تفسير من وحي القرآن - ج ١٦

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٦

بالحناء» (١).

وقد يذكر البعض أن المراد بالزينة معناها الظاهر ، وهو ما تزين به من حليّ وملابس ونحوهما مما تتزين به النساء عامة في رؤوسهن ووجوههن وغيرها من أعضاء أجسادهن ، مما يعبر عنه في هذا الزمان بكلمة التجميل عامة .. وبذلك تكون الآية ظاهرة في النهي عن التبرج الذي تبدي المرأة به كامل زينتها.

ولعل هذا الاحتمال هو الذي يظهر من طبيعة الكلمة في مدلولها اللغوي ، الذي يعني ما تتزين به المرأة من الأشياء الخارجية .. ولا ينافي ذلك أن الزينة مما يجوز إظهاره في نفسه ، لأن المقصود به هو الزينة في مكانها من الجسد ، لا في مكان آخر .. ولكن هناك حديثا عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام رواه الكافي بإسناده عن الفضيل ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الذراعين من المرأة ، أهما من الزينة التي قال الله تبارك وتعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ)؟ قال : نعم ، وما دون الخمار من الزينة ، وما دون السوارين(٢) ، مما يؤكد أن المراد بها مواضع الزينة.

* * *

الزينة المسموح بها

(إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) الظاهر أن المراد منه الوجه والكفان والقدمان ، وذلك في ما جاءت به الرواية عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : قلت له :

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ٣ ، ص : ٦١.

(٢) الكافي ، ج : ٥ ، ص : ٥٢٠ ، رواية : ١.

٣٠١

ما يحل للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما ، قال : الوجه والكفان والقدمان (١) .. وقد يظهر من بعض الروايات عنه ، في قول الله عزوجل : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) قال : الزينة الظاهرة : الكحل والخاتم (٢) ، وفي بعضها الخاتم والفتخة ، وهي القلب .. مما يوحي بالمعنى المتقدم وهو إرادة الزينة نفسها في موقعها لا موقعها فحسب.

وقد جاء في بعض التفاسير أن المراد بقوله : (ما ظَهَرَ مِنْها) أي : ما كان ظاهرا لا يمكن إخفاؤه ، أو ظهر بدون قصد الإظهار من هذه الزينة. وهذه الجملة تدل على أن النساء لا يجوز لهن أن يتعمّدن إظهار هذه الزينة ، غير أن ما يظهر منها بدون قصد منهن ، كأن يخف الرداء لهبوب الريح وتتكشف بعض الزينة مثلا ، أو كان ظاهرا بنفسه لا يمكن إخفاؤه كالرداء الذي تجلل به النساء ملابسهن ، لأنه لا يمكن إخفاؤه ، وهو مما يستجلب النظر لكونه على بدن المرأة على كل حال ؛ فلا مؤاخذة عليه من الله تعالى ، وهذا هو المعنى الذي بيّنه عبد الله بن مسعود ، والحسن البصري ، وابن سيرين ، وإبراهيم النخعي لهذه الآية. ويتابع هذا المفسر القول : وعلى العكس من ذلك قول غيرهم من المفسّرين : إن معنى (ما ظَهَرَ مِنْها) ما يظهره الإنسان على العادة الجارية ، ثم هم يدخلون فيه وجه المرأة وكفّيها بكل ما عليها من زينة ، أي أنه يصحّ عندهم أن تزين المرأة وجهها بالكحل والمسحق والصبغ ، ويديها بالحنّاء والخاتم والحلق والأسورة ثم تمشي في الناس كاشفة وجهها وكفيها .. وهذا المعنى للآية مرويّ عن عبد الله بن عباس وتلامذته ، وإليه ذهبت طائفة كبيرة من فقهاء الحنفية ..

ويعلّق هذا المفسر على ذلك فيقول : أمّا نحن ، فنكاد نعجز عن أن نفهم

__________________

(١) الكافي ، ج : ٥ ، ص : ٥٢١ ، رواية : ٢.

(٢) (م. ن) ، ج : ٥ ، ص : ٥٢١ ، رواية : ٣.

٣٠٢

بأي قاعدة من قواعد اللغة يجوز أن يكون معنى (ما ظَهَرَ) : ما يظهره الإنسان بقصده ، فهذا واضح لا يكاد يخفى على أحد ، والظاهر من الآية أن القرآن ينهى عن إبداء الزينة ويرخّص فيما إذا ظهرت من غير قصد ، فالتوسع في هذه الرخصة إلى حدّ إظهارها عمدا مخالف للقرآن ومخالف للروايات ، التي يثبت بها أن النساء في عهد النبي ما كنّ يبرزن إلى الأجانب سافرات الوجوه ، وأن الأمر بالحجاب كان شاملا للوجه ، وكان النقاب قد جعل جزءا من لباس النساء إلا في الإحرام».

والظاهر أن هذا النوع من الاجتهاد في فهم القرآن في أحكامه التشريعية خاضع للواقع الذي يعيشه المفسّر في محيطه في طريقة الحجاب ، مما يجعل هذه الصورة قريبة إلى ذوقه ، وفهمه ، فيؤدي به ذلك إلى أن يفهم القرآن على هذا الأساس .. وربما كان ذلك هو المسؤول عن كثير من فتاوى الفقهاء في وجوب ستر الوجه والكفين. ونحن نريد أن نناقش هذا الفهم من خلال التركيز على عبارة : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) التي استفاد منها هذا المفسر الظهور الطارئ العفوي الذي لا يكون عن اختيار شخصي للإنسان .. فقد نلاحظ أن هذا لا يؤدي إلى النتيجة التي أرادها ، لأن ظهور الشيء بنفسه قد يكون من خلال طبيعة الوضع الاجتماعي الذي درج عليه الناس في حياتهم ، بحيث يمارسونه بطريقة عفويّة ناشئة مما جرت العادة والجبلّة على ظهوره ، والأصل فيه الظهور ، كما يقول صاحب تفسير الكشاف(١).

ولم يثبت من الروايات الأمر بالنقاب بحيث يكون ساترا للوجه ، ولعلّ

__________________

(١) جاء في الكشاف : فإن قلت : لم سومح مطلقا في الزينة الظاهرة؟ قلت : لأن سترها فيه حرج ، فإن المرأة لا تجد بدّا من مزاولة الأشياء بيديها ، ومن الحاجة إلى كشف وجهها ، خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها وخاصة الفقيرات منهن. (تفسير الكشاف ، ج : ٣ ، ص : ٦١).

٣٠٣

الإشارة إلى ضرب الخمر على الجيوب ، في ما يأتي من الآية ، يوحي بأن الوجه لا يطلب فيه الستر لأنه لو كان كذلك لكان الأولى بالذكر ، باعتبار أن إظهاره من الأمور التي لا يقتصر فيها الأمر على جماعة معينة من الناس في الصدر الأول من الإسلام ، بينما كان كشف الصدور شاملا لكل العصور.

وقد نستطيع استيحاء جواز كشف الوجه والكفين مطلقا من خلال التأكيد على حرمة سترهما في حال الإحرام ، لأنه الحالة التي قد يتأكد فيها الستر إذا كان واجبا ، فالكشف لا يتناسب مع طبيعة الأجواء الطاهرة التي يراد للحاج أن يبتعد فيها عن مواقع الإغراء ، مما يجعلنا نستوحي أن هذا الأمر الجائز بطبعه في الوضع العام ، أصبح واجبا في حال الإحرام كي تعاني المرأة من حرارة الشمس في وجهها ، ما يعانيه الرجل من حرارتها في رأسه ، في ما ورد به الأثر : «إن إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه» (١).

* * *

ضرب الخمر على الجيوب

(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) ، أي : يلقين بخمرهن ـ وهي أغطية الرأس ـ على جيوبهن ، والجيب ـ في ما قيل ـ : فتحة القميص ، والمراد بها الصدر من باب إطلاق اسم الحال على المحلّ. وعلى ضوء ذلك ، فإنّ واجب النساء ستر صدورهن ونحورهن بالغطاء الذي يستر رؤوسهن .. وقد ذكر أن جيوب النساء في الجاهلية كانت واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها ، وكنّ يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة ، فأمرن أن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها (٢).

__________________

(١) الكافي ، ج : ٤ ، ص : ٣٤٥ ، رواية : ٧.

(٢) تفسير الكشاف ، ج : ٣ ، ص : ٦٢.

٣٠٤

(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) أي : أزواجهن ، فللزوج أن يرى من امرأته ما شاء ، (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَ) من الآباء والأجداد للأب وللأم ، لصدق الأب على الجميع (أَوْ أَبْنائِهِنَ) ويشمل الأولاد وأولادهم.

(أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ) ويشمل أحفادهم ، (أَوْ إِخْوانِهِنَ) من الأب والأم أو من أحدهما (أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ) الأولاد والأحفاد.

اما جواز إبداء الزينة لهؤلاء ، فلأن العلاقة التي تربط المرأة بهم علاقة ذات طابع خاص ، محكومة للحواجز النفسية التي تمنعهم من التفكير الجنسي والانجذاب الغريزي تجاهها بسبب الأحكام الشرعية والتقاليد الاجتماعية والقيم الإنسانية العميقة في وعي الناس التي تجعلهم من المحارم مم ، أيجعل الانجذاب الجنسي إليهم عملية انحراف بعيدة عن المألوف وعن الوضع الطبيعي للعلاقات الإنسانية.

لكنّ هذا الموضوع قد يخضع لكثير من الاهتزازات النفسية التي تدفع الإنسان إلى الانحراف والشذوذ ، وتحمله على الاعتداء على ابنته أو أخته أو ابنة أخته أو أخيه ، بسبب التوجيهات اللاأخلاقية التي تثير الغريزة في الاتجاه المتمرد على الحرام ، أو بسبب الأفلام الخلاعية ، أو القصص المثيرة ، ونحو ذلك مما أصبحنا نسمع الكثير منه في عالمنا المعاصر.

ولذلك ، فلا بد من الرقابة الدائمة على حركة العلاقات ، وضبط الأجواء المثيرة ، والعمل على إيجاد الضوابط الخارجية بالإضافة إلى الضوابط الداخلية في عمق الذات .. فقد دلّت التجارب على أن الاعتماد على التقاليد في مثل هذه الأمور لا يحقق أيّة ضمانة عاصمة ، فمن السهل تفتيت القيم الروحية والأخلاقية عند وجود اتجاه تربوي مضادّ لها بالوسائل المنحرفة المتنوعة.

(أَوْ نِسائِهِنَ) اختلف في المراد بالنساء هنا ، هل المراد النساء المسلمات ، فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تكشف زينتها على غير المسلمة ،

٣٠٥

فيجب عليها التستر منها كما تتستر أمام الرجال الأجانب ، أم أن المراد جميع النساء ، وتكون الإضافة بلحاظ الانسجام مع طريقة التعبير في ما قبلها؟! وقد جاء في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام ما يوحي بكراهة إبداء الزينة لغير المسلمات من النساء ، فقد جاء في كتاب الفقيه : روى حفص بن البختري عن أبي عبد الله ـ جعفر الصادق عليه‌السلام قال : لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية والنصرانية ، فإنهن يصفن ذلك لأزواجهنّ (١). وتحقيق ذلك موكول إلى كتب الفقه.

(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) من الإماء والجواري ، وقيل : إنه يشمل العبيد ، وروي ذلك عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ، والمسألة موضع خلاف فقهي لدى فقهاء المسلمين .. (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) وهم الأشخاص الذين لا يشتهون النساء ، من الخدم والأجراء ، ممن تقدم بهم السنّ ، أو كان لديهم عجز جسدي يعطل قدرتهم على الجنس ، أو كان لديهم ضعف عقليّ يجعلهم في حالة اللّاوعي المتوازن ، فإن إبداء الزينة لهم لا يسبب أيّة إثارة ، ولا يسيء إلى عفّة المرأة.

(أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) وهم الأطفال غير المميزين الذين لم يعرفوا طبيعة وظائف عورات النساء من الناحية الغريزية ، ولم يفرقوا بينها وبين بقية أعضاء الجسم ، وقيل : إن ذلك كناية عن عدم البلوغ ، وذلك بأن يراد من قوله : (لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي : لم يقووا ولم يظهروا ، من الظهور بمعنى الغلبة على أمور يسوء التصريح بها للنساء ، كالجماع ونحوه.

(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) كالخلخال والعقد والقرط والسوار ، وقد نستوحي من ذلك وجوب الابتعاد عمّا يثير الرجال ويدفعهم إلى

__________________

(١) الفقيه ، ج : ٣ ، باب : ٢ ، ص : ٥٦١ ، رواية : ٤٩٢٨.

٣٠٦

التفكير بالعلاقات المحرمة.

(وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لتصلحوا ما فسد من أعمالكم ، ولتبتعدوا عن عوامل الانحراف ، ولتنطلقوا في خط الإيمان المتحرك على أساس الأخلاق القرآنية ، لأن ذلك يهيئ لكم أسباب الفلاح في الدنيا والآخرة ، فإن التوبة تمثل الندم على ما حدث في الماضي من انحرافات ، والعزم على تصحيح العمل في المستقبل.

* * *

٣٠٧

الآية

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٣٢)

* * *

معاني المفردات

(الْأَيامى) : جمع أيّم : وهو الشخص الذي لم يتزوج ، ذكرا كان أو أنثى.

* * *

الزواج من الصالحين

في هذه الآية علاج لمفهوم اجتماعيّ طبقيّ يرتكز على أساس اعتبار الثروة عنصرا حيويّا في إقامة العلاقات الزوجية بين الناس ، مما يجعل المجتمع يرفض الفقير أو الفقيرة اللذين يريدان الزواج مهما كانت درجة

٣٠٨

الكفاءة العلمية والروحية والأخلاقيّة التي يتمتعان بها ، ويقبل في المقابل الغني حتى لو لم يكن لديه شيء من كفاءة العلم والروح والأخلاق.

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى) غير المتزوجين (مِنْكُمْ) أي : من الأحرار (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ) أي : العبيد المملوكين لكم المتميزين بالصلاح في سلوكهم العملي ، (وَإِمائِكُمْ) من النساء المملوكات الصالحات ، ولا تمتنعوا عن تزويجهم ، أو تسهيل أمور زواجهم بسبب فقرهم ، لأن الفقر ليس عيبا في الإنسان ، وليس صفة لازمة له ، بل هي حالة طارئة ناشئة من ظروف موضوعية خارجة عنه ، وقد تتبدل الظروف والأحوال ، فينقلب الفقر إلى غنى ، بما يهيئه الله من أسباب الرزق ، لأن ذلك كله بيد الله ..

وعلى ضوء هذا ، فلا تتوقفوا عن تسهيل تزويجهم بل ادرسوا أخلاقهم ، واتركوا مسألة الفقر والغنى لله ، (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) بما يتفضل به على عباده (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) فلا يضيق عنه شيء ، ولا يضيق بأيّ شيء ، ولا يخفى عليه شيء من أمور عباده ومن شؤون الحياة التي تحيط بهم .. وقد جاء الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوّجوه فإن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ..» (١) ، مما يؤكد استحباب تزويج صاحب الخلق والدّين وإن كان فقيرا ، ويوحي بخطورة الاستغراق في الجانب المالي من شخصية الزوج ، لأن ذلك يؤدي إلى إفساد العلاقات الزوجية بإبعادها عن العناصر الأساسية لإنجاحها وهي صفات الإنسان الذاتية.

وقد نستوحي من الآية تشجيع الفقير على الزواج دون أن يمنعه الفقر من ذلك ، فقد جاء عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من ترك

__________________

(١) النوري ، مستدرك الوسائل ، دار الكتب الإسلامية ، ج : ١٤ ، باب : ٢٤ ، ص : ١٨٨ ، رواية : ١٦٤٦٦.

٣٠٩

التزويج مخافة العيلة فقد أساء ظنه بالله عزوجل ، إن الله عزوجل ، ان الله عزوجل يقول : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)» (١).

* * *

__________________

(١) الكافي ، ج : ٥ ، ص : ٣٣٠ ، رواية : ٥.

٣١٠

الآيتان

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٣٤)

* * *

التزام العفة عند تعذّر النكاح

في الآية الأولى حديث عن نقاط ثلاث :

النقطة الأولى : في قوله تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

وهي التي تعالج الحالات التي يعيش فيها الناس ظروفا صعبة تمنعهم من

٣١١

الزواج لأنه يتوقف على بعض الإمكانات المادية التي لا يملكونها أو على بعض الشروط التي لا تتوفر لديهم .. فكيف يتصرفون ؛ هل ينحرفون عن خط العفة ، فيلجئون إلى العلاقات غير الشرعية ، أو يلتزمون بالعفة في معاناة نفسية شاقة ويصبرون على نداء الغريزة في أجسادهم ، حتى تتحسن الظروف وتتوفر الإمكانات؟.

إن الآية تضع الالتزام بالعفّة خيارا وحيدا لهم ، لأن الزنى قد يوفر لهم إرواء شهواتهم ، وإشباع غرائزهم ، ولكنه يخلق لهم مشاكل كثيرة على أكثر من مستوى ، مما يسيء إلى إنسانيتهم الصافية المنفتحة على الله ، بينما تمثل العفة الغنى الروحي الذي يحس فيه الإنسان بقوّة شخصيته ، كلما استطاع أن يواجه النوازع الذاتية المنحرفة ، بالإيمان القويّ ، والتقوى الصلبة .. فليصبروا (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، في ما يهيّئه من أسباب الرزق التي تساعدهم على الزواج.

وعلى ضوء ذلك ، توحي الآية القرآنية بأن الفقر ليس مبرّرا شرعيا للانحراف ، فلا بد للفقير من الصبر حتى تزول الظروف الخانقة التي تحاصره وتمنعه من الزواج.

* * *

مكاتبة العبيد والإماء

النقطة الثانية : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ).

وهذه وسيلة من الوسائل التي شرعها الإسلام لتحرير الأرقاء من العبيد والإماء وهي المكاتبة ، وهي عبارة عن عقد بين المملوك ومالكه يقضي بأن

٣١٢

يدفع المملوك للمالك مقدارا من المال في وقت معين ، قسطا واحدا أو أقساطا ، فإذا أدّاها كاملة تحرّر بشكل كامل ، وإن أدى منه بعضا تحرر بقدره إن كان العقد غير مشروط بتأدية الجميع ، وإلا انتظر إكمال الجميع في الحكم بحريته.

وقد أراد الإسلام للمالكين أن يستجيبوا للعبيد إذا أرادوا ذلك ، تأكيدا لإرادة الحرية في شخصية العبد ، وتسهيلا لحركة الحرية في حياته ، وهذا هو قوله تعالى في الآية : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) وربما أوجب بعض الفقهاء الاستجابة لهم في هذا الطلب ، على أساس ظهور الأمر بالوجوب ، وقد أوكل الله ذلك إلى قناعة السيد بأن العبد يملك الخير في اتفاقه هذا ، ولم يذكر كذلك مقياسا معينا ، مما يوحي بأن الأمر وارد على سبيل الإرشاد ، لا على سبيل الإلزام.

«والمراد بالخير ـ في ما ذكره البعض ـ ثلاثة أمور ، الأول : أن تكون بالعبد الأهلية لأداء مال المكاتبة بالكسب والحرفة ، كما روى أبو داود في المراسيل عن يحيى بن أبي كثير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) ، قال : «إن علمتم فيهم حرفة ، ولا ترسلوهم كلّا على الناس». الثاني : أن يكون من حيث الأمانة جديرا بأن يعاهد سيّده ثقة بصدق قوله ، فإنه إذا لم يكن كذلك وكاتبه سيده ، فلا يكون منه إلا أن يستريح من خدمة سيده وينفق كل ما يكسب في الوقت نفسه. والثالث : أن لا يكون السيد يعرف فيه من النوازع الخلقية السيئة ، أو عواطف العداوة للإسلام والمسلمين ، ما يخاف ، على أساسه ، أن تكون حريته خطرا على المجتمع الإسلامي. وبكلمة أخرى ، يجب أن يكون العبد حيث يرجى منه أن يكون بعد حريته فردا صالحا من أفراد المجتمع الإسلامي ، لا عدوّا متربصا له الدوائر. والذي ينبغي أن يلاحظ ـ بصفة خاصة ـ في صدد هذا البحث ، أن أغلبية الأرقّاء في ذلك الزمان كانت تتألف من أسارى الحرب ، فكانت الحاجة شديدة جدا إلى

٣١٣

الاحتياط والدقّة في أمرهم» (١).

وقد جاء في بعض كلمات الإمام الصادق عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) قال : الخير أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويكون بيده عمل يكتسب به أو يكون له حرفة (٢). وربما كانت كلمة الخير تختزن أكثر من معنى يتصل بسلوكه في الحياة العامة.

(وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) ولعله إشارة إلى إيتائهم من الزكاة المفروضة ، فقد جعل الله أحد مصارفها في الرقّ ، وربما كان ذلك إشارة إلى إسقاط شيء من مال المكاتبة ، أو مساعدتهم بالتبرع لهم والتصدق عليهم ، فإن ذلك يعجّل في حريتهم. والحديث في التفاصيل موكول إلى كتب الفقه.

* * *

الحضّ على عدم إكراه الإماء على البغاء

النقطة الثالثة : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) فقد جاء في تفسير القمي ، قال : «كانت العرب وقريش يشترون الإماء ويضعون عليهن الضريبة الثقيلة ويقولون : اذهبن وازنين واكتسبن ، فنهاهم الله عن ذلك» (٣).

ولم يكن التعليق على إرادة التحصن واردا مورد الشرط الذي يوحي بالرخصة في الإكراه على تقدير عدم إرادة التحصن ، بل هو وارد مورد بيان الموضوع للإكراه ، كما تقول : «إن رزقت ولدا فربّه تربية صالحة ، فإنه لا معنى لأن يستفاد منه : إن لم ترزق ولدا فلا تربّه ، لأنه يكون من قبيل انتفاء الشيء

__________________

(١) المودودي ، أبو الأعلى ، تفسير سورة النور ، ص : ١٩٦ ـ ١٩٧.

(٢) الفقيه ، ج : ٣ ، باب : ٥٢ ، ص : ١٣٢ ، رواية : ٣٤٩١.

(٣) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ١١٨ ـ ١١٩.

٣١٤

بانتفاء موضوعه .. ومقامنا من هذا القبيل ، فإنه لا مجال للإكراه على تقدير عدم إرادة التحصن ، لأن الإكراه يمثل إجبار الفتيات على الزنى مع رغبتهن في العفة ، فمع عدم رغبتهن في ذلك ، فإن الطلب لا يكون منسجما مع الرغبة .. وربما كان الوجه في هذا التعليق الإيحاء للموالي ، بأن الفتيات إذا أردن التحصن ، فإنهم أولى بإرادته.

(لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) في ما تريدون الحصول عليه من أموال أو مواقع عامة أو خاصة في المراكز الاجتماعية والسياسية ، مما لا يدوم لكم مهما امتد بكم العمر ، لأنكم ستفارقون ذلك عند ما تموتون ، أو قبل أن تموتوا ، ثم تواجهون مسئوليته عند ما تبعثون ، فهو مجرد عرض زائل لا امتداد له ولا ثبات.

(وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سواء في ذلك النساء المكرهات على الزنى ، أو الذين أكرهوهنّ عليه ، لأن الله لم يحمّل الإنسان المكره مسئولية الفعل الذي أكره عليه ، فالفعل الذي يقع في دائرة الحساب ، هو الفعل الذي يتحرك من موقع الوعي والإرادة ، فإذا انتفت الإرادة الحرّة ، انتفى العقاب ، جاء عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث أنه قال : «رفع عن أمتي ... ما استكرهوا عليه ..» (١) ، وكذلك إذا تاب الذين أكرهوهنّ وأصلحوا ، فإن الله يغفر للجميع ، ويشملهم برحمته ، بمعنى أنه لا يعاقبهم ولا يحمّلهم نتائج ذلك الفعل الشنيع.

وإذا كانت الآية قد تناولت الإماء من النساء ، فإن أجواءها تطال المبدأ الذي يشمل الحرائر اللاتي يردن العفّة ، في الوقت الذي تضغط فيه الظروف عليهن كي يخضعن لإرادة بعض الرجال الذين يدفعونهن لبيع أجسادهنّ والاتجار بها للانتفاع بما يكسبنه من مال من وراء ذلك.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ، ج : ٦ ، باب : ٢٦ ، ص : ٤٢٣ ، رواية : ٧١٣٦.

٣١٥

ومن خلال ذلك نستوحي أن الله يندد بهذا الأسلوب القذر من الاستغلال ، حيث يستغل البعض ظروف بعض النساء الصعبة التي تحملهن على اللجوء إلى هؤلاء ، فيعمدون للاستفادة من ذلك وإيقاعهن في حبائلهم ، ثم دفعهن إلى الخضوع لأطماعهم الخاصة .. وهناك من يعملون على إجراء عقد زواج مع بعض الفتيات الباحثات عن حياة مستقرة ، ثم وبعد وقوع الفريسة في حبائلهم يتاجرون بأجساد أولئك الفتيات في سوق الزنى ، لدى الباحثين عن اللذة ، فلا تملك الفتاة أمام ضغوط الرجل في هذه الحال أن تريد أو لا تريد ، أو أن تتخلص من ذلك ..

* * *

الآيات موعظة للمتقين

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) في ما أراده الله للناس أن يهتدوا به من مفاهيم عامة تفتح قلب الإنسان وعقله على الله وعلى ما يوحيه في رسالاته ، مما يرتفع به إلى المستوى الأعلى في الفكر والروح والحياة .. (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) في ما عاشوه من تجارب فاشلة أو ناجحة ، مما يمكن أن تستفيدوا منه في ما تواجهونه من مشاكل الحياة في مسائل الإيمان والكفر ، والنجاح والفشل ، والربح والخسارة ، فتأخذون منها ما يوفّر عليكم الوقوع في تجارب مماثلة ، قد تجهدكم ، وقد تتعبكم ، وقد تسقطكم ، ولكن الله يعطيكم الفكرة المنطلقة من تجارب الآخرين ناضجة قويّة دون جهد ودون مشكلة .. (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) في ما تفتح قلوبهم على الحق النازل من الله ، المنطلق من ينابيع الروح ، المحلّق في آفاق الجنة التي وعد الله عباده المؤمنين بها ، إذا أحبّوه وأطاعوه وعبدوه وخضعوا له .. وتلك هي مهمّة الموعظة في كيان الإنسان التقي الذي تلتقي الموعظة بقلبه ، كما يلتقي المطر بالأرض الطيبة التي

٣١٦

تنفتح من خلاله على البذور الطيّبة ، أما الإنسان الذي أغلق قلبه عن الحق ، فإنه كالأرض المجدبة التي لا تنفتح بذورها للمطر ، فلا يؤثر فيها شيئا إلا بقدر ما يصيبها بالبلل.

* * *

٣١٧

الآية

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣٥)

* * *

معاني المفردات

(كَمِشْكاةٍ) : كوّة في الحائط غير النافذة ، يوضع فيها المصباح ونحوه ، فتحصر النور وتجمعه.

(دُرِّيٌ) : يشبه الدرّ في صفائه.

* * *

٣١٨

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما هي مهمّة النور؟ إنها إعطاء الأشياء ملامحها الحقيقية التي لا تظهر بطبيعتها ، بل تحتاج إليه من أجل أن تتجسد في صورتها للناظرين ، وهذا ما عبرت عنه الكلمة التي تحدث بها القدماء : ما كان ظاهرا بنفسه مظهرا لغيره ، من المحسوسات للبصر. ولكن كيف أطلقت على الله؟

يفسر البعض ذلك ، بأنه كناية عن الوجود الذي تستمد الأشياء الأخرى منه وجودها ، وهذا ما جاء في تفسير الميزان قال : «وإذا كان وجود الشيء هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الأشياء كان مصداقا تامّا للنور ، ثم لما كانت الأشياء الممكنة الوجود إنما هي موجودة بإيجاد الله تعالى ، كان هو المصداق الأتمّ للنور ، فهناك وجود ونور يتصف به الأشياء وهو وجودها ونورها المستعار المأخوذ منه تعالى ، ووجود ونور قائم بذاته يوجد ويستنير به الأشياء. فهو سبحانه نور يظهر به السماوات والأرض ، وهذا هو المراد بقوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، حيث أضيف النور إلى السماوات والأرض ، ثم حمل على اسم الجلالة» (١).

ويرى البعض الآخر (٢) أن المراد من النور مفهومه الحقيقي وهو ما تظهر به الأشياء ، وليس كما يقوله البعض : بأنّ الله تعالى ـ والعياذ بالله ـ شعاع يسير ١٨٦٠٠٠ ميل في كل ثانية وينعكس على الشبكية في العين ، ويؤثر في مركز

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ١٢٢.

(٢) انظر : أبو الأعلى المودودي ، تفسير سورة النور ، ص : ١٩٦ ـ ١٩٧.

٣١٩

البصارة في الدماغ. فهذه الكيفية المخصوصة للنور ، ليست بشاملة لحقيقة المعنى الذي قد اخترع له الذهن الإنساني هذه الكلمة ، بل أطلق عليه هذه الكلمة باعتبار الأنوار التي تأتي تحت تجربتنا في هذه الدنيا المادية ، فكل كلمة من كلمات اللسان الإنساني تستعمل لله تبارك وتعالى ، إنما تستعمل باعتبار مفهومها الأساسي ، لا باعتبار مدلولها المادي ، فنحن نستعمل لله تعالى كلمة البصر مثلا ، فليس معناها أن له عضوا يسمى العين ويرى به كالإنسان والحيوان ، وكذلك نستعمل له كلمة السمع ، فليس معناها أنه يسمع بأذنيه كما يسمع الإنسان ، وكذلك نستعمل له كلمة البطش والأخذ ، فليس معناها أن له آلة تعرف باليد فيأخذ الإنسان بيده. فكل هذه الكلمات إنما تستعمل لله تبارك وتعالى على وجه الإطلاق لا بمعنى من المعاني المحدودة ، ولا نكاد نظن أن من يملك العقل يمكن أن يقول باستحالة أن يوجد للسمع والبصر والبطش شكل غير الشكل المحدود المخصوص الذي نعرفه لها في هذه الدنيا ، وعلى هذا ، إذا قيل عن النور إنه لا يوجد المصداق لمعناه إلا في صورة ذلك الشعاع الذي يخرج من جرم لا مع وينعكس على غطاء العين ، فإن هذا القول لا يكون إلا من خطأ الفهم وضيقه. إن كلمة النور لم تطلق على الله سبحانه وتعالى بهذا المعنى الضيّق المحدود ، وإنما أطلقت عليه بمعناها المطلق الواسع غير المحدود ، أي أن الله سبحانه هو وحده «سبب الظهور» في هذا الكون. أمّا الأجرام اللامعة التي يبعث منها النور ، فما نالت نورها ولا هي تنوّر الكون إلا بالنور الذي قد أنعم به عليها الله سبحانه وتعالى ، وإلا فما عندها شيء يمكن أن تنوّر به غيرها.

وكلمة (نُورُ) تستعمل للعلم أيضا ، كما يعبر عن الجهل بالظلمة ، فالله سبحانه وتعالى نور الكون ، بمعنى أنه لا يمكن أن تعرف الحقائق معرفة مباشرة في هذا الكون إلا به ، سبحانه وتعالى ، وإلا فإنه لا يمكن أن يكون فيه شيء

٣٢٠