تفسير من وحي القرآن - ج ١٦

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٦

الثابتة التي توحي له بالمعاني الإنسانية كخط مستقيم من خطوط المصير. هذا إضافة إلى إحساسه العميق بأن الإيمان بالله ليس حالة فكرية مشابهة للمعادلات الرياضية ، بل هو ـ في طبيعته ـ حالة روحية تطل بالفكر على منطقة الشعور ، لتتحول إلى تجسيد واقعيّ للعقيدة والشريعة في وعي الإنسان وحياته.

وهذا هو التأثير الذي يستهدف الإسلام أن تتركه فكرة البعث في حركة الإنسان في وجوده وفي إيمانه ، لئلا يبقى وجوده مجرد مظهر عبثي ، ولئلا يتحول الإيمان إلى فكر جامد لا يوحي إلا بالأفكار التجريدية التي تضيع في آفاق الخيال ولا تلتقي بحركة الواقع ، ليكون ـ بالتالي ـ وجها للوعي المنفتح على الله من موقع المسؤولية.

* * *

٢١

الآيات

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (١٠)

* * *

معاني المفردات

(ثانِيَ عِطْفِهِ) ؛ الثني : الكسر ، والعطف ـ بكسر العين ـ الجانب. وجاء عن ابن عباس في قوله تعالى (ثانِيَ عِطْفِهِ) أي متكبرا في نفسه (١). وقيل : معناه : لاوي عنقه إعراضا وتكبرا عن الله ورسوله.

(خِزْيٌ) ؛ الخزي : الهوان والذلة والفضيحة.

* * *

__________________

(١) الطبرسي ، أبو الفضل بن الحسن ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، دار المعرفة ، ط : ١ ، ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م ، ج : ٧ ، ص : ١١٦.

٢٢

نموذج الضالّ المضلّ

وهذا نموذج آخر للذين يتحركون في الجدال من مواقع الجهل والضياع ويعرضون عن كل دعوة للعلم والتأمّل والحوار المنفتح على الفكر ... هؤلاء الذين لا يكتفون بضلالهم الذاتي الذي يتخبطون فيه ، بل يعملون على جعل الحياة كلها من حولهم ضلالا وابتعادا عن الحق المنطلق من وحي الله.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) فيثير الحديث حول الذات والصفات والأقوال والأفعال والوحي والنبوات والمعاد ، ونحو ذلك مما يتصل بالله ، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) دون مخزون من الأفكار والتأمّلات الذاتية التي ينتجها العقل المجرّد أو التجربة الشخصية ، (وَلا هُدىً) يتعلمه مما أنزله الله من وحي على رسله ، (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) مما كتبه أهل الحق من تعاليم الله عقيدة وشريعة ، (ثانِيَ عِطْفِهِ) أي الذي ينحرف بجانبه ، فيكسره ، كالمعرض الذي لا يلتفت إلى من حوله ، وهو كناية عن الاستكبار والإعراض عن الحق ، وذلك (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) من خلال الجدال الذي يحركه في اتجاه الضلال ، بجميع الوسائل التي يثيرها في الساحة.

وقد ذكر البعض أن الفرق بين هذا النموذج والنموذج السابق ، مع التقائهما بأنهما يجادلان في الله بغير علم ، أن هذا النموذج هو في المقلّدين ـ بفتح اللام ـ والآية السابقة في المقلّدين ـ بكسر اللّام ـ (١).

ولكن ذلك غير واضح ، فإن الآية الأولى إذا تحدثت عن اتباعه لكلّ شيطان مريد ، فإن هذه الآية انطلقت من عدم استناده إلى شيء ثابت ، مما قد

__________________

(١) انظر : الزمخشري ، أبو القاسم ، جار الله ، محمود بن عمر ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ج : ٣ ، ص : ٦.

٢٣

يوحي بأنه قد يشبه الأول في انطلاقه من موقع الانتماء إلى المضلّين ، وقد يكون الفرق بينهما ، أن الأوّل يعيش الضلال في ذاته ، أما الثاني فيمارس الدعوة إلى الضلال ، إضافة إلى ضلاله في نفسه ، مما يجعل جريمته أكبر ، لأنه يعمل على إخضاع الحياة للضلال.

* * *

الخزي والعذاب للضالّ المضلّ

(لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) لما يمثله الانحراف والضلال من عار وذلّ وفضيحة على صاحبه ، لأن جهل الإنسان بالحقائق الواضحة ، وابتعاده عن التفكير المنطقي في مواجهة القضايا العامة ، يفضحانه في ساحة الصراع الفكري والعقيدي ، (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) جزاء لتمرّده على الله ، بعد قيام الحجّة عليه ، في ما أنكره وجحده ، وفي ما أشرك به دون علم.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) ذلك هو الخطاب الحاسم الذي يواجه به عند ما يستنكر أو يحتج أو يتساءل ، فقد قدّمت يداك ـ وأنت في الدنيا ـ كل هذا النتاج الضخم من الأعمال الشريرة القائمة على الكفر والضلال ، دون ركيزة من علم ، ودون قاعدة من إيمان ، فهل هناك أيّ ظلم في ما تلقاه الآن من عذاب؟! فعذاباتك نتيجة طبيعية لأعمالك ، وقد أنذرك الله وحذّرك من كل ما تتعرض له الآن. (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ولكن الناس يظلمون أنفسهم بالكفر والمعصية والضلال الشديد.

وهذا النموذج الذي تقدمه الآية يمكن معاينته في الواقع في صورة الذين ينطلقون مع انتماءات الكفر والباطل ويتحملون مسئولية الدعوة إلى الأفكار الضالة التي تمثلها تلك الانتماءات ، في مجال العقيدة والشريعة والمنهج و

٢٤

والحياة ، فيحفظون شيئا مما يلقى إليهم ، ويختزنون ملاحظات سريعة ، ويشكلون أفكارا سطحية ينطلقون بها إلى الناس ، مستغلين بعض الأوضاع القلقة ، والزخارف الزاهية ، والمواقف المثيرة ، ليضلوهم بالشبهة والوهم والخيال ، وليحاصروهم بالمشاكل المتحركة في كل موقع من حياتهم التي توحي لهم بألف موقف ضلال.

* * *

٢٥

الآيات

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (١٣)

* * *

معاني المفردات

(عَلى حَرْفٍ) : على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه ، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة (١) وذلك على هدى قوله تعالى : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) [النساء : ١٤٣].

(فِتْنَةٌ) ؛ الفتنة : المحنة.

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ٣ ، ص : ٧.

٢٦

(انْقَلَبَ) : رجع.

(الْمَوْلى) : الولي الناصر.

(الْعَشِيرُ) : الصاحب المعاشر ، أي : المخالط.

* * *

عبادة الله على حرف

وهذا نموذج آخر ، وهو الإنسان الذي لا ينطلق في إيمانه من موقع تأمّل وتفكير ، ولا يتحرك في عبادته لله من قاعدة روحية عميقة ، أو من رؤية واضحة شاملة قوامها الانفتاح على الله والمعرفة الواعية به ، ولذلك فإنه يبقى ثابتا ما دامت الأمور منسجمة مع أوضاعه النفسية والحياتية ، وما دامت العبادة لا تكلّفه جهدا كبيرا ، أو تضحية مادية أو معنوية ، ولا تربك له ما اعتاده في حياته من تصرفات وعلاقات. أمّا إذا هدد الإيمان مصالحه بالتعقيد ، وشكلت العبادة خطرا على اتجاهه في الحياة ، وأصبح التزامه يؤدّي به إلى بعض الخسارة ، أو بعض المشاكل ، أو يفرض عليه اتخاذ مواقف رافضة لشخص يحبّه أو موقف يلتزمه ، أو يفرض عليه الانسجام مع من لا ينسجم معهم ، أو السير في طريق أو نحو غاية لا يرى فيها فرصة طيبة لأطماعه وشهواته ، فإنه يبادر إلى الانقلاب على إيمانه ، والابتعاد عن عبادته ، بسرعة وحسم ، خوفا من خسارة فرص الربح ، أو التعرض لتجربة الخسارة .. وهكذا تكون مسألة الإيمان بالنسبة لهذا النموذج من الناس موقفا سطحيا لا عمق له ، وتكون العبادة في حياته حركة في الشكل لا في المضمون.

٢٧

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) أي على طرف ، أو جانب واحد ، فلا ينطلق في العبادة بشكل كلي وشامل بعد دراسة كل الاحتمالات والإمكانات والاستعداد للنتائج الإيجابية أو السلبيّة التزاما بكل المواقف على جميع التقادير .. وهو حال الكثيرين ممن يطلبون الإيمان في حال السلم والربح والرخاء ، لا في حال الحرب والخسارة والشدّة .. وبذلك ينطبع إيمانهم بطابع الجوّ الذي يعيشونه في الداخل ، فهو لا يكون مستقرا إلا على الأرض التي لا تزورها العواصف ، ولا تسكنها الزلازل ، والتي يخيم عليها السكون .. إن هذه الجماعات تمثل نموذج الإنسان الذي يعيش الاسترخاء في إيمانه ، كما يعيش الاسترخاء في جسده ، في ما يشبه الخمول (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) واستراح له ، لأنه لا يلامس إلا الجوانب الإيجابية في حياته ، مما يرضي طموحه ، ويريح حياته ، (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) مما يفتن به الله عباده من البلاء المتنوّع في أجسادهم وفي أموالهم ، وفي شهواتهم وأهلهم وأولادهم ، اهتز إيمانه أمام التجربة الصعبة ولم يستطع الثبات أمامها ، فيسقط ، ويسقط معه النموذج الذي يمثله ، فهو نموذج يخيّل له وللناس أنه ثابت قويّ ، ولكن إذا ما جاءته الفتنة (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) وارتدّ عن دينه ، وابتعد عن مواقع الخير في خط الله ، واقترب من مواقع الشر في خط الشيطان ، فيورّطه في أكثر من مشكلة ، ويوقعه في أكثر من مهلكة ، مما كان يظن فيها أنها تنجيه ، فإذا بها ترديه ، ومما كان يحسب أنها تخفف عنه ، فإذا بها تشدّد الأمر عليه.

* * *

بئس من يدعون إليه

(خَسِرَ الدُّنْيا) التي كان يؤمّل فيها فخاب ظنه وخسر صفقة يمينه

٢٨

(وَالْآخِرَةَ) بخسارته الجنة بابتعاده عن رسالة الله ، واقترابه من نار جهنم ، و (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) لأنه يمثل الخسارة الشاملة المطلقة التي لا ينفع معها أيّ ربح طارئ ، لأن أيّ قدر منه يبدو ضئيلا أمام حجم الخسارة.

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) لأنه يفتقد الشعور والإرادة ، ولا يملك قوّة مستقلة ، ولا يستطيع أن يحقق للآخرين أيّ نفع ، أو يدفع عنهم أيّ ضرر ، لأنه ، سواء أكان مخلوقا حيّا أم جامدا ، فهو لا يملك في ذاته إلا ما ملّكه الله إيّاه .. و (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) لأن لجوءه إلى هذه المخلوقات لا يؤمّن أي مصدر للقوّة ، أو أيّ مورد للنفع أو الربح يمكن أن يبقى للإنسان منه شيء في الدنيا والآخرة ، مما يجعل اتجاهه ذاك يزجّه في الضياع البعيد الذي لا يستطيع أن يرجع منه إلى أيّ هدى. (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) لما يضعه من خطط تقود تابعه إلى الشرّ الذي يعقّد حياته في الدنيا ، ويهلكه في الآخرة ، مما يجعل ما يحصل عليه من شهوات وملذات يحققها له أمرا غير ذي معنى. (لَبِئْسَ الْمَوْلى) الذي يأمل في نصرته ، فلا يجد لديه أيّة إمكانية للنصر ، لافتقاره إلى أي قدر من القوة ، (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) وبئس الصاحب الذي يعاشره ، لأنه لا ينفعه ، بل يقوده إلى الضرر المحقق في ما يوجهه إليه من مواقع الهلكة في الدنيا والآخرة.

* * *

٢٩

الآيات

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) (١٦)

* * *

معاني المفردات

(بِسَبَبٍ) : السبب كل ما يتوصل به إلى الشيء ، ومنه قيل للحبل سبب ، وللطريق سبب ، وللباب سبب ـ كما قال الطبرسي ـ (١).

(لْيَقْطَعْ) : القطع : معروف ، ومن معانيه الاختناق ، يقال :

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٧ ، ص : ١١٧.

٣٠

قطع : أي : اختنق ، وكأنه مأخوذ من قطع النفس ـ كما جاء في الميزان ـ (١).

* * *

الله ناصر نبيّه

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الذين اختزنوا الإيمان في عقولهم ومشاعرهم كحقيقة للفكر وللعاطفة في دائرة التصور والالتزام ، وعاشوه في ممارساتهم في دائرة المسؤولية العملية كخطّ للحياة ؛ كان جزاؤهم (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ينعمون بها في ساحة رضوانه (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) فهو الذي أراد لهم الكرامة ، وهو الذي يحقق إرادته في الواقع ، ولا يستطيع غيره ذلك ، لأنه هو الذي يملك الأمر كله ، ولا يملك غيره منه شيئا ..

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ، والضمير في (يَنْصُرَهُ) ـ كما قيل ـ راجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان المشركون في مكة يستهينون به ، ويستصغرون دور رسالته ، ويظنون أنه لا يملك حمل الناس على الإيمان بها ، والدخول في دينه ، واتساع سلطانه ، لأن موقعه الاجتماعي لا يتيح له ذلك ، ولأن رسالته تصدم العقيدة العامة للناس ، لذا كانوا ينتظرون سقوطه وانتهاء دوره بين لحظة وأخرى ، ولكنهم فوجئوا بانتصار رسالته ، وتجسدها في الواقع ، ودخول الناس في دينه أفواجا ، فغاظهم ذلك وخيّب أملهم ، فجاءت الآية لتواجههم بذلك وتقول لمن لم يعجبه الأمر : (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) وذلك بأن يمد حبلا فيربطه بجذع شجرة عال (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) الحبل فيختنق به (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) مما لا يعجبه من نصرة الله لنبيّه؟! فكأن

__________________

(١) الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م ، ج : ١٤ ، ص : ٣٥٢.

٣١

الآية تؤكد ، بأسلوب يشبه التحدي ، أن من لا يعجبه ذلك ، فلينتحر وليختنق بغيظه ، لأنه لن يحقق ما يحبه مهما فعل ، فإما أن يقبل بالواقع وينسجم معه ، وإمّا أن ينسحب من الحياة.

وقد فسره البعض بإرجاع الضمير إلى (مَنْ) ، وهو الشخص نفسه الذي يعيش عدم الثقة بالله وبتدبيره لخلقه ، ودفعه الشر عنه وجلبه الخير له ، والآية تدعو هذا الشخص إلى الصعود إلى السماء بأيّ سبب يملكه من وسائل الصعود ، «ثم ليقطع المسافة فلينظر هل ينفعه كيده في إزالة غيظه لما يدعى إليه من دين الله ، فإن الذي حكم الله به لا يبطل بكيد الكائد» (١). ومن هنا ، فهو لن يستطيع أن يحقق شيئا لنفسه في الدنيا والآخرة ، لأنه لا يملك من الأمر شيئا ، فهو إن لم يكن واثقا بأن الله هو القادر على رفع ما يمكن أن يحلّ به من بلاء الدنيا أو عذاب الآخرة ، فليحاول أن يتوسل الحلّ من قدرته الذاتية ، بعيدا عن الله ، وسيرى أنه لن يقدر على شيء من ذلك ، لأنه مهما حاول الارتفاع صعودا إلى السماء ، أو النزول هبوطا إلى الأرض ، فلن يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا إلا بالله ، ولعل هذا الوجه أقرب إلى السياق العام للآيات من الوجه السابق ، لأن إرجاع الضمير في (يَنْصُرَهُ) إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينسجم مع عدم ذكره في الآية من قريب أو من بعيد ، والله العالم.

* * *

الله يهدي من يريد

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ) توضح الفكرة ، وتدلّ على طريق الهدى ، بما تشتمل عليه من دلائل على الإيمان ، وبراهين على قضاياه ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٧ ، ص : ١٢١.

٣٢

وتأكيدا على عقلانية طروحاته ، في مواجهة طروحات الكفر التي لا تثبت أمام النقد.

(وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) الهداية ، ممن انفتح عقله وقلبه على الحق. النازل في كتاب الله ، وعاش مسئولية الهداية بمتابعته لكل مفرداتها التي يتحرك بها الفكر في موارد الحق ومصادره ، وفي ما يتنزّل به الوحي من آيات الله وشرائعه. وربما كان المعنى أن الله يهدي من يريد هدايته بما يهيئ له من أسباب الهداية في نفسه وفي حياته من خلال حركة الواقع من حوله على أساس قانون السببية ، لأن من لم تتعلق إرادته بهدايته ، فلا هادي له ، فلا تكفي الآيات البيّنات في هداية من سمعها أو تأمّل فيها ما لم يرد الله هدايته ـ كما يقول صاحب تفسير الميزان ـ (١).

ولكنّ إرادة الله اقتضت أن يكون سبيل الهداية خاضعا لإرادة الإنسان ، بانفتاح قلبه على الحق النازل من الله ، وبانفتاح عينيه وأذنيه على ما يوضح له أسباب العظمة الإلهية ، ووسائل الهداية الروحية والفكرية ، وبذلك فلا يكون هناك فرق بين التفسيرين في النتيجة .. ولا مانع من أن يكون الضمير راجعا إلى الله ، وهو أمر جرى عليه الأسلوب القرآني ، حيث يربط الأمور كلها بإرادة الله للإيحاء بأن كل شيء صادر منه ، لإخضاعه النظام الكوني لعلاقة حتمية بين المسببات وأسبابها.

* * *

__________________

(١) انظر : تفسير الميزان ، ج : ١٤ ، ص : ٣٥٤.

٣٣

الآية

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١٧)

* * *

يوم القيامة يوم فصل الخلافات

وتستمر الخلافات حول العقيدة والشريعة والحياة والكون وقضايا الإنسان العامة والخاصة بين الناس ، وتتطور الأساليب الجدليّة والوسائل الإقناعية التي يبتدعها كل فريق من أجل إخضاع الفريق الآخر لفكره ورأيه ، وقد تؤدّي الخلافات إلى نزاعات وحروب دامية ، وقد تنقضي الحياة دون أن يحقق أيّ فريق منهم انتصارا على الآخر .. ولكن كل ذلك سينتهي غدا أمام الله عند ما يقف الجميع بين يديه ، ويتجلى الحق واضحا بيّنا دون ريب ، مما لا يدع مجالا لشبهة ، في أيّ شأن من تلك الشؤون التي كانت مثارا لخلافاتهم ،

٣٤

وتكون كلمة الله هي كلمة الفصل ، لأنه الشاهد الحيّ على كل ما يختلفون فيه من عالم الغيب والشهود ، لأن الغيب عندهم هو حقيقة الشهود عند الله.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) وهذا هو المصطلح الذي يستخدمه القرآن للدلالة على المسلمين الذين التزموا شريعة الإسلام ، بإيمانهم بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (وَالَّذِينَ هادُوا) وهم اليهود المنتسبون إلى موسى الملتزمون بالتوراة ، (وَالصَّابِئِينَ) الدين هم عبدة الكواكب من الوثنيين أو هم قوم متوسطون بين اليهودية والمجوسية ولهم كتاب ينسبونه إلى يحيى بن زكريا النبي ـ عليه‌السلام كما قيل ـ (وَالنَّصارى) وهم المؤمنون بعيسى عليه‌السلام ومن قبله من الأنبياء ويلتزمون بالإنجيل ، كما يلتزمون بالتوراة ، (وَالْمَجُوسَ) وهم المؤمنون بزرادشت ، وكتابهم المقدس «أوستا» (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) وهم عبدة الأوثان .. كل هؤلاء الذين يقوم النزاع بينهم في الحياة على قاعدة العصبيّة الضيّقة التي تحبسهم في دائرة ذواتهم ومصالحهم ، فلا يحاورون بغية الوصول إلى الحق ، ولا يواجهون قضاياهم العقيدية والعملية بالفكر ، ويبقى كل واحد منهم مكانه ، لا يسمح لأحد بمناقشته في ما هو الخطأ والصواب ، لأن الانتماء عنده موقع ذاتي ، ودائرة ضيقة ، لإمكان فيها لأيّ عنوان فكريّ في العمق وفي الامتداد ، مما يؤدي إلى التقاتل والتحاقد وهلاك الحياة من حولهم ، (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) في ما يحكم بينهم ، وفي ما يثيره أمامهم من وضوح الرؤية للأشياء التي كانت خفيّة عنهم ، أو بعيدة عن مواقع وعيهم ، فلا يبقى هناك مجال لشبهة ، ولا موقع لريب ، بل هي الحقيقة الإلهية الواضحة كما النهار ، المشرقة كما الشمس ، في حدود النبوّات الزمنيّة ، وفي طبيعة الرسل الرسالية بما هي الكتب في حقائقها التي تتمرد على الانحراف والتحريف ، وبما هي حقيقة الربوبية التي تتعالى عن الشرك والوثنية ، ليعرف الجميع كيف تبرز الحقيقة الواحدة ، وكيف يتلاشى الضباب من موقع الصحو الروحي الباحث أبدا عن الذوبان في آفاق الله (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، لأنه يملك

٣٥

الحضور كله في أدقّ الأشياء وأخفاها ، وأوضح الأمور وأجلاها ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

وفي هذه الآية لون من ألوان التهديد الإيحائي الموجّه إلى من انحرفوا عن الحقيقة وهم قادرون على الاستقامة ، وعاشوا في الضباب وهم في مواقع الصحو ، واتجهوا إلى الضلال وهم يملكون إمكانية الاتجاه إلى الهدى ، فيقول لهم الله : إنهم إذا كانوا يلتزمون ما يلتزمونه من ضلال وانحراف انطلاقا من حالة تعصب أو ضيق أفق ، أو طمع ، ويرفضون اللقاء بالحق والهدى والاستقامة ، تمردا وتكبرا واستعلاء ، ولا يقبلون بالحسم الفاصل بينهم في الموقف والموقع ، سيلتقون غدا بالموقع الحق الذي يقفون فيه بين يدي الله ليفصل بينهم في ما كانوا فيه يختلفون ، وليعرفوا أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا ، لأن الله هو الذي يملك الأمر كله.

* * *

٣٦

الآية

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (١٨)

* * *

كل ما في الكون ساجد لله

كيف يريد الله لنا أن نجسّد عظمته في وعينا الفكري والروحي والعملي ، لنتمثلها ونعيشها في إيماننا به؟ إنه يريدنا أن نتطلع إلى خلقه ، لنرى المخلوقات كلها تمارس العبادة والخشوع أمامه بطرق متنوعة ، تختلف أشكالها وأوضاعها تبعا لاختلاف طبيعة هذه المخلوقات.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من مخلوقات عاقلة وغير عاقلة عبر خضوعها المطلق له ، وانفعالها بجلال عظمته ، (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) اللذان يجريان وفق النظام الكوني الموضوع لهما من قبل الله ، هذا

٣٧

النظام الحاكم حركة الإنسان والحياة ، (وَالنُّجُومُ) التي تتلألأ في السماء ، فتبدو كما لو أنها مصابيح معلّقة في الفضاء ، ولكنها في الواقع أكوان فسيحة تختلف في طبيعتها وأشكالها وخصائصها ، ولكنها لا تختلف في خضوعها لله ، عبر ما أودعه فيها من قوانين ونظم كونية ، يتجلى فيه السجود الكونيّ له ، (وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ) الذي يهتز فيه الورق ويخضرّ ، وتنمو فيه الثمرة وتنضج ، وتعلو فيه الأغصان وتتمدّد ، وينطلق فيه جذعها ويرتفع في الفضاء ، في موسم معيّن ، للاخضرار ، وللنموّ ، وللقطاف ، ضمن تخطيط إلهيّ كامل لا يبتعد عنه ولو مقدار شعرة .. (وَالدَّوَابُ) التي يمشي بعضها على أربع ، ويزحف بعضها على بطنه ، ضمن إلهام إلهيّ حدّد لها حركة الحياة وأخضعها لخط سير محدد يمثل سجودا واقعيا بأكثر من طريقة وطريقة .. (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) الذين آمنوا بالله فكرا وشعورا وحركة حياة ، فعفّروا جباههم ووجوههم بالتراب على صورة ما يعنيه السجود في حياة الإنسان.

* * *

حق العذاب على العاصين

(وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ممن تمردوا على الله فلم يؤمنوا به ، ولم يطيعوه ، ولم يخضعوا له ، ولم يسجدوا بين يديه ، استكبارا وجهلا ، فأهانهم الله بالعذاب الذي يذيقهم إيّاه يوم القيامة جزاء على انحرافهم ، دون أية حجة لهم في ذلك كله ، (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) لأن إكرام الله هو الإكرام ، فهو الذي يملك الأمر كله ، والقيمة كلها ، فلا قيمة لإكرام غيره في الشكل والمضمون والامتداد ، لأن غيره لا يملك لنفسه أيّة قيمة أو كرامة إلا بالله. (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) في ما يكرم به عباده المؤمنين به المطيعين له ، أو

٣٨

في ما يهين به عباده الكافرين به العاصين له .. الذين يرفضون السجود له في كل وجودهم.

* * *

٣٩

الآيات

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) (٢٤)

* * *

معاني المفردات

(خَصْمانِ) : قال صاحب المجمع : «الخصم : يستوي فيه الواحد والجمع ، والذكر والأنثى. يقال : رجل خصم ، ورجلان خصم ، ورجال

٤٠