تفسير من وحي القرآن - ج ١٦

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٦

خصم ، ونساء خصم. وقد يجوز في الكلام : هذا خصمان اختصموا ، وهؤلاء خصم اختصموا. قال الله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) [ص : ٢١] ، وهكذا حكم المصادر إذا وصف بها أو أخبر بها» (١).

(الْحَمِيمُ) : الماء الشديد الحرارة ، والحميم : القريب المشفق كما في قوله تعالى : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء : ١٠٠ ـ ١٠١] وقوله : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) [المعارج : ١٠] وقوله : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) [المعارج : ١٠] فكأنه الذي يحتدّ حماية لذويه (٢).

(يُصْهَرُ) ؛ الصهر : الإذابة ، أي : يذوب وينضح بذاك الحميم ما في بطونهم من الأمعاء والجلود.

(مَقامِعُ) : جمع مقمعة ، وهي مدقة الرأس ، من قمعه قمعا : إذا ردعه.

وقال الراغب : «وهو ما يضرب به ويذلّل ، ولذلك يقال : قمعته فانقمع ، أي : كففته فكفّ» (٣).

(الْحَرِيقِ) : المحرق ، كالأليم : المؤلم.

(وَهُدُوا) : أرشدوا.

* * *

للكافرين عذاب الحريق

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) فمنهم من كفر بالله ، ومنهم من آمن به .. وعاشوا الحياة صراعا فيما بينهم ، لأن لكلّ منهم خطّا فكريا وموقعا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٧ ، ص : ١٢٣.

(٢) انظر : الأصفهاني ، الراغب ، معجم مفردات ألفاظ القرآن ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ص : ١٢٩.

(٣) مفردات الراغب ، ص : ٤٢٨.

٤١

للحكم وللسياسة وللحياة مختلفا يدور القتال حوله ، كما أن لكلّ منهم قيادات وأتباعا وأوضاعا .. وتبقى الحياة ، ويبقى هذان الخصمان على صراعهما ليحكما الحياة منذ البداية إلى النهاية ، ولكن ماذا بعد الحياة عند ما يقوم الناس لرب العالمين؟!

(فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) فهم يلبسون النار ثيابا تغطي أجسادهم وتسترها ، لكنها تلذعهم وتحرقهم ، (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) أي : يذاب بالماء المغلي كل ما في بطونهم من الأمعاء (وَالْجُلُودُ) التي تذوب وتنضح (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ* كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍ) يعيشونه ، فهم يكادون يتمزقون غيظا في هذا الجو الذي يعانون منه ، ومن هذا المصير الذي انتهوا إليه ، ويحاولون الخروج بالتوسل أو بمحاولة الهرب ، أو بأيّة طريقة أخرى ، ولكنهم ما إن ينجحوا في ذلك حتى يعادوا إليها (أُعِيدُوا فِيها) وقيل لهم : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) لأن عذاب الآخرة جزاء خالد لا يسمح بأية فرصة للتفلّت منه ولا يصل إلى أيّة نهاية.

* * *

للمؤمنين الصالحين جنات تجري من تحتها الأنهار

أما من آمنوا بالله وأطاعوه ، فلهم موقع آخر وشأن آخر : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) في ما يمثله ذلك من مظهر الإكرام والأنعام والرضوان ، (وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) بما يعنيه ذلك من الرقة والنعومة والصفاء والإشراق .. (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) الذي التزموه في حياتهم ، هذا الذي تعبر عنه المعاني الطيبة ، والروح الطيبة ، والمنهج الطيب ، حيث يبتعدون

٤٢

في حياتهم وممارساتهم عن خبيث القول والعمل والمنهج وباطله (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) صراط الله المحمود في ذاته وفي فعله وفي رحمته ورضوانه.

وهذا هو الفرق بين الذين يعيشون الكفر كخطّ في جميع أنواعه وبين الذين يعيشون الإيمان كمنهج في جميع أوضاعهم وأعمالهم .. وهذا ما يجب أن يفكروا به عند ما يفكرون في الاختيار بين ما يأخذون. وما يتركون.

* * *

٤٣

الآية

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٥)

* * *

معاني المفردات

(وَيَصُدُّونَ) : يمنعون.

(الْعاكِفُ) : المقيم الملازم للمكان.

(وَالْبادِ) ؛ البادي : يقال للمقيم في البادية باد ، والمراد بالبادي في الآية : الآتي إلى المسجد الحرام من الخارج.

(بِإِلْحادٍ) ؛ الإلحاد : الميل عن الخط المستقيم.

* * *

٤٤

جزاء الصدّ عن البيت الحرام

انطلقت دعوة الله في مكة ؛ البلد الذي جعله حرما آمنا يأوي إليه الناس من كل مكان ليعبدوه في المسجد الحرام ، حيث يصلّون ويطوفون بالبيت الحرام. ولكن أهل مكة ، الذين كانوا يتخذون الشرك قاعدة لتفكيرهم ولعبادتهم ونهجا في حياتهم ، واجهوا هذه الدعوة الجديدة بكل أساليب التعسف والتمرّد والضغط والنكران. وجاءت هذه الآية لتحدّد لنا طبيعة هذه المواجهة ، وما أعدّه الله لهم في الدار الآخرة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من خلال اتّباعهم الشرك ، وإصرارهم عليه ، ورفضهم لكل البيّنات التي قدّمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم في كتاب الله وفي حديثه ، واستمرارهم على عبادة الأصنام .. (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فلم يكتفوا بالكفر الإشراكيّ في تفكيرهم وسلوكهم ، بل عملوا على الوقوف ضد كل من يريدون الدخول في الإسلام ويتحركون في سبيل الوصول إلى الحق ، الذي يبلغ بهم رضوان الله ورحمته ، فكانوا يلاحقون المؤمنين ليعذبوهم ، وليشرّدوهم ، ويمنعون الذين يحبون الإيمان أن يدخلوا فيه بالضغوط الصعبة القاسية التي يوجهونها إليهم (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ) لا فرق فيه بين فرد وآخر أو بين جماعة وأخرى ممن يؤمن بالله ويريد أن يعبده فيه ، أو ممن يريد أن يدخله ليؤمن بالإسلام ، فهو بيت الله الذي أراده للناس كافة ، (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) ، فالمقيم فيه والآتي من الخارج إليه سيّان ، لا يملك من يقيم في مكة منع القادم إليها من دخول المسجد ، لأن خالق الأرض ومالكها هو من يملك إعطاء الإذن بالمنع والدخول من موقع خلقه له ، (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) ويميل عن الخط المستقيم ، وذلك بالقيام بأيّ عمل يعيق وصول الناس إليه ، ويضرّ بحياتهم في داخله ، عبر استخدام ما يملكه من قوّة تمكّنه

٤٥

من مواجهة حالات الضعف التي تحيط بالآخرين من المقيمين به أو الداخلين إليه ، (بِظُلْمٍ) أي بدون حق ، فإن ذلك ليس من حقه مهما قدم لتصرفه من مبررات وأعذار ، لأن للناس حرية الدخول إلى الكعبة التي تمثل بيت الله ، فيحجون إليها ، ويعبدونه فيها ، ولم يجعل لأحد سلطة منع الناس من ذلك ، إلا في نطاق حمايتهم من الخطر وحمايتها من الضغط القاسي ، فمن أراد ذلك بدون حق (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) جزاء له على تمرده وعصيانه وظلمه ، تماما كالكافرين والصادّين عن سبيل الله.

* * *

الآية واختلاف المفسرين في بعض مفرداتها

وربما استوحينا من ذلك أن الله أعطى الناس المؤمنين حرية الدخول إلى المسجد الحرام وممارسة العبادة الصحيحة فيه ، دون أن يكون لأي أحد سلطة منعهم من هذا الحق ، إلا في نطاق النظام العام. وهذا يجعلنا نرفض ما استحدثه حكام تلك البلاد من قوانين تمنع الدخول إليها لأداء فريضة الحج والعمرة إلا بإذن منهم ، وحسب شروطهم ، مما يتنافى وأجواء هذه الآية.

وقد نستوحي من قوله تعالى : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أن للناس ـ جميعا ـ الحقّ في مكة ، فلا يملك أحد أن يمنع الناس من الإقامة فيها ، أو يمنح نفسه حق تملّك موقع فيها أو دائرة معيّنة ، لأن الله قد ساوى بين المقيم فيها والخارج منها ، لأن الظاهر ـ كما يقال ـ أن المراد من المسجد الحرام ، هو مكة كلها ، كما يظهر ذلك من قوله تعالى في سورة الإسراء (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ، لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) [الإسراء : ١] حيث ذكرت أن النبي قد أسري به من المسجد الحرام في الوقت الذي كان

٤٦

الإسراء فيه من دار أم هاني في داخل مكة.

وقد جاء في التهذيب ـ للشيخ الطوسي ـ بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكر أبو عبد الله جعفر الصادق عليه‌السلام هذه الآية : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) فقال : كانت مكة ليس على شيء منها باب ، وكان أوّل من علّق على بابه المصراعين معاوية بن أبي سفيان ، وليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئا من الدور ومنازلها (١).

وقد ذهب إلى ذلك جمع من الصحابة والتابعين منهم ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير ، ومن مذهب هؤلاء ـ في ما نقله الفخر الرازي في تفسيره ـ «أن كراء دور مكة وبيعها حرام ، واحتجوا عليه بالآية والخبر ، أما الآية فهي هذه ، قالوا : إن ارض مكة لا تملّك ، فإنها لو ملّكت لم يستو العاكف فيها والبادي ، فلما استويا ثبت أن سبيله سبيل المساجد ، وأما الخبر فقوله عليه‌السلام : مكة مباح لمن سبق إليها» (٢).

وهناك قول آخر نقله الرازي أيضا ، فقال : «إن المراد جعل الله الناس في العبادة في المسجد سواء ، ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس. قال عليه‌السلام : يا بني عبد مناف ، من ولي منكم من أمور الناس شيئا فلا يمنعنّ أحدا طاف بهذا البيت أو صلى أيّة ساعة من ليل أو نهار» (٣).

وقد اختلفوا في المراد من الإلحاد فيه ؛ هل هو خصوص المنع عن الدخول فيه ، أو بعض الأشياء الأخرى ، كالمنع من عمارته ، أو الشرك أو نحو ذلك ، أو هو الأعم من ذلك ، وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ، في

__________________

(١) الشيخ الطوسي ، تهذيب الأحكام ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، ج : ٥ ، باب : ١٦ ، ص : ٤٢٠ ، رواية : ١٠٤.

(٢) الرازي ، الفخر ، التفسير الكبير ، دار إحياء التراث العربي ، ط : ٣ ، م : ١٢ ، ج : ٢٣ ، ص : ٢٤.

(٣) (م. ن) ، م : ١٢ ، ج : ٢٣ ، ص : ٢٤.

٤٧

ما رواه أبو الصباح الكناني عنه : «كل ظلم يظلم به الرجل نفسه بمكة ، من سرقة أو ظلم أحد ، أو شيء من الظلم ، فإني أراه إلحادا ، ولذلك كان ينهى أن يسكن الحرم» (١) ، وفي رواية «يتقي» بدل «ينهي».

وقد ذكر الفخر الرازي ـ في وجه تعلق كلمة الإلحاد بالظلم ـ أنه «لما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر بيّن الله تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلا إلى الظلم ، فلهذا قرن الظلم بالإلحاد ، لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهي ظلم ، ولذلك قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)» (٢) [لقمان : ١٣].

* * *

__________________

(١) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ ، ١٩٩٢ م ، م : ٣٥ ، ج : ٩٦ ، باب : ٨ ، ص : ٣٠٠ ، رواية : ٢٤.

(٢) تفسير الرازي ، م : ١٢ ، ج : ٢٣ ، ص : ٢٥.

٤٨

الآيات

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ

٤٩

قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (٣٧)

* * *

معاني المفردات

(بَوَّأْنا) ؛ بوّأ له مكانا : أي جعل له مرجعا يرجع إليه ويقصده.

(رِجالاً) : راجلين.

(فَجٍ) : طريق.

(عَمِيقٍ) : بعيد.

(تَفَثَهُمْ) ؛ التفث : قال في المجمع : «قال الأزهري : لا يعرف التفث فيلغةالعرب إلّا من قول ابن عباس وأهل التفسير ، وقال النضر بن شميل : هو إذهاب الشعث» (١). وجاء في الميزان : «التفث : شعث البدن ، وقضاء التفث : إزالة ما طرأ بالإحرام من الشعث بتقليم الأظفار وأخذ الشعر ونحو ذلك ، وهو كناية عن الخروج من الإحرام» (٢). وقضى الشيء يقضي : إذا قطعه وأزاله.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٧ ، ص : ١٢٦.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ١٤ ، ص : ٣٧٢.

٥٠

(حُرُماتِ) : جمع حرمة ، وهي ما لا يحل انتهاكه.

(حُنَفاءَ) : جمع حنيف ، وهو من استقام على دين الحق مائلا عن الأديان الباطلة.

(سَحِيقٍ) : بعيد.

(شَعائِرَ) : جمع شعيرة ، وهي العلامة ، وشعائر الله هي الأعلام التي نصبها الله لطاعته.

(الْمُخْبِتِينَ) ؛ الإخبات : الخضوع والطمأنينة ، وقوله : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) فيه تلويح إلى أن من أسلم لله في حجه مخلصا فهو من المخبتين ، وقد فسره بقوله : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) كما يقول صاحب الميزان (١).

(وَالْبُدْنَ) : جمع بدنة ، وهي الناقة السمينة ، من بدن بدنا : إذا كثر لحمه.

(صَوافَ) : مصطفّة قد صفّت أيديها وأرجلها عند النحر.

(وَجَبَتْ جُنُوبُها) : سقطت على الأرض على جنوبها ، وهو كناية عن موتها.

(الْقانِعَ) : الراضي ، أو الفقير الذي يقنع بما أعطي ، سواء سأل أو لا.

(وَالْمُعْتَرَّ) : الذي يتعرض لك لتعطيه.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان : ج : ١٤ ، ص : ٣٧٦.

٥١

الحج عبادة منفتحة على الله

لم يكن المسجد الحرام مسجدا عاديا في طبيعته وخصوصيته ، ولم يأت بناؤه تلبية لرغبة ذاتية في بناء مسجد للعبادة كما هي حال المؤمنين عادة ، بل جاء نتيجة أمر من الله ، فقد أوحى لنبيّه إبراهيم عليه‌السلام أن يبني هذا المسجد ليكون بيتا له ـ تعالى ـ على مستوى العالم كله ، ليفد إليه الناس من كل بقاع الأرض تلبية لدعوته الشاملة ، من أجل تحقيق المنافع الدنيوية والأخروية ، المادية والمعنوية .. ولينطلق الناس من خلاله ، ومن خلال الأعمال المتنوعة التي شرعها لهم في رحابه وأجوائه ، ليخلصوا له العبادة من موقع التوحيد ، ولينفتحوا على عمق التوحيد في صفائه ونقائه ، في ما تعيشه أفكارهم ، وتختزنه مشاعرهم ، وتتحرك فيه أوضاعهم ، في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ومواقفهم ، من خطّ يبدأ من الله وينتهي إليه ، فلا يمرّ الناس إلا من خلاله ، ولا يلتقي بخصوصيات الحياة إلا في دائرة رضاه.

وهكذا كان الحجّ هو العبادة المنفتحة على أكثر من أفق للعقيدة ، والمرتكزة على أكثر من قاعدة للحركة ، والقريبة إلى الجانب العملي في الحياة ، في ما يلتقي به الإنسان مع الله في أكثر من موقع ، وهذا ما نحاول استيحاءه من خلال الآيات التالية.

* * *

يا إبراهيم ، طهّر بيتي

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) فحدّد الله له موقعا وأراده أن يجعله

٥٢

مرجعا يقصده الناس في رحلتهم إليه ـ تعالى ـ للعبادة ، وأن يعدّه إعدادا كاملا لتحقيق النتائج الروحية التي يريدها الله من حركة العبادة في ساحاته ، وأوحى إليه أن يؤكد على صفة التوحيد فيه ؛ من حيث الشكل ، بإعطائه صورة بعيدة عن عبادة الأوثان التي توجد في أماكن العبادة عادة ويتعبد لها الناس لتقرّبهم إلى الله زلفى ، ومن حيث المضمون ، في ما يثيره معنى التوحيد من أفكار ومشاعر وآفاق روحية في عمق الذات ، وفي امتداد الحركة ، ومن حيث شخصية الإنسان الذي يبني المسجد ويرعاه في ما يستهدفه منه ، وفي ما يركّزه عليه من أسس البناء ، ولهذا جاء النداء الإلهي لإبراهيم عليه‌السلام ، ليختصر ذلك كله في قوله : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) بما يعنيه ذلك من إقامة قواعد المسجد كلها على أساس التوحيد ، الذي هو سر وجوده ، وهدف العبادة فيه التي تجمع الحياة والإنسان لتقودهما إلى وعي العبودية الخالصة لله ، (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) طهارة كاملة بمعناها المادي الذي يستدعي النظافة من كل قذارة تسيء إلى جوّ التحليق في آفاق الطهارة الروحية التي تختزنها روحية العبادة وتخلقها داخل الإنسان ، فإن الإسلام ـ في كثير من تشريعاته ـ يبتعد عن التجريد ، ويعمل على إطلاق المعاني الروحية من حركة الأشياء المحيطة بحياة الإنسان عادة ، ولذا ، فإن الله شرّع الطهارة من الحدث والخبث ، اللذين يمثلان القذارة المادية والمعنوية ، كشرط لصحة الصلاة والطواف على سبيل الإلزام ، واستحبّها لكثير من الأمور العبادية الأخرى ، على سبيل الرخصة ..

وهكذا أراد المسجد طاهرا في أرضه ، كما أراد الإنسان فيه طاهرا في جسده وثيابه ، لتعيش الطهارة الروحية في أجواء الطهارة المادية ، ليتكامل المضمون الداخلي والشكل الخارجي (لِلطَّائِفِينَ) الذين يقصدون البيت للطواف حوله ، بصفته الرمز المادي للتحرك في فلك رضى الله عبر احترام أوامره ونواهيه ، في كل المجالات التي يطوف بها الإنسان في حياته ، وعلى مستوى كل العلاقات التي يقيمها مع الناس من حوله ، سواء من يتصل بهم

٥٣

وينتمي إليهم ، أو من يتحرك في دوائرهم الفكرية والعملية ، وفي كل الأماكن التي يتخذها الإنسان مواقع ثابتة أو متحركة لمشاريعه ولأوضاعه العامة والخاصة ، ليكون ذلك كله مع الله في دائرة معينة يمثلها بيته ، وله في العبادة التي يخلص فيها الإنسان لربه تماما كما هو الطواف بالبيت. (وَالْقائِمِينَ) الذين يقومون لله في صلاتهم ، كرمز للقيام بين يديه في طاعتهم له في كل شيء ، فهم يقومون له منتظرين أوامره ونواهيه ليطيعوها ، وليخلصوا إليه الطاعة فيها وفي كل شيء ، (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) الذين يتعبّدون له في ركوعهم وسجودهم ، في ما يمثله الركوع والسجود من انحناء الإنسان أمام الله بجسده وانسحاقه أمامه بجبهته ، كرمز لانحناء كل حياته أمام إرادته ، بعيدا عن الخضوع الكامل بكل أشكاله وبكل معانيه.

فإذا استكملت البيت ـ يا إبراهيم ـ وأتممت بناءه وإعداده على قاعدة الطهر والتوحيد ، فإن هناك مهمّة أخرى تنتظرك ، وهي الإعلان عن الحجّ ودعوة الناس إليه ، لتكون لهذا البيت خصوصية عبادية تختلف عن سائر بيوت الله ، وليمثل الاتحاد البشريّ في الحياة ، باعتباره البيت العالمي الذي يلتقي فيه الناس جميعا من كل الأجناس والألوان ، على عبادة الله ، ليعيشوا وحدة الإنسانية من خلال وحدة الموقع الذي يقدسونه ويتعبدون فيه ، ووحدة العبادة ، كرمز للإخلاص في إيمانهم بوحدة الله ..

* * *

وأذّن في الناس بالحجّ

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) وأعلن ذلك في كل نداءاتك ، كتشريع تقرّره وتثبته ، لا مجرد صوت تطلقه ، ليشعروا ـ من خلال ذلك ـ بأن هناك إلزاما إلهيّا يدفعهم إلى الامتثال ، ويقودهم إلى الطاعة ، ف (يَأْتُوكَ رِجالاً) راجلين

٥٤

سائرين على أقدامهم ، (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) أي بعير مهزول من شدّة التعب والجهد ، (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي طريق بعيد ، لما توحيه كلمة العمق من امتداد ضارب في المجهول ، (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) في ما يحصلون عليه من خلال الحج من منافع دنيوية يحققها لهم اجتماعهم على مستوى التعارف والتبادل والتعاون والتشاور في المشاكل التي يعيشونها فكرا وواقعا ، عبر ما يثيرونه من قضايا وما يحددونه من أهداف وما ينتظرونه من حلول.

وبذلك تسقط الحواجز المادية والنفسية التي تضعها الفواصل العرقية واللونية والقومية بين الناس ، ليلتقوا على صعيد واحد هو الإيمان بالله ، والسير على منهجه ، والالتزام بدينه ، والجهاد في سبيله ، طلبا لرضاه ، مما يوفر لهم الخروج من الدوائر الضيقة التي يحبسون حياتهم فيها ، لينطلقوا إلى الدائرة الواسعة التي تحتويهم جميعا ، مما ينقذهم من مشاكل التجزئة في حل القضايا العامة التي قد يستغرقون معها في خصوصياتهم ، فيسيئون بذلك إلى تلك القضايا من حيث يريدون أو لا يريدون ، لابتعادهم عن الأسس التي ترتكز عليها القضايا الإسلامية لجهة علاقتها ببعضها البعض ، وارتباطها بالهدف الكبير الذي يتحرك فيه الإسلام في الحياة.

وهكذا تتواصل المنافع الدنيوية في رحاب الحج ، لتصل إلى مستوى توحيد الموقف السياسي ، والتصور الفكري ، وتحقيق التكامل الاقتصادي ، والمواجهة الموحدة للقوى الطاغية وغيرها. وهذا ما يمكن الوصول إليه في هذا المؤتمر العالمي السنوي الذي يتشكل بطريقة عفوية ، امتثالا لأمر الله في العبادة ، ليمتد إلى امتثال أمره في حركة الإنسان في الواقع ..

أما المنافع الروحية التي تتداخل ـ في أكثر من موقع ـ مع المنافع المادية ، فتأتي من التشريعات الإسلامية المتصلة بواجبات الحج المتنوعة التي تحقق لكل جانب من جوانب شخصية الإنسان ، حركة روحية تغذي فيه علاقته

٥٥

بالله وإخلاصه له ، وشوقه للوصول إلى درجات القرب عنده في دار النعيم ..

وهكذا يريد الله للناس في الحج أن يأتوا إلى رحاب البيت ، ليشهدوا ـ من مواقع الوعي والمعاناة ـ المنافع التي يجدونها أمامهم عند الوصول ، أو التي يحققونها بعده ، (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) هي أيّام التشريق التي تبدأ من يوم الأضحى حتى الثالث عشر من ذي الحجة ، على ما ذكر في أحاديث أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، أو هي أيام الحج .. (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) من الإبل والبقر والغنم ، إذا ذبحوها أو نحروها في نسكهم حيث جعل الله ذلك تعبّدا منهم له تعالى ، لتكون قربانا له ، إذ أحلّ لهم هذه الأضحية وجعل لها معنى يتصل بالجانب الإيماني من حياتهم ، مما يوحي بهذا التزاوج في التشريع بين ما هو روحي وما هو مادي في حياة الناس ، إذ يجب أن لا يستغرقوا في حياتهم في جانب واحد ، فالله هو الذي خلق الروح التي تلتقي به لتعبده ، وهو الذي خلق المادة لتكون شاهدا على سرّ الإبداع في عظمته ، وهو الذي خلق الأنعام وأراد للإنسان أن يتقرب بها إليه ، تنمية للحياة التي شاء لها أن تكون خاضعة لقانون التضحية بحياة مخلوقة لله من أجل حياة أخرى يريد لها أن تؤكد إرادته في دور الخلافة على الأرض ..

* * *

لماذا ذكر اسم الله على الذبيحة؟

إنّ دراسة هذا التشريع الإسلامي الذي يقضي بذكر اسم الله على الذبيحة ، كما يقضي بذكره في أمور أخرى في حياة الإنسان ، إلزاما واستحبابا ،

٥٦

يجعلنا نلاحظ أن هذا التشريع يمثل أسلوبا تربويا يوحي للإنسان بأن كل حركة في حياته لا بد أن تأخذ شرعيتها من إذن الله بها ورعايته ، مهما كانت صغيرة أو كبيرة ، لتكون مسيرته كلها من خلال الله ، بحيث تنطلق البداية منه ، وتصل النهاية إليه ، في رحلة العمر التي تستمد كل قوتها الحركية من قوّته ورحمته ، خلافا للذين يعبدون الأوثان ، ويتقربون إليها بقرابينهم ، ويذكرون اسمها عليها ، فيشركون بالله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، نتيجة التخلف الفكري والروحي الذي لا يرتكز على قاعدة معقولة من علم وفكر ..

* * *

الانتفاع بذبائح الحجّ

(فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) وهي رخصة شرعية بأكلها تدفع احتمال التحريم الذي قد يتوهمه البعض ، على أساس أن القربان لا بد من أن تأكله النار ، ولا يجوز للإنسان أن يأكل منه ، لأنه لله ، وما يكون لله لا يجوز أن يأكله الإنسان. ولكن الله أراد أن يبيّن أن القربان يمثل معنى داخل الإنسان عند تقديم الأضحية باسمه .. وتنتهي المسألة عند هذا الحد ، وبعد ذلك تأتي قضية الانتفاع بالأضحية حتى لا تذهب طعمة للنار ، أو للتراب ، فللإنسان أن يأكل منها ، هدية من الله له ، وأن يعطي الفقراء القسم الآخر (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) لتكون جزءا من التشريع المتكامل الذي يفتح للفقير الأبواب التي تسد فاقته ، وتقضي حاجته ، وتسكت جوعه ..

ومن خلال ما تقدمه الآية ، نستوحي ما ينبغي للمسلمين فعله بالذبائح التي يمتثلون بذبحها واجب تقديم الأضحية يوم النحر ، فلا يلقونها في التراب دون فائدة ، مما يعطي للآخرين انطباعا سلبيا عن التشريع الإسلامي الذي قد يتحول ، من خلال ممارسة كهذه ، إلى عمل عبثي ، تدفن معه ثروة حيوانية

٥٧

كبيرة تحت التراب ، في وقت يعاني فيه الكثير من الشعوب الإسلامية المجاعة ، علما أن القرآن أكد على استثمار تلك الأضاحي والانتفاع منها بشكل فردي أو جماعي كجزء من المساهمة في حل مشكلة الفقر ، وهو ما يؤدي تركه إلى إلغاء الهدف من التشريع نفسه ، وإلى تجميد الحكم الشرعي في صورة ذاتية ، بدلا من أن يتحرك ليحقق لنفسه وللإنسان ، مصداقية الحل الإسلامي للحياة.

وربما تحتاج المسألة إلى دراسة فقهية ، لتجاوز الإشكالات الشرعية التي يثيرها البعض حول المسألة ، ليصار إلى حلها من ناحية شرعية ، كما تحتاج إلى دراسة عملية واقعية ، لمواجهة المشاكل العملية في تنظيم الذبح وتوزيعه ..

* * *

الخروج من الإحرام

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) وهو ما أصابهم من الشعث والغبار ونحوهما مما تفرضه قيود الإحرام ، لينظفوا أجسادهم ويقلّموا أظفارهم ، ويأخذوا من شعورهم ، وليخرجوا من الإحرام ، لأن ذلك هو نهاية مدة الإحرام.

(وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) التي ألزموا بها أنفسهم ، وقد يكون المقصود بها الإحرام ، إذ إنه شبيه بالنذر لجهة ما يتضمنه من معنى الالتزام ، وقد يكون المقصود به النذورات الطارئة المتعلقة ببعض قضايا الإنسان الخاصة والمهمّة لديه ، (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ، ليكون الطواف نهاية العمل ، وقد جاء في الحديث عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أنه طواف النساء ، لأن الخروج من الإحرام يحلل للحاج كل شيء ما عدا النساء ، ولذلك فهو يحتاج إلى الطواف

٥٨

لتصبح النساء حلالا عليه .. ولا يرى المسلمون الآخرون ذلك ضروريا ، وتفصيل المسألة في الفقه.

والمراد بالبيت العتيق ، الكعبة ، التي كانت أول بيت وضع للناس كما جاء في قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) [آل عمران : ٩٦] ، وذلك لقدم بنائها.

* * *

تعظيم حرمات الله خير مطلق

(ذلِكَ) إشارة إلى ما تريد الآية تقريره من قضايا (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) وهي الدوائر التشريعية التي أحاطها الله بنواهيه ، أو المواقع التي أراد الله من الناس احترامها ، فلا يتجاوزون الحدود التي كلفهم بالوقوف عندها ، في ما تستدعيه الطاعة من خضوع لأمر الله ونهيه تعبيرا عن العبودية ، لأن تعظيم هذه الحرمات يمثل تعظيما عمليا لله ينال به الإنسان الدرجات الرفيعة عنده نتيجة القرب منه ، (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) في ما يعنيه الخير من النجاح والفلاح والسعادة والفوز في الدارين ، لأن الأفعال المؤثرة إيجابا على مستوى قضية المصير ، هي التي تبقى وتخلد ، وتعمّق في نفس الإنسان وحياته الطمأنينة الروحية والعملية على كل صعيد .. أمّا الانحراف عن خط الله ، والتمرّد على إرادته ، فإنه قد يحقق له بعض المكاسب واللذات ، وقد يجلب بعض الفرح الداخلي ، ولكنه لا يلبث أن يتحول إلى حزن دائم ، وقلق عميق ، بسبب النتائج السلبية التي يتركها على مستوى الدنيا والآخرة.

وقد نلاحظ أنّ الله قد أطلق الخير في الآية ، ولم يجعله متعلقا بشيء محدد ، للإيحاء بأن تعظيم الله بتعظيم حرماته ، يحمل الخير كل الخير

٥٩

للإنسان ، لأنه يمثل الخير الباقي عند الله ، لأن ما عندنا ينفد ، وما عند الله باق ..

وإذا كانت حرمات الله تتحرك في كثير من الموارد والمواقع والأفعال ، فإنها تشمل ما يأكله الإنسان من الحيوان ، فقد حرّم الله أكل بعض الحيوانات ، وأحلّ أكل بعضها الآخر ، تبعا لما يصلح أمر الإنسان أو يفسده ، لأن أحكام الله لجهة تحليل الأشياء وتحريمها ، تابعة للمصالح والمفاسد الكامنة في داخلها ، أو في أجوائها ، ولهذا أحل الله الأنعام للإنسان ، ليأخذ منها غذاءه ، رحمة به ، ورفقا بضعفه ..

* * *

أحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم

(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ممّا حرّمه في سورة المائدة في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣]. هذا إذا فهمنا المعنى الاستقبالي من الفعل المضارع في كلمة «يتلى» ، لأن المائدة هي آخر ما نزل من القرآن ، والمعنى : أن الله قد أحلّ لكم الأنعام إلا ما استثناه في كتابه ، فحافظوا على حدوده فيها ، فلا تحرّموا حلالها ، ولا تحلّوا حرامها ، ففي ذلك تعظيم عملي لحرمات الله في خط الالتزام.

وقد رأى بعض المفسرين أن استخدام صفة الحاضر في عبارة : (ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) كان قد نزل في سورة الأنعام ، إشارة إلى استمرار التلاوة ، باعتبار «أن محرمات الأكل نزلت في سورة الأنعام وهي مكية ، وفي سورة النحل وهي

٦٠