تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٦

المسؤولية ، ولذا فإنهم يلاحقون كل ما يدلهم على مواقع النجاة ، ويجنبهم مواطن الهلاك.

(وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) لأن النتائج الإيجابية في رضوان الله ورحمته ونعيمه في الدار الآخرة لن يعود نفعها إلى النفس الزاكية التي تنعم بذلك العطاء الإلهي في نعيم الروح والجسد فحسب ، ولا تقتصر النعمة على الدار الآخرة في ما يعود إلى الإنسان المؤمن من منافع ، بل يجد في الدنيا الكثير مما يصلح أمره ويبعده عن الفساد ، من خلال التشريع الذي لا يأمره إلا بمصلحة ، ولا ينهاه إلا عن مفسدة. (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) حيث يجتمع الناس لديه فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ويعفو عمن يستحق العفو ، ويرضى عمن يشاء الرضى عنه.

* * *

وما يستوي الكافر والمؤمن

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى) الذي لا يبصر طريقه مما يجعله ضائعا متخبطا بين الدروب الملتوية والمسدودة ، (وَالْبَصِيرُ) الذي يفتح عينيه على مواقع النور التي تدله على الطريق المستقيم الذي يصل به إلى الهدى ، (وَلَا الظُّلُماتُ) التي تطبق على الكون فتمنع الكائنات من رؤية ما حولها ، (وَلَا النُّورُ) الذي ينير بإشراقه كل المواقع ، فيمنح الكائنات وضوح الرؤية للأشياء ، (وَلَا الظِّلُ) الذي يعطي الناس الشعور بالبرودة التي تقيهم من لفح الهجير ، (وَلَا الْحَرُورُ) الذي هو شدة حرارة الشمس ، وقيل هو السموم. (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ) الذين تتحرك الحياة في كل عروقهم فتحرك فيهم الحسّ والشعور ، (وَلَا الْأَمْواتُ) الذين تحوّلوا إلى جماد لا أثر للحياة فيه ، فلا يحسّون بشيء ولا يعقلون شيئا.

١٠١

وهكذا توحي هذه الكلمات المتقابلة ، والموجودات المختلفة ، بما يماثلها في الوجود الإنساني وبما حوله ، فالأعمى يماثل الكافر ، والبصير يماثل المؤمن ، لأن الكفر ضياع وتخبط وانحراف ، أمّا الإيمان فهو استقامة وهدى واطمئنان ، والظلمات هي شبهات الكفر وأضاليله وأوهامه والنور هو الإسلام بعقيدته وشريعته ونهجه السويّ ، والظل هو الجوّ الروحي الوديع المنعش الذي يوحي بالدعة والسكينة ، والحرور هو الشهوات المحرقة التي تتحول إلى لهيب يحرق الحياة في داخل النفس ، والأحياء هم المؤمنون المسلمون الذين فتحوا عقولهم وأسماعهم وأبصارهم على كلام الله ، وتحرّكوا في الاتجاه السليم الذي ينطلق منه ويرجع إليه ، والأموات هم الذين تجمّدت عقولهم ، وتحجّرت مشاعرهم ، فلم يلتقوا بالروح الإيمانية التي تتحرك في آفاق الوحي ، لأنهم لا يعيشون نبض الحياة الشاعرة في أعماق ذواتهم ، لذا لا بد للإنسان ، أن يستوحي المعنى من الكلمة ، والروح من المادة ، والفكرة من حركة الحياة.

(إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) حيث يفتح القلوب والأسماع على كلماته ، ويحيي القلوب بعد موتها بالإيمان ، فيقيم عليها الحجة ، ويهديها الصراط المستقيم. وهكذا نجد أن المؤمنين ـ وحدهم ـ هم الذين يسمعون ويعقلون ، أمّا غيرهم فهم كالأموات لا يسمعون شيئا ولا يعقلون ، لأنهم جمّدوا أسماعهم عن الاستماع إلى كلام الله ، وأماتوا حياة قلوبهم فلم تهتد إلى وحي الله ، (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) وهم الكفار الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون.

(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) فتلك هي مهمتك الأولى والأخيرة ، أمّا الهداية بالوسائل غير العادية التي تقتحم فيها قلوبهم بطريق المعجزة ، أو تفتح فيها أسماعهم بطريق القهر ، أمّا هذا ، فليس من مهمتك ، ولذلك فلا مجال لأن

١٠٢

تتعقّد من ضلالهم بعد أن أخذوا بأسباب الضلال ، وابتعدوا عن أسباب الهدى والإيمان.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً) بثواب الله لمن أطاعه ، (وَنَذِيراً) بعقاب الله لمن عصاه ، (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) لأن الله لم يترك أحدا من خلقه إلا وقد أقام عليه الحجة من خلال المنذرين الذين يرسلهم إلى الناس كافة ، ولكن قد تقف الحواجز والموانع التي تمنعهم من الوصول لإبلاغ الرسالة إلى الناس كافة ، مما يضعه المستكبرون أمامهم من حواجز ، فمن بلغته الرسالة فقد قامت عليه الحجة ، ومن لم تبلغه الرسالة كان من المستضعفين الذين وكلهم الله إليه ، (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الماضية (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) من الآيات المعجزة ، والدلائل الواضحة (وَبِالزُّبُرِ) المتضمنة لذكر الله (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) الذي يتضمن شرائع الله ، كما يتضمن المفاهيم الكلية للعقيدة ، (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بذلك كله ، وكذبوا الأنبياء (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي فكيف كان عذابي الذي يمثل التجسيد الحي للإنكار عليهم.

* * *

١٠٣

الآيتان

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)(٢٨)

* * *

معاني المفردات

(جُدَدٌ) : جمع جدة ، وهي الطريق والجادة من الألوان المختلفة.

(وَغَرابِيبُ) : جمع غربيب ، الشديد السواد.

* * *

قدرة الله المبدعة

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) فمن أين جاء

١٠٤

اختلاف ألوان الثمرات ما دام العنصر المائي ـ الذي هو أقوى العوامل في نموّها وتكوّنها ـ واحدا؟ وكيف حدث التنوّع من موقع الوحدة؟ وإذا كانت العوامل الأخرى المؤثرة فيها مختلفة في العناصر الكامنة في ذاتها ، فيبقى السؤال عن السرّ الكامن وراء اختلاف تلك العناصر ، لكن الجواب الذي يلاحق السؤال في كل مواقعه لا يمكن أن يقتصر في رد السبب إلى الوحدة الكامنة في أعماق المادّة ، فرد الاختلاف في الألوان إلى جانب الاختلاف في الأشكال وغيرها يتمحور حول الله الذي أبدع ذلك كله بقدرته ، فهي التي تفسّر الحقيقة في عمق أسبابها ، فالأسباب المباشرة تلامس السطح ، وتبقى تبحث عن العمق ، (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) فها نحن نجد الجبال في أشكالها وألوانها أو في طرائقها تتنوع بين ألوان بيض وحمر وسود شديدة السواد ، وهذا هو معنى الغرابيب ، (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) من اللون الأبيض والأسود والأحمر والأصفر ، كما هي الثمرات والجبال ، فكيف تنوّعت هذه الألوان؟ ومن أين جاء هذا التنوّع؟

(كَذلِكَ) خلق الله التنوّع الذي يدل على عظمته وسرّ إبداعه وامتداد قدرته ، مما يفرض على الناس أن يفكروا فيه ويتأملوه ، ويختزنوه في عقولهم فكرا ، وفي قلوبهم شعورا وحركة في العبادة تعبر عن الالتزام العملي بالإيمان بالله ، فإن النفس لا تعيش الخوف والرهبة والانقياد إلا من خلال شعورها بالعظمة لمن تخافه ، أو تنقاد له.

* * *

خشية العلماء من الله

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فهم الذين استطاعوا ـ بعلمهم ـ أن

١٠٥

يربّوا خشية الله في قلوبهم عند ما عرفوا الله بصفاته وأفعاله ، معرفة تامّة لا يقترب إليها الريب ، ولا يعتريها الشك ، فعاشوا الخشوع بين يديه ، والتزموا بشريعته ، وانقادوا لرسله.

وهكذا نجد أن القرآن يؤكد على عنصر العلم والمعرفة ، كسبيل من سبل الوصول إلى الالتزام العملي في خط الخشية لله ، ليعرّفنا بأن العبادة مع المعرفة ، تمثل القيمة الروحية الكبيرة عند الله ، فلا ترقى إليه العبادة بدون المعرفة ، حتى لو زادت درجة الكمّ في هذا الجانب ، لأن الأساس هو الكيف والنوع ، وهو ما يشكل عمق العبادة ، بما تعيشه النفس من عمق الخوف من الله ، والحب له.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فلا يأمن العبد منه ولا يجد مهربا من سطوته ، بفعل عزته التي لا تقهر ، ولا ييأس من رحمته ، بفعل مغفرته التي يرجوها الخاطئون.

* * *

١٠٦

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ

١٠٧

النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٣٨)

* * *

معاني المفردات

(عَدْنٍ) : إقامة.

(دارَ الْمُقامَةِ) : دار الخلود وهي الجنة.

(نَصَبٌ) : تعب الجسم.

(لُغُوبٌ) : تعب النفس الناشئ عن تعب الجسم.

* * *

مصير المؤمنين يوم القيامة وجزاؤهم

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) ليستوعبوا معانيه في عقولهم وقلوبهم ، ويبنوا شخصياتهم على قاعدة مفاهيمه ، ويحركوا حياتهم في خط آياته ، (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) ليعيشوا الحضور القلبيّ الدائم مع الله ، وليعبّروا بحركات أجسادهم عن خشوعهم له وانقيادهم إليه وانسحاقهم بين يديه ، (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) ليكون ذلك هو المعنى العميق للشكر على نعمة الله ، والالتزام بالوظيفة الإلهية التي جعلها الله للمال الذي رزقهم إيّاه في إنفاقه على أنفسهم وعلى المحرومين من عباده ، (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) لن تخسر ، لأنها التجارة التي يحصل الإنسان من خلالها على رضوان الله الذي يتجسد في

١٠٨

نعيمه في الدار الآخرة ، وهي التجارة الباقية الخالدة.

(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) على ما عملوه من الصالحات ، (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الذي يضاعف به الحسنات ويرفع به الدرجات (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) يغفر للمؤمنين الخاطئين ذنوبهم ، ويشكر لهم التزامهم الإيماني والعملي.

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُ) الذي يحمل في داخله دلائل صدقه ، مما يفرض على المسلمين أن يتأمّلوه ويتدبروه ليكتشفوا مواقع القوّة في فكره وشريعته ومنهجه في الحياة ، ليزدادوا بذلك إيمانا ويقينا ، لأن الإيمان الذي يتحرك في دائرة الوجدان الفطري ، قد يكون بحاجة إلى إيمان يتحرك في دائرة الوجدان العلمي ـ الفكري الذي يستطيع أن يواجه الموقف الصعب في ساحات الصراع ، ليكون هناك فكر يواجه فكرا ، لا عاطفة تواجه فكرا أو عاطفة ، وبهذا يثبتون للآخرين بأن هذا الكتاب هو وحي الله ـ الحق ـ الذي يحتوي خلاصة الكتب الرسالية التي أنزلها الله على رسله من قبله ، فكان (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) في ما يتمثل فيها من مفاهيم التوحيد والعدل ، والقيم الروحية التي تبني للإنسان روحه وحياته على أساس توحيد الله وتقواه ، وتشريع إضافي احتاجته البشرية في ما استقبلته وما تستقبله من أيامها في عهد رسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) فعليهم أن يستسلموا له ، وينقادوا إليه لأنه الخبير بمصالحهم ، البصير بنتائج أعمالهم السلبية أو الإيجابية ، (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) من الذين عاشوا في مجتمع الرسل ، أو من الذين جاؤوا من بعدهم ، ليكون الكتاب قاعدة لتفكيرهم ودستورا لحياتهم ، ومنهجا لحركتهم وأساسا لعلاقاتهم ، وحركة في ساحة صراعاتهم ، لأن الله اختارهم ليكونوا حملة الرسالة التي أوحى بها لرسله في كتابه وأتباعها ، فما ذا

١٠٩

كان ردّ فعلهم على ذلك وكيف واجهوا هذا الإرث وهذا الاصطفاء الإلهي؟ (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) في انحرافه عن خط الكتاب ، وتمرّده على الله في خط طاعته ، (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) يتحرك معه بحساب ، ويقف عند بعض المواقع بحساب ، من دون حرارة واندفاع ، ومن غير روح حركيّة منفتحة على الهدف الكبير بقوّة ، (وَمِنْهُمْ سابِقٌ (١) بِالْخَيْراتِ) وهم الذين عاشوا الكتاب في كل ملامح شخصيتهم ، فذابوا فيه ، وانطلقوا مع مفاهيمه كرسالة للحياة ، ومنطلق للسموّ ، والتفاتة للإبداع ، وحركة للخير في ساحة السباق التي تتنافس فيها خيول الخير في ساحة الإنسان والحياة ، ليندفعوا بكل ما عندهم من حبّ لله ، واندفاع روحيّ في الحصول على رضاه ، ليكونوا السابقين في كل مواقع الخير ، فلا يسمحون لأحد بالتقدم عليهم ، ليعطوا الشهادة الحيّة على أن الرسالة إذا عاشت في الكيان الإنساني فكرا وروحا وحركة ، تحوّلت إلى قوّة هائلة في كل الساحات.

(بِإِذْنِ اللهِ) الذي يتطلع إليه هؤلاء قبل الاندفاع نحو الهدف ، والدخول في ساحة السباق ، ليطلبوا الإذن منه في ذلك ليكون اندفاعهم في خط الهدف الكبير المنفتح على شريعة الله ، وليكون سباقهم خاضعا لرضوان الله ، (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) وأيّ فضل أكبر من الفضل الذي يحقق للإنسان في مسعاه نحو خير الآخرين البركة لعباد الله ، ومن العمل الذي ينال فيه الإنسان الرضوان من الله ، الذي يطلّ به على مواقع النعيم في الدار الآخرة ، (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) وغير ذلك من النعيم المادّي الذي ينعم الله به على هؤلاء المؤمنين السابقين من عباده ، ليواجهوا اللّذة المادية التي عاشوا كثيرا من الحرمان منها ومن أمثالها ، في الحياة الدنيا ، إلى جانب اللذة الروحية ، لأن الإنسان يبقى إنسان المادة الذي يعيش تطلعاتها في حاجاته الجسدية ونوازعه الذاتية ، كما يكون إنسان الروح الذي يفيض بالحب الإلهيّ الذي يعيش فيه ابتهالات الروح والحبّ الروحي في رحاب الله. وهكذا أراد الله لهؤلاء أن يشعروا بالطمأنينة

١١٠

الروحية والفرح الإلهيّ ، (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الذي كنا نعيشه في الحياة الدنيا حين واجهنا مشاكلها وآلامها وأوضاعها التي كانت تثير فينا الأحزان المتنوعة ، وحالات القلق والشعور بالاهتزاز في لحظات الضعف البشري ، حتى أننا كنا في لحظات الفرح ، لا نستشعره خالصا ، بل نجد فيه بعضا من الحزن العميق ، أو الخفيف الذي يتمثل في بعض ملامحه ، وها نحن الآن نعيش الفرح الروحي الخالص الصافي حيث لا أثر للحزن فيه ، كما نعيش الطمأنينة النفسية الثابتة التي لا أثر للاهتزاز فيها ، وذلك بفضل ما نعيشه من رحمة الله الواسعة التي تفيض علينا بكل لطفه ورضوانه.

(إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) فقد غفر لنا ما أخطأنا فيه من أقوالنا وأفعالنا ، فلم يعذبنا عليها ، وشكر لنا أعمالنا الصالحة التي عملناها امتثالا لأمره ، وإرادة للقرب منه ، (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) فها نحن في هذه الجنة الواسعة التي وعد الله عباده المتقين أن ينعموا ويخلدوا فيها في رحمة منه ورضوان ، (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) فلا مجال لأيّ تعب فيها ، فهي دار الراحة المطلقة ، (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) فلا مجال فيها لأيّ شعور بالأذى والحزن والألم ...

* * *

مصير الكافرين وجزاؤهم

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) جزاء لأعمالهم (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) لأن الله أراد للعذاب أن يكون مستمرا لا انقطاع له ، فلا مجال للموت الذي يمنحهم راحة سلبية من العذاب ، (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أساء إلى نفسه وإلى خالقه وإلى الحياة كلها.

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) فقد كنا غافلين عن هذا المصير الأسود الذي ينتظر الكافرين والمتمردين على الله ،

١١١

فأعطنا ـ يا ربنا ـ مهلة وفرصة جديدة ، لنغيّر ما كنا فيه ، فنستقيم على الطريق الصحيح الواضح ، ونتبع الرسل في خط هداك. (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) فقد أعطاكم الله فرصة كبيرة امتدّت بامتداد عمركم الذي عشتم فيه (ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) إذ كانت الذكرى تصدم كل واقع الغفلة الذي كنتم تتخبطون فيه وتضعكم وجها لوجه أمام مسئولياتكم ، وتحدّثكم عما ينتظركم من قضية المصير ، (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) فما الذي سيتبدّل ويتغير إذا رجعتم إلى الدنيا ، فإذا كانت النار التي دخلتموها هي التي تعتبرونها أساسا ليقظة الروح في حياتكم ، ولحركة الإيمان في أعمالكم ، فإن مواقع النسيان التي أحاطت بشهواتكم ، ومصارع الغفلة التي أوقعتكم في أطماعكم في الدنيا ، لا تزال في عمق الشخصية الكافرة تفرض نفسها على الواقع كله ، وعلى المنهج كله.

(فَذُوقُوا) العذاب الذي تستحقونه بكفركم وظلمكم ، ولا تنتظروا شفيعا ولا نصيرا (فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) فلا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله.

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وتلك هي العقيدة الإيمانية التي توحي للإنسان بالرقابة الإلهية على كل أعماله وأقواله ، في سرّه وعلانيته ، لأنه المحيط بالواقع كله (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) مما يوحي بالرقابة الدقيقة التي تطلّ على الفكر وهو يتحرك في الخير أو الشر أو الحق أو الباطل ، وعلى الشعور وهو يتحرك في حبّ أو بغض أو تأييد أو رفض لما يحبه الله أو لما يكرهه. وتلك هي الدعوة الإيمانية إلى الانضباط الدقيق في خط الفكر والشعور والقول والعمل ، في كل جوانب الحياة الخاصة والعامة.

* * *

١١٢

الآيتان

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً)(٤٠)

* * *

معاني المفردات

(خَلائِفَ) : جمع خليفة ، والإنسان خليفة الله في الأرض ، الذي يمارس دوره وفق ما أراده الله.

(أَرُونِي) : أخبروني.

* * *

١١٣

هو الذي جعلكم خلائف في الأرض

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) فأراد لكم أن تمارسوا دور بناء الأرض في أمورها وقضاياها وعلاقاتها ، انسجاما مع الحق ، كما أقامها في تكوينها الوجودي على أساس الحق ، وتلك هي مسئوليتكم التي تواجهونها ـ غدا ـ أمام الله ، فإن الخلافة التي جعلها الله للإنسان ليست امتيازا ذاتيا يزهو به ويطمئن إليه ، بل هي مسئولية رسالية يتحرك من خلالها ، ويستقيم على خطها ، فمن آمن بالله وعمل صالحا ، واتبع رضوانه ، فسيجد الخير الكبير في الدنيا والآخرة ثوابا على قيامه بالمسؤولية بأمانة ، وسيحصل على محبة الله ورضاه.

(فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) بكل ما يفرض الكفر من نتائج سلبية في الدنيا والآخرة على جميع المستويات ، (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) وكيف لا يمقت الله عباده الذين خلقهم وأنعم عليهم ودعاهم إلى جنته ورضوانه ، فتمردوا عليه ، وأعلنوا الحرب على رسله ، وجحدوا وأشركوا به ، فأيّ نكران للجميل هو هذا النكران ، وأيّ سقوط أعظم من هذا السقوط الإنساني في وحل الجريمة الروحية والمادية! (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم الذين أضلوهم بالكفر ، وذلك هو الخسران المبين.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وتساءلتم عن سلامة القاعدة التي ترتكزون عليها في إيمانكم بهم وفي عبادتكم لهم؟ هل تملكون الحجة البالغة على ذلك كله ، فإذا كنتم ترونهم آلهة من دون الله ، فإن الآلهة تعني القوّة الخالقة التي تبدع الوجود للأشياء من العدم ، (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) هل تستطيعون أن تشيروا إلى جبل أو سهل أو بحر أو شجر أو حيوان أو

١١٤

إنسان ، لتقولوا إنهم هم الذين أبدعوه وأوجدوه ، وهل تملكون قناعة ذلك ، لو تحدثتم بمثله؟! (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) إذا كنتم تتصورون أن السموات هي مركز الآلهة ، وموقع الربوبية فيها ، فكيف كانت هذه الشركة؟ وهل يملكون تلك القدرة الكبيرة ، أو الارتفاع إلى ملكوت السموات ليمارسوا إدارة الحصة التي يملكونها؟ (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) ، والظاهر أن الخطاب هو لهؤلاء الكافرين الذين يدّعون الشركاء من دون الله ، فهل أنزل الله عليهم كتابا يحدّثهم فيه عن شركائه ليكون ذلك حجّة لهم. ليس هناك شيء من الحقيقة في كل هذا ، (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) بما يخدع الناس به بعضهم بعضا من دون أساس ظاهر.

* * *

١١٥

الآيات

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً)(٤٥)

* * *

معاني المفردات

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : بالغوا واجتهدوا في الأيمان.

* * *

١١٦

الله ممسك السموات والأرض أن تزولا

كيف يفكر هؤلاء الذين يجعلون لله شريكا ، وهل يدركون مدى قدرة الله ، وهل يعرفون كيف يدبّر الله الكون كله بإرادته من دون معين؟ هل يتطلعون إلى السماء من فوقهم ، وإلى الأرض من تحتهم ، فيتأملوا كيف تثبتت السماوات في الفضاء ، وكيف استقرت الأرض في الخلاء ، ومن الذي أمسكهما عن الاهتزاز والسقوط ، ومن الذي يعيدهما إلى الثبات لو زالتا؟ هل فكر هؤلاء بالمسألة العقيدية من ناحية التوحيد والشرك بوعي وعقل؟

إن الآية التالية تقرر الحقيقة التوحيدية التي تثبت قدرة الله على الإمساك بالسماوات والأرض وحده ، وتتضمن طرح السؤال الذي لا يجد جوابا عند هؤلاء إلا بتقرير الحقيقة من جديد.

(* إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) عن موقعهما الذي يتحركان أو يستقران فيه ، وقد استمرت الحياة منذ كانت السماوات والأرض ، ولا تملك البشرية الملامح الحقيقية لهذا التاريخ إلا بالحدس والتخمين القائم على الخيال العلمي الذي يحاول أن يستنتج النتائج من ظواهر غير يقينية المدلول ... ولم يحدث أن زالت السماء عن مواقعها ، أو انحرفت الأرض عن مدارها ، فهل هناك من هؤلاء الذين لم يكن لهم وجود ممتد في عمق الزمن ، بل كانوا حدثا طارئا لا يملك أيّ عمق وامتداد ، من يزعم لنفسه ، أو يزعم له غيره أنه كان شريكا في إمساكها؟ (وَلَئِنْ زالَتا) على سبيل الفرضية العلمية عند ما يتخيّل العلماء إمكانات الحركة في الكون (إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) ممن يملك قدرة ذلك ... إن الآية لا تتساءل وإن كانت تختزن السؤال ، ولكنها تنفي على نحو الجزم ، لأن النفي هو الحقيقة اليقينية ، (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) فلا يقابل عباده بالعقاب السريع ، بل يتركهم ليفكروا ويتراجعوا ليتوبوا ويستغفروا ربّهم ، ليغفر لهم كل ما أخطئوا فيه.

١١٧

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) فلم يتركوا يمينا إلا والتزموه على أنفسهم ، (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) يرشدهم ويدلهم على الطريق المستقيم ، ويخوّفهم المصير الذي يقبلون عليه ، تماما كما كانت النذر التي جاءت للأمم السابقة ، (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) مبررين ضلالهم لفقدان المرشد والدليل والنذير .. وهكذا كانوا يتحدثون مع الناس الذين ينكرون عليهم بعض انحرافهم وكفرهم ، وكانوا يظنون في أنفسهم أن هذا الكلام لن يلزمهم بشيء لأنه لن يتحوّل إلى واقع عمليّ ، باعتبار أن زمن النذر ـ كما يتصورون ـ قد ولّى ، ولهذا فإنهم كانوا يتفادون بكلامهم الإحراج الذي يقعون فيه أمام تلك الكلمات ، ولكن ظنهم قد أخطأ ، فهذا هو الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أرسله الله إليهم أوّلا ، وللناس ثانيا ، ليكون بشيرا ونذيرا ، (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) فقد تعقّدوا منه بشكل عنيف ، لأنه استطاع أن يفضح دجلهم ونفاقهم ويظهر حقيقتهم العارية ، بعيدا عن كل التهويلات والكلمات الخادعة التي يبرّرون بها واقعهم للآخرين ، ولكن ، لم يفعلون ذلك؟ إن الآية تجيب عن ذلك.

* * *

عقدة الاستكبار وراء الموقف

(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) فهم ، بسبب عقدة الكبرياء المتأصلة في نفوسهم ، يريدون المحافظة على امتيازاتهم الطبقية التي يستغلون بها المستضعفين ، فيظلمونهم في أنفسهم وأموالهم وحقوقهم الإنسانية العامة ، كما أنهم يواجهون الأفكار التغييرية التي ترجعهم إلى حجمهم الطبيعي الإنساني حيث يتحوّلون إلى مجرد أشخاص عاديين يتميزون ، إذا أرادوا التميّز ، بأعمالهم وخدماتهم للآخرين ، ولهذا كان هؤلاء المستكبرون هم القوّة المضادّة الغاشمة التي تقف ضد الرسالات والرسل والمصلحين الذين يريدون للمستضعفين أن يتمرّدوا

١١٨

على ضعفهم ، وللمستكبرين أن يبتعدوا عن استكبارهم ، فيجحدون الحق ، وهم يعرفونه ، ويحاربون الرسول ، وهم يعلمون أنه الصادق في رسالته ، الأمين على حياة الناس.

(وَمَكْرَ السَّيِّئِ) في ما كانوا يخططون من مكائد ومؤامرات وحيل ، من أجل أن يحرّكوا فكر السوء ومشروعه ونهجه في الواقع ، ليحاربوا به فكر الخير ومشروعه ونهجه ، ولكن المكر السيّئ الذي يريد هؤلاء أن يثيروا مشاريعه بين الناس ، قد يمتد إلى حياتهم فينقلب عليهم دون أن يكونوا قد أعدوا عدّة للتخلص منه ، لأنهم كانوا مستغرقين في توجيهه للآخرين ، الذين قد يكونون مستعدين للتخلص منه بسبب استنفارهم لمواجهة التحديات .. ولهذا أطلق القرآن الآية في أسلوب المثل (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) وربما كانت المسألة تتعدى جانب النتائج السيّئة للمكر السيّئ ، من نتائج الدنيا إلى نتائج الآخرة ، حيث يتحول ما فعلوه وما خططوا له من الإضرار بالآخرين إلى عذاب شديد يحلّ بهم ، كما حل بهم بلاؤه في الدنيا.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) التي تدل عليها كتب التاريخ ، أو تكشفها آثار الأمم الماضية التي عملت السيّئات وتآمرت على الرسل والرسالات ، وتمردت على خط الله ، وخططت للإضرار بعباده ، كيف ذهبت وتحطّمت كل حياتها وحلّ بها العذاب؟ هل يدرسون الفكرة من خلال التجربة السابقة ليتعرفوا أن تلك النتائج السلبية لم تنطلق من خصوصية معيّنة لواقع هؤلاء ، بل انطلقت من الخط العام الذي يجمعهم مع الآخرين في عناصر زوال الأمم التي تتحرك في سبيل الدمار والمكر السيئ في كل ألوانه وأوضاعه .. وتلك هي سنّة الله في الكون في ما جعله من نظام السببية التي ترتبط فيها المسبّبات بأسبابها ، بعيدا عن خصوصيات الزمان والمكان والشخص ، مما يجعلها ممتدة في كل مواقع الحياة ، فلا تتخلف النتائج عن المقدّمات ، انطلاقا من إرادة الله التي لا تتغير ولا تتبدل.

١١٩

(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) لأن معنى التبدل أو التحوّل ، أن تهتز الثوابت التي جعلها الله بمثابة القاعدة التكوينية للنظام الكوني القائم على سنن وقوانين ، مما يسيء إلى إرادة الله ، فالسنّة تعني الثبات ، ولو كان الأمر متحولا أو متبدلا لما كان هناك سنّة في معناها الكوني .. وهذا ما يريدنا الله أن نفرّق فيه بين الإرادة المتعلقة بالحالات الطارئة للأشياء ، وبين الإرادة المتعلقة بالقوانين الثابتة في الكون ، لنواجه المسألة في نهاية الأمور ضمن هذا الاتجاه.

* * *

دراسة نتائج المستقبل بدراسة نتائج الماضي

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ممن دمرهم الله من دون أن يتمكنوا من التخلص من هذه العاقبة ، (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فلم تنفعهم القوّة التي قد تنفع مخلوقا قويا في مواجهة مخلوق قويّ مثله ، فتختلف موازين النتائج تبعا لاختلاف موازين القوّة ، ولكن ماذا تنفع القوّة أمام خالق القوّة الذي يملك القوى بكل عناصر قوّته ، ليذهب بها في لحظة واحدة ، فتتبخّر في الهواء ، فكيف يفكر هؤلاء الذين يقومون باستعراض قوّتهم أمامك أو أمام أنفسهم ، ليشعروا بأنهم قادرون على التمرد على الله ، وأن أمرهم سوف يعجزه ، فلا يستطيع القضاء عليهم ، ولا ردّ ما يريدون ، (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) لأنه المالك لكل ما في الوجود ، والمسيطر عليه ، فكيف يعجزه شيء منه مما لا استقلال له بذلك ، ولا قدرة له في وجوده ، بل هو خاضع لله في حركته ، ومشدود إليه بوجوده ، (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) يعلم كل شيء ويقدر عليه. ولكن ، كيف يكفر الناس ويستمرون في

١٢٠