تفسير من وحي القرآن - ج ١٦

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٦

مسئولية ما قام به من الأعمال ، كما هو حال المستضعفين والمستكبرين ، والتابعين والمتبوعين .. وربما يحصل بعض التساؤل داخل الجنة بين أهلها ، أو داخل النار بين أصحابها ، فلا ينافي ذلك التساؤل الحاصل بينهم في هذه الآية ، لأنها تعبير عن انشغال كل منهم بنفسه في ما يواجهه من أخطار القيامة وأهوالها.

* * *

الكافرون وعذاب يوم القيامة

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بإيمانهم وعملهم الصالح (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لما أخذوا به من أسباب الفلاح. (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) لأنهم لم يحصّلوا من النتائج الصالحة ما يشكّل سببا للحصول على رضى الله ، بل حصّلوا ـ على العكس من ذلك ـ النتائج السيئة التي تخفف موازينهم عنده. من هنا ، فإن رضى الله سبحانه وتعالى هو الأساس الثابت لأن يربح الإنسان نفسه ، لأن مسألة الربح والخسارة هنا ليست مسألة مكسب معيّن أو حالة طارئة من حالات الكسب التي قد يحصل عليها الإنسان فيكون رابحا في الموسم ، وقد لا يحصل عليها ، فيسجّل في الخاسرين ، بل هي مسألة خسارة المصير كله إلى الأبد حيث إنهم (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) فلا مجال للخروج منها إلى الجنة ، أو إلى أيّ موقع آخر بعيد عنها ، لو وجد مثل هذا الموقع ، في غير الجنة.

(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) في ما تثيره من اللهب الذي يلامس الوجوه فيحرقها حتى تسيل لحومهم على أعقابهم ، (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) في صورة من العبوس الذي يجمع السواد والتكشير المملوء بالألم.

* * *

٢٠١

الكافرون يطلبون فرصة جديدة

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) لتفتح قلوبكم على الله في عظمته وكبريائه وقوّته ورحمته ، ولتدعوكم إلى التفكير في ذلك كله ، ولإقامة الحوار حول كل ما يثيره دعاة الكفر والضلال من طروحات ومن شبهات للوصول إلى الحقيقة الثابتة في وحدانية الله في العقيدة والعبادة ، ولكنكم أعرضتم عن ذلك ، وتمرّدتم ، وتوجهتم إلى الطريق المنحرف ، وابتعدتم عن آيات الله (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) دون أيّ عذر للجهل ، إن ادّعيتم الجهل ، ومن دون أيّة حجة على التكذيب ، إن ادعيتم علما بالأساس الذي يرتكز عليه ذلك.

(قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) ، فقد خضعنا لبعض التأثيرات التاريخية ، في ما ورثناه من آبائنا وأجدادنا ، أو لبعض المؤثرات الاجتماعية ، في ما اكتسبناه من البيئة التي تأثرنا بها ، في دوائها الصغيرة أو الكبيرة ، أو لبعض النوازع الذاتية التي استسلمنا ، من خلالها ، لشهواتنا وأطماعنا ، فمنعتنا عن السير في طريق الله ، (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) ، لم نهتد إلى الطريق المستقيم ، لأن قلوبنا كانت في غفلة عن ذلك كله.

(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) وامنحنا تجربة جديدة للعودة إلى الدنيا لنعمل في الاتجاه السليم في خط الإيمان الذي يطلّ بنا على طاعتك ، ويبعدنا عن معصيتك ، وأعطنا فرصة حقيقيّة لتصحيح الخطأ ، ولتقويم الانحراف ، ولك علينا العهد المؤكد أن لا نعود إلى ما كنا عليه ، (فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) لأنفسنا ، مما يجعلنا نستحق كل عقوبة ، وكل مهانة وإذلال.

* * *

٢٠٢

بين زجر الكافرين وفوز المؤمنين

(قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) ، إنه الزجر الإلهي الغاضب الذي يعبر عن اشتداد سخط الله عليهم ، فلا مجال لأي كلام بعد أن أقام عليهم الحجة ، وأعطاهم كل الفرص التي لا تترك مجالا لأيّ عذر ، (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) هؤلاء الذين عاشوا الإيمان في عقولهم وفي قلوبهم ، وحوّلوه إلى خط عمليّ في حياتهم ، وانطلقوا في ممارساتهم العامة والخاصة ، في حذر الإنسان المؤمن الخائف ، الذي يعبد الله ويطيعه ، وهو يخشى أن لا يتقبل الله منه ، أو أن يقصر في أداء واجبه نحوه ، فلذلك يدعو الله بالغفران والرحمة لنفسه ، ليستثير رحمة الله التي وسعت كل شيء ، في ما يكون قد أخطأ فيه ، وفي ما يخاف فيه ذلك. (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) بما كنتم تخوضون فيه من أحاديث لاهية لا تتحرك من موقع الجديدة والمسؤولية ، مما جعلكم تجدون في إيمانهم ، وفي كلماتهم الخاشعة المبتهلة لله ، وفي حركتهم الواعية المسؤولة ، وفي وقفاتهم التقية عند حدود الله ، وفي إقامتهم العلاقات الإنسانية على أساس رساليّ يريد للرسالة أن تتجسد في حركة الواقع ، وفي غير ذلك ، مادّة للسخرية رساليّ يريد للرسالة أن تتجسد في حركة الواقع ، وفي غير ذلك ، مادّة للسخرية والاستهزاء بأساليبكم التي تجعل من الجدّ هزلا ، ومن الحقيقة مهزلة ، لتفقدوا هؤلاء احترامهم في نظر الناس. وما زلتم في أجواء اللهو والعبث بالإيمان والمسؤولية والبعد عن التفكير بالله وبالآخرة وبالمصير (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) في ما كانوا يتحركون فيه من طاعات تتخذون منها مادّة للسخرية (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) دون أي سبب ، إلا الجهل والضلال.

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) على كل التحديات في كل المواقع ، وعلى كل النوازع الذاتية والضغوط الاجتماعية ، وها أنتم ترونهم أمامكم ، أيها

٢٠٣

الساخرون بهم ، وهم يتجهون إلى رضوان الله في جنته ، وأنتم تنطلقون إلى سخطه في ناره ، فأيّ الفريقين أحقّ بالسخرية ، في ما قدّم ، وفي ما أخّر؟! لقد نالوا رحمتي بإيمانهم وعملهم الصالح المنطلق من مواقع الصبر (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ).

* * *

٢٠٤

الآيات

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١١٨)

* * *

الاستخفاف بالكافرين يوم القيامة

وتنتهي السورة بالحديث عمّن كفروا بالبعث وأنكروه ، وتمردوا على الله وعلى رسله ، وكانوا يرون الحياة في الدنيا فرصة لن تتكرر ، ففاجأتهم القيامة بالواقع الجديد الذي يتحدى كل أفكارهم كل الكافرة العابثة .. وبدأ السؤال ، في صيغة الاستخفاف بهم ، في هذا الموقف الصعب الذي أثار فيهم مشاعر

٢٠٥

الدهشة والحيرة والمفاجأة ، كما أوقع في قلوبهم الخوف والرعب ، من خلال الأهوال التي يشاهدونها في يوم القيامة.

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) لقد مرّت عليكم الحياة هناك ، واستسلمتم لكل أوضاعها وعشتم مع كل لهوها وعبثها ، فهل تحصون عددها؟ هل تحسّون بثقل الوقت الذي مرّ بكم ، كما تحسّون بثقل النتائج التي حصلتم عليها في ما قطعتموه من رحلة العمر في الدنيا ، (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لقد عشنا العمر حلما سريعا ، لأننا كنّا مستغرقين في أجواء الغفلة فيه ، فلم نشعر بطوله أو بقصره ، إننا نتصوره تماما كما لو كان يوما واحدا أو بعض يوم ، ولكننا مع ذلك لا نستطيع التحديد الدقيق له (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) ، الذين كانوا يحصون أعمارنا.

(قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) في حساب الخلود الذي ينتظركم بالعذاب في الآخرة ، فقد يكون تعداد سني عمركم كبيرا في الدنيا ، ولكنه لا يمثل شيئا في الآخرة ، (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، ولكنكم لم تعرفوا ذلك ، لأنكم لم تشاءوا معرفته عبر ما منحه الله لكم من نوافذ المعرفة ، ولو عرفتم قصر العمر في الدنيا ، وسرّ الخلود في الآخرة ، لعرفتم جيدا ولوعيتم أن الدنيا هي ساحة المسؤولية في حركة الإنسان ، في ما يقوم به من عمل ، وأنّ الآخرة هي ساحة الحصول على نتائج المسؤولية ، تماما كما هو الزرع والحصاد.

* * *

الوقت .. حياة نابضة بالتطلع إلى الله

وبذلك كانت قضية الوجود لا تمثل حركة في الفراغ ما بين عدمين ، بل كانت حركة يتحول فيها العدم إلى وجود حيّ تتحرك فيه الرسالة وتعطيه

٢٠٦

مضمونا يبحث عن الله ليلتقي به ، ويعبده ، ويسير في الطريق الذي يوصل إلى رضوانه ، بحيث يشكل فرصة الإنسان في الحصول على الخير كله في الآخرة .. وهذا ما يجب أن تفهموه ، عند ما تواجهون مسألة الوقت باعتباره عنوان الوجود ، فهو ليس لحظات زمنية ضائعة في الفراغ ، تبحث عمّن يستهلكها ويعيدها إلى العدم ضمن منطق اللّامعنى واللّامسؤولية ، في ما يمثّله ذلك من معنى العبث ، بل هو الحياة النابضة بالحركة التي تبحث عن مضمون فكري وروحي تتجسد فيه ، لتحتفظ لنفسها بالخلود على أساس النتائج التي تعصر الزمن كله في حقيقة إنسانية تلتقي بالله من موقع التوحيد والعبادة والطاعة في الدنيا ، لتحصل على خلود الرضوان في الآخرة.

* * *

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً)؟!

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) في إنكاركم للآخرة الذي يعني إنكاركم للمسؤولية عن الدنيا كلها ، ليكون الوجود مجرد حالة ضائعة في قبضة العدم ، بعيدة عن كل هدف ، بل هي في خيالكم تمثل اللّاهدف ، واللّامعنى ، تماما كمن يبني بيتا ثم يهدمه ، لتغيب كل ذرأت حجارته في الرمال ، لتعصف بها الرياح وتذروها في الفضاء. إن معنى ذلك أنكم تنسبون العبث إلى الله في خلقه عند ما تجرّدون الحياة من نتائجها السلبية أو الإيجابية في الاخرة ، عبر إنكاركم لليوم الآخر ، كما لو كانت الحياة خلقت للعبث ، (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) لنحاسبكم على أعمالكم في ما أسلفتموه منها من خير أو شر ، ليكون ذلك هو سرّ الأسرار للحياة الدنيا ..

٢٠٧

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) الذي يحقّ الحق بكلماته ويزهق الباطل. وإذا كان الله هو الحق ، فلا بد من أن يقيم الحياة على أساس الحق الذي ينطلق من خطة ، ويتحرك نحو هدف ، فكيف يمكن أن يكون خلق الإنسان بعيدا عن أهداف الآخرة في حسابها وثوابها وعقابها ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الواحد في ملكه وفي تدبيره (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) ، في ما يمثله ذلك من معنى الحكمة والقوّة والعلوّ والرفعة المهيمنة على الكون كله ، وعلى الإنسان كله.

* * *

لا فلاح للكافرين

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) وكيف يملك إنسان برهانا على الشرك ، والكون كله بجميع ظواهره وذرأته دليل على التوحيد ، وعلى بطلان الشرك كله؟! ولكن الغفلة قد تستولي على عقول بعض الناس فتبعدهم عن الارتباط بحقائق الألوهية ، وتقودهم إلى الكفر ، فمن يفعل ذلك (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ولن يجد إلا النتائج المرعبة التي تقوده إلى الخسارة الدائمة.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) الذين لا يملكون أرضا من العلم والبرهان يقفون عليها ، بل يعيشون الاهتزاز في الفراغ ، فلا يصيرون إلى استقرار حتى يلاقوا النار وبئس القرار. وهكذا تنتهي السورة بالإعلان عن عدم فلاح الكافرين ، مقابل ما ابتدأت به من حديث عن فلاح المؤمنين ، لأن الإيمان في كل مفرداته هو سرّ الريح وسرّ النجاح ، كما أن الكفر بكلّ ممارساته هو سرّ الخسارة وسرّ السقوط.

إن المسألة هي أن من التقى بالله في خط الإيمان والمعرفة والعمل فقد

٢٠٨

أدرك أسباب الفلاح ، ومن لم يلتق به في حياته العامة والخاصة ، في حركة الفكر والعمل ، فقد أضاع فرصة النجاح في الدنيا والآخرة.

(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) لأنك ترحم من موقع اللطف الذاتي ، ولذلك فإن رحمتك تسع كل الناس ، حتى الخاطئين.

* * *

٢٠٩
٢١٠

سورة النور

مدنية

وآياتها أربع وستون

٢١١
٢١٢

سبب التسمية

لقد جاءت التسمية من خلال الآية الكريمة التي تحدثت ضمن السورة عن نور الله وهي : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

إنه الموضوع الذي ينطلق من معناه وإيحاءاته كل إشراق الحياة وطهرها وصفائها الذي تستمدّه من الله ، في ما ينفتح قلب الإنسان عليه ، وفي ما يهديه الله إليه عبر إبداعاته الحسية والروحيّة.

إنّه الإشراق الخالد الذي ينطلق من ينبوع القدرة المطلقة التي تنير ، ومن سرّ العطاء الذي لا يقف عند حدّ ، والنور الذي لا ينفد .. ويوحي للإنسان بأنه لن يلتقي بالظلام في عقله وروحه وحياته إذا التقى بالله في وحيه وفي شريعته ، وفي ينابيع الإيمان المتدفقة من عقل الرسول ووجدانه.

وفي هذه السورة بعض من نور الشريعة ، وبعض من نور الرسول في حركة الحياة وإشراقة الرسالة التي تقف في بدايات الطريق لتقود الناس كلهم إلى خط الحياة النيّر الذي يربط البداية بالنهاية ..

* * *

٢١٣

مضمون السورة

لقد أنزل الله هذه السورة لتكون آياتها دستورا عمليا للمسلمين ، في بعض جوانب حياتهم ، حيث تحدّثت عن علاقة الرجل بالمرأة ، وأكّدت الآية على القاعدة الشرعية التي تحكم تلك العلاقة على أساس تحضير الأجواء التي تمنع الانحراف على هذا المستوى ، وتخلق مناعة داخلية ، وتواجهه بالردع القانوني الحاسم الذي يدعو إلى عقاب المنحرفين ، ويمنع الاتهامات غير المسؤولة ، أو الإشاعات الطائشة التي يمكن إرسالها على هذا المستوى ، ويضع حدودا تفصل بين ما يجوز قوله وما لا يجوز ؛ فليس للإنسان الحرية في أن يقول كل ما يعلمه من شؤون الناس أمام الآخرين ، بل هناك دائرة خاصة محدّدة تتسع لقول الحقيقة بدقّة ومسئولية ، بهدف تحديد الموقف ، لا إثارة الانتباه وتحريك النوازع الذاتية العابثة ، ثم تعمل السورة على التذكير بوسائل الوقاية من الجريمة ، وتدخل بعد ذلك في تحديد قواعد السلوك الاجتماعي ، وأسس التهذيب الأخلاقي في حركة الفرد لجهة احترام وقته وحريته ..

وتضمنت السورة بعض اللمحات واللفتات والإيحاءات المتعلقة بتفاصيل العقيدة والانفتاح على الله في حركة الكون ، وما في جنباته وآفاقه من نور متدفق ، وما يوحي به ذلك كله من النور الإلهي الذي لا يملك الإنسان إلا أن ينفتح عليه لامتداده اللّانهائي وعمقه اللّامحدود ، وانسيابه الإشراقي في ذروة الصفاء ، في كل دفقة نور في أغوار الأرض وفي رحاب السماء .. وفيه تقدم السورة نموذجا حيا يلامس الروح.

ثم يمتد الحديث إلى بعض ملامح المؤمنين الذين يرتفعون إلى مستوى الإخلاص المتجسّد في العبادة الخالصة لله التي تستغرق كل وجدانهم

٢١٤

وحياتهم ، وإلى بعض مواقع الكافرين في الدنيا ، ومصيرهم المظلم في الآخرة ..

وهكذا كانت هذه السورة في برنامجها التربوي التشريعي ، وفي إيحاءاتها الروحية الأخلاقية ، انطلاقة في حياة الإنسان الحركية ، وانفتاحا على آفاقه الإنسانية ، واستغراقا عميقا في أغوار الإيمان الباحث أبدا عن الله ، في إشراقة الصفاء الروحي المنطلق من النور الإلهيّ الذي يغمر الحياة كلها حبا وخيرا وسلاما ، فيشرق على العقل والروح والقلب والضمير ، ويمتد في الحياة ، في كل مفرداتها وتفاصيلها ، ليكون نور السماوات والأرض الذي لا ينقطع ولا يغيب ولا ينتهي ..

* * *

٢١٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيتان

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢)

* * *

الله يفرض آياته البيّنات

(سُورَةٌ) هذا هو العنوان الذي يعطي السورة معنى الوحي الإلهي ، فالله هو الذي أنزلها على رسوله ، ولا بدّ للناس أن يستشعروا ذلك ، ليعيشوا مع آياتها لطف الخالق بالمخلوق ، ورحمة الله بعبادة ، في ما يحيطه به من رعايته التي تضمن لهم السعادة والهناء .. (أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) ، فقد أنزلها الله من موقع الألوهية القاهرة التي تأمرو تنهى وتفرض على الناس الالتزام بأوامره ونواهيه ، ليتعاطى الإنسان معها تعاطي الخضوع للقوّة الخالقة القادرة ، وليشعر بأنّ عليه

٢١٦

أن ينفّذ ما يريده الله منه على أساس مسئوليته في الحياة ، حيث ينتظر الثواب إذا أطاع ، ويترقب العقاب إذا عصى.

(وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) مما يفتح للقلب الأفق الرحب على معرفة الله ، ويثير في الروح الإشراق من روحه ، ويحلّق بالعقل ليكتشف الحقيقة في وحيه ، لتتخلصوا من ظلمات الجهل التي تسجن عقولكم ، ولتتحرروا من عوامل الضلال التي تبعدكم عن مطالع النور ، ولتبتعدوا عن أجواء الغفلة التي تبعدكم عن عوالم اليقظة ..

(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) كيف يجب للإنسان أن يتحرك ، وللحياة أن تعاش ، وللعباد أن يلتقوا بالله من مواقع المحبة المتجسدة بالطاعة ، ومواقع الخوف المتمثل بالابتعاد عن المعصية ، ليكون العمر كله في طريق الله.

* * *

حكم الزنى في الإسلام

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) لأنهما انحرفا عن القاعدة الاجتماعية التي أراد الله أن يخضع لها نظام العلاقات الجنسية ، بما يكفل ضبط نوازع الغريزة وتلبية حاجتها ، ويؤمّن الإيحاء الداخلي الطاهر بأنها حاجة لتنمية الحياة في اتجاه هدف متوازن ، وليست قيمة تتجمع في داخلها طموحات النفس .. ولهذا فإن عملية التنظيم والتخطيط في هذا المجال قد تحمل بعض سلبيات التحديد والتقييد ، ولكنها تمنح الإنسان إيجابيات التوازن والاستقامة والتركيز ، تماما كما هي حاجات الحياة الأخرى في داخل الجسد وخارجه ، التي لا يريد الله لها أن تموت ، لأنها جزء من حركة الحياة في وجوده ، ولا يريد لها أن تطغى في أجواء الفوضى ، لأنها تقود الإنسان إلى

٢١٧

الموت ، في ما يخيّل إليه أنها الحياة.

وقد جعل الله نظام الأسرة مرتكزا على هذه القاعدة التي ترى في عقد الزواج شرطا لشرعية العلاقة بين الرجل والمرأة ، في ما يفرضه التعاضد الذاتي من حقوق وواجبات على أساس المودّة الروحية ، والرحمة الإنسانية ، والتشريع الإلهي الذي يرعى ذلك كله وينمّيه ويقوّيه ، وضبط العلاقات النسبية لجهة الأبوّة والأمومة والبنوّة ، وما يتفرع عنها ، بسلسلة طويلة من المسؤوليات التي تنظّم حركة العلاقات الاجتماعية ، بشكل دقيق ومتوازن.

فلم تعد مسألة الزنى مسألة فردية يستجيب فيها الإنسان لنوازعه الذاتية ، أو نزوة غريزية يخضع الإنسان فيها لمشاعره الجنسية ، لتكون مجرّد خطأ طارئ من أخطاء الإنسان التي تترقّب العفو ، أو تهرب من المسؤولية ، بل هي مسألة تمرّد على تركيبة النظام الاجتماعي ، مما يجعل الخلل الناتج عن هذا الانحراف أو ذاك ، خللا يمس السلامة الاجتماعية ، وخطرا على استمرار التوازن في خط المسيرة الإنسانية. ولهذا أراد الله أن يعطي لهذه المسألة حجمها الحقيقي الذي يصل إلى حجم الجريمة التي تستوجب الردع الشديد الذي يمنع الإنسان من الإقدام على ممارسة هذا الانحراف ، فجعل عقوبة كل من الزانية والزاني مائة جلدة ، أي مائة سوط ، إذا لم يكونا محصنين ، أو لم يكن أحدهما محصنا بالزواج.

أمّا إذا كانا محصنين ، أو كان أحدهما كذلك ، فإن الحكم هو الرجم ، الذي أوضحته السنّة النبوية الشريفة ، عبر ما تحدث به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما فعله ، إذ إنه أقام هذا الحد ـ وهو الرجم ـ أكثر من مرة حصل فيها الزنى بعد الإحصان .. ثم امتد ذلك الحكم بعد ذلك ، حيث كان القضاء الإسلامي يمارسه دون اعتراض من أحد ، مما يدل على وضوح المسألة حتى أصبحت من المسلّمات الفقهية ، بالرغم من عدم تعرّض القرآن الكريم لذلك .. وإطلاقه

٢١٨

الحكم بالجلد في الزاني والزانية دون تقييد.

وقد ثبت في علم الأصول ، أن القرآن يمكن أن يرفع اليد عن بعض ظواهره ، بالسنة القطعية أو بما كان حجّة شرعية من الظنيات ..

وقد نقل عن بعض المسلمين من الخوارج وبعض المعتزلة مخالفتهم لهذا الحكم ، انطلاقا من مخالفة هذا الحكم ـ وهو الرجم ـ لإطلاق القرآن ، مما يفرض على المسلمين الملتزمين بالقرآن رفضه ، لأن ما خالف كتاب الله فهو باطل وزخرف.

ولكنّ هؤلاء لم ينتبهوا إلى أن تخصيص العام القرآني ، أو تقييد مطلقة ، لا يندرج في دائرة المخالفة ، بل يندرج في نطاق الشرح والتفسير الذي أوكل الله أمره إلى رسوله ، في ما تتضمنه سنّته الشريفة من تفصيل لما أجمله القرآن ، أو تحديد لما لم يحدد كل أطرافه .. وهذا ما لاحظناه في كل تفاصيل العبادات والمعاملات والعلاقات والحدود التي أطلقت الآيات القرآنية معناها ، لتقرر المسألة من ناحية المبدأ ، ليسأل المسلمون بعدها رسول الله حول التفاصيل. ولعل هؤلاء يعرفون أنّ عملية الجلد أو الرجم ، في دائرتهما الشرعية ، تحتاج إلى إثباتات وشروط معينة ، لا يتكفل القرآن بتحديدها ، بل يرجع فيها إلى السنّة الشريفة.

ولسنا هنا في صدد تحقيق الموضوع بطريقة فقهية شاملة ، لأن مجال ذلك في علم الفقه ، بل نحن هنا في صدد الإشارة إلى المسألة بالمقدار الذي يتصل بالتفسير من حيث المدلول اللفظي للآية ، ومن حيث التفسير التفصيلي للحدود التي يقف عندها الحكم الشرعي.

* * *

٢١٩

قسوة العقوبة : علامات استفهام وإجابات

وقد يثير البعض علامات استفهام كثيرة حول قسوة هذه العقوبة ، ومدى واقعيتها على ضوء تطور أساليب العقوبات في الواقع ، وعلى أساس التطور الحضاري لجهة احترام إنسانية الإنسان الذي يقضي بالتخفيف من قساوة ووحشية الوسائل التي تستخدم في عقابه ، فهي وسائل تستمد عنفها من أجواء العصور القديمة ، حيث كانت تواجه الجريمة بالعقوبة المباشرة ، بعيدا عن مراعاة القواعد النفسية التي تحددها دراسات التحليل النفسي.

وربما يتحدث البعض عن طبيعة الجريمة ، التي لا يراها بهذا الحجم من الأهمية ، لأنها تتصل بحرية الإنسان في التصرف بجسده ، كأيّة خصوصية من خصوصياته التي لا تهمّ المجتمع ، كما لا يهمّه ماذا يأكل كل فرد منه ، وماذا يشرب ، وما هي الطريقة التي يفعل بها ذلك .. إلا في الحالات التي تمثل فيه عدوانا على حقّ الآخرين ، كما إذا كان الزنى داخل الحياة الزوجية ، في ما يقتضيه من عدوان على الزوج ، أو على بيت الزوجية ، مما يؤدي إلى دراسة المسألة في نطاق محدود لا يرقى إلى هذا المستوى من العقوبة ، أو ما يقترب منها ..

قد يثير البعض مثل هذه التساؤلات حول هذا الحد الشرعي للزنى ، أو ما يماثله من الحدود الشرعية الأخرى ، لجرائم أخرى ..

ولكن للإسلام نظرة أخرى للمسألة ، ما يتصل بقسوة العقوبة ووحشيتها ، وفي ما يرتبط بطبيعة الجريمة ونتائجها وحجمها.

أما المسألة الأولى ، فقد تناولناها في الحديث في ما تقدم من تفسير ..

٢٢٠