تفسير من وحي القرآن - ج ١٦

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٦

الآيات

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٥٢)

* * *

معاني المفردات

(يَتَوَلَّى) : يعرض.

(يَحِيفَ) ؛ الحيف : الجور.

* * *

٣٤١

بين الإيمان وثبات الانتماء

وهذا نموذج من الناس الذين يخضعون انتماءهم إلى الرسالة لمصالحهم ، فإذا التقت الرسالة بمصالحهم تلك أيّدوها ، وإذا ابتعدت عنها رفضوها وتمردوا عليها .. وهكذا تكون مسألة الانتماء لديهم خاضعة للمصلحة الذاتية ، لا للقناعة الفكرية الرسالية ، مما يجعلهم يتلوّنون تبعا للألوان التي تطرأ على الموضوع ، دون أصالة في القناعة والانتماء .. ويضع الله موقف هؤلاء في مواقع النفاق الذاتي التي تكون فيها المصلحة الشخصية هي المرتكز ، بحيث يهتز معها التحرك ليتحوّل إلى حالة من الاهتزاز في العلاقات والكلمات والأفعال ، فيكون الإنسان ذا موقفين : داخلي وخارجي ، وذا وجهين : مشرق ومظلم ، وذا كلامين : كافر ومؤمن ، فيخسر الطمأنينة في الدنيا ، والمصير في الآخرة.

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) في إعلان للانتماء وللموقف المرتبط بخط الرسالة في حركة الإيمان ، (وَأَطَعْنا) في انفعال عملي بالمضمون الشرعي لأوامر الله ونواهيه ، ولتعاليم الرسول وشرائعه ، ولكن حركة الواقع الاختبارية التي تواجه الناس بالمشاكل والتحديات في مواقع الالتزام ، تجعل البعض يثبت أمام التجربة الصعبة ويستمر في خط الإيمان ، ويسقط البعض في الامتحان ، فلا يطيقون الآلام التي تفرضها أحيانا المواقف الصلبة ، ولا يتحملون الخسائر المعنوية والمادية التي قد تحصل في ساحة الصراع بين الحق والباطل.

(ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الإعلان الحماسي الاستعراضي الذي أطلقوه في الحالة التي لا تتضمّن التحديات في ما توحي به البدايات من الأحلام الخالية من حركة المشاكل.

٣٤٢

(وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) لأن الإيمان يمثل العقيدة القويّة الثابتة في فكر الإنسان وقلبه ، المتجذرة في عمق حياته ، المتحركة في خط أهدافه ، فإذا اهتزت به الأرض ، بسبب عوامل الاهتزاز ، عمل على منحها الثبات من خلال النظرة المستقبلية الواعية الواثقة بالله ، والحركة المنفتحة على الواقع في عملية تخطيط مدروس يحسب حساب كل المتغيّرات الطارئة بدقة ، ويوحي للإنسان بالاستعداد لذلك كله.

ومن خلال ذلك ، نستطيع أن نفهم أن الإيمان ليس كلمة ، وليس موقفا ظاهريا ، بل هو عمق فكري وروحي وعملي يتجسد في موقف وحركة والتزام. لهذا نفت الآية صفة الإيمان عن هؤلاء ، لتثبتها ـ في ما بعد ـ للملتزمين بالخط ، الثابتين عليه ، وتمضي الآيات في إبراز بعض ملامح هذا الاهتزاز العملي الذي يوحي بفقدان القاعدة الفكرية للانتماء.

* * *

ملامح الاهتزاز في نفوس المنافقين

(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) لتكون شريعة الله المنطلقة من مضمون الإيمان هي الحكم في ما بينهم ، في ما تميز به بين الحق والباطل (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) لا يستجيبون للدعوة ، لأنهم غير مستعدّين للالتزام بنتائج الحكم الذي يستهدف إقامة الحقّ إذا ما كان في غير مصلحتهم ، ولكنهم إذا عرفوا أن النتيجة ستكون لصالحهم ، أقبلوا على الدعوة ، واستجابوا لها ، لأنهم يستجيبون أوّلا وآخرا لمصلحتهم ، لا لانتمائهم الذي يدعونه ، (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) وهذا ما يفعله كثير من الناس إذا ما واجهوا مشكلة مع الآخرين ، فهم يبادرون إلى سؤال أهل الاختصاص بالشريعة ، ليعلموا كيف يكون مجرى الدعوى ، وهل تكون لصالحهم إذا أثيرت أمام الحاكم الشرعي ،

٣٤٣

أو تكون لغير صالحهم ، فإذا رأوها منسجمة مع ما يريدون أقبلوا إلى حكم الشريعة ، وإلّا أعرضوا عنها. ولكن ، لم يفعلون ذلك؟ وكيف يواجهون المسألة بهذه الطريقة؟

يطرح القرآن التساؤلات في نطاق الاحتمالات المطروحة : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في ما يمثله النفاق من مرض روحي وفكري ، (أَمِ ارْتابُوا) بعد أن كانوا يعيشون القناعة بالحق الذي يمثله حكم الله ، فحدث لهم الشك بعد ذلك ، (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) ويجور عليهم ويظلمهم في حكمه؟ ولكن هل يعقل أن يفعل الله ذلك؟ فما هي حاجة الله إلى الظلم وهو العادل الذي لا يظلم أحدا من عباده ، والقويّ الذي تهيمن قوته على كل شيء؟

ويأتي الجواب المنطلق من عمق شخصية هؤلاء في كل أفكارهم وأعمالهم : (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم بالانحراف والمعصية والابتعاد عن حكم الله.

* * *

الملتزمون بحكم الله ورسوله هم المفلحون

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ، لأن تلك الطاعة تجسيد للموقف الإيماني في صورته الواقعية ، في ما يمثله من التزام بالرسالة لتأكيد مسألة الانتماء ، ولتعميق الإخلاص لله ولرسوله في مظهرهم العملي بالطاعة .. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لأن سبيل الفلاح الوحيد في حياة الناس ، هو الارتباط بالله في علاقتهم بكل شيء حولهم ، باعتبار أن كل ما في الحياة هو من الله وله ، وأن الإنسان نفسه هو ملك الله.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في أقواله وأفعاله وعلاقاته والتزاماته ، بحيث

٣٤٤

تكون الطاعة خطه المستقيم في كل حياته (وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ) فيراقبه في كل شيء ، ويحسب حسابه في جميع الأمور ، بحيث تشكّل التقوى عمق فكره وروحه وحياته وحركته في مجرى الأحداث ، فهو يعيش مع الله ، ويدرك سرّ عظمته وقوّته ، ويعرف موقع نعمته في وجوده وفي كل تفاصيل حياته ، ويخاف من عقابه ، ويرغب في ثوابه ، فيلتقي بأوامره ونواهيه من أقرب طريق ، وذلك هو سبيل الفوز في الدنيا والآخرة ، فمن أخذ بهذا الخط من الناس (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الذين يحصلون على رضى الله وجنته ونعيمه في الدار الآخرة ..

* * *

٣٤٥

الآيتان

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٥٤)

* * *

الله خبير بطاعة المنافقين الكاذبة

ويتقدم المنافقون إلى رسول الله ، وقد شعروا بأن مواقفهم المهتزة بدأت تثير الشك لديه ولدي المسلمين المخلصين في إيمانهم ، وبأنهم لم يستطيعوا إخفاء ملامح النفاق في حركتهم العملية في الواقع الإسلامي ، وهكذا أرادوا أن يتقدموا إليه ليظهروا وقوفهم في خط الطاعة في الحرب الدائرة بين المسلمين والكافرين ، ليحصلوا على الثقة من جديد ..

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) كما يفعل من يشعر في داخله بسوء

٣٤٦

موقفه ، ويحس بإدراك الآخرين لخفاياه ، أو بعدم ثقتهم بإخلاصه ، فيبادر إلى الأيمان المغلّظة التي يطلقها بمناسبة وغير مناسبة ، ليؤكّد صدقه بهذا الأسلوب الحاسم. وهكذا جاءوا وأقسموا الأيمان المغلظة (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ) من ديارهم وأموالهم ، ولكن الله أراد للرسول أن يصدمهم بقوّة ، ويواجههم بالحقيقة الداخلية المظلمة التي تختفي وراء صورتهم المشرقة .. (قُلْ لا تُقْسِمُوا) لأنكم مهما أقسمتم ، فإن ذلك لن يغير من القناعة بنفاقكم ، بل ربما تكون كثرة الأيمان أساسا للشك والاتهام ، لأن الإنسان الواثق من صدقه وبراءته يستخدم الأسلوب الطبيعي في إثارة قضيته ، ولا يبتدئ إثارتها بتقديم التأكيدات غير العادية ، لأنه لا يرى ضرورة لذلك ما دام لا يجد في موقفه أساسا لأيّ شكّ أو اتهام.

(طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أي أن طاعتكم ليست طاعة حقيقيّة سببها الالتزام بالرسالة والرسول ، بل هي طاعة ظاهرية منطلقة من مواقع الكذب والرياء ، غرضها تفادي الإحراج ، كي لا ينكشف أمركم لدى الجميع ، ولكن أمركم معروف لله الذي يعرف بواطن الأشياء وخفايا الأمور.

وذكر بعض المفسرين أن معناها : قل «لا تقسموا ، فالخروج إلى الجهاد طاعة معروفة من الدين ، وهو واجب لا حاجة إلى إيجابه بيمين مغلّظ» (١). وهو خلاف الظاهر من سياق الآيات.

(إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) وقد أخبرنا الله عنكم بما فيه الكفاية ، مما جعلكم معروفين لنا بكل وضوح.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ١٤٩.

٣٤٧

إن تطيعوا الله والرسول تهتدوا

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فهذا هو الخط المستقيم الذي ينبغي لكم ولكل الناس التزامه في كل المواقف والمواقع ، وعدم الانحراف عنه قيد شعرة ، استنادا إلى قناعة حقيقية في الفكر والروح والشعور ، من خلال الإيمان العميق الصافي الواضح ، (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضتم وامتنعتم عن الاستجابة له ، وأصررتم على الكفر والنفاق ، (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) من مسئولية التبليغ ، فلا بد له من أن يخلص في ذلك ويبذل كل جهده ليوصل الدعوة إلى كل أذن ، ويدخلها في كل قلب ، ويثيرها في كل مكان .. فإن قام بما يجب عليه فقد قام بمسؤوليته أمام الله ، وإن أهمل ذلك فإنه يتحمل نتائج ذلك أمام الله ، (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) من الانقياد والطاعة (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ، لأن ذلك هو الخط المستقيم الذي يصل بكم إلى الله ، وهو غاية الغايات في كل شيء ، ولكن مهما كانت مواقفكم منه ، فلن تضروه شيئا .. (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فذلك هو دوره أمام الله وأمام الناس.

* * *

٣٤٨

الآيات

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٥٧)

* * *

وعد المؤمنين بالخلافة

قد يعيش المؤمنون في صراعهم مع الكافرين والطاغين حالة من الضغط القاسي الذي يهدّد الطمأنينة والشعور بالأمن والاستقرار ، لما يثيره الكافرون من مشاكل لهم ، وما يضعونه من عراقيل في طريقهم ، وما يفرضونه من حصار على تحركاتهم ، الأمر الذي يعيق تقدّمهم في اتجاه الوصول إلى تحكيم

٣٤٩

الإيمان في حركة الحياة ، كعنوان لحكم الإسلام في فكره وشريعته ، مما يقودهم إلى اليأس والانسحاق تحت تأثير عوامل الضعف الذاتية والخارجية. ولكن الله يريد لهم الاستمرار في الانفتاح على الأمل الكبير القادم منه ، لأن التغيير في الحياة لا يحدث في حدود زمنية ضيّقة ، بل يحتاج إلى مدى طويل من الزمن والتخطيط ، يعمل فيه على محاصرة الخطط المضادّة ، وإضعاف القوى المعادية ، وتقوية المواقع الخيّرة الإيمانية ، مع مواكبه دائمة للمتغيرات والظروف المتحركة لدراسة إمكانات استغلالها في التحرك الجديد .. فإن تغيير الإنسان يختلف عن تغيير المكان ، لأن هندسة الشخصية الإنسانية تحكمها أفكار ومشاعر متحركة قابلة للتغيير وللتبديل مع كل المتغيرات الواقعية ، بينما تحكم هندسة المكان خطوط ثابتة لا تقبل التغيير والاهتزاز .. فالإنسان عنصر متحرك قلق ، بينما الأرض والحجارة وما إلى ذلك عنصر ثابت مستقر ..

ولهذا ، فإن على المؤمنين مواصلة السير ، والأخذ بأسباب التغيير التي سنّها الله في الكون ، والتقوّي بوعد الله لهم بالنصر في مستقبل الحياة.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) فيجعل لهم القوّة والسيطرة والخلافة ، بحيث يصبحون الأمناء على إدارة شؤون الأرض التي يسيطرون عليها (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السابقة التي عاشت الاضطهاد والقهر والإذلال ، ولكن الله جعلها في موقع الانتصار والقوّة ، فاستطاعت تكوين مجتمعاتها الصالحة ، كما حدّثنا الله عن بعض هؤلاء في قوله تعالى : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ* وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم : ١٢ ـ ١٣] وبذلك تكون الإشارة إلى القوم الصالحين الذين سبقوهم من أتباع الأنبياء.

٣٥٠

وذكر بعضهم «أن المراد بالذين استخلفوا من قبلهم بنو إسرائيل ، لمّا أهلك الله فرعون وجنوده ، فأورثهم أرض مصر والشام ، ومكّنهم فيها كما قال تعالى فيهم : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ)» (١) [القصص : ٥ ـ ٦].

وقد رد عليهم صاحب تفسير الميزان بقوله : «إن المجتمع الإسرائيلي المنعقد بعد نجاتهم من فرعون وجنوده ، لم يصف من الكفر والنفاق والفسق ، ولم يخلص للذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا حينا على ما ينص عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة ، ولا وجه لتشبيه استخلاف الذين آمنوا وعملوا الصالحات باستخلافهم وفيهم الكافر والمنافق والطالح والصالح.

ولو كان المراد تشبيه أصل استخلافهم بأصل استخلاف الذين من قبلهم ـ وهم بنو إسرائيل ـ كيفما كان ، لم يحتج إلى أشخاص المجتمع الإسرائيلي للتشبيه به ، وفي زمن نزول الآية ، وقبل ذلك أمم أشدّ قوّة وأكثر منهم كالروم والفرس وكلدة وغيرهم» (٢).

ونلاحظ على هذه المناقشة ، أن المراد بالآية ، والله العالم ، هو المجتمع المؤمن الصالح من خلال الواجهة العامة التي تحكم مسيرته وهي الإيمان والعمل الصالح ، كعنوانين للخط الذي كان هو الأساس في اضطهادهم ، وليس من الضروري أن يكون كل أفراد المجتمع ملتزمين بالإيمان ، تماما كما هو حال كل مجتمع يتحرك من أجل التخلص من وضع ظالم ، أو من حكم كافر ، أو من خطّ منحرف ، فإن المسألة التي تحكم قضية الاستخلاف فيه ، هي القيادة التي تتحرك معها الجماعات الكبيرة في المجتمع ، مع وجود أفراد قليلين أو كثيرين ، يخالفون توجّه القيادة ، أو الجماعات الملتزمة.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ١٥٢.

(٢) (م. ن) ، ج : ١٥ ، ص : ١٥٢.

٣٥١

وهكذا رأينا أن الآية التي تحدث عنها هذا البعض ، كانت تتحدث عن الذين استضعفوا من بني إسرائيل في مقابل فرعون وهامان ، كما أشارت إليه في ما بعد : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص : ٦] وذلك على أساس أنّ واجهة المجتمع الإسرائيلي هي الدعوة إلى الإيمان بقيادة النبي موسى عليه‌السلام مع الذين اتّبعوه ، في الوقت الذي بقيت فيه جماعات كثيرة من بني إسرائيل تعيش عقلية العبودية على أساس قيم المجتمع الفرعوني ، ولكنّ ذلك لا يمنع أن السلطة قد تغيرت من سلطة يحكمها الكفر إلى سلطة يحكمها الإيمان والعمل الصالح.

وقد يكون الاحتمال الذي ذكره هذا البعض ، في أن المراد ب (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بنو إسرائيل ، قريبا إلى الذهن ، باعتبار أن المرحلة التاريخية التي استطاعت فيها حركة الأنبياء إسقاط الطغاة ، والحصول على القوّة وتكوين المجتمع المؤمن المنفصل عن ضغط الطغاة ، هي مرحلة النبي موسى عليه‌السلام بعد مواجهته للطاغية فرعون .. ولم نجد في القرآن أيّ تلميح لمرحلة يتحرك فيها المؤمنون من موقع التمكين لهم في الأرض إلا هذه المرحلة ، مما يبعث على اعتبار هذا التطبيق مقبولا قرآنيا.

(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) وذلك بانتشاره بين الناس ، بحيث يتحوّل إلى مركز قوّة في الساحة الفكرية والعملية ، لكثرة المنتسبين إليه ، والداعين إلى اعتناقه ، والمتحركين من خلال مفاهيمه ، والدارسين له ، والحاكمين باسمه ، مما يجعل من حركته في حياة الناس حركة قويّة متجذّرة في عمق الواقع الإنساني على أكثر من صعيد.

* * *

٣٥٢

الله يبدّل خوف المؤمنين أمنا

(وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) عند ما ترتفع الضغوط القويّة القاسية عن المؤمنين ، وتسقط التحديات الكبيرة أمام مواقع قوتهم ، وتكتمل لهم عناصر القوّة ، وتقلّ عناصر الضعف ، ويتحوّلون إلى أمّة كبيرة واسعة الانتشار ، كثيرة الموارد ، قويّة المواقع والمواقف والتحديات ... فهناك يعيشون الأمن الذي لا خوف فيه على أصل الوجود ، كما كانوا في بداية الدعوة ، لأن وجودهم غير محكوم لأيّ اهتزاز أو ضعف ، ويتحركون على أساس الواقع الطبيعي الذي قد يختلط فيه الأمن بالخوف تبعا لما تفرضه مفردات الصراع العامة التي يدور حولها الخلاف وتتحرك فيها الحروب.

(يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) لأن المجتمع الذي يتحرك من خلال الإسلام بقوّة ، لا يسمح ببقاء الأوهام الكبيرة التي تسيطر على العقل والروح والشعور وتتحرك مع الواقع ، بحيث ترفع بعض الأشخاص في وعي الناس إلى مصافّ الآلهة ، لأنّ الإسلام في فكره التوحيديّ وفي مفاهيمه العميقة الدقيقة في تفسير الكون وحركة المجتمعات في الحياة ، لا يترك مجالا لمثل هذه الأوهام الشركيّة ، بل يجعل التوحيد في العقيدة وفي العبادة أساسا لحركة الإنسان في الداخل والخارج.

وعلى ضوء ذلك ، نستطيع أن نفهم أن تغيير الحكم في المجتمع من خلال مراكز القوّة فيه ، هو الذي يحقق المناعة ضد الانحراف للمؤمنين ، وهو الذي يدفع الحائرين إلى السير في طريق الهدى بما يؤمّنه من أجواء الاستقامة ، ليحصّن الساحة من كل عوامل الاهتزاز والإضلال ، (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، لأن الكفر لا ينطلق ، في النظرة القرآنية ، من حالة

٣٥٣

فكرية ثابتة ، تبرر للكفر مفاهيمه ، وتؤكّد له قناعاته ، بل ينطلق من الضغوط النفسية التي يستجيب فيها الإنسان للضعف الذاتي الكامن في داخله أمام تحديات مواقع القوة ، ولذلك فإن الإنسان في المجتمع المؤمن المتحرك في المواقع الحرّة للفكر ، وفي الآفاق الواسعة للإيمان ، وفي الساحات الكبيرة للحرية وللعدالة ، لا يملك مبررا للكفر ، لأن الشبهة الطارئة لا تتحول إلى عقدة في داخله ، لوجود الحرّية التي تقبل مناقشة كل الشبهات والإجابة عنها ، الأمر الذي يجعل من السير في طريق الكفر حالة تنطلق من موقع العقدة لا من موقع الفكر ، بحيث يخرج الإنسان بها عن التزاماته في حركة الوجود ، التي تتطلب منه الاعتراف بالله إلها واحدا ، والسير على خط شريعته ومنهجه .. وذلك هو شأن الفاسقين الذين يعيشون الحرية أمام الله ، والعبودية أمام عبيده.

* * *

اختلاف المفسرين حول المقصودين بالاستخلاف

وقد اختلف المفسرون في تطبيق الآية على الواقع التاريخي أو المستقبلي ، وفي تحديد المقصودين بالذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين وعدهم الله بالاستخلاف.

فهناك من قال : إن المراد بهم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين كانوا يعيشون الخوف والضغط والاضطهاد من قبل المشركين الذين كانوا يملكون السيطرة المطلقة على المؤمنين ، فوعدهم الله أن يجعلهم الخلفاء على الناس من بعدهم ويمكّنهم في الأرض ويبدّلهم من بعد خوفهم أمنا ، وهذا ما حدث لدى سيطرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعده ، وسيطرة المسلمين على المنطقة كلها ..

وهناك من قال : إنها تعمّ الأمة كلها في ما أفاء الله عليها من انتصارات

٣٥٤

وفتوحات جعلتها في مدة طويلة من الزمن تهيمن على الأمر كله ، حتى أصبح الإسلام القوّة الكبرى في العالم ، وشعر المسلمون بالعزة والكرامة والأمن والقوّة والسيطرة.

وهناك من قال : إنّ المراد بها الخلفاء الراشدون ، ومنهم من قال : إن المراد بها المهدي المنتظر ، وقد وردت عدة روايات في هذا الرأي أو ذاك.

وإننا نعتقد أن الآية جاءت من أجل أن تثير في نفوس المسلمين الثقة الكبيرة بالله وبأنفسهم ، وتكشف لهم الغيب الإلهيّ الذي يتحرك من سنن الله في الكون ، في ما يمنحهم الله من لطفه وفي ما يأخذ به الناس من أسباب النصر ، في الدعوة والحركة والجهاد ، في كل ما تحتاجه الحياة من عناصر القوّة للرسالة وللإنسان ، كي لا يتساقطوا تحت تأثير الضغوط الصعبة التي تطبق عليهم وتحيط بهم من كل جانب ، وكي لا يضعفوا أمام نوازع الضعف الكامنة فيهم ، ليستمروا في التحرك ، وليتابعوا المسيرة بقوّة وجدّ وإخلاص ..

ولم تكن لتقتصر على مرحلة من المراحل ، أو جيل من الأجيال ، لأنها تؤكد الموقف على أساس الإيحاء برعاية الله للإسلام والمسلمين على امتداد مسيرتهم في خط الحياة ، ولذلك فمن الممكن تطبيقها على كل مرحلة استطاع الإسلام فيها أن يحكم ويمتد ويهيمن ، واستطاع المسلمون أن يعيشوا فيها الطمأنينة والقوّة والثبات ، وعلى كل مرحلة مستقبلية تتّصف بهذا الوصف. ولكن ، مهما اختلفت التطبيقات ، فلا بد من إدخال المرحلة الأولى للدعوة وذلك تثبيتا من الله للمسلمين كي لا يخضعوا للاهتزازات التي كانت تتحرك في حياتهم ، وللضغوط المحيطة بهم .. ليثبتوا على المبدأ ، ويلتزموا بالإسلام.

جاء في نهج البلاغة كلام قاله علي لعمر ، عند ما استشاره لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمعوا للحرب ، قال عليه‌السلام : إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلّة ، وهو دين الله الذي أظهره ، وجنده

٣٥٥

الذي أعزه وأمدّه ، حتى بلغ ، ما بلغ ، وطلع ما طلع ، ونحن على موعود من الله ، والله منجز وعده وناصر جنده (١).

فلننطلق مع وعد الله ليكون عنوانا لكلّ مسيرتنا المتحركة بين الأشواك ، على طريق مزروعة بالألغام ، وفي مواجهة كل قوى الشر ، لنؤمن ، من مواقع الارتباط بالله في كل موقف ، والاعتماد عليه في كل شيء ، بأننا منتصرون ، مهما أطلت علينا أشباح الهزائم ، وأننا آمنون ، مهما أحاطت بنا عوامل الخوف ، وأننا الأقوياء ، مهما تحركت في حياتنا نقاط الضعف ، وأننا بالله ننتصر ، وبه نأمن ، وبه نملك القوة التي تمنحنا الثبات والصمود في كل المواقع.

وأمّا قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فالتناسب من جهة مضمونة قائم وصريح مع ما سيق من آيات قبله. فقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أمر منه تعالى بطاعته في ما شرعه لعباده من عبادات وطاعات ، وتخصيصه هنا للصلاة والزكاة بالذكر فحسب ، فلكونهما ركنين أساسيين من أركان التكاليف التي ترجع إليه تعالى وإلى الناس.

وأمّا قوله : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ، ففيه تقرير لولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الناس ، وإمضاء لحكومته وقضائه عليهم.

وأما قوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فواردة مورد التعليل لأوامره هذه مجتمعة ، وذلك لما يتعلق بها من مصلحة العباد في الدنيا والآخرة. فالتزام أوامر الله تعالى ، والتزام أوامر الله تعالى ، والتزام أوامر نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من شأنه أن يعم الصلاح في أوساطهم ، وأن يرفع من بينهم بذور الشقاق

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة : ١٤٦ ، ص : ١٤٤.

٣٥٦

والنفاق ، وأن يجعلهم ملتزمين خط الحق والاستقامة الذي تنعقد له وحده مفاتيح الخير والبركة ، لا سيما إذا ما كان منطلقه الله تعالى ، ومراده الله تعالى.

وأمّا قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ففيه تأكيد قاطع لما سلف من وعده تعالى باستخلاف المؤمنين في الأرض وتمكينهم منها وإبدالهم خوفهم أمنا ، وذلك من خلال مخاطبته تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الجزم القاطع ، بأن لا يظن الكفار أنهم معجزون الله في أرضه فيحولون بينه وبين مشيئته بما عندهم من القوة.

ومن الآية تفوح معالم بشرى واضحة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأن مآل الكفار إلى الانهزام ، ومآل المؤمنين إلى النصر.

* * *

٣٥٧

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٦٠)

* * *

معاني المفردات

(مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) : العبيد والإماء.

٣٥٨

(الْحُلُمَ) : البلوغ.

(جُناحٌ) : إثم.

(وَالْقَواعِدُ) : العجائز.

* * *

أحكام استئذان الدقيق والأطفال

وهذا حديث عن لون من ألوان الأدب الاجتماعي في الإسلام ، لجهة دخول الأولاد والرقيق على الكبار من أهل البيت ، حتى تتبنى التربية خطا واضحا محدّدا في هذا المجال ، يمنع الانحراف من جهة ، ويوحي باحترام حرية الفرد في حياته الخاصة ، خاصة في حالات الاسترخاء التي يخلو فيها الإنسان لأهله ولنفسه دون قيد ، مما يجعل البيت يعيش نظاما متوازنا يعرف فيه كل واحد موقعه وحدوده في ما يتعلق باقتحام خلوات الآخرين ، طفلا كان أو بالغا ..

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من العبيد والإماء على سبيل التغليب (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) من المميّزين من الأطفال الذين يعيشون أجواء المعاني الجنسية للعلاقات بحيث يميزون بين وظائف الأعضاء ويفهمون طبيعة ذلك كله (ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) وهو كناية عن كونهم على حال لا يحبون أن يراهم الأجنبي عليها ، (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) لأنكم تكونون في هذه الحالة وحدكم أو مع أهلكم في حالة من التحرر في اللباس وفي الوضع الجسدي ، بحيث تستترون عن الآخرين فيها ، فلا تريدون أن يفاجئكم أحد على مثل هذه الحالة ، فلا بد لكم من أن تتولّوا تربيتهم وتعوّدوهم على عدم الدخول عليكم إلا بعد

٣٥٩

الاستئذان منكم في هذه الأوقات التي تعوّدتم فيها أن تأخذوا حريتكم الشخصية في داخل بيوتكم أو غرفكم ..

أمّا خارج هذه الأوقات التي لا يكون فيها الاسترخاء الجسدي حالة طبيعية للشخص في بيته ، فلا مشكلة في ترددهم عليكم (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) لأنكم تكونون في أوضاع محتشمة لا تسيء إلى خصوصياتكم وإلى طهارة تفكيرهم الذي ينبغي أن يعيشوه تجاه هذه القضايا الخاصة ، لذا فإن باستطاعتهم أخذ حريتهم في ذلك ، (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) في ما يحتاجه كل واحد من الآخر في خدماته.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) التي توضح للإنسان منهجه وطريقته في الحياة ، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يعلم أحوالكم ويراعي قواعد الحكمة في ما يدبره من أموركم في تخطيط التشريع ، وفي حركة الواقع.

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، وهم البالغون من الرجال والنساء الأحرار ، لأن هناك حواجز شرعية تمنعهم من الدخول بدون إذن.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وعليكم أن تفهموها وتلتزموا حدود الله فيها ، لأنها منطلقة من وحي الله الذي يعلم كل شيء ويحكم بالمصلحة في حياة الإنسان.

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) لأنهن بلغن سنا كبيرا لا يرغب أحد معه في الزواج منهن ، وقيل : هن اللائي يئسن من الحيض.

(فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) بأن يتخفّفن من الحجاب ، فيضعن بعض ثيابهن عن بعض جسدهن (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) بأن لا يظهرن في طريقتهن في اللباس ما يوحي بالزينة ويظهر محاسنهن بطريقة أو بأخرى ، وهي استثناء من الحجاب الواجب على النساء.

٣٦٠