تفسير من وحي القرآن - ج ١٦

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٦

تجاههم واهتزاز إيمانهم بذلك.

وقد تكون المسألة متحركة في خطّ الإيحاء باستخدام أسلوب يوحي بغير ما يريده ، في محاولة لاحتواء الساحة ، بالموقف المهادن للمشركين والمجامل لعقيدتهم ، دون إعطاء أيّ اعتراف بعقيدتهم أو الانجذاب إليها ، وذلك عبر باب السكوت عنهم ، والاكتفاء بالإعلان عن وحدانية الله ، من ناحية إيجابية تعلن وتقرّ عبادته ، دون الانطلاق في الناحية السلبية التي ترفض عبادة غيره ، ليكون ذلك بمثابة الهدنة التي تخفّ فيها حدّة الصراع ، من أجل خلق جوّ ملائم للحوار معهم.

قد تكون هذه الأفكار وأمثالها هي التي كانت تخطر في ذهن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في بعض الحالات الصعبة ، كما كانت تخطر في أذهان الأنبياء والرسل من قبله ، عند ما تشتد التحديات أمام الدعوة ، ويتعرض المؤمنون للزلزال النفسي تحت تأثير الضغوط الهائلة التي تضغط عليهم بقسوة.

ولكن هذه الأفكار لا تترك أثرا في الواقع ، ولا تنبع من موقع مستقر في عمق الذات ، بل هي خطرات تطوف بالذهن ، وتتحرك بسرعة في مظاهر السلوك ، فيتأثر بها المجتمع المؤمن بطريقة سلبيّة ، وينجذب إليها المجتمع الكفار بطريقة إيجابيّة ، ولكنها سرعان ما تزول أمام الحاجة إلى الموقف الحاسم الذي يفصل بين الإيمان والشرك بفاصل واضح ، لا مجال فيه لأيّة مهادنة أو لقاء ، لأن المسألة تتصل بالأسس لا بالتفاصيل. ولعل هذا ما نستوحيه من قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً* إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) [الإسراء : ٧٣ ـ ٧٥].

إن هذه الآيات وأمثالها توحي بأن هناك شيئا ما يخطر بالبال ، ولكنه لا

١٠١

يثبت في النفس ، بل يطفو على سطح بعض الممارسات ، ثم ينتهي بشكل حاسم دون أن يسيء إلى فكرة العصمة في الذات ، أو العصمة في التبليغ ، لأن تأثر الإنسان بما حوله على مستوى الخطورات الذهنية السريعة ، هو تماما كتأثره بما حوله من الروائح الطيبة أو النتنة ، أو بما تثيره الأطعمة اللذيذة القريبة منه ، من إفرازات جسدية في حالة الجوع أو الاشتهاء ، فإن العصمة لا تلغي العنصر الإنسانيّ الذاتي في شخصيته ، بل تلغي الحركة المنحرفة في خط العقيدة التي يعتقدها ، والفكرة التي يتبناها ، والكلمة التي يقولها والحركة التي يتحرك فيها ..

ربما يكون ما استوحيناه من معنى الآية تفسيرا لها ، لأنه يتناسب مع طبيعة الأسلوب والكلمات المستخدمة فيها ، فهو يؤكد على أن الشيء الآتي من الشيطان يدخل في عمق الأمنية داخل الذات ، ولا يتحرك في دائرة الآخرين الذين يعيشون أجواء الرسالة ، بحيث يكون الإلقاء حركة في خط الأمنية لا في خط الآخرين ، كما أنه لا يتنافى مع الشخصية النبوية الرسالية لجهة التزامها بالتوحيد وإصرارها عليه ، وابتعادها عن كل الإيحاءات والكلمات التي تتنافي معه ، حتى بنحو الغفلة والسهو ؛ والله العالم بحقائق آياته.

* * *

الله ينسخ ما يلقي الشيطان

(فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) ويزيله من فكر النبي أو الرسول وقلبه ، حتى لا يبقى منه أيّ أثر سلبي على حركة الرسالة فكرة وأسلوبا ، لأن الله يتعهد رسله بالرعاية في مشاعرهم وأفكارهم ، كما تعهدهم في حياتهم وحركتهم في خط الرسالة ، رعاية لرسالته من خلالهم ، (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) ويثبتها ، فلا يدع أيّ مجال للريب فيها ، من أية جهة كانت ، وذلك بواسطة ألطافه التي

١٠٢

يغدقها على رسوله ، فيمنع أيّ تحريف للكلمة ، وأيّة زيادة فيها ، لأن ذلك هو السبيل لإحكام الآيات على أساس الثقة الشاملة بموافقتها للوحي الإلهي. وليست المسألة كما صوّرته الرواية المدّعاة ، من أن هناك زيادة سبقت إلى لسان النبي ، ثم أزالها الله بعد ذلك ، وأرجع الآية إلى الكلمات الموحى بها من الله .. وبذلك لا يكون التدرّج الذي تتحدث عنه الآية «بالفاء» التي تدل على التعقيب بلا فصل ، و «بثم» التي تدل عليه مع التراخي ، تدرّجا زمانيا ، بل هو تدرّج بحسب الرتبة انطلاقا من طبيعة الارتباط بين الأشياء المذكورة في الآية ؛ والله العالم.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يحيط بكل شيء في الإنسان من الداخل والخارج ، ويتعهده بحكمة في كل ما يحتاج إليه من عناصر وشروط وأوضاع ، ممّا يوجب اطمئنان الناس إلى سلامة خط الرسول في رسالته ، وحفظ القرآن في آياته ، واستقامة حركته بين هذا وذاك.

* * *

ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) من الكفر أو النفاق ، (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) الذين تحجّرت قلوبهم بالجهل والتخلف حتى لم تعد تنفتح على شيء من الفكر الحق ، وتجمدت مشاعرها بالغلظة والقسوة ، حتى لم تعد تنبض بالرحمة والخير ، وذلك بسبب هذه الأجواء التي تثيرها الطبيعة الإيحائية لحركة النبي في الساحة ، فهي أجواء تجعل العزّة بالإثم تأخذهم من جهة ، باعتبار أقوال النبي تلك مظهر قوّة لهم لما توحي به من تنازلات لحسابهم ، أو تجعلهم يتحركون في طريق الفتنة لإضلال المؤمنين عن دينهم ، باستغلال

١٠٣

هيمنة الأجواء الهادئة على ساحة الصراع ، لإثارة فكرة التصالح بين الشرك والتوحيد.

وقد نلاحظ أن أعداء الإسلام يستخدمون الكثير من هذه الأساليب التضليلية ، مستغلين الروحية الطيّبة الوديعة التي يتحرك فيها الدعاة إلى الله والعاملون في سبيله ، والأساليب الموضوعية التي يستخدمونها في الحوار ، وما يبدونه من انفتاح على الآخرين هدفه التغلّب على الحقد والانغلاق ، الأمر الذي يوحي لهؤلاء الآخرين ، أن هناك تنازلا في الفكرة ، واهتزازا في الموقف ، وتراجعا عن خط الثورة ، وضعفا في القوّة .. ولكن العاملين في ساحة الدعوة ينطلقون من خطة محكمة تعرف ما تريد وكيف تصل إليه ، وتبقى في عملية نقد ذاتي متحرك لمواجهة الأخطاء الطارئة ، قبل أن تتحوّل إلى انحرافات ثابتة ..

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) وذلك في ما يثيرونه من الفوضى والخصومة والجدل ، ليربكوا به الساحة ، وليعطّلوا حركة المستضعفين في اتجاه الحق والعدل والفلاح ، وبذلك تتحول أوضاعهم إلى مواقع للشحناء والبغضاء والتفرق والتمزق الذي يمتد إلى أبعد الحدود التي تسمح بها وسائلهم وأوضاعهم وظروفهم الفكرية والعملية.

* * *

ما يلقيه الشيطان تثبيت لإيمان المؤمنين

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) لأن انطلاقهم من مواقع العلم في نظرتهم للأشياء ، يجعلهم في موقف الوعي والتفهم لشخصية الرسول وحركته الداخلية والخارجية ، لمعرفتهم بالظروف المحيطة

١٠٤

به ، التي تفرض تنوّع أساليب العمل ، وتقتضي الكثير من المشاعر الإيجابية لاحتواء الساحة ، مما قد يدخل فيه بعض الخطور الذهني الذي لا ينسجم مع طبيعة الرسالة في جوّها العملي ، ويعرفون كيف يرتفع الرسول عن كل ذلك سريعا بوعيه المنفتح على الله ، والمتصل بالعمق الرسالي في قاعدة الفكر الإسلامي وحركته ، ويواجهون أي شك بالفكرة الواضحة التي تؤكد أن الرسول مؤيّد من ربّه بألطافه ، ومستقيم في سيره ، وصادق في كلمته ، وأمين على موقفه ، مما لا يدع أيّ مجال لشبهة في أيّ مفهوم أو حكم شرعي أو آية قرآنية ، بل يرون أنه الحقّ من الله ، في قناعة ثابتة مطمئنة ، فيؤمنون به إيمانا فكريا وروحيا ، (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) وتخضع له ، لأن ذلك هو معنى الإيمان المنفتح الذي يتحرك في الذات من موقع العقل والفطرة ، حيث يهيمن على الكيان كله ، بكل قوّة وخضوع وإذعان.

(وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى دينه عند ما يتحركون نحوه بجدية في الفكر ومسئولية في الحركة ، فيشملهم الله بعنايته ، ويمنحهم لطفا من لطفه ، فتشرق الهداية في قلوبهم ، فلا يجد الضلال إليها سبيلا ، من خلال وضوح الرؤية الذي يعيش الإنسان فيه الصفاء والإشراق في أرحب الآفاق ، ليقودهم (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لا عوج فيه ولا التواء.

* * *

الكافرون في مرية من الحق

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي في شك من الحق الذي يمثله القرآن المنزل من الله على رسله ، ولكن هذا الشك الذي يبعدهم عن الإيمان ليس مرتكزا على أساس فكريّ يشكل علامات استفهام متعددة تبحث عن جواب حول الكثير من قضايا التوحيد والرسالة والرسول ، بل يرتكز على أجواء

١٠٥

اللامبالاة التي يواجهون بها المسائل ، وعلى رغبة التمرّد على خط الالتزام في الحياة ، كونه يحرّك الخطوات في الخط المستقيم الذي قد يثقل أوضاعهم ، ويرهق حياتهم .. ولهذا ، فإن هذا الشك السطحيّ الغارق في السلبية لا ينتهي إلى إيمان ، كما هي حال الشك المنهجي الذي يبحث دائما عن الحقيقة من خلال ملاحقة الأفكار الإيمانية ومناقشتها طلبا لتكوين قناعات قاعدتها البحث والتأمل ، ولذا فإن هذا الشك قد يصل في نهاية المطاف إلى الإيمان من أقرب طريق ..

أمّا الكافرون ، فيستمرون على كفرهم رغبة في البقاء على عقيدة الآباء حتى تأتيهم الساعة الموعودة وهي يوم القيامة ، (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) يواجهون فيه نتائج كفرهم وتمردهم ، وهو يوم لا يليه آخر يمكن أن يأملوا فيه الخروج من قساوة العذاب وضغطة ، لأن ما بعده هو الهلاك ، وهذا هو معنى عقم اليوم .. وهكذا يواجهون الموقف الصعب حيث تتكشّف الأشياء ، فيقرّون بالحقائق الإيمانية ولكن بعد فوات الأوان.

* * *

الملك لله .. وللكافرين عذاب مهين

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) فلا يملك أحد لنفسه ـ هناك ـ شيئا ، فالله هو المهيمن على الأمر كله ، (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) في ما اختلفوا فيه ، وفي ما قاموا به من أعمال ، فهو الحاكم ولا حاكم غيره ، لذا لا بد للناس من الاستعداد لذلك الموقف ، في ما يحتجّون به لأنفسهم مما يخلّصهم من العذاب من خلال أعمالهم في الدنيا ، لأن الحكم هو حكم العدل الذي لا يظلم أحدا مثقال ذرّة ، فلكلّ نصيب من عمله ، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر ، (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) هي مأواهم ومستقرهم لأنها هي الجزاء الأوفى

١٠٦

للمؤمنين العاملين في خط الصلاح والإصلاح ، في ما يأمرهم الله به أو ينهاهم عنه ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) ولم يرجعوا إلى عقولهم ليفكروا بالإيمان ومقدماته وبالقرآن وآياته ، بل انطلقوا بالكفر من موقع التمرّد ، وبالتكذيب من موقع الجهل ، (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) لأنهم كفروا بعد قيام الحجة عليهم ، فحقت عليهم كلمة الله بالعذاب المهين.

* * *

١٠٧

الآيات

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) (٦٦)

* * *

١٠٨

نعم إلهية وكفران بشري

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وفارقوا ديارهم تحت ضغط التحديات القاسية التي واجهتهم ، لأنهم آمنوا بالله واتبعوا رسوله وأصرّوا على السير في خطه ، أو انطلقوا في عملية تكامل مع غيرهم من المسلمين من أجل الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى دينه ، (ثُمَّ قُتِلُوا) في ساحة الجهاد (أَوْ ماتُوا) في ساحة الدعوة أو في حال الاستعداد للجهاد ، (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) في ما يمنحهم من نعيم الآخرة في الجنة ، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأنه الذي يملك الرزق كله ، ويرزق عباده الصالحين بغير حساب ، و (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) وهو الجنة بما تحتويه من كل ما يشتهيه الإنسان ويطمح إليه من ملذّات ومشتهيات ، جزاء لهم على ما عانوه وقاسوه جرّاء خروجهم من ديارهم التي أحبّوها وألفوها ، (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) فهو العليم بما يرضي عباده المؤمنين المجاهدين ويصلحهم ، وهو الحليم الذي لا يعاجل الظالمين بنقمته ، بل يؤخرهم إلى أجل مسمى هم بالغوه.

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) ، فكانت مواجهته للعدوان حادة كهؤلاء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأهلهم ، حيث تحدوا وقاتلوا العدوان عليهم لردّ الظلم ودحره (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) بالعدوان الذي لا شرعية له ، (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) فيظهره على أعدائه ، وينصره بنصره ، (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) فلا يؤاخذهم بقتلهم أو جرحهم الآخرين خلال جهادهم ، لأنهم أصحاب حق في عملهم ذاك ، لذا فإن العفو عنهم والمغفرة لهم لا يعبّر عن التجاوز عن ذنب اقترفوه أو عن خطيئة ارتكبوها ، بل يعبر عن عدم

١٠٩

مؤاخذتهم بذلك ، لأنه إنما يؤاخذ الذين يقتلون بالعدوان ، لا بردّ العدوان ، والله العالم.

* * *

(اللهَ هُوَ الْحَقُ .. هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) فيحلّ كل واحد منهما محلّ الآخر عبر اقتطاع الليل من زمن النهار ، أو عبر هجوم ضوء الصباح على ظلمة الليل ، كما لو كان شيئا يلج في داخله .. ثم يتسع الضوء ويمتد وينتشر في الفضاء ، فيملأ ما كان الليل يشغله من فراغ ، أو عبر هجوم الظلام على النهار بالطريقة نفسها.

وقد يكون في ذلك إشارة إلى ما ذكره من نصرة المظلوم على ظالمة ، حيث يظهر الله أحد المتضادّين على الآخر ، كما يولج الليل في النهار أو يولج النهار في الليل فيغلب أحدهما على الآخر. وربما كان ذلك تأكيدا على قدرة الله المطلقة التي تتحكم بحركة الكون فتغيّره من حال إلى حال ضمن السنن الكونية التي أودعها في نظامه ، مما يوحي بعظمة القدرة الإلهية التي يعود المظلوم إليها طلبا للنصرة على ظالمة.

(وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يسمع كل ما يدور بين عباده من أقوال ، ويبصر كل ما يقومون به من أفعال ، فيهيمن من خلال ذلك على الأمر كله ، ولا يفوته منه شيء ، قريبا كان أو بعيدا ، (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) فهو الحقيقة الوحيدة المطلقة التي امتد الكون من قدرتها وعاش نظامه بحكمتها ، وليس لأحد معه أيّة قدرة أو سلطة ، فهو صاحب الأمر كله ، وكل موجود مخلوق له ، وكل نعمة منه ، وكل حركة بإرادته ، هو مرجع الكون كله ، وكل شيء هالك إلا

١١٠

وجهه .. وبذلك ، كان الحق منطلقا من سرّ وجوده ، فلا إله إلا هو ، ولا معبود سواه ، (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) ، لأنه لا يمثل وجودا مستقلا بذاته ، بل وجودا مستمدا من الله ليس له أيّة قدرة ذاتية ، لأن الله هو الذي أعطاه القوّة ، ولا يملك أيّ أساس للسلطة والألوهية لعبادته ، لأنه عبد فقير يعيش الحاجة إلى الله في كل شيء ، لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرّا ولا نفعا إلا بالله .. فكيف يمكن أن يكون موقع الألوهية الذي ادّعاه لنفسه أو ادعاه غيره له حقا في المعنى ، أو حقا في الواقع ، بل هو الباطل كله.

إن الألوهية تعني الحقيقة المطلقة المهيمنة على كل شيء ، وبذلك كان الله في وحدانيته هو الحق ، وكان غيره في حاجته هو الباطل. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) الذي يتوحّد بالعلوّ المطلق الذي لا يعلو عليه شيء ، ويتوحد بالمنزلة الكبيرة فلا شيء أكبر منه ، ولا يمكن أن يدانيه أحد ليشاركه في الألوهية.

* * *

الله الرازق اللطيف بعباده

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) على الأرض الميتة اليابسة التي لا أثر للحياة فيها ، فيتفاعل الماء مع التراب وما يشتمل عليه من بذور الزرع ، (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) فتمتلئ بما يأكله الناس والأنعام ، ويغذي الروح والبصر ، (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) بعباده في ما يخلقه لهم من أسباب الرزق ، بما يحتاجون إليه من عناصر القوّة لامتداد حياتهم ، (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، فهو مالك السماوات والأرض وكلّ شيء فيها ، فهو الخالق والمدبر لها ، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ، فهو الغني عن خلقه ، لأنه الغنيّ في ذاته ، بينما كل شيء يحتاج إليه في وجوده وفي استمرار ذلك

١١١

الوجود ، وهو المحمود في صفاته وأفعاله وفي رعاية خلقه ولطفه بهم.

* * *

تسخير الله ما في الأرض للناس

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) لجهة ما تحتويه من أسباب الرزق والاستقرار ، (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) فتنقلكم إلى الأماكن التي لا تملكون الوصول إليها إلا عن طريق البحر ، وألهمكم كيفية التخلص من كل أخطار البحر والوصول إلى الشاطئ بسلام ، (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) من خلال ما أودعه فيها من قوانين وأنظمة تمنحها التماسك والثبات بقدرته التي لا يعجزها شيء وإن عظم ، فالسماء بكل أفلاكها وكواكبها لا تستند إلى أي شيء من الأشياء التي يستند إليها ما يضرب في الجوّ عادة ، فمن أين هذا الثبات وكيف ..؟ إن قدرة الله هي التفسير الوحيد لذلك ، وكلّ سرّ يكتشفه الإنسان فيه هو سرّ ينطلق من عمق القدرة ، لأنه هو الذي خلقه وخلق نتائجه ، فهو مسبّب الأسباب وهو سبب كل شيء ، وعلى الإنسان أن يفكر في ذلك كله ، ليهتدي إلى سرّ عظمة الله في خلقه ، (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) فمن مظاهر رأفته ورحمته بالناس تسخير موجودات الكون لهم وجعلها خاضعة لإرادتهم ، لهم أن يستثمروا كل القوى الموجودة فيها ، بما يكفل لهم الراحة والطمأنينة والقوّة والاستمرار.

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم في غياهب العدم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بعد أن تأخذوا من الحياة كل ما تستطيعون أخذه والانتفاع به ، (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ليحاسبكم على كل ما قمتم به في حياتكم من أفعال الخير والشرّ ، وما تحركتم به في خط الانحراف والاستقامة ، على ضوء ما كلّفكم به من مسئولية في بناء

١١٢

الحياة وتحريكها على الصورة التي جاءت في مضمون رسالاته ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) بما يحيط به من نعم ينبغي أن يشكر الله عليها ، بالإيمان به ، والسير على نهجه ، والعمل بما يرضيه ، لكن مشكلة الإنسان أنه ينسى ربه وينسى نعمه عليه ، فينسى نفسه ، ويجحد الحق المتمثل بالله ، ويخضع لشهواته وغرائزه ، ويترك مسئولياته.

* * *

١١٣

الآيات

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٧٦)

* * *

١١٤

معاني المفردات

(مَنْسَكاً) : المراد بالمنسك هنا : الشريعة والمنهاج.

(ناسِكُوهُ) : عاملون أو ملتزمون به.

(سُلْطاناً) : برهانا وحجة.

(يَسْطُونَ) : يبطشون. قال في المجمع : «السطوة : إظهار الحال الهائلة للإخافة ، يقال : سطا عليه يسطو سطوة ، سطا به ، والإنسان مسطوّ به.

والسطوة والبطشة بمعنى» (١).

(يَصْطَفِي) ؛ الاصطفاء : أخذ صفوة الشيء وخالصته ، قال الراغب : «والاصطفاء تناول صفو الشيء ، كما أنّ الاختيار تناول خيره ، والاجتباء تناول جبايته»(٢).

* * *

لكلّ أمة جعلنا منسكا

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي شريعة ومنهجا في عبادة الله ، (هُمْ ناسِكُوهُ) سائرون عليه وملتزمون به ، ذلك أن مصلحة البشر تفرض التغيير والتبديل على هذا المستوى نظرا لتطور التفكير وتغيّر الزمن. وبما أن الله ينزل الأحكام حسب ما تقتضيه مصلحة عباده ، وفي ما ينسجم مع أوضاعهم العامة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٧ ، ص : ١٥١.

(٢) مفردات الراغب ، ص : ٢٩١.

١١٥

والخاصة ، فلا غرابة في أن تختلف المناسك التي جاء بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن المناسك التي كانت مألوفة في الرسالات السابقة ، (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي ليس لهم أن ينازعوك ذلك ، لأن اختلاف ما جاء به النبي عما جاء في الشرائع السابقة ، لا يدل على أنه ليس من عند الله ، لأن حكمة الله قد اقتضت أن يغيّر خصوصيات المناسك والشرائع من رسالة إلى أخرى. وبما أن الأمر كذلك ، فلا بد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الابتعاد عن ساحة التعقيد مما يثيره الكافرون من الضوضاء حوله ، ومحاولتهم منهم التشكيك بصدق رسالته ، بحجّة اختلافها عما يعرفونه من أحكام ، لأن أيّ كلام يفتقد الحجّة لا يملك ثباتا على المدى الطويل ، وبالتالي فإن تأثيره الجزئي الذي يمكن أن يتركه لا بد من أن يزول بطريقة أو بأخرى أمام ظهور الحقيقة الواضحة .. ولهذا دعا الله رسوله لمواصلة طريقه دون الاكتراث بكل هذا الضجيج الذي يثيرونه أمامه ..

(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) ولا تتوقف ولا تتراجع ، بل استمر في الطريق الذي بدأته ودعوت إليه ، لأنك على هدى واضح يتحرك في خط الاستقامة ، بحيث لا يستطيع أحد أن يسجل عليك نقطة في خط الانحراف.

* * *

(اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ)

(وَإِنْ جادَلُوكَ) وأرادوا أن يصرفوك عن خطّ الدعوة وخط العمل في سبيل الله ، فلا تدخل في تفاصيل الجدل الذي يثيرونه ، بعد أن أوضحت لهم المبدأ الأساس الذي يحكم ذلك كله ، بل اختصر الموقف كله بكلمة واحدة ترجع فيها الأمر إلى الله ، فهو الذي يعلم السرّ وأخفى ، ويعلم ما تنطوي عليه الضمائر ، (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فمهما حاولتم إثارة الجدال في محاولة

١١٦

منكم لتوظيف الموقف لصالحكم ولإظهار أنفسكم كأصحاب حقّ ، فإن الله يعلم ما أنتم فيه ، ولا تفيدكم أمامه محاولة الظهور بغير مظهركم الحقيقي ، و (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فهو الحكم الفصل في الأمور كلها ، وسترون الجزاء الصعب الذي ستلقونه نتيجة ما كنتم تختلفون فيه وتخالفون الحق وأهله.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) محفوظ لا يتغير ولا يتبدل ولا يسقط منه شيء سهوا أو نسيانا ، لأن الله فوق السهو والنسيان ، وإذا فإن ما يقوم به الناس من أعمال تسيء إلى الله ورسله ورسالاته محفوظ عنده وسيحاسب مرتكبوها عليها ، (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لأن من خلق المخلوقات ودبّرها يسهل عليه حفظ كل ما يتعلق بها من أعمال.

* * *

عبادة غير الله لا تستند إلى أساس

ويستمرّ الحديث في أجواء حركة الرسالة مع الذين تمرّدوا على الله ، ولم يذعنوا للحقائق ، وأصرّوا على جهلهم ، ولم ينطلقوا إلى مواقع العلم ليأخذوا بها ليهتدوا سواء السبيل ...

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) فهم لا يملكون أية حجّة من عقل أو وحي على ألوهية من يعبدونهم من دون الله ، فهؤلاء لا يتميزون عن غيرهم من الموجودات المماثلة لهم في عناصرها وأشكالها بأية صفة خاصة ، ولا علاقة لهم بالوجود في خلقه وحركته من قريب أو من بعيد ، فليس هناك أساس علمي أو منطقي تستند إليه فكرة عبادتهم ، وهم في عبادتهم تلك يلتزمون ما لا يملكون حجّة عليه ، (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) لأنهم لو رجعوا إلى عقولهم لما وجدوا فيها من الحقيقة ما يقودهم إلى الالتزام بهذه العبادة ، ولو

١١٧

التفتوا إلى خصائص هذه الأشياء لما وجدوا فيها ما يفرض عليهم الاعتقاد بألوهيتها ، بل هو الجهل والتخلف اللذان يصوّر ان لهم المسألة بصورة الحقيقة دون حجة أو أساس ، فهم يظلمون أنفسهم بالتزام عبادة هذه الأشياء التي تقودهم إلى الهلاك في الآخرة ، كما تقودهم إلى الانحراف عن خط الحق في الدنيا ، ويظلمون الحياة والناس عند ما يركزون خط السير في غير الاتجاه الذي يلتقي بوحدانية الله ، ويظلمون ربّهم عند ما يسيئون إليه ، ويبتعدون عن شكره والالتزام بتوحيده ، أداء لحقه عليهم ، (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ، لأنهم سيواجهون الموقف وحدهم ، بعيدا عمّن يعبدونهم وينتصرون بهم ، لأن هؤلاء لن ينصروهم ولن ينصروا أنفسهم لعجزهم عن فعل ذلك ، ولافتقادهم القوّة الذاتية ، وسيقفون ـ وجها لوجه ـ أمام العذاب الذي حكم الله عليهم به ، ولن ينصرهم أحد منه.

* * *

وعد الله للذين كفروا

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) دون لبس أو غموض ، وبوضوح يطل على الحقيقة ، فإذا بالكافرين ، بدلا من الانفتاح على تلك الآيات ونتيجة العقدة النفسية الخانقة التي تضغط عليهم ، يقفون حيارى بين إشراق الحقيقة على الفكر والروح وبين ظلمات ماضيهم وواقعهم ، فيحاولون الهرب من هذا الصراع الداخلي بمواجهة المؤمنين الذين أحرجوهم وحاصروهم بالحقّ القادم من وحي الله ، فإذا كانت المواجهة ، برزت في ملامحهم هذه الصورة ، (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) الذي يستبطن الرغبة في العدوان والتدمير ، ويعبّر عن الحقد والكراهية ، ونحو ذلك من المعاني التي تختزنها كلمة المنكر في مضمونها وإيحاءاتها ، (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ

١١٨

عَلَيْهِمْ آياتِنا) ويهجمون عليهم في عملية استعراض للقوّة لإخافتهم وإلحاق الهزيمة النفسية بهم ، ليتخلصوا منهم ومن مواقفهم الإيمانية ومن هذا الجوّ الداخلي الذي يثيرونه فيهم ويعتبرونه شرا ، باعتبار أنه يبعدهم عن عقيدة الآباء.

(قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) الذي تحسبونه شرّا ، لتوازنوا بينه وبين ما يعدكم الله به يوم القيامة من عذاب ، لتتخذوا الموقف على ضوء دراسة واعية تقارب بين موقفين : ترك عبادة ما تدعون من دون الله ، أو النار ، لتختاروا أهونهما على مستوى المصير ، (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) جزاء على كفرهم الذي لا يرجعون فيه إلى حجة ولا ينطلقون فيه من موقع علم ، (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الذي اختاروه لأنفسهم اتباعا للأهواء والشهوات ، في ما تقودهم إليه من الانحراف عن خط الله.

* * *

الهة الكفار : مثال العجز والضعف

ويستمر القرآن في حثّ الإنسان على المقارنة بين عظمة القدرة في ذات الله ، وبين ضعف وحقارة ما يدعونه من دونه من شركاء ، لتتجلى أمام الإنسان تفاهة ما يعتقده ، وانحرافه الروحي ، واهتزاز خطواته ، وليشاهد آلهته على حقيقتها ، فهي ليست إلّا مجرد مخلوقات ضعيفة لا تملك لنفسه نفعا ولا ضرّا ، إلا في حدود ما وضعه الله فيها من قدرته .. وفي ذلك يتمثل ضعف تلك الآلهة المزعومة أمام أضعف مخلوقات الله تعالى.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) بكل عمق الفكر في عقولكم ، وبكل صفاء الوعي في وجدانكم ، لأنه أمر يتصل بالمصير الإنساني وحركة

١١٩

العقيدة ، لأن التفكير بالمثل المضروب هنا مسئولية هامة يتحدد على أساسها الموقف من الحقائق التي يكشفها ، فاللّامبالاة في مثل هذه الأمور قد تؤدي بالإنسان إلى الهلاك الدائم على مستوى العقيدة وخط السير.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). تجسد هذه الآية الكريمة ، عجز الهة الكافرين المطلق أمام أصغر مخلوقات الله وأحقرها ، في صورة رائعة ، تسخر من فكرة ألوهية هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله.

وأيّ صورة أبلغ من تلك التي تضع الآلهة ـ بكل ما توحيه صفة الألوهية من قوّة ـ في مشهدين ، أحدهما : اجتماعها على خلق ذبابة واحدة وعجزها عن ذلك ، بالرغم مما تبذله من جهد في هذا السبيل ، وثانيهما : مشهد الذباب ، في كل ما يجسّده هذا المخلوق الصغير من معاني الضعف والصغر والحقارة ، من حيث الحجم والقدرة الجسمية ، وقد اندفع إلى هؤلاء الآلهة الكبار ، ليسلبهم شيئا ، أي شيء ، فإذا بالآلهة يركضون خلفه ، ويلهثون لاسترجاع ما أخذه ولاستنقاذ ما سلبهم إياه ، فلا يسترجعونه منه ، ولا يستنقذونه من براثنه ـ إن كان للذباب براثن ـ؟! إنه أسلوب يجرّد هؤلاء من صفات الألوهية من جهة ، ويعرّضهم للسخرية والاستهزاء من جهة أخرى ، ويؤثر على موقف هؤلاء الذين اعتقدوا بهم وعبدوهم من دون الله ، عند ما يجدون أنفسهم في حالة لا يحسدون عليها ، لأنها لا ترتكز على أساس ، ولا توحي بالاحترام إن لم توح بخلافه.

إنه الضعف المتبادل بين الطالب والمطلوب ، إذ يعيش كل واحد منهما نقطة ضعف تختلف في طبيعتها عن نقطة ضعف الآخر ، فإذا كان أحدهما قويا في جسده ، فقد يكون ضعيفا في حركته ، وإذا كان الآخر ضعيفا في جسمه ، فإنه يملك القوّة في سرعة حركته.

١٢٠