تفسير من وحي القرآن - ج ١١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

العطاء من تزكية للنفس ، ومن إخلاص لله ، بالإخلاص لعباده المستضعفين ، وتلك هي علامة الإيمان الذي لا يتحرك في الشعور فقط ليكون مجرد خاطرة في الفكر أو نبضة في القلب ، بل يتسع ويمتد ليكون خطا في الحياة وممارسة في العمل. وفي هذا دلالة على أن الممارسة شرط في دخول المجتمع المؤمن الذي يتقبل الإنسان من خلال عمله المتحرك من وحي إيمانه ، فإذا تحقق ذلك لهم ، (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) لأنهم يعتقدون ما تعتقدونه ، ويعملون ما تعملونه ، ويتحركون في الأهداف التي تتحركون إليها.

* * *

وتلك هي خصائص الأخوّة الدينيّة ، التي هي أعمق أنواع الأخوّة ، لأن فيها يتآخى الفكر والشعور ، وتتصل خطوات الفكر بخطوات العمل ، مما يجعل من المسألة قضيّة تشمل الكيان الإنساني كلّه. وذلك هو الخط الذي يريد الله للإنسانية أن تسير عليه ، وهو المنهج الذي يريد لها أن تنهجه في كل مجالاتها الروحية والعملية في ما يفصّله من آياته التي توضّح لهم السبيل ، حتى لا يبقى هناك مجال لخطأ في اجتهاد ، أو اشتباه في رؤية (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) في ما توحي به الروح العلمية من وعي وتفكير وتدبّر ، يتحسس فيه الإنسان مسئولية المعرفة من خلال تحسسه لمسؤوليات الحياة.

* * *

٤١

الآيات

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٦)

* * *

معاني المفردات

(نَكَثُوا) : نقضوا.

(أَيْمانَهُمْ) : جمع يمين وهو القسم.

(وَطَعَنُوا) : الطعن هو الضرب بالرمح وبالقرن وما يجري مجراهما ، وأستعير للوقيعة.

٤٢

(وَهَمُّوا) : الهم : مقارنة الفعل بالعزم من غير إيقاع له.

(بَدَؤُكُمْ) : البدء فعل الشيء أولا.

(وَلِيجَةً) : الولوج : الدخول في مضيق. ووليجة الرجل خاصته وبطانته من دون الناس. * * *

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ)

ويستمر الموقف في مواجهة القضية بطريقة الحسم ، فهناك خطر مباشر يواجه الواقع الإسلامي آنذاك ، من خلال هؤلاء الذين ينقضون العهد ، ويتحدّون الإسلام في فكره وشريعته ، مما يخلق للمسيرة الإسلامية الكثير من حالة الإرباك والفوضى والقلق ، ولذلك كانت التعليمات واضحة ، بردّ الاعتداء الصادر من هؤلاء ، وذلك بإعلان الحرب عليهم من جديد ، واعتبار المعاهدات لاغية بسبب تصرفاتهم السلبية ضد الإسلام والمسلمين ، والإيحاء بأن القضية لا تحتمل المهادنة والتأخير ، لأن الخلفيات الكامنة وراء تصرفاتهم ، تمثل الخطر الكبير على المستقبل ، من جرّاء الروحيّة الحاقدة التي تتحرك في داخلهم في الحاضر ، كما كانت في تاريخهم القريب ، في الماضي ، وهذا هو ما حاولت الآيات أن تثيره في وجه هذه التصرفات ، في أسلوب يعتمد على توعية المسلمين ، وتوجيههم نحو التأكيد على دراسة القضايا من جميع وجوهها ، لا من وجه واحد.

* * *

٤٣

قتال أئمة الكفر

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) أي نقضوا عهودهم ومواثيقهم التي ألزموا بها أنفسهم (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) وذلك بالتهجّم عليه بالسبّ والشتم والكلمات غير المسؤولة ، في ما يمثّله ذلك من انحراف عن خط الالتزام بالعهد القائم على احترام العقيدة الإسلامية ومراعاة مشاعر المسلمين.

وقد ينبغي لنا أن نفرّق ـ في هذا المجال بين الطعن في الدين الذي يمثل حالة عدوانيّة ، وبين النقد الموضوعي الذي يمثل حالة فكرية ، فإن الإسلام يشجب الأول ويعتبره مظهرا من مظاهر نقض العهد ولونا من ألوان العدوان ، بينما يرحب بالثاني ، ويدعو الآخرين إليه ، من خلال دعوته إلى حركة الحوار الإيجابي بين الفكر الإسلامي والفكر المضاد على أساس الأجواء الفكرية الهادئة.

(فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) وهم قادته الذين يقودون مسيرته في المجتمع ويعملون على تدعيم قواعده. وربّما كان في هذا التأكيد عليهم ، إشارة إلى أنهم هم المسؤولون عن كل هذا العدوان الذي يمارسه الناس العاديّون من المشركين ، (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) لأنهم لا يرتكزون على قاعدة إيمانيّة أو فكريّة لتمنعهم من النقض للعهد ، بل ينطلقون ـ في ذلك ـ من الظروف الطارئة الضاغطة ، مما يجعل للعوامل التي تخفّف من حالة الضغط ، أثرا كبيرا في تصرفاتهم السلبيّة المنحرفة. وقد نستوحي من ذلك أمرين :

الأول : أن مثل هؤلاء لا يبعثون على الثقة في ما يلتزمون به من عهود ومواثيق ، لأنهم يفقدون الأساس الداخلي الذي يدفعهم إلى الاستمرار في الالتزام.

٤٤

الثاني : أن من الضروري مواصلة الضغط عليهم لإخراجهم من واقعهم المنحرف ، لأن ذلك هو السبيل الواقعي للانضباط في علاقاتهم مع الآخرين. وبذلك كان إعلان الحرب عليهم المتمثل بالأمر بقتالهم ، أسلوب ضغط نفسيّ ، ليدفعهم ذلك إلى التفكير بالنتائج الصعبة التي تنتظرهم من خلال الحرب (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) ويتراجعون عن اللعب والكيد والتآمر على الإسلام والمسلمين ، مما يجعل من الموقف حالة وقائيّة رادعة ، في ما تفرضه حسابات الواقع الموضوعيّ في الساحة.

* * *

الحثّ على قتال الناكثين

وهنا يلتفت الخطاب إلى المسلمين في عملية توعية للطبيعة العدوانية المتمثلة في شخصية هؤلاء المشركين من أئمة الكفر ، وذلك بشرح تفصيليّ للواقع الحاضر الذي يعيشونه والتاريخ الماضي الذي عاشوه ، لئلا يشعر المسلمون بعقدة الذنب في إلغاء المعاهدات معهم وإعلان البراءة منهم ، مما قد يتوهمونه نقضا للعهد من جانبهم ، لأنهم قد ينظرون إلى الموضوع من خلال الجانب المباشر الصريح للنقض ، ولا ينظرون إلى الجوانب الخفيّة غير المباشرة منه ، ليصلوا أخيرا إلى النتيجة الواقعية ، وهي أن هؤلاء القوم هم الذين ابتعدوا عن خط العهد ، مما جعل البراءة منهم أمرا طبيعيا تقتضيه طبيعة الساحة ، في ما تفرضه من الحماية للمسيرة الإسلامية.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) في ما قاموا به من أعمال وأقوال توحي بذلك (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) عند ما كان في مكة ، فتآمروا فيما بينهم على إخراجه وقتله ، حتى اضطروه إلى الهجرة (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ

٤٥

أَوَّلَ مَرَّةٍ) في معركة بدر التي كانت تمثل العدوان المسلّح الأوّل على جماعة المسلمين ، مما يكشف عن الجذور المتأصلة لموقفهم العدوانيّ الحاضر الذي لم ينطلق من حالة طارئة.

* * *

الله أحق بالخشية

(أَتَخْشَوْنَهُمْ) في ما يمثلون من قوّة وسلطة ومال ، وكيف يخشى المؤمنون مثل هؤلاء الذين لا ترتكز قوّتهم على قاعدة ثابتة في الداخل ، بل تتحرك من خلال الأدوات التي يملكونها والظروف الطارئة التي ينتهزونها؟ إنها القوّة الضعيفة التي مهما تعاظمت ، فإنها لا تثبت أمام تحديات القوّة المتحركة من موقع الإيمان الصلب الثابت الذي يستمد قوته من الله. وكيف تخشونهم أيّها المؤمنون ، في ما أرادكم الله أن تواجهوه من جهادهم وقتالهم من أجل الإسلام في مسيرته الظافرة التي تعمل من أجل أن يكون الدين كله لله؟ وكيف تتراجعون عن ذلك أو تفكرون بالتراجع ، فإذا كان هناك خشية منهم وممّا لديهم من القوّة ، فهناك خشية من الله ، لما ينتظركم من عقابه لو خالفتم تعاليمه وتمرّدتم على أمره ونهيه؟ فوازنوا أمركم بين موقفكم منهم وموقفكم من الله ، وستجدون أن الموازنة تقف بكم عند حدود الله (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) لأنه مالك كل شيء ، وبيده أمر الدنيا والآخرة ، في ما تفرضه عقيدة الإيمان وروحية العبوديّة له ، مما يجب أن تواجهوه من مواقف الإيمان (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لأن الإيمان ليس كلمة تقال ، بل هو موقف للتضحية والإخلاص والعطاء.

وربما يخطر في البال ، أن مواجهة الله لهم بالخشية منهم لا تلتقي

٤٦

بالواقع الذي كان يعيش فيه المسلمون القوّة بعد فتح مكة ، بينما كان المشركون يعيشون فيه الضعف كل الضعف ، فكيف نفسّر ذلك؟

وقد نجيب على ذلك : أن القضية قد تكون واردة في معرض الإثارة التي تدفعهم إلى لون من ألوان الحماس الإيماني المنطلق من حالة الشعور بالقوّة ، كعنصر من عناصر تثبيت الموقف في نفوسهم. وربما كان هناك نوع من الخوف ، باعتبار أن المسألة في موضوع البراءة بدت لهم حاسمة شاملة لا تقتصر على فريق دون فريق ، بل تشمل المشركين كلهم في موقف مواجهة واسعة ، مما قد يوحي بالقلق لبعض المسلمين الذين يلتفتون إلى سعة التواجد البشري للمشركين في الجزيرة العربية ، الأمر الذي يوحي إليهم بالخطر الكبير.

* * *

قتل المشرك وشفاء صدر المؤمن

(قاتِلُوهُمْ) فذلك هو الأمر الحاسم الذي يلغي وجود الشرك كقوّة في الجزيرة العربية ، ويزيل تأثيره من النفوس ، ويدفع الناس إلى شجاعة الموقف الذي يدعوهم إلى الإيمان ، ولكن يمنعهم من ذلك خوفهم من المشركين ، (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) لأنكم تنفّذون إرادة الله في جهادكم وقتالكم لهم ، (وَيُخْزِهِمْ) بهزيمتهم المنكرة المنتظرة أمامكم (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) بإيمانكم وثباتكم وجهادكم في سبيل الله (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) في ما لاقوه من التعسف والاضطهاد والإذلال والتشريد من جماعة المشركين ، من أجل أن يفتنوهم عن دينهم. وقد ينبغي لنا أن نؤكّد على أن شفاء صدور هؤلاء المؤمنين لا ينطلق من عقدة ذاتية مكبوتة ، لتبتعد المسألة عندهم عن الأجواء الرسالية العامة ، بل ينطلق من حالة إيمانيّة عميقة لأنهم اضطهدوا وشرّدوا

٤٧

وعذّبوا من أجل الله ، فكانت مشاعرهم المضادّة للمشركين بعيدة عن الجانب الشخصي لأنها متصلة بالجانب الرسالي في حركته المرتبطة بالجانب السلبي أو الإيجابي من العلاقات الإنسانية (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) في ما كانوا يشعرون به من الاختناق الروحي إزاء الواقع الممتد للشرك والمشركين (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) ممن أسلم قلبه وفكره وموقفه لله وأناب إليه وانطلق في الخطوات المستقيمة التي تتحرك في طريق الحق ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، إذا انطلقت من مواقع الإيمان المنفتح والقناعة المطمئنة (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فقد أحاط بخفايا النفوس ، بكل ما تضمره وتظهره ، وقدّر الأشياء بحكمته في حركة الوجود ، وفي تنظيم الأمور ، وفي مغفرته ورحمته للخاطئين المذنبين الذين أراد لهم من خلال التوبة أن يصحّحوا أخطاءهم وينفتحوا على الطريق المشرق في درب الرسالات المستقيم.

* * *

اختبار الإيمان

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) بمواجهة التجربة الصعبة التي يقف فيها الإنسان على الأرض المهتزّة تحت أقدامه ، ليرى الذين يثبتون في مواقف الاهتزاز ، فلا يستسلمون لنقاط الضعف ، بل يعملون على تحويلها إلى نقاط قوّة ، بالصبر الواعي والإرادة الحاسمة ، والفكرة الحرّة ، حيث تتعمّق أقدامهم في الأرض الصلبة ، وترتبط أفكارهم بالأفق الرحب من الحياة في نطاق الرسالة ، وتتصل أرواحهم بالله ، في ما يلتقون عليه من علاقات فكرية أو روحية أو إنسانية. فليس هناك إلا الله ، الإله الواحد الذي تتجه إليه العبادة ، وتخشع كل القلوب له ، وليس هناك في قيادة الرسالة ، في خط الحياة ، إلا الرسول الذي لا ينطلق إلا عن الله في كلّ ما ينطق به ، ولا يشرّع إلا شريعة الله ، وليس هناك في حركة العلاقات إلا العلاقة بالمؤمنين الذين

٤٨

يتعاونون على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويتواصون بالحق ، ويتواصون بالصبر والمرحمة ، ويجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، أولئك هم المجاهدون ، الذين يخلصون لروحية الجهاد قبل أن ينطلقوا في حركته.

(وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) فهؤلاء المؤمنون هم الذين لم ينفتحوا على غير الله ورسوله والمؤمنين من بطانة السوء التي تتحرك في أجواء الباطل وآفاقه. وهناك في الجانب الآخر من التجربة ، ما يريد الله أن يظهره من الخلفيات الداخلية لعباده ، ليميز الخبيث من الطيب ، ويتمثل هذا بالذين يتساقطون أمام الزلزال النفسي والروحي والجسدي ، في ما تقدّم لهم الدنيا من أطايبها وأطماعها وشهواتها ، وفي ما تحذّرهم منه من تضحياتها وجهادها وآلامها ، وما تثيره أمامهم من مخاوفها وأوهامها ، حتى يشعروا أن الأرض تميد بهم ، وأنهم سائرون إلى قرار سحيق ، فيحاولون التعلق بأيّ شيء يبعدهم عن الهلاك في ما يتوهمون ، ولكنهم يظلون في عملية تساقط وتراجع ، فلا يبقى لهم إلا الأشباح والأوهام والفراغ الهائل في متاهات الضياع. إن الدين تجربة مستمرة في حركة الإنسان أمام تحديات الواقع ، ولا بد للإنسان المؤمن من أن يواجه الموقف من موقع المسؤولية أمام الله في ما يريده الله ، وما لا يريده ، لأن ذلك يتصل بقضية المصير في الدنيا والآخرة ، فلا مجال لأيّة نتيجة إيجابية أو سلبية إلا على أساس التجربة الواقعية على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية ، ولا مجال للتهرب من ذلك بطريقة اللف والدوران ، لأن الله هو المطّلع على خفايا الأشياء ودقائقها ، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)

* * *

٤٩

الآيتان

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (١٨)

* * *

معاني المفردات

(يَعْمُرُوا) : العمارة أن يجدد ما استرمّ من الأبنية ، ومنه اعتمر إذا زار ، لأنه يجدّد بالزيارة ما استرمّ من الحال.

(مَساجِدَ) : الأصل في المسجد هو موضع السجود في العرف ، ويعبّر به عن البيت المهيأ لصلاة الجماعة فيه.

* * *

٥٠

منع المشركين من إعمار المساجد

كان المشركون يترددون على المسجد الحرام في مكة ، ويحجون إلى البيت الحرام ويطوفون به ، في ما توارثوه من عبادة الحج من عهد إبراهيم عليه‌السلام. ولكنهم كانوا يمارسون عبادة الأصنام التي نصبوها على جدران الكعبة ، وبذلك كان الجوّ هناك ، جوّ شرك في العبادة مما يتنافى مع الأجواء الروحية التوحيدية التي يريد الله لزوّار مسجده أن يعيشوها في إخلاص العبادة له ، ورفض كل عبادة لغيره ، سواء أكانت وسيلة للتقرب إليه ، مما كان المشركون يعتقدونه في تلك الأصنام من القداسة الذاتية حيث تقرّبهم إلى الله زلفى ، أم كانت مستقلّة في العبادة في ما يعتقده بعضهم من معاني الألوهية في داخلها ، فالمسجد هو بيت الله ، فلا مجال فيه إلا لعبادته.

وهذا هو ما أراد الله لنبيه أن يعلنه ، في إعلان البراءة ، من منع المشركين من الحج بعد ذلك العام ، في ما نادى به الإمام علي عليه‌السلام من قوله : «لا يحج بعد العام مشرك» ، وهذا هو ما نفهمه من هاتين الآيتين.

* * *

حبطت أعمال المشركين

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) والمراد من العمارة ـ هنا على الظاهر ـ هو عمارتها بالتواجد فيها وممارسة شؤون العبادة التي يبتعدون فيها عن روح التوحيد ، وليس المراد عمارتها بالعمل على تشييدها ، لأن ذلك لا يتناسب مع أجواء الآيات ، (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) بالله الواحد ، لأن ذلك هو ما تمثّله عبادة الأصنام التي تعتبر شهادة فعليّة بالكفر الذي يبعد عن

٥١

روحية المساجد التي هي إخلاص العبادة لله ـ وحده ـ (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) فلا قيمة لها عند الله ، لأنه لا يغفر أن يشرك به ، لأن الشرك يمثل تمردا عليه وإساءة لقدس جلاله (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) فذلك هو الجزاء العادل لهؤلاء الذين يعيشون في نعم الله الذي خلقهم وأوجدهم من عدم ، ثم يواجهونه بالتمرّد عليه والانصراف عنه إلى غيره ، في ما يسيء إلى الإنسان والحياة ، مما يخرج الشرك عن أن يكون عملا فرديا خاصا ليتحول إلى عمل يتصل بسلامة المجتمع في تصوراته المنحرفة وسلوكه الأعوج.

* * *

المساجد يعمرها المؤمنون

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) فهذا هو النموذج الإنساني الذي يحقق للمساجد رسالتها ، ويعطيها معناها ، ويحركها في الاتجاه الروحي الذي يجعل منها أبوابا مفتوحة على الحياة المتحركة من خلال الله وباسمه ، لينطلق الإنسان على أساس ذلك ، عاملا في أرض الله في الأجواء الروحيّة التي يختزنها في أعماقه من روحيّة الإيمان في المسجد. فقصة المسجد ، ليست في هذه الأحجار الجامدة التي تمثل سقفه وحيطانه ، وليست في هذه الأشكال المزخرفة التي توحي بعظمة الفن وروعة الإبداع ، بل هي في الإنسان الذي يعمر المسجد بالعبادة المنطلقة من الفكر الإيماني ، والشعور الروحي ، والممارسة الخيّرة ، حيث يتحول المسجد إلى ساحة للانطلاق الإنساني من أجل بناء الحياة على قواعد الحقّ والقوّة والعدل ، من خلال ما يثيره من عمق الروحيّة الواقعية التي تصنع الإنسان المسؤول الفاعل ، الذي يعطي الحياة من نفسه وطاقاته أكثر مما

٥٢

يأخذ منها ، لأنه لا يجد فيها الفرصة السانحة للعبث واللهو وممارسة الشهوات ، بل يجد فيها الموقع المتقدم الذي يمارس فيه مسئوليته كعبادة خالصة بين يدي الله. وبهذا كان الإيمان بالله واليوم الآخر وجها من وجوه حركة الإنسان في الداخل ، التي تدفع حركته في الخارج ، إقامة للصلاة وإيتاء للزكاة ، كما كانت الخشية من الله ، والتحرر من كل خوف من غيره ، عنصر قوّة في رفض كل أشكال العبادة المنحرفة لآلهة الأرض الذين اعتبرهم المنحرفون آلهة من دون الله وكل المناهج الضالّة التي سار عليها الناس بعيدا عن المنهج الذي يريد الله للحياة أن تنطلق منه وتسير عليه. وهذا هو الذي يحقق للإنسان حريته بعمق ، ويعطي للمسجد أجواء الحرية التي يتنفسها المصلّون والمتعبدون ليخرجوا إلى الحياة من خلال المسجد بفكر حرّ ، وإرادة حرّة ، وموقف يجسد الحرية كمنهج حياة ، وكحركة واقع.

(فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) لأن ذلك هو سبيل الهدى الواضح. وربما كان التعبير بكلمة «عسى» التي لا توحي باليقين بالنتائج ، إيحاء للإنسان بأن عليه أن يظل في موقف الترقب والحذر في قناعاته وممارساته ، فلا يستسلم لذلك كله في اعتبار النتائج المصيرية حاسمة ، فلعل هناك شيئا خفيّا في الداخل لم يلتفت إليه ، ولعل هناك حالة مرضيّة لم يشعر بها ، مما يجعله واقفا بين الخوف والرجاء ، والبحث الدائب من أجل تعميق الإيمان في نفسه ، وتصحيح التجربة في موقفه.

* * *

٥٣

الآيات

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٢)

* * *

معاني المفردات

(سِقايَةَ الْحاجِ) : سقيهم الماء. وكانت السقاية لبني هاشم.

(يُبَشِّرُهُمْ) : البشارة ، دلالة على ما يظهر به السرور في بشرة الوجه.

(وَرِضْوانٍ) : الرضوان : الرّضا الكثير.

* * *

٥٤

مناسبة النزول

وقد ذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة ، وذلك أنهم افتخروا فقال طلحة : أنا صاحب البيت وبيدي مفتاحه ولو أشاء بتّ فيه ، وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ، وقال علي عليه‌السلام : ما أدري ما تقولان ، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد ...

وقد تعددت الروايات في ذلك بأساليب مختلفة. وقد أشرنا أكثر من مرة إلى أن أسباب النزول تمثل النماذج الحيّة للفكرة العامة التي تريد الآيات أن تثيرها في الناس من خلال حركة الواقع الذي عاشت الآية في أجوائه ، مما يجعل للآية الامتداد في نطاق الفكرة العامة.

* * *

لا مقارنة بين الإيمان ووظائف خدمة الحج

وينطلق القرآن ، ليركز في داخل الشخصية الإنسانية الإسلاميّة القيم الروحية الواقعية الجديدة ، التي تؤكد على جانب المضمون بعيدا عن الشكل ، وتوحي للناس بأن القيمة الحقيقيّة المميّزة هي للذين يتحركون في الحياة في خط الإيمان بالله واليوم الآخر ، باعتبار أن ذلك هو الأساس في بناء الحياة على قاعدة المسؤولية التي تتحرك في خطين : خطّ الإحساس بالألوهية الخالقة القادرة المهيمنة على الوجود كله ، في ما يوحيه ذلك من الالتزام بالمنهج الشامل الذي وضعه للحياة ، وخط الشعور بالنتائج الإيجابية أو السلبية للعمل

٥٥

المستقيم أو المنحرف في مواقف الحساب في اليوم الآخر بين يدي الله. ثم هي للمجاهدين في سبيل الله الذين يقدّمون كل ما يملكون من مال وجاه وحياة ، من أجل استقامة الحياة على درب الله في كل القضايا التي تتحرك في آفاقها ، وذلك هو الذي يحقق للحياة أهدافها الكبيرة التي يريدها الله لها ، ويدفعها إلى الأمام ، والذي يرفع مستواها إلى آفاقه. وهذه هي القيمة الكبيرة للإنسان في ما تؤكده من إنسانية الإنسان ورساليّته ، ولا مجال للمقارنة بينها وبين أيّ عمل من الأعمال الأخرى التي قد تكون وجها من وجوه الخير ، ولكنها لا تمثل الامتداد والعمق في حياة الإنسان ، وفي مصيره.

ولعل هذا الخط في تأكيد القيمة الروحيّة الإنسانيّة ، وعدم اعتبار الأعمال الاستعراضية أساسا للقيمة ، يبعد الكثيرين ممن يريدون تأكيد إيمانهم وروحيتهم من خلال القيام بأعمال عمرانيّة للمساجد أو للمؤسسات الخيرية أو توزيع الصدقات ، ويحاولون من خلال ذلك أن يتخذوا لأنفسهم موقعا متقدما في الساحة الاجتماعيّة ، وربما يعملون ، أو يعمل أتباعهم ، على تفضيلهم على العاملين في خط التغيير الفكري والاجتماعي والسياسي ، من الجذور الضاربة في عمق الواقع الإنساني ، على أساس هدى الله المنطلق من رسالاته. وقد نستوحي من هذا الخط القرآني ، النهج العملي الذي يمنع الكثيرين من هؤلاء الاستعراضيين أن يخدعوا المجتمع عن واقعهم المزيّف بالمشاريع الخيرية البارزة ، وذلك عند ما يفهم المجتمع القرآني أن مثل هذه الأمور لا تمثل قيمة في نفسها إلا بمقدار ما تكشف عنه من روح طيّبة ونيّة صالحة.

* * *

الأفضلية عند الله للإيمان والجهاد

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) ممّا كان يفعله البعض من سقي الحجاج الماء في

٥٦

الموسم (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) بما كان يقوم به البعض الآخر من عمارته (كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فكانت حياته من أجل الحياة كلها والحق كله ، في حركة الإيمان وانطلاقة الجهاد. (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) لأن الله ينظر إلى الناس من خلال دوافعهم ومنطلقاتهم وآفاقهم الروحيّة في ما تمثله من الإخلاص له والإذعان لعبوديته. فلا يمكن أن يساوي بين الإنسان الذي يعيش الأفق الضيق في الأعمال الجزئية المحدودة ، وبين الإنسان الذي يعيش الأفق الواسع في أجواء الحياة كلها. فكيف تساوون بين هذين النموذجين من الناس ، أو تحاولون تفضيل الفريق الأول على الفريق الثاني؟! إنه الظلم للحقيقة وللمجاهدين في سبيله. وهذا هو الضلال بعينه ، الذي يبتعد فيه الإنسان عن أجواء الهدى ، فإذا انطلقتم في هذا الجو ، فسيترككم الله لأنفسكم ، لأنكم اخترتم ذلك من دون حجّة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ابتعدوا عن الهدى باختيارهم وانحرفوا عن طريق الله من غير أساس ، وأهملوا طاعته ، وتركوا هداه إلى غيره ، بعد أن عرّفهم النهج السوي والصراط المستقيم.

* * *

الهجرة في سبيل الله

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) وتحمّلوا ما تحملوه من هجرة الوطن ، إلى حيث يملك الإنسان حرية الحركة في الدعوة والجهاد ويبتعد عن مواطن الضغط الذي قد يعرّضه للفتنة في دينه ، وذلك دليل الإخلاص العظيم لله ، لأنه يمثل التمرّد على كل العواطف الذاتية والخصائص الحميمة ، من أجل الله وحده ، (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) في ما بذلوه من أموالهم للدعوة والجهاد ، ومن خلال ما واجهوه من أخطار مادية ومعنوية في هذا الاتجاه ، حيث فقدوا

٥٧

أيّ معنى للجانب الشخصي في حياتهم ، وتحولوا إلى عنصر متحرك في نطاق الجوانب العامة المتصلة بالله وبالحياة ، أولئك (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) من كل النماذج الأخرى التي قد تعمل الخير في المجالات المحدودة (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) برحمته ورضوانه وجنته (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) والرحمة تمثل لطف الله ورعايته وعنايته في الحياة الدنيا والآخرة ، ويوحي الرضوان بمعان روحيّة تنساب في مشاعرهم روحا وأمنا وطمأنينة ، بينما تشير الجنات إلى ما ينتظرهم من السعادة الروحيّة والمادية التي تثير فيهم كل مشاعر الغبطة والسرور (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) فلا موت ولا فناء ، بل هي الحياة الممتدة إلى ما شاء الله لها من الامتداد (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) في ما يمنحه لعباده الصالحين المجاهدين من جزاء على ما عملوه وما جاهدوا فيه مما يتناسب مع روعة الإخلاص وعظمة الموقف.

وقد سبق منّا الذكر أثناء الكلام على مناسبة نزول هذه الآيات ، أن المفسرين أوردوا أن هذه الآيات نزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فلتراجع في محلها.

* * *

٥٨

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٢٤)

* * *

معاني المفردات

(اسْتَحَبُّوا) : الاستحباب : طلب المحبة ، ويجوز أن يكون استحبّ بمعنى أحب.

(وَعَشِيرَتُكُمْ) : العشيرة : الجماعة.

(اقْتَرَفْتُمُوها) : اقتنيتموها. والاقتراف : الاكتساب.

٥٩

(فَتَرَبَّصُوا) : التربص : المكث ، والانتظار. والتربص بالشيء : أن تنتظر به يوما ما.

* * *

مناسبة النزول

ذكر في مجمع البيان عن ابن عباس ، في ما نقله أو استوحاه من موقع الآية ، قال : لمّا أمر الله تعالى المؤمنين بالهجرة وأرادوا الهجرة ، فمنهم من تعلقت به زوجته ، ومنهم من تعلق به أبواه وأولاده ، فكانوا يمنعونهم من الهجرة ، فيتركون الهجرة لأجلهم ، فبيّن سبحانه ، أن أمر الدين مقدّم على النسب ، لذلك وإذا وجب قطع قرابة الأبوين ، فالأجنبي أولى ... وروي أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حيث كتب إلى قريش يخبرهم بخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أراد فتح مكة (١) ، تعاطفا مع أهله الموجودين في مكة.

وربما كانت هذه الرواية أقرب إلى جوّ الآية من الرواية السابقة ، لأن قضية الموالاة هي قضية الموقف المتحرك لدعم موقف هؤلاء ، لا مجرد التعاطف الذي يمنعهم من التحرك ، فهي التعبير عن الجانب الإيجابي المضاد ، لا الجانب السلبي ... وقد يكون الجو فيها أشمل من ذلك ليشمل كل موقف سلبيّ أو إيجابيّ مضادّ للموقف الإيماني ، انطلاقا من العاطفة التي تفرضها القرابة أو نحوها.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٥ ، ص : ٢٣ ـ ٢٤.

٦٠