَسْلَما) : استسلما لأمر الله.

(وَتَلَّهُ) : صرعة وألقى به على الأرض.

(لِلْجَبِينِ) : عن يمين الجبهة وشمالها ، والجبهة مكان السجود.

* * *

إبراهيم وإسماعيل أمام التجربة الإيمانية الصعبة

وهذا حديث في خط الرسالة عن عبد من عباد الله المؤمنين تنوعت حركة حياته في مواجهة التحديات الصعبة ، وفي الاستسلام المطلق لله بالمستوى الذي يتمثل فيه الإيمان الصافي والعبودية الحقّة ، في شعور عميق بأنه لا يملك أيّ شيء أمام الله ، ولا حرّيّة له بين يديه.

(* وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي من شيعة نوح وأتباعه ، بما يمثله التوافق في الخط الرسالي الملتزم بالله فكرا وعملا ، باعتبار أن كل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته ، سواء تقدّم أو تأخّر. وقد يكون في هذا الحديث عن إبراهيم من بعد نوح ، واعتباره شيعة له ، بعض الإيحاء بوحدة الخطوط العامة للرسولين وللرسالتين ، وبالانفتاح على الحياة كلها في الخط العملي. وقد نستوحي من إهمال الحديث عن نبيّ آخر بعد نوح ، وجود فراغ

٢٠٢

رسوليّ بينهما ، لعدم الحاجة إلى ذلك ، بفعل المبلّغين الذين قد يكونون خلفاء أو أوصياء لنوح في دائرة رسالته ، أو لعدم وجود وقت كبير بينهما ، لأننا لا نملك معرفة للفاصل الزمنيّ بين الرسولين.

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من كل شائبة من شوائب التعلّق بغير الله ، مما يجعله منفتحا على الله بكل عمقه وتطلّعه وشعوره ، فلا مكان لغيره في داخله ، في ما يعنيه ذلك من التصور الصافي للمضمون الإيماني بالله ، والشعور النقيّ بالعلاقة به ، والالتزام بما يحبه ويرضاه.

وهكذا كانت علاقته بالله من الموقع العميق القويّ ، وهو القلب الذي قد يكون موقعه العقل في دائرة الفكر ، أو الحسّ في موقع الشعور ، ولهذا فقد كان يواجه الأمور بعفويّة وبساطة مما يجعله يسمّي الأشياء بأسمائها من دون تعقيد ، ولهذا كان إحساسه الصافي بالخطإ الفادح في سلوك أبيه وقومه دافعا له إلى توجيه سؤاله الساذج في شكله ، العميق في مضمونه.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) هل هناك أساس لعبادتكم لهذه الأصنام وكيف تعبدونها؟ هل أنتم جادّون في ذلك ، أو أن للقضية بعدا آخر؟ (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) كيف تؤلّهون غير الله ، وهو الخالق ، وهي المخلوقة له ، هل هذا إلا افتراء على خط الألوهية وعلى الحقيقة الكامنة فيها؟ (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) وكيف تفكرون به ، أو تنظرون إليه ، أو كيف ينظر إليكم لعبادتكم الأصنام ، أو هل تعرفون موقع قدرته وعظمته ، مقارنة بما لدى الآخرين من عباده؟

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) في عملية تطلّع إلى الأفق الواسع الذي تتناثر فيه النجوم التي كان بعض الناس في زمانه يتعبد إليها ، أو في عملية استشفاف للوقت الذي كانت العلة أو النوبة المرضيّة من الحمى تعتريه فيه ، أو لغير ذلك ، (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أيّ في حالة نفسيّة أو ذهنيّة قلقة ، لا استقرار

٢٠٣

فيها ، أعيش معها الشك الذي يعيشه الباحث عن الحقيقة في دائرة الاحتمالات الكثيرة التي تتجه يمينا أو شمالا ، كالمريض الذي يعيش الاهتزاز من البرد ، في نوبة من نوبات الحمّى ، أو في حالة مرضيّة جسدية تمنعه من الخروج مع قومه إلى حيث يريدون لحضور عيد لهم ، أو غير ذلك ، ليخلو إلى ما يريده من تنفيذ الخطة المدبّرة للأصنام.

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) ولم يعيروا له انتباها ، لأنهم لم يخطر لهم في البال بأنه سوف يقوم بما قام به من حملة مدمّرة ضد الأصنام ، فلم يكونوا قد أخذوا حديثه في رفضها مأخذ الجد ، بل اعتبروه من أحاديث المراهقين الذين يتحدثون بطريقة انفعالية لا مجال فيها للتركيز. (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) مال إليها وحاد من جهة إلى جهة ، تماما كما يستعد للدخول في معركة ، (فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) فقد حان وقت الطعام الذي يحتاج الأحياء إلى تناوله من أجل استمرار حياتهم ، (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) لماذا أنتم جامدون ، خاضعون للصمت الرهيب الذي يلفّ وجودكم فلا حركة ، ولا صوت ، ولا كلمة ... وما هذه الأشكال الإلهية المزعومة التي لا تمثل شيئا ، ولا تعني أيّ شيء؟ وثارت في داخله النقمة عليهم (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أي باليد اليمنى ، أو بالقوّة التي تمثلها ، فكسر رؤوسهم وحطّم تماثيلهم.

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي يسرعون في المشي ، وهم في حالة رعب وهول وثورة ، وتساءلوا عن الذي قام بهذا العمل الشنيع ضد الآلهة ، (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) مما عملته أيديكم ، فكيف تعبدون ما صنعتموه مما تعرفون طبيعة عناصره وسرّ معناه ، فلا معنى لأية قداسة مزعومة ، لأنها ليست شيئا خفيّا لا تعرفونه حتى يشتبه عليكم الأمر في عمقها القدسي ، بل هي شيء واضح بيّن ، فقد كانت الأصنام ترابا ، كأيّ تراب ، أو خشبا كأيّ خشب ، أو شيئا آخر كبقية الأشياء ... ، فما الذي حدث حتى ميزتموها عن عناصرها غير المصنوعة ، هل هو الشكل الذي صنعتموه؟ وهل يغيّر الشكل طبيعة المضمون؟

٢٠٤

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) فأنتم مخلوقون لله ، كما أن العناصر التي تتألف منها الأصنام المعبودة لكم ، مخلوقة له ، فكيف تنحرفون عن عبادة الله وتعبدون غيره؟

لقد قال لهم كل هذا الكلام ، بعد أن ثار الجدل بينه وبينهم ، واكتشفوا أنه الفاعل ليدافع عن موقفه ، فهو لم يضرب رؤوس الآلهة ، ليثوروا بهذه الطريقة ، بل ضرب رؤوس أحجار جامدة مصنوعة للإنسان في أشكال معينة. (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) وأوقدوا في داخله النار ، (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) لأنهم لم يستطيعوا مقارعة الحجة بالحجة ، فعمدوا إلى استعمال القوّة ضده كما يفعل العاجزون عن المواجهة الفكرية.

(فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) ليقتلوه ويرتاحوا من معارضته ودعوته التغييرية ، (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) حيث قال الله من موقع إرادته التكوينية : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [الأنبياء : ٦٩].

وأغلقت هذه الصفحة من تاريخ إبراهيم في بداية الدعوة ، ليبدأ مرحلة جديدة ، فقد كان من الواضح أنه لا يستطيع البقاء مع قومه ليتابع دعوته إليهم بالتوحيد ، بعد الموقف العدائيّ الذي وقفوه منه. لذلك ، (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) فقد عزم على الهجرة من بلده أور الكلدانية ـ في بابل ـ إلى بلاد الشام ، ليتفرغ إلى عبادة ربه ، وليبدأ تجربة جديدة من تجارب الدعوة في موقع جديد قد يكتشف فيه ساحة مميّزة يملك فيها حرية الحركة لما يريد قوله وفعله. وهناك تزوّج واستقر به المقام ، فطلب من الله أن يرزقه ولدا صالحا ، حيث كان يتوجه بحاجاته إلى ربّه من خلال روحية الإيمان التي تجعل الإنسان المؤمن ينفتح على الله في كل حاجاته ، من موقع أنه لا يملك أيّ شيء إلا به ومنه.

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فهو لم يطلب ولدا ، أيّ ولد ، من خلال

٢٠٥

إرضاء غريزة الأبوة في داخله ، بل أراده ولدا صالحا يتحرك في طاعة الله ، ليعزز خط الصلاح في الحياة المرتكز على قاعدة الإيمان بالله ، لأن المؤمن الذي لا يبتعد عن الرغبات الطبيعية في شخصيته ، يبقى ـ دائما ـ في هاجس العلاقة بالله وبالحياة الإيمانية في كل قضاياه. واستجاب الله دعاءه فرزقه إسماعيل (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) في ما تمثله هذه الصفة الإنسانية من وداعة وهدوء طبع ، وصفاء روح وانفتاح على كل الناس ، ولكن الله كان يعدّ له مفاجأة مدهشة صعبة ، فقد أراد ابتلاءه وامتحانه في محبته له ليظهر فضله للناس ، وليكون قدوة لهم في المواقع التي يبحثون فيها عن القدوة الحسنة الرائدة في المعنى المتجسّد للإيمان.

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) وأصبح يتحرك معه في غدواته ورواحة ، بعد أن بلغ من العمر سنّ الرشد الذي يستطيع معه السعي في حاجاته وحاجات الآخرين ، (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) وهذا ، في وعي النبوّة ، أمر إلهيّ يدفعه للقيام بهذه المهمة امتثالا لأمر الله ، لأن الرؤيا الصادقة التي يحس فيها النبي باليقين الرساليّ تمثل أسلوبا من أساليب الوحي الإلهي ، (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) لأن المسألة خطيرة بالنسبة إليك ، وهي تدفعك لتفكر تفكيرا عميقا في الموضوع ، وأنا والدك الذي لا يحب أن يقدم على التنفيذ إلا بعد أن تأخذ قرارك فيه ، بالمقدار الذي يتعلق بك ، ليكون الموقف واحدا في امتثال أمر الله ، مع صعوبته الذاتية بالنسبة إلينا جميعا.

ولعل إبراهيم كان يعرف بأن ولده سيستجيب لنداء الله لما يعرفه من إيمانه وإسلامه له وصلاحه في خط الشريعة الحقة ، ولم ينتظر إبراهيم طويلا ، فقد أجابه ولده ، فورا ، بشكل حاسم : (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) فإذا كانت هذه إرادة الله ، فلتكن إرادته هي الحاكمة علينا في كل أمورنا ، لأننا لا نملك من أنفسنا إلا ما ملّكنا إياه ، فهو المالك لنا جميعا ، مما لا يجعل لنا مسألة الاختيار ، التي لو ملكناها ، لكان اختيارنا تبعا لإرادته ، و (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ

٢٠٦

مِنَ الصَّابِرِينَ) فلن أجزع ولن أتهرّب ، بل سأقدّم نفسي للذبح من موقع المستسلم لله ، الخاضع لأمره ونهيه ، الخاشع في عبادته ، فتلك هي إرادتي ، وسأثبت عليها بمشيئة الله ، لأن كل ما أتحرك به أو أتصف به هو هبة منه في اختياره لعباده.

(فَلَمَّا أَسْلَما) وجههما وأمرهما وحياتهما لله ورضيا بقضائه ، (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي صرعة على أحد جانبي جبهته ، وهو الجبين ، (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) فلم تكن الصورة في الرؤيا أنه يذبح ولده ، بل كانت هي أن يبدأ بالعملية بطريقة إعدادية توحي بالجدّية والانتهاء بها إلى نتيجتها الطبيعية ، كما أن الأمر الصادر من الله ليس أمرا جليّا ، بل هو أمر امتحانيّ للاختبار ولإظهار الموقف الإسلامي البارز في حركة الإيمان بالله والاستسلام له بشكل صارخ ، في ما يتمثل به موقف إبراهيم وإسماعيل في التحرك نحو الامتثال ، ولم يكن هناك مصلحة حقيقيّة في ذبح إبراهيم لإسماعيل كفعل معيّن في ذاته. و (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) الجزاء الأحسن في الدنيا والآخرة بعد أن نبتليهم ابتلاء شديدا ، ونمتحنهم في موقع الطاعة بالموقف الصعب فينجحون في الامتحان بفعل ما يظهرونه من موقف عظيم في الطاعة لله ، (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) لشدة ما كان ابتلاء إبراهيم شديدا ، (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ذكرت الروايات أنه كبش عظيم جاء به جبريلعليه‌السلام من عند الله ، ليكون فداء عن إسماعيل ، بدلا عنه.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) كرمز لاحترام موقفه ، ليكون ذلك عبرة للآخرين في ما يريدهم الله أن يؤكدوا به موقفهم الإسلامي في طاعته ، وتحية للقدوة الرائدة المتمثلة في شخص هذا النبي العظيم الذي تقدم بكل وداعة الإيمان وصفاء الإسلام وقوّة الإخلاص لله ، ليذبح ولده الذي تجاوب معه فاستعد لتقديم نفسه قربانا ، في ما يريد الله له ولأبيه أن يجسّداه من طاعة. (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

٢٠٧

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الذين يتحركون من قاعدة الإيمان ليؤكدوا صفة العبودية لله ، كموقف حيّ للطاعة والانقياد ، (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) الذي كان تاليا لإسماعيل في بنوته لإبراهيم ، مما يوحي بأن الذبيح هو إسماعيل ، لا إسحاق ، كما يروي البعض ، (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) بما أغدق الله من اللطف الإلهيّ عليهما مجسدا ببركة النبوة في حركتها الداعية إلى الله ، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ) في الإيمان بالله والالتزام بنهجه وشريعته ، (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) في الانحراف عن الإسلام ، والبعد عن خط طاعته ، (مُبِينٌ) في وضوح الموقف المنحرف ، ولكل واحد منهما جزاء على ما عمله من خير أو شرّ ، لأن المسألة ليست مسألة الأب الرسول ، بل مسألة الشخص المسؤول في فردية التبعة والجزاء.

* * *

كيف نستوحي القصة الرسالية؟

وهكذا نجد في قصة إبراهيم معنى الشجاعة في الموقف الرسالي ، على خط البطولة الروحية التي استمدّت حيويتها وثباتها وصلابتها من الإيمان بالله والانفتاح عليه ، والوعي للسرّ الإلهي المتمثل في الألوهية المطلقة التي تحتوي العباد في العمق الشامل لكل مفردات حياتهم ، بحيث لا يجد الإنسان لنفسه أيّة حريّة ذاتيّة أمام الله ، عند ما يريد منه القيام بأيّ عمل ، فعلا أو تركا ، سواء كان الأمر متعلقا بموقفه من نفسه على صعيد يتصل بحاجاته الخاصة ، أو بموقفه من عاطفته ، مما يتصل بأهله وولده ، أو بموقفه من الآخرين في حياته العامة ، وذلك على مستوى علاقاته بقومه ، ويتم هذا السلوك على مختلف الاتجاهات في صفاء روحيّ ، ووداعة إنسانيّة ، واستسلام عباديّ ، لا يشعر فيه المؤمن

٢٠٨

بانسحاق الإرادة ، بل يجد فيه بدلا من ذلك إرادة الحركة الفاعلة في وعي الذات للعبودية التي تملك حريتها في الكون من موقع استسلامها لله وتمرّدها على كل من عداه.

* * *

٢٠٩

الآيات

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١٢٢)

* * *

معاني المفردات

(الْمُسْتَبِينَ) : الواضح.

* * *

(سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ)

وهذه إشارة إلى قصة موسى وهارون في مواجهتهما التحدي الفرعوني ،

٢١٠

الهادفة للتحرر من سيطرة الاستكبار المتألّه الذي كان يضغط على حرية الناس ويستذلّهم ويستعبدهم ويستضعفهم ويذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، ويمنعهم من التمتع بأبسط شروط الإنسانية في معناها الحيّ الذي ينفتح على حرية الإنسان ، في قراره وحركة مصيره ، وعلاقته بالناس والحياة من حوله ، وكان النصر في النهاية لقوّة الرسالة الواعية الصابرة ، حيث أسدل الستار على مشهد غلبة المستضعفين الذين عاشوا إرادة الحرية في حركة الإيمان تخلصا من عقدة الاستكبار الذاتي الذي يختزن العظمة المعقدة والمنتفخة بمشاعر القوّة الطاغية التي لا تحمل مضمونا فكريا إنسانيا ، ولا تتحرك في امتداد الرسالة ، بل تحمل القهر والتعسف والإذلال للآخرين.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) في ما أنعمنا به عليهما من القوّة المتمثلة بالرسالة المؤيّدة بالكرامة الإلهية في أجواء الإعجاز ، ومن الأسباب الواقعية التي انتهت بالوصول إلى النتائج الكبيرة في السيطرة على ساحة الصراع ، (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الذي كان يتمثل بالحالة النفسية الصعبة المرهقة تحت تأثير القهر الضاغط على إنسانيتهم وحريتهم ، وهو ما عاشوه في واقع الاستضعاف المقهور أمام الاستكبار ... وكانت لهم حريتهم التي ملكوا فيها حياتهم ، وعادوا من خلالها إلى إنسانيتهم التي تملك أن تريد وأن لا تريد.

(وَنَصَرْناهُمْ) على فرعون وقومه (فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) بما مكنهم الله من القوّة المعجزة التي استطاعوا ـ من خلالها ـ الخروج من مصر ، بطريق البحر الذي انفلق عن اليابسة مما سهل مرورهم ، ثم طغى البحر فأغرق فرعون وجنده فهلكوا جميعا. (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) الذي يظهر الأمور الخفية التي يحتاج الناس إلى معرفتها ، ويفتح لهم آفاق المعرفة في قضايا العقيدة والحياة ، (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) في ما رسم الله لهما من الخطط المتحركة في خط الاستقامة المؤدي إلى الحق الواضح في مفاهيم الحياة

٢١١

وقضايا المعرفة وحركة الشريعة ، من دون أيّ خلل أو انحراف ، بل هو الطريق الذي يحدد النهاية من خلال البداية ، ويرسم خط السير الواضح بينهما.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) ذكرا خالدا نتيجة ما تحركا به من خط الدعوة إلى الله والمعاناة في سبيله ؛ والعمل من أجل قضايا الرسالة الكبرى من أقرب طريق ، ليبقى للبشرية منهما ما تنتفع به عند ما تذكرهما بالتحية والاحترام.

(سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) في ما يعنيه السلام من المعنى المتصل بالشعور الإنساني في احترام دورهما الرسالي في حياة الناس ، وفي تأكيد الروابط الروحية بين الملتزمين بخط الرسل ، وبين الرسل الذين عاشوا مع التاريخ وأخلصوا للرسالات في تاريخهم الكبير الفاعل ، (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) على ما قاموا به من خطوات الإحسان ، ليحصلوا على الجزاء الإلهي على أفعالهم الخيّرة في الدنيا والآخرة ، (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الذين يحملون الإيمان كعنوان لعبوديتهم لله ـ سبحانه ـ.

* * *

٢١٢

الآيات

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١٣٢)

* * *

معاني المفردات

(بَعْلاً) : اسم صنم.

* * *

إلياس الرسول

وهذا عبد من عباد الله ، أرسله الله إلى قومه الذين كانوا يعبدون

٢١٣

الأصنام ، ويتحدث القرآن عن صنم اسمه بعل ويقال : إنه كان في بعلبك التي اشتق اسمها من وجود بعل في معبد في ذلك البلد ، وقد قام الرسول بالدعوة كما يجب ، فقد كان يدعوهم إلى التوحيد في العقيدة والعبادة ، وقد أثنى الله عليه في آية أخرى من القرآن في سورة الأنعام عند ذكر هداية الأنبياء حيث قال تعالى : (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) [الأنعام : ٨٥].

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إلى القوم الذين كانوا يعبدون الأصنام من دون الله ، وقد قيل : إنه الخضر ، (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) الله الذي خلقكم وأنعم عليكم برزقه العميم ، (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) في ما تحتاجونه من أموركم ، وتبتهلون إليه في عبادتكم ، وتتوجهون إليه في قضاياكم ومشاكلكم وهمومكم ، (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) الذي أبدع خلق الأشياء من العدم وأحسن صورتها وتدبيرها ، وأمدها بما تحتاجه من عناصر القوّة والحركة والحياة ، (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) الذي تمتد ربوبيته للناس جميعا من قبلكم ، كما تمتد للناس من بعدكم ، لأنها لا تختص بقوم دون قوم ، لشمول خلقه ورعايته ، وإشرافه وتدبيره.

(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) غدا يوم القيامة ، عند ما يبعثون ليحضروا الموقف الحاسم أمام الله ، (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصوا لله الإيمان والعبادة في كل أمورهم الخاصة والعامة ، وفي هذا بعض الإيحاء بأن هناك فئة منهم من المخلصين (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) الذي يستحق هذا السلام المتكرر في حياة الأجيال كلهم ، لجهاده في سبيل الله ، ودعوته لدينه ، (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) فلينطلق الناس إلى الله من موقع الإحساس ، ليحصلوا على رضاه وثوابه ، (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الذين ارتضاهم الله لدينه ، وهداهم بهداه.

* * *

٢١٤

الآيات

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)(١٤٨)

* * *

معاني المفردات

(الْغابِرِينَ) : الباقين مع الذين كفروا.

(مُصْبِحِينَ) : داخلين في الصباح.

(أَبَقَ) : فرّ.

٢١٥

(فَساهَمَ) : المساهمة : المقارعة.

(الْمُدْحَضِينَ) : المغلوبين.

(مُلِيمٌ) : فعل ما يستحق عليه العقاب.

(بِالْعَراءِ) : المكان الخالي.

* * *

وقفة مع دعوتي لوط ويونس

وهذان رسولان فرعيّان من عباد الله المؤمنين أرسلهما الله إلى مجموعات محدودة معيّنة من الناس لتغيير الواقع الكافر أو الضالّ ، على مستوى الفكر والممارسة ، فكانت النتيجة أن الأول لم يوفّق لهدايتهم فعذّبهم الله بالخسف وبإمطار الحجارة عليهم ، أما الثاني ، فتتحدث الآثار الدينية عن نجاح دعوته حيث تابوا إلى الله ورجعوا إليه.

* * *

لوط الرسول

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الذين يملكون الموقف الرساليّ الصلب الذي يتميز بالقلب الكبير والصبر القويّ ، رغم ما كان يعانيه من تعسف قومه وغطرستهم ورفضهم لدعوته وتهديدهم له حتى قارب وضعه درجة الخطر ، (إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) ممن اتبع دعوته وتضامن معه ، (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) وهي زوجته الكبيرة السنّ التي تمردت على الإيمان ، واتبعت قومها في خط الكفر ، فخانت زوجها في رسالته ، فلم يغن عنها موقعها الزوجي من الرسول شيئا ، فلقيت جزاءها مع قومها الكافرين في عذاب الدنيا قبل الآخرة ، (ثُمَ

٢١٦

دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) وأهلكناهم بالعذاب الشديد النازل عليهم بالحجارة الملقاة عليهم من السماء ، وبالخسف الذي احتواهم في الأرض.

(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ) مما تمرّون عليه من ديارهم الخربة القريبة من خط سيركم صباحا ومساء عند ما تذهبون وترجعون ، لأنها تقع في طريق الحجاز إلى الشام التي تمر عليها القوافل ـ كما قيل ـ ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وتأخذون العبر مما حدث في التاريخ ، إن إمعان العقل في التفكير يدفع لملامسة النتائج السلبية التي تترتب على الإصرار على الكفر ، والامتداد في خط الضلال ، والتعسّف في مواجهة الأنبياء.

* * *

من قصة يونس

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وهذا رسول آخر عاش مع قومه مدّة طويلة لم يستجب له فيها منهم الكثيرون ، فخرج مغاضبا ، احتجاجا على ذلك من دون أن يتلقى أيّة تعليمات من الله تدعوه للخروج ، اقتناعا منه بأن الساحة لا تحتاج لبقائه ، فقد قام بدوره كما يجب ، ولم يدّخر جهدا في الدعوة إلى الله بكل الأساليب والوسائل ، ولم يبق هناك شيء مما يمكن عمله ، ولكن الله اعتبر عمله نوعا من الهروب في ما يمثله ذلك من معنى الإباق ، تماما ، كما هو إباق العبد من مولاه.

(إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي السفينة المملوءة بالناس ، فركبها كفرد من الناس من دون أن يعرف أحد شخصيته المميزة ، وكانت المفاجأة أن حوتا عرض للسفينة ، مما كان يفرض تقديم شخص من الركاب له ، ليبتلعه ليذهب بعيدا عنها ، فلا يهاجمها أو يغرقها. (فَساهَمَ) أي دخل في عملية خلط السهام وهي القرعة التي يراد بها استخراج اسم أيّ شخص من الركاب ليقفز إلى

٢١٧

البحر ، (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) أي المغلوبين ، وهكذا تمّ إلقاؤه في البحر (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) أي ذو ملامة يعيش لوم نفسه على ما فعله (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) الذين يبتهلون إلى الله بأسلوب التسبيح الذي يعبّر عن عظمة الله بما يمثله ذلك من عمق العبوديّة ، وروحية الابتهال ، وحسّ الخشوع ، مما يجعله موضعا لرعاية الله ورحمته ولطفه وإحسانه ، (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي لأكله الحوت كما يأكل المخلوقات الأخرى فيصير جزءا من جسده ، فيبعث منه كما يبعث الميت من قبره ، وهو وارد على سبيل الكناية.

(* فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) وهو المكان الخالي الذي لا شجر فيه ، ولا شيء يغطيه (وَهُوَ سَقِيمٌ) عليل مما حلّ به ، (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) وهي القرع لتظلله (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) ربما يستوحي بعضهم من هذه الآية أن رسالته كانت متأخرة عن هذا الحدث الذي حلّ به ، لأن الحديث عن الرسالة جاء بعد الحديث عنه ، وربما كان المراد به الحديث عن موقعه في صلته الرسالية بعيدا عن التوقيت ، وهناك احتمالات أخرى (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي إلى أجل مسمّى ، وربما يستشعر البعض من هذه الفقرة من الآية ، الإشارة إلى ما ورد في سورة يونس في قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨].

وعلى ضوء ذلك استفاد «صاحب الميزان» من سياق الكلام «أن المراد من إرساله في قوله : (وَأَرْسَلْناهُ) أمره بالذهاب ثانيا إلى القوم ، وبإيمانهم في قوله : (فَآمَنُوا ...) إيمانهم بتصديقه واتباعه بعد ما آمنوا وتابوا حين رأوا العذاب» (١).

وقد نلاحظ على ذلك أنه لم يرد في كل الآيات المتعرضة لقصة يونس

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٧ ، ص : ١٦٦.

٢١٨

أنه كان مرسلا إلى قومه قبل التقام الحوت إياه ، لنستفيد من الآية المذكورة أنه أرسل إليهم ثانيا ، هذا بالإضافة إلى أن الظاهر من إيمانهم هو الإيمان بالله ، مما لا يتناسب مع ما تذكره قصته من إيمانهم بعد خروجه منهم مغاضبا.

وقد يكون الحديث عن إيمانهم وكشف العذاب عنهم ، باعتبار أنّ ذلك يمثل ظاهرة مميّزة في أمم الرسل الذين تحدث عنهم القرآن في رفضهم لرسالة رسلهم ، وليس من الضروريّ أن يكون المراد بكشف العذاب عنهم هو رفعه بعد نزوله ، بل يكفي في ذلك استحقاقه لهم قبل إيمانهم عند ما كانوا كافرين. ومهما كان فإن هذه الأمور ليست دخيلة في الفكرة التي أراد القرآن أن يثيرها ، وهي قصة البلاء الذي نزل به ، ونعمة الله عليه في رفعه عنه بعد استغاثته به ، في جوّ غريب عن المألوف عكسه استمرار حياته في بطن الحوت ، مع عدم وجود أيّة فرصة للحياة هناك ، مما يجعل القضية في حجم المعجزة ، الأمر الذي يدل على كرامة الله له ، وهذا يوحي به الحديث عنه ، بأنه كان من المؤمنين الصالحين ، ثم الحديث عن قومه في إيمانهم بالله ، مما يعتبر ظاهرة في مسألة الرسالات القديمة.

* * *

٢١٩

الآيات

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ(١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ)(١٧٩)

* * *

٢٢٠