تفسير من وحي القرآن - ج ١١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

من شرك ، ولم يدع لهم عذرا في ما يخوضون به من تمرّد وضلال ، فزادوا في ضلالهم وطغيانهم ، وعملوا على تدبير المكائد للإسلام والمسلمين ، بحيث أصبح وجودهم في داخل المجتمع الإسلامي ، خطرا على العقيدة ، في ما يحاولونه من فتنة المسلمين عن دينهم بالأساليب الملتوية الخادعة ، وخطرا على الوجود ، في ما كانوا يثيرونه من مشاكل ، أو في ما كانوا يتحالفون فيه مع الآخرين من أعداء الإسلام ضد الإسلام والمسلمين ، مما جعل من التحرك في اتجاه تصفية المجتمع على أساس التوحيد حالة ضروريّة للحفاظ على المستقبل الكبير الذي يستهدف بناء الشخصية الإسلامية في الداخل وبناء الدولة الإسلامية في الخارج.

* * *

الدعوة إلى التوبة

(فَإِنْ تُبْتُمْ) ودخلتم في ما دخل فيه المسلمون من توحيد الله من خلال الحجة القاطعة والبيّنة الواضحة التي قدّمها لكم الرسول ، ورفضتم الشرك ، الذي لم تعتقدوه على أساس قناعة وجدانيّة ، ولم تمارسوه على أساس حجّة عقليّة ، بل كانت القضية ، أنّه عقيدة الآباء وعادات المجتمع ، مما يجعل من عملية الضغط على التراجع عنه ، قضيّة لا تتصل بالحرية في العقيدة بل بمسألة تحرير الإنسان من الخرافة الضاغطة على وجدانه ، من خلال الأجواء المنحرفة المحيطة به مما لا يرجع إلى وعي للفكرة ، أو وضوح في الرؤية ، (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأنه يفتح لكم الآفاق الواسعة التي تنفتحون فيها على وحدانية الله المطلقة التي تشمل كل شيء ، في ما يقودكم إليه الوجدان الصافي من أن كل شيء في الوجود مخلوق له ، وأنه ليس هناك أحد أقرب إليه من أحد

٢١

من ناحية ذاتية ، فليس هناك إلا العمل. وإذا كانت هناك من شفاعة ، فإنها لا تنطلق من رغبة الشفيع الخاصة ، بل هي بأمره ورضاه ، فلا معنى لأن تتوجه إلى المخلوق بطلب الشفاعة.

* * *

وفي ضوء ذلك ، كان التوحيد يمثل الصفاء الروحي الذي يعيش معه الإنسان في حركة الإيمان المطلق بعيدا عن كل التعقيدات الخانقة التي تجر معها المزيد من العادات والتقاليد والأجواء الضاغطة على الفكر والروح والشعور ، وبذلك كان خيرا لهم من ناحية السلام الروحي الداخليّ ، كما هو خير لهم في الانسجام الفكري العملي ، مع المسيرة الإسلامية التي يتحرك فيها المجتمع المسلم على أساس المسؤولية والمساواة بين أفراده في ما ينطلقون به من علاقات ، وما يعيشونه من تكافل وتضامن ومشاعر ، وهو خير لهم في الآخرة ، لأنه يمثل النجاة من عذاب الله ، والحصول على رضاه ، لأن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.

* * *

الله لا يعجزه شيء

(وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) وأعرضتم عن هذه الدعوة المفتوحة الهادية ، وأصررتم على التمرّد ، في شعور طاغ بالقوّة والاستعلاء ، بأنكم قادرون على المواجهة ، وسائرون إلى النصر ، (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) الذي لا يفوته أحد من خلقه ، مهما حاول الفرار ، في الدنيا والآخرة ، لأنه لا يفر من مكان إلى مكان آخر إلا وجد الله عنده في ذلك المكان ، لأنه مالك السموات والأرض ، فما ذا يملكون من قوّة ليواجهوا الله بها ، وهو خالق القوّة ، وهو المالك لكل ما يملكونه؟! وعليكم أن تدركوا هذه الحقيقة بوعي ، لئلا يخدعكم الخادعون

٢٢

المضلّلون عن أنفسكم ، وعن حركة الواقع في حياتكم. أمّا إذا كنتم تعتبرون إمهال الله لكم دليل عجز ، فاعلموا أن الله يمهل عباده ، ليقيم عليهم الحجة وليفسح لهم المجال للتراجع ، حتّى إذا قامت عليهم الحجة ، ولم يتراجعوا ـ من خلالها ـ عما يخوضون فيه من ضلال ، أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

* * *

تبشير الكافرين بالعذاب

ثم تلتفت الآية إلى النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتوحي إليه بأن ينذرهم بعذاب الله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) في ما تحمله كلمة البشارة من معنى السخرية بهم ، لأنهم كانوا ينتظرون النتائج السارّة من خلال أعمالهم وإشراكهم.

* * *

استثناء المعاهدين من البراءة

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) جاء في مجمع البيان عن الفراء : استثنى الله تعالى من براءته وبراءة رسوله من المشركين قوما من بني كنانة وبني ضمرة كان قد بقي من أجلهم تسعة أشهر أمر بإتمامها لهم لأنهم لم يظاهروا على المؤمنين ولم ينقضوا عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقال ابن عباس ، عنى به كل

٢٣

من كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد قبل براءة. ويعلّق صاحب المجمع : وينبغي أن يكون ابن عباس أراد بذلك من كان بينه وبينه عقد هدنة ولم يتعرض له بعداوة ولا ظاهر عليه عدوّا ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صالح أهل هجر وأهل البحرين وأيلة ودومة الجندل وله عهود بالصلح والجزية ولم ينبذ إليهم بنقض عهد ولا حاربهم بعد ، وكانوا أهل ذمة إلى أن مضى لسبيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفى لهم بذلك من بعده (١).

الظاهر من أجواء الآيات ، أن الذين أعلنت البراءة منهم ، هم الذين عاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاهدة عامّة من دون تحديد موعد معيّن ، على أساس التعايش الذي أراد من خلاله إنهاء حالة الحرب بينه وبينهم ، ليتفرّغ لترتيب المجتمع المسلم من الداخل ، وليحاول هدايتهم من موقع السلم ، في ما ينفتحون عليه من أجواء الإسلام الروحية التي تثير فيهم مشاعر الهدى والخير والإيمان ، ولكنهم لم يستريحوا لهذا العهد ، بل حاولوا الخيانة والتآمر مع الآخرين ضد الإسلام والمسلمين. أمّا الذين كانت لهم مدّة محدودة ، ممن انسجموا مع الالتزامات التي ينص عليها العهد ، واستمروا على ذلك ، فهم في أمان رسول الله ، الذي أراد الله من نبيه البقاء معهم ما دام الآخرون ملتزمين به. ولعلنا نستفيد ذلك من الفقرات التالية (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) مما أعطوكم من المواثيق والعهود ، فلم ينقضوا شيئا منها ، ولم يخلّوا بشرط أو التزام ، (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) أي لم يتآمروا مع أحد من أعداء الإسلام فيعاونوهم عليكم ، (فَأَتِمُّوا) إليهم (عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) التي حددتموها لهم ، أمّا الذين لم تحدّدوا لهم مدّة ، أو الذين خانوا العهد ، فأعلنوا البراءة منهم ، لأن الله الذي بيده أمر عباده لا يريد للمعاهدة العامة أن تستمر بين المسلمين والمشركين ، لأن التعايش بينهم لا يحقق صلاحا للإنسان وللحقيقة وللحياة ، مما يجعل من

__________________

(١) الطبرسي ، أبو علي الفضل بن الحسن ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، دار إحياء التراث العربي ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ج : ٥ ، ص : ١٠.

٢٤

المسألة مسألة خير للناس ، في ما يريد لهم من نتائج إيجابية على مستوى الدنيا والآخرة ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الذين يراقبون الله فيلتزمون بأوامره ونواهيه ، في ما يريد لهم أن يعملوه أو لا يعملوه.

* * *

الأشهر الحرم

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) وهي المدة التي حرّم القتال فيها وجعل الله للمشركين أن يسيحوا في الأرض آمنين ، لأن ذلك هو الظاهر من جوّ الآيات. أمّا ما ذكره بعضهم من أن المراد بها الأشهر الحرم المعروفة ، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب ، فلا دليل عليه إلا من خلال كلمة «الحرم» التي تنصرف إلى هذه الأشهر ، في ما قيل ، ولكن القرائن المحيطة بالموضوع تصرف اللفظ إلى ما قلناه ؛ والله العالم. (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) بعد أن قامت عليهم الحجة وانتهى وقت الإنذار ، من دون أن يرجعوا إلى الحق والصواب (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) وهو كناية ـ في ما يظهر ـ عن إغلاق الطرق عليهم ومحاصرتهم من جميع الجهات. وبذلك لا تكون القضية قضية التخيير بين القتل والحبس كما قيل ، بل قضية القتل فيمن وجد منهم من دون عناء ، وقضية الملاحقة فيمن هرب أو اختفى ، ليقام عليه حدّ الله بعد أخذه وحصره ، (فَإِنْ تابُوا) عن الشرك والتزموا بأحكام الإسلام ، (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) التي تمثل الإخلاص في عبادة الله والبعد عن كل شرك ، (وَآتَوُا الزَّكاةَ) التي توحي بالصدق في الالتزام ، لأن بذل المال يعبر عن معنى التضحية والعطاء والإخلاص لله ، (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) ولا تعرضوا لهم بسوء. وربما نستوحي من هذه الفقرة ، أن على المسلمين إذا أخذوا

٢٥

المشركين ، أن لا يبادروهم بالقتل ، بل ينبغي لهم أن يدخلوا معهم في حوار جديد حول التزامهم بالإسلام وتراجعهم عن خط الشرك ، وذلك كآخر محاولة في هذا الاتجاه ، فإذا أذعنوا وتراجعوا عما هم فيه ، فلا سبيل لهم عليهم ، ما دام الله قد قبلهم وأدخلهم في أمانه وشملهم برضوانه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

* * *

٢٦

الآية

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦)

* * *

معاني المفردات

(اسْتَجارَكَ) : طلب منك الأمان.

(مَأْمَنَهُ) : ديار قومه التي يأمن فيها على نفسه وماله.

* * *

إجارة المشركين المستجيرين

لم تكن البراءة التي أعلنها الله ضد المشركين وسيلة تعسفية لتصفيتهم من ناحية ذاتية ، بل كانت سبيلا من سبل الضغط عليهم ليتخلصوا من رواسبهم التاريخيّة التي تضغط عليهم ، وتمنعهم من الانفتاح على الإيمان والتوحيد

٢٧

والإسلام ، ولذلك فقد أفسح لهم المجال ليتفهموا ويتعلموا ويناقشوا ما أشكل عليهم من أمور العقيدة والدين الجديد ، فجعل للرسول وللمسلمين معه ، أو من بعده ، أن يجيروا المشرك الذي يطلب الأمان من أجل أن يسمع كلام الله ، فإذا انتهت المهمّة التثقيفيّة ـ إن صحّ التعبير ـ فعلى المسلمين أن يبلغوه مواقع الأمان التي يملك فيها حرية الحركة ، وحرّية القرار ، ثم يكون حاله بعد ذلك حال المشركين الذين يصرّون على الشرك أو الذين ينتقلون إلى خط الإيمان ، وهذا هو ما أثاره الله في هذه الآية.

* * *

إبلاغ المأمن لسماع كلام الله

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) بعد مضي الأشهر الأربعة ليسمع دعوة الإسلام من خلال الوحي ، وحجّة الرسالة من خلال الحوار (فَأَجِرْهُ) ولا تعرض له بسوء ، لأن ذلك هو أحد أهداف الإسلام في إعلان البراءة ، في ما يريده من تحطيم الحواجز النفسية التي تحول بين المشركين وبين الانفتاح على الإسلام كدعوة ومنهج حياة. فإذا استجاب أحدهم إلى ذلك ، فلا بد من التجاوب معه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) لأن ذلك هو ما يدعو إليه الله عباده ، بأن يسمعوا كلامه ويتأملوا فيه ليعرفوا سبيل الهداية ومفتاح الإيمان.

ولعل من البديهيّ أن نقرّر في هذا المجال أن مجرد السماع وحده لا يكفي في إقامة الحجة ، إذا احتاج السامع إلى المزيد من الإيضاح والمناقشة والتفكير ، ولذلك فإننا نفهم من سماع كلام الله ، المعنى الذي يحقق للسامع كل عناصر القناعة الفكرية بحيث لا يبقى لديه شيء يريد أن يسأل عنه أو يستوضحه ، فإذا لم يذعن بعد ذلك ، كان متمرّدا أو جاحدا بلا أساس ، لأنّ

٢٨

القضية ـ في الدعوة ـ ليست مجرد كلمات تقال أو تسمع بطريقة تقليديّة جامدة ، بل هي قضية عقيدة يراد لها أن تتركز وتتعمّق في فكر الإنسان وروحه وضميره ، أو تشكّل ضغطا فكريّا يعمل على إثارة تطلعات المعرفة في شخصية الإنسان (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) ليشعر بأن الإسلام لا يريد أن يستغل ضعف موقعه ، بل يترك له الحريّة في هذا الموقع ، كما ترك له ولغيره الحرية في الأشهر الأربعة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) وتلك هي مشكلتهم إذ يجحدون حقائق الإيمان وينحرفون في ممارسات الانتماء أو العبادة ، إنها الجهل الغارق في ظلمات التخلّف في النظرة إلى الأشياء ، وفي التعامل مع حركة العلاقات في الحياة. ولهذا كان من مهمّة الدعاة إلى الله أن يعملوا على رفع مستواهم الفكري ، وتوجيههم إلى السّبل التي تقودهم إلى آفاق المعرفة الواسعة المنفتحة على وحي الله وشريعته.

وربما كان لنا أن نستوحي ـ في هذا الاتجاه ـ أنّ علينا أن نقوم بحملة تربوية تثقيفية عامة للشعوب المتخلّفة التي استطاع التخلّف أن يغرقها في ظلمات الجهل ويقودها ـ من خلال ذلك ـ إلى عقائد الكفر والضلال ، مما يجعل من التعليم الذي يتيح للإنسان أن يفكّر ويتأمّل ويناقش ، سبيلا للوصول إلى الإيمان ، كمبدإ في بدايات الطريق ، أو للتأكيد على ثباته واستمراره في حركة الدعوة الممتدة في الحياة. وبذلك يمكن لنا أن نعرف قيمة الخروج من الوضع التقليدي للدعوة الذي لا يدرس المشكلة في مسألة الكفر والإيمان من جذورها التي تتدخل فيها بشكل غير مباشر ، بل يقتصر على مواجهتها بطريقة مباشرة بعيدة عن العمق والامتداد.

* * *

٢٩

الحوار المفتوح للاهتداء إلى الحقيقة

وقد استطاع الإسلام أن ينجح في هذا الأسلوب الضاغط على مجتمع الشرك ومسيرته ، فلم يمض وقت قصير ، إلا وكان المشركون يدخلون في الإسلام تحت تأثير هذا الجوّ الحاسم ، من البراءة الحاسمة التي انطلقت من الله ورسوله ، مما يجعل لها قوّة التأثير على الشعور والوجدان ، ويدفع بالإنسان المشرك إلى التفكير بطريقة حازمة ، لا تحتمل الكثير من حالات اللّامبالاة أو الاسترخاء أو اللف والدوران. ولم تنقل لنا السيرة ، عن حالات معينة ، قليلة أو كثيرة ، اضطرّ المسلمون فيها إلى أن يواجهوا مشركا متمرّدا ، بعمليّة قتل أو ملاحقة أو حبس ، بل رأينا القضية تتحرك في الاتجاه الصحيح بطريقة طبيعيّة هادئة.

وقد لا يكون البعض من هؤلاء مقتنعا بالإسلام كل الاقتناع ، لا لشبهة دخلت في فكره ، بل لأنه لا يريد أن يخضع حياته لالتزام دينيّ معين ، كما نجده في الكثيرين الذين يريدون أن يعيشوا الحياة خارج نطاق الانتماء ، ليأخذوا حريتهم في ما يشتهون أن يفعلوه أو يتركوه ، ولكن الإسلام كان يريد لأمثال هؤلاء أن يعيشوا الانفتاح على الإسلام من خلال الأجواء النظيفة الطاهرة التي تخضع لسيطرة الإسلام ، بعيدا عن أيّة سيطرة أخرى ضاغطة في اتجاه تنمية الكفر والشرك في نفوس المشركين والكافرين ، مما يقودهم إلى المزيد من التفكير والتأمل الذي ينتهي بهم إلى الإسلام ، في نهاية المطاف. وقد وجدنا بعضا من هؤلاء ممن حسن إسلامه وقوي إيمانه ، بعد أن اكتشف الجانب المشرق في الإسلام الذي يضيء فكره وروحه وقلبه ، وابتعد عن الأجواء المضادّة المظلمة التي تثير فيه الكثير من هواجس الانحراف والضلال.

وإذا كان البعض من الناس يثير مسألة الحرية أمام مثل هذه الإجراءات

٣٠

الضاغطة التي يضغط بها التشريع الإسلامي على المشركين ، فإننا نحاول أن نثير أمامهم الفكرة التي تقرر أن قضية الحرية في معتقدات الإنسان ، في ما يحتاجه من عناصر الإقناع والاقتناع ، بالكلمة والأسلوب والجوّ الذي يهيئ للحوار الإيجابي المنفتح ، هي قضية مكفولة في الإسلام بشكل حاسم ، فللإنسان الحرية في مواجهة كل علامات الاستفهام في نفسه ، لتكون له الأجوبة الكافية الشافية من قبل القائمين على شؤون الدعوة والعاملين في مجالاتها الفكرية ، حتى لا يبقى هناك شيء غامض يوحي له بالقلق والحيرة ، لأن الله يريد لعباده ، أن لا تكون لهم الحجة عليه ، في ما يريدون معرفته ، مما يريدهم أن يؤمنوا به.

أمّا الحريّة بالمعنى المطلق ، الذي يريد الإنسان ـ من خلاله ـ أن يثير فكره ، في كل الساحات ، أو أن يستسلم لبعض الحالات المعقّدة ، التي لا تخضع لحالة فكرية ، فإن الإسلام يرى أن مصلحة الإنسان في الحياة تفرض بعض التحفظات والقيود والضغوط التي تساهم في تصحيح المسار من جهة ، وتمنع عملية الإفساد من جهة أخرى. ولكن ذلك لن يكون خاضعا لنزوة شخص معين ، أو لتحكّم سلطة خاصة ، بل هو خاضع للأوضاع التشريعية في الخطوط العامة للإسلام ، وللأوضاع التطبيقية في ما يمارسه القائمون على شؤون المسلمين من أولي الأمر الذين ينطلقون من مواقع الإسلام ، في ثقافة واسعة عميقة ، والتزام عمليّ دقيق ، وفهم واع للواقع ، فإذا أخطئوا ، ردّتهم الأمة إلى مواقع الإسلام بالأساليب الإسلامية الحاسمة.

* * *

سياسة المواجهة مع المشركين

وربما كان لنا أن نستفيد من تشريع المعاهدة بين المشركين والمسلمين

٣١

في البداية ثم العمل على إلغائها ، لأسباب محدّدة ، أن قضية الإلغاء ليست حكما في أصل التشريع ، بحيث يقف حاجزا في المستقبل بينهم ضدّ أية علاقة سلميّة على أسس سليمة لا تتنافى مع المصلحة الإسلامية العليا ، بل هو حكم محدّد في نطاق مرحلة معيّنة مع مشركي جزيرة العرب الذين كانت لهم أوضاعهم السلبيّة وتصرفاتهم العدوانية التي تمثل لونا من ألوان خيانة العهد المعقود بينهم وبين المسلمين ، مما يوحي بأن البراءة المعلنة ، هي حكم ولاية رسولية ، لا حكم تشريع ، فقد مارسه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصفته حاكما لا بصفته مشرّعا.

وربما استفاد ذلك بعض المفسرين ـ وهو العلامة الطباطبائي في الميزان (١) ـ من نسبة البراءة إلى الرسول ، بالإضافة إلى نسبتها إلى الله ، إذ لو كان الأمر تشريعا كما هو التشريع ، لاقتصر الأمر على النسبة إلى الله ، لأنه هو الذي يملك التشريع وحده ، وليس للرسول إلا صفة التبليغ.

وقد نستطيع مناقشة هذا الاستنتاج بأن ذلك لا يمثل أساسا لهذا الرأي ، لأن من الممكن أن يكون إسناد الأمر إلى الرسول ، بالإضافة إلى الله سبحانه ، منطلقا من أن مثل هذا التشريع ينطلق من معنى يتصل بالله ، من حيث تشريعه له ، ويرتبط بالنبيّ من جهة أخرى باعتبار أنه طرف في إبرام المعاهدة وإلغائها ، مما يجعل من نسبة البراءة إلى الرسول ، كشيء صادر عنه ، من خلال ارتباط طبيعته به ، وفي ما يمثله واقع العلاقة بينه وبين المشركين من ممارسة عملية للتشريع في بدايته ونهايته. وفي ضوء ذلك ، لا نجد التفسير لهذا الاستنتاج صحيحا.

أمّا تفسيرنا له ، فينطلق من دراسة طبيعة الموضوع الذي يتحرك فيه هذا

__________________

(١) الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ، ط : ١ ، ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م ، ج : ٩ ، ص : ١٥٠.

٣٢

الحكم ، وهو موضوع المعاهدة ، فإنه يعتبر من الأعمال الإجرائية المتحركة التي تتعلق بالعلاقات العملية في حركة الحكم الإسلامي ، الخاضعة للمصلحة الإسلامية ، التي تختلف حسب اختلاف ظروف الواقع الذي يعيشه المسلمون في ميزان القوى في الحياة ، مما قد يفرض عليهم نوعا من العلاقات السلميّة مع الآخرين على أساس المرحلة القصيرة أو الطويلة ، وبذلك يكون الرفض التشريعي لذلك بعيدا عن واقعيّة النظرة الإسلامية لمتطلبات الساحة ، لأنها تحتاج إلى الكثير من حرية الحركة لحماية المسيرة الإسلامية.

وقد يكون هذا الاتجاه منسجما مع طبيعة الحرب التي أعلنها الإسلام ضد الشرك في الحياة من حيث الأساس ، لأنّ الحرب ليست دائما بالمواجهة في ساحة القتال ، أو بالمقاطعة في حركة العلاقات ، بل قد تحتاج إلى الأساليب السلميّة التي قد تحقق من النتائج الإيجابية لمصلحة الإسلام ما لا يحققه القتال ، وربما كانت الحرب الفكرية والسياسية أقوى من الحرب بالسلاح ، وربما كانت الحرب مصدر خطر على الإسلام والمسلمين في بعض المراحل ، فكيف يمكن لتشريع شامل لكل الحياة ، أن يعلن الحرب الدائمة على الآخرين من المشركين؟!

إن الإسلام دين دعوة ، ولا بد لذلك من أن ينطلق في أسلوبه ، على مستوى السلم والحرب ، من مصلحة الدعوة في ما تحتاجه من حرية الحركة ، التي تفرض السلم تارة ، والحرب أخرى.

وقد نستطيع استيحاء ذلك من الآيات التالية التي تتحدث عن حيثيات البراءة وإلغاء المعاهدات بالطريقة التي تجعل القرار في مستوى المرحلة والظروف الموضوعية الموجودة آنذاك ، المتمثلة بالقوّة الإسلامية القادرة على ممارسة الضغط على المشركين في دور انحسار قوّتهم ، وبالأوضاع السلبيّة التي كان المشركون يتحركون فيها ضد الإسلام والمسلمين بالتآمر والكيد لهم

٣٣

بمختلف الأساليب. وربما تتضح الصورة ، في ما يأتي من حديث ، بطريقة أكثر وضوحا وأقرب تفسيرا.

إننا لا نفهم من الآيات أنها جاءت لتنسخ حكما ، بل كل ما هناك ، أنّها نزلت لتلغي اتفاقا وقرارا ، وربما كان للنداء ، الذي نادى به الإمام علي عليه‌السلام في ما تحدثت به الروايات ، فقد جاء فيه : «لا يحج بعد العام مشرك ...» (١) ، دلالة على أنّ القضيّة تتصل بالحالة الموجودة في ذلك الوقت ، على مستوى المنطقة ، مما جعل المسألة مسألة إبعادهم عن المسجد الحرام وعن أجواء العبادات الإسلامية.

إنها ملاحظات نسجلها للتأمل والتفكير وللمناقشة ، على ضوء الأجواء القرآنية للمسألة ، والله العالم بحقائق أحكامه وآياته.

* * *

__________________

(١) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار الجامعة لدر أخبار الأئمة الأطهار ، دار إحياء التراث العربي ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، م : ١١ ، ج : ٣٥ ، ص : ٥٨٠ ، باب : ٩ ، رواية : ٢٢.

٣٤

الآيات

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١)

* * *

معاني المفردات

(اسْتَقامُوا) : داموا باقين معكم على الطريقة المستقيمة.

(يَظْهَرُوا) : الظهور : العلوّ بالغلبة.

(يَرْقُبُوا) : يحافظوا.

٣٥

(إِلًّا) : الإلّ : العهد.

(ذِمَّةً) : الذمة كناية عن الميثاق الذي يجعل الإنسان في رعايته وحفظه ومسئوليته وهو مأخوذ من الذم.

* * *

القرآن يتحدث عن حيثيات البراءة

في هذه الآيات حديث عن الحيثيّات التي تبرّر إلغاء المعاهدة القائمة بين المسلمين والمشركين ، فليس الموقف حالة اعتباطية تنطلق من موقع الشعور بالقوّة المتعاظمة لدى المسلمين في المنطقة ، تماما كما يفعل الفريق الأقوى ضد الفريق الأضعف ، إذا وجد في نفسه القوّة الكافية للسيطرة عليه ، بل الموقف يتمثّل في دراسة السلوك العمليّ لهؤلاء المشركين الذين اتخذوا من المعاهدة غطاء للحقد الكامن في داخل نفوسهم ضد المسلمين ، وللعداوة المتأصلة التي تحاول أن تعبّر عن نفسها بأيّة طريقة ممكنة ، في ما تقوم به من الكيد للإسلام والمسلمين ، مما جعل من مسألة العهد واستمراره مصدر خطر على مسيرة الإسلام. وقد أوحى الله لرسوله أن يواجه الخوف من خيانة القوم ، بما يواجه به حركة الخيانة في صعيد الواقع ، لأنّ ذلك هو السبيل العملي لتوفير الحماية للمسلمين ، فقد جاء في قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) [الأنفال : ٥٨] ، لأن انتظار الموقف ـ في مثل هذه الأمور ـ حتى يصل إلى مرحلة الخيانة الفعليّة ، يجعل المسلمين يفقدون زمام المبادرة ، لتكون في يد الآخرين الذين يعدّون العدة لأخذ المسلمين على حين غرّة ، بعد إعداد الخطط الكثيرة للانقضاض عليهم. ولهذا كان الموقف ، هو أخذ المبادرة عند ظهور بوادر الخيانة بظهور علاماتها الواضحة ، وهذا هو ما تعالجه هذه الآيات ، بتصوير الحالة الداخليّة

٣٦

لهؤلاء في شعورهم العدائي للمسلمين ، وفي سلوكهم النفاقي في علاقاتهم بهم ، وفي خطواتهم العملية للصدّ عن سبيل الله ، الأمر الذي يحقق لهم في المعاهدة فرصة للتقدم في اتّجاه أهدافهم العدوانية ، ويجعل من التعايش بينهم وبين المسلمين شيئا لا معنى له في حركة الواقع.

* * *

شروط العهد مع المشركين

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) وللعهد شروطه العملية ، ودلالاته النفسية ، وخلفياته الفكرية ، مما يفرض الإخلاص في الالتزام ، والصدق في الكلمة ، والطهر في المشاعر ، ليوفّر للموقف سلامته وثباته ، لتستمر الحياة المشتركة على هذه الأسس التي تمنع من الخيانة وتدفع إلى الوفاء ، وتوحي بالأمن والطمأنينة ، وهذا ما لم يتوافر للعهد بين المسلمين وبين فريق من المشركين ، في ما يوحي به الواقع النفسي والعملي لهؤلاء ، ولهذا جاءت هذه الفقرة من الآية بأسلوب التعجب والاستنكار ، لتثير الانطباع بأن القضية غير واقعية من حيث المبدأ والتفاصيل : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الذين لم تظهر منهم أيّة بادرة سلبيّة ضد الوفاء بالعهد (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) في التزامهم بشروط المعاهدة نصّا وروحا (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) في الوفاء بالتزاماتكم ، لأنّ على المسلم أن يفي بعهده ، فلا يكون هو البادئ بالنقض ، لأن ذلك يتنافى مع الروحيّة الإيمانية التي يتصف بها في أخلاقه وأفعاله ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الذين يخافون الله ويراقبونه في أقوالهم وأفعالهم ، في الوقوف عند حدود الله التي يريدهم أن يقفوا عندها ولا يتعدّوها ، وفي مقدمة ذلك الوفاء بالعهد للموفين بعهدهم ، لأن النقض في مثل هذه الحالات ، يوحي بفقدان الثقة بالمسلمين في علاقتهم بالآخرين في نطاق

٣٧

المعاهدات والمواثيق المعقودة بينهم وبين خصومهم من الناس. وهذا هو الذي يجعل من التقوى حركة روحيّة في الداخل ، تفرض على الإنسان الالتزام بكلمته وموقفه ، بعيدا عن صفة الطرف الآخر الذي يكون الالتزام لمصلحته من حيث كونه مسلما أو غير مسلم ، لأن القضية هي قضية أخلاقيته في نفسه ، لا في انعكاسها على الآخرين أو في استحقاقهم لها من ناحية ذاتية. وهذا هو الذي يحقق للآخرين الحماية في المجتمع الإسلامي ، لأن الإسلام يريد لهم أن يتحركوا من خطّة ثابتة ، لا من تصرّفات متحركة خاضعة لردود الفعل الطارئة في المشاعر والأفكار ، وذلك بأن يكون الأساس هو ردّ الاعتداء ومواجهته ، بطريقة دفاعيّة أو وقائيّة.

* * *

مشاعر المشركين تجاه المؤمنين

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) في الحالات التي يجدون في أنفسهم القوّة على المسلمين ، فيها جمونهم ويتغلبون عليهم ، (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) في ما ينظرون فيه إلى المسلمين من خطورة على أوضاعهم وامتيازاتهم ، فيعملون على أساس انتهاز الفرص التي تتيح لهم اللعب على الظروف الطارئة ، والمتغيّرات الجديدة ، في ما تمثّله سياسة اللف والدوران وحركة النفاق في الحياة (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) في ما يثيرونه أمامكم من الأساليب الخادعة ، وما يوجهونه إليكم من الكلام المزوّق المزخرف الخادع الذي يظهرون لكم فيه الإخلاص والمحبة (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) التي تحمل الحقد والعداوة (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) في ما يمثله نقض العهد من فسق عمليّ ، يعيشه كل واحد منهم في

٣٨

العلاقات الإنسانية مع الآخرين ، بطريقة معقّدة سلبيّة ، ترى كل الحق لنفسها ، في ما تريده من امتيازات ، وتواجه الآخرين بالواجبات في ما تفرضه عليهم من مسئوليات ، وتأخذ حريتها في فرض المواقع عليهم ، بكل ما يتمثل في ذلك من إذلال واضطهاد.

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) فلم يحترموا عهدهم ، بل حاولوا أن يستغلّوا ذلك في الحصول على مكاسب ذاتية ، وباعوا آيات الله بثمن قليل ، فلم يقبلوا عليها بالإيمان بها والعمل على هديها ، ليربحوا بذلك خير الدنيا والآخرة ، بل استبدلوا بها الأطماع والشهوات الآنيّة التي لا بقاء لها ولا امتداد ، على كل صعيد ، وساروا على نهج ساداتهم من المترفين والمستكبرين الذين لا يريدون لأنفسهم ولأتباعهم إلا الضلال ، ليحققوا بذلك لأنفسهم شهواتها ، وليحصلوا على المتاع القليل في الدنيا ، فضلّوا وأضلّوا وتمرّدوا على الأنبياء والمصلحين (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) وأقاموا الحواجز المادية والمعنوية في كل موقع من مواقعهم ، ليمنعوا الناس عن الانطلاق بعيدا في السير مع الرسالات الإلهية التي يلتقون فيها بالله في وحيه ورحمته ورضوانه ، (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وأيّ إساءة أعظم من العمل على تشوية شخصية الإنسان من الداخل ، بتزوير فكره ، وتحريف منهجه ، وبلبلة عواطفه ، وإرباك مسيرته ، ثم الانطلاق مع مسيرة الكفر والضلال بكل قوّة غاشمة ، لمنع الحياة من أن تتكامل في أجواء الإيمان والخير والصلاح من أجل أن تصل إلى الله من أقرب طريق.

* * *

٣٩

نقض العهود والذمم

(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) لأنهم لا يجدون في العهود التي أعطوها ، ملزما لهم في حساب المسؤولية ، بل يجدون فيها فرصة سانحة لخداعهم والاحتيال عليهم من خلال الإيحاء لهم بعلاقات الأمن ، فهم يعيشون روحيّة العدوان ، وينتهزون الفرصة للخيانة ، ليمارسوها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، مما لا يجعل من نقض العهد معهم في مثل هذا الجو ، حالة عدوان عليهم ، بل الأمر بالعكس من ذلك ، في ما يمثلونه من عدوان على الحياة وعلى الناس ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) الذين لا مكان لهم في ساحة المجتمع الذي يحترم عهوده ومواثيقه ، وإرادة الخير في الإنسان. وتلك هي القضية ، في مواقع الشرك الحاقد المتمرّد المعتدي.

* * *

شروط الدخول في الإيمان

أمّا إذا تغيّرت الحال وابتعدوا عن ذلك ، وشعروا بالإيمان ، فكرا يتحرك في ممارساتهم ، وهدفا ينطلق في أهدافهم ، فإن الموقف يتغيّر ، وسيكونون تماما كالمؤمنين المخلصين الملتزمين ، (فَإِنْ تابُوا) عن الشرك والضلال (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) التي تمثل صدق التوبة وعمق الإيمان وصفاء الروحيّة الخاشعة أمام الله وحركة العبودية له ، المنطلقة مع جوّ الحرية أمام الآخرين ، (وَآتَوُا الزَّكاةَ) التي توحي بروحية الإنسان المؤمن الذي يتحسس آلام الحرمان في حياة الناس ، فيعبد الله بالعطاء الذي يقدمه إليهم ، في ما يمثله

٤٠