تفسير من وحي القرآن - ج ١١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

وانفعالاتهم الحميمة. (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) فيقفون للحساب وقفة ذلّ وهوان (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) فذلك هو المصير المحتوم للكافرين الذين عاشوا الكفر فكرا وقولا وعملا وتمرّدوا على الله الذي خلقهم ، ولم يركنوا إلى ركن وثيق من الحجة القاطعة والبرهان القوي ، فليعتبر الآخرون بذلك ، وليعيدوا النظر في حساباتهم ، إذا كان لهم شغل في مصيرهم في الدنيا والآخرة ، قبل فوات الأوان.

وفي ضوء هذه الآيات ، يمكن للإنسان أن يستوحي ، أن مشكلة الكفر والضلال متصلة بمشكلة الجهل في الإنسان ، الذي لا يحاول أن يبحث عن الحقيقة من خلال استخدامه للوسائل التي أراده الله أن يأخذ بها في ما خلقه من وسائل المعرفة ، وبذلك يضيع في متاهات الأوهام ، فيستسلم للنتائج المدمّرة التي تدمّر له حياته الروحيّة في الداخل ، وحياته العملية في الخارج ، وتسلمه إلى المصير المحتوم الذي هو العذاب الشديد في الآخرة ، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

* * *

٣٤١

الآيات

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣)

* * *

معاني المفردات

(غُمَّةً) : كربة.

(اقْضُوا إِلَيَ) : أي افرغوا من أمركم.

(تَوَلَّيْتُمْ) : أعرضتم.

* * *

٣٤٢

اتل عليهم نبأ نوح

وهذا جانب من جوانب قصة نوح مع قومه ، في ما يمثله من قوّة موقف النبوة أمام خصومها ، فليس هناك ضعف في العزيمة ، ولا خلل في الإرادة ، ولا ارتباك في الحركة ، بل هي الرسالة الواثقة بنفسها المطمئنة إلى سلامة مواقعها ، المتحركة باستقامة واتزان إلى هدفها ، ولذلك لم يكن لموقفه هذا طابع الجانب الشخصيّ الذي يتجمد عند التجربة المحدودة في نطاق الزمان والمكان. وفي ضوء ذلك ، كان الله يريد لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتبني هذا الموقف في مواجهته لحالة التحدي العنيفة التي تتمثل في موقف قومه ، ليكون ردّ التحدّي فعلا متحركا مستمرا في خط الرسالات ، لا ردّ فعل من خلال حالة طارئة ، فهو انطلاقة الرسالة في حركة الصراع المستمر بين الكفر والإيمان منذ بدأ الأنبياء يقفون في الساحة من أجل دعوة الناس إلى الله ـ الحق ، ولذلك فقد كانت أدوات الصراع واحدة في طبيعة الشخصية ، ونوعيّة الكلمات ، وحيويّة الأساليب ، وفاعليّة الحركة ، وصفاء الروح ، وطيبة القلب ، ورهافة الشعور ، وصلابة الموقف.

* * *

تجربة نوح مع قومه

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) من أجل أن تعرّفهم موقفك من خلال موقفه ، ليعرفوا أسلوب الرسالة في المواجهة في أسلوبك معهم ، من خلال المقارنة بينه وبين أساليب الأنبياء ، (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) فاعتبرتموه

٣٤٣

شيئا كبيرا على مشاعركم وأوضاعكم ، فاستثقلتموه ، ورأيتم أنفسكم في موقف قويّ لا يسمح للآخرين الذين لا يملكون موقعا اجتماعيّا متقدما في سلّم الطبقات الاجتماعيّة ، أن يواجهوا علية القوم بالدعوة إلى الله ، وبذلك كان موقفكم مني سلبيّا في دعوتي إيّاكم إلى الانسجام مع خط الرسالة ، (وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ) التي تفتح قلوبكم على الحقيقة من أقرب طريق ، وتوجّهكم إلى الخير في موارده ومصادره ، وتربطكم بخط المسؤوليّة الذي يبدأ في حركته الصاعدة من بداية حياة الإنسان لتنتهي إلى يوم القيامة في مواجهة نتائجها بين يدي الله ، ليكون العمل منطلقا في أجواء الرسالة وآفاق الله.

وبذلك كان هذا التذكير المستمر الذي لا يمثل حالة شخصية تنطلق من تجربة خاصّة ، بل يمثّل وحيا إلهيّا ينطلق من وحي الله ليثير الإنسان نحو التفكير الذي يقوده إلى محاكمة الأشياء ودراستها ومناقشتها بشكل موضوعيّ هادئ ، ليتحرك نحو إدارة الحوار مع الآخرين من موقع مسئوليّة الفكر على أساس قضيّة المصير في ما يتصل بحياته وحياة الناس من حوله.

وتلك هي مهمّة الرسول ، أن يفتح العقول للتأمّل والتفكير ، وأن يفتح الساحة للحوار والمناقشة ، بعيدا عن كل الضغوط النفسية والعمليّة ، لأنه هو الذي يتحمل مسئولية شق الطريق إلى الهدف ، فلا يمكن أن يتراجع تحت تأثير أيّة حالة مضادة ، ولهذا وقف نوح معهم الموقف الذي يوحي بالقوّة المرتكزة على قاعدة التوكل على الله ومواجهة كل التحديات في الساحة من قبلهم (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) في موقفي في حركة الرسالة نحو الدعوة والتغيير مهما كانت ردود فعلكم (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) في ما تملكونه من طاقات بشريّة ذاتية أو مساندة (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أى مستورا ، بل واجهوا الموقف بكل سلبياته التي تثيرونها بكل وضوح وصراحة (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) واستعملوا كل ما يقع تحت أيديكم من وسائل الضغط ولا تمهلوني ساعة ، وهذا هو ندائي الأخير إليكم لتسمعوا ولتستجيبوا لنداء الله ، ولتهتدوا بهداه ،

٣٤٤

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) وأعرضتم ، فلن يضرّني ذلك ، لأني لا أتحرك في مواقع الرسالة والهداية من حسابات الربح والخسارة ، في ما أطمع أن ينالني منكم من نفع ماديّ أو غيره ، أو من دفع ضرر مثله ، لأشعر بالضعف أمام حالتكم هذه ، لأني أنطلق في ذلك كله من الله ، لأصل إليه وألتقي بمغفرته ورضوانه من موقف المسؤوليّة ، (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فهو غاية المأمول في كل شيء ، وهو الذي يمنح عبده عطاياه في الدنيا والآخرة (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذين يعيشون إسلام الفكر والقلب والعمل لله في كل شيء ، مهما كانت الظروف قاسية والتحديات صعبة ، من خلال ما يمثله ذلك من ضغط نفسي ومادي على الإنسان ، وبذلك كان الإصرار على الموقف مظهرا من مظاهر الإسلام الشامل لكل أجواء الحياة.

(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) ولم تتوقف مسيرة الرسالة أمام الضغوط والتحديات ، بل استمرت في حركة هؤلاء الذين أنجاهم الله من الغرق (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) يخلفون الأمم السابقة في حمل الرسالة وإدارة شؤون الحياة ، أو يحملون مسئولية الحياة في ما أوكله الله للإنسان من خلافته في الأرض (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وكان نهاية أمرهم أن لا قوا عذاب الله في الدنيا قبل أن يلاقوه في الآخرة ، ليعتبر من بعدهم بذلك ، فلا يكذبوا ولا يعرضوا ، بل يستسلموا لرسالة الله ولرسله (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) الذين أعرضوا وكذبوا وتمرّدوا على خط الرسل والرسالات.

* * *

٣٤٥

الآيات

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨٢)

* * *

معاني المفردات

(نَطْبَعُ) : الطبع : أن تصوّر الشيء بصورة ما.

٣٤٦

(وَمَلَائِهِ) : جماعته.

(لِتَلْفِتَنا) : لتصرفنا.

(الْكِبْرِياءُ) : الترفّع عن الانقياد. وقيل هي الملك وقيل العظمة والسلطان.

(يُصْلِحُ) : يزيل ما فيه من فساد بعد وجوده.

* * *

إرسال موسى وهارون إلى فرعون

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) فلم تقف المسيرة عند نوح ، لأن الله أراد للإنسان أن يواصل رسالة المعرفة من خلال الوحي في ما لا يملك وسيلة معرفته ، أو في ما يحتاج في معرفته إلى جهد كبير لا تتوفر لديه بعض طاقاته ، ليكون ذلك هو الأساس الذي تنطلق من قاعدته قضية النموّ والتطور في حركة الحضارة الإنسانية التي يريد الله لها أن تتحرك من مواقع روحيّة وفكرية واقعية.

وهكذا كانت الرسالات منطلق هدى ، وينبوع خير ، وحركة إبداع ، ويقظة روح (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) إن الرسالات لا تمثّل الصدمة التي تهز في الناس شعورهم ، بل تمثّل الفكرة التي تحرك فيهم عقولهم ، ولذلك كانت أدواتها فكرية عقلانية ، فلا تدعو الناس إلا من خلال الحجة التي تدفعهم إلى التفكير ، وتقودهم إلى التأمل والحوار ، لأن ذلك هو الذي يجعل للقناعات قوّتها في حساب العقيدة ، ويؤكّد لها مواقعها في مواقع الصراع. ولكن

٣٤٧

الكثيرين من الناس لا يريدون أن يفكروا من موقع عقليّ موضوعي (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) من غير قاعدة للتكذيب ، بل كانت القضية مزاجا وشهوة وتمرّدا على أساس الذاتية التي تحدد مواقفها من خلال انفعالاتها (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) فنختم على عقولهم بسبب ما اختاروه لأنفسهم من العدوان على الرسل والرسالات ، بعد أن أغلقوا قلوبهم عن كل كلمات الحق وجمّدوا مشاعرهم عن الاستجابة لنداء الله ، فكانت النتيجة هي ابتعاد العقول عن الإيمان ، وذلك من خلال ما ربط به الله الأمور في قانون السببيّة الذي يتصل فيه المسبب بالسبب.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا) في المرحلة الصعبة التي كان يعيشها المستضعفون تحت سلطة هذا الطاغية وجماعته ، مما كان يفرض حالة إنقاذ غير عاديّة ، من أجل أن تتحرك المسيرة الإنسانية بعيدا عن الضغوط التعسفية التي تلغي إرادتها الحرّة ، وتؤخر اندفاعها نحو التقدم في مجالات الفكر والحضارة ، فكان إرسال موسى وهارون بالنبوّة من أجل تحقيق عملية الإنقاذ التي تتحرك في خط التوعية على مستوى الدعوة ، وفي خط التعبير على مستوى المواجهة ، (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) فلم يناقشوا فكر الدعوة من موقع الفكر ، بل واجهوه بالاستكبار الذاتي الطاغي الذي يوحي للنفس بأنها على حق دائما مهما كانت طبيعة الطروحات ، ولذلك فإنهم يتحركون في أجواء الجريمة ، فيجرمون على مستوى الفكر وعلى مستوى الواقع وعلى مستوى العلاقات ، في ما يؤيّدون ، وفي ما يرفضون ، وذلك لإرضاء غريزة الكبرياء عندهم التي تدفعهم لأن يجحدوا الحق ويضطهدوا أهله في عملية إذلال وإخضاع. وتلك هي سيرة الطغاة والظلمة والمستكبرين الذين يعيشون الجريمة من مواقع الاستكبار.

* * *

٣٤٨

دعوى السحر في رسالة موسى

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) لم يخضعوا له ، ولم يستسلموا لآياته وبراهينه ، بل أصرّوا على العناد والجحود ، وحاولوا أن يثيروا الضباب في وجه الرسول الذي يحمل الحق إليهم ، فأنكروا رسالته ، (قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) في الوقت الذي كانوا يعرفون فيه الفرق بين السحر الذي يمثل الوجه الخادع من الصورة ، وبين الحق الذي يجسّد العمق الدقيق في ملامحها الأصيلة ، ولكنهم كانوا يبحثون عن كلمة ، أيّة كلمة ، تبرّر لهم هذا الموقف أمام الناس البسطاء ، ليضلّلوهم وليحجبوا عنهم الحقيقة من خلال غشاء الضلال ، تماما كما هم دعاة الباطل في كل زمان ومكان ، من خلال ما يثيرونه من الغبار في وجه الدعاة إلى الله من تهم كاذبة ، وكلمات ضالّة ، وحركات مضلّلة.

* * *

ردّ موسى

(قالَ مُوسى) مستنكرا قولهم (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) يحمل الحجة الواضحة والبرهان القاطع (أَسِحْرٌ هذا) لتعطلوا حركته في الساحة ، ولتبطلوا قدسيته في النفوس بالإيحاء بمعنى السحر فيه ، ليتعامل الناس معه تعاملهم مع ألاعيب السحر وتهاويله ، من موقع الدهشة والتعجب ، لا من موقع الإيمان والاقتناع (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) لأنهم يخادعون الناس ، ويزيّفون لهم الصورة الحقيقيّة للأشياء ، ويتلاعبون بحياتهم كما يتلاعبون بأنظارهم ، وبذلك كان موسى يشجب السحر من خلال إعلانه عن خسارة الساحرين في قضية المصير ،

٣٤٩

ليواجه الدعاية المضادّة ، بقوّة الهجوم على الفكرة المثارة حول رسالته ، ليتعرف الناس فيه وجه النبيّ الذي يرفض السحر من ناحية المبدأ ، بعيدا عن وجه الساحر الذي يزهو بسحره ليربح تصفيق الناس ولمعان عيونهم بالدهشة والإعجاب.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) قالوها ، في عملية إنكار للنتائج السلبيّة التي يواجهون من خلالها هزيمة كل مفاهيم الصنميّة المتخلّفة التي ورثوها من آبائهم ، فعاشت ـ في داخلهم ـ في مواقع القداسة الجاهلة التي ترى في الماضي ـ بكل جهله وتخلّفه ـ معنى التقديس ، فلا يمكن أن يناقشه أحد ، مهما كانت درجة الخطأ فيه ، لأنهم لا يميزون بين العاطفة التي تحكم علاقتهم بالماضي ، وبين العقيدة التي تخضع لاعتبارات الحق المرتكز على الحجة والبرهان ، ولو فكروا جيدا في المسألة ، لرأوا أن هؤلاء الآباء هم بشر كبقية البشر ، فقد يصيبون الحقيقة ، وقد يخطئونها ، فلا بد من مناقشة فكرهم وعاداتهم وتقاليدهم ، تماما كما نناقش فكر الآخرين الذين يعيشون معنا ، لأن الزمن لا يعطي للشخص أو للفكر معنى الحقيقة في حركته ، بل كل ما هناك ، أنه يفسح المجال للطاقة الفاعلة أن تتحرك في مجاله ، لتعبر عن نفسها بما تملكه من ملامح الحق والباطل ، وبذلك يصبح من حق أي إنسان يفكر بغير الطريقة التي يفكر بها الأقدمون ، أن يعمل ليغيّر الفكر الذي تركوه ، والبناء الذي بنوه ، فليس لأحد أن ينكر عليه ذلك ، بل كل ما هناك أن لهم أن يناقشوه في طروحاته ، كما يناقش هو الآخرين ، في ما طرحوه. ولكن هؤلاء الذين واجهوا موسى لم ينطلقوا من موقع التفكير والإخلاص للحقيقة عند ما أنكروا عليه ذلك ، وقالوا له : (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ثم وجهوا خطابهم إلى موسى وهارون معا ، (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) لأنهم يظنون أن الناس مثلهم لا ينطلقون من قاعدة الحق عند ما يعارضون ، بل يعتبرون الدعوة الجديدة التي يثيرونها في الساحة وسيلة من وسائل الإمساك بالسلطة ،

٣٥٠

والحصول على الامتيازات الاجتماعية والسياسية ، والوصول إلى مواقع الكبرياء في الأرض ، وبهذا كان موقفهم من موسى وهارون ، هو موقف الذي يدافع عن امتيازاته ، بمواجهة الامتيازات التي يريد الآخرون أن يكتسبوها في طموحاتهم وأطماعهم ، ولهذا أطلقوا الصرخة في وجه الرسولين الأخوين (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) فافعلا ما تريدان ، فلن نستمع لكما ، ولن نفكر في ما تقولانه ، لأننا لن نتنازل عما نحن عليه من عقيدة وسلطة.

* * *

ردّ فرعون

وفكّر فرعون أن يهزم موسى بالسحر ، لأن للسحر تأثيره الكبير على الناس ، وظنّ أن موسى لا يستطيع مواجهة هذا التحدي ، فسينهار أمام الرعب الهائل الذي يثيره السحر في روحه ، فيفقد قوّته الروحيّة أمامه ، وتنهزم قاعدته المعنوية في نفوس الشعب. وهكذا نادى قومه : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ* فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) في موقف يوحي لهم بالاستهانة بهم ، في ما يحاول أن يثيره من الشعور الخفي في داخلهم بقوّة موقفه وباطمئنانه إلى النتيجة الحاسمة لصالحه في نهاية المطاف ، ليهزم موقفهم بذلك.

* * *

إبطال عمل السحرة

(فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) لأنه لا يمثل

٣٥١

الحقيقة ، بل يمثل الوجه الخادع للأشياء الذي لا ينفذ إلى عمق الواقع ، بل يظل صباغا باهتا على السطح ، وسيزول في أول صدمة. أما الحق ، فإن جذوره ضاربة في أعماق الحياة ، وذلك هو الفرق بين ما يفسد الحياة ، وبين ما يصلحها ، وتلك هي القصة بين الزيف والإخلاص ، (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لأن الله قد أقام الحياة على أساس الحق ، فلا يسمح للفساد أن يتعمق فيها ، فلا يلبث إلا قليلا ثم يزول كما تزول الفقاقيع من على وجه الماء ، وكما يتبخر الزبد مع الهواء ، ويبقى الحق في حركة الحياة ليمتد معها ما امتد الإنسان في الزمن (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) التي تعطي له الثبات والقوّة والعمق والامتداد ، ويؤكدها بقدرته وحكمته (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) لأنهم لا يمثلون شيئا في ميزان القدرة ، أو في حركة الحياة.

* * *

٣٥٢

الآيات

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٨٦)

* * *

معاني المفردات

(ذُرِّيَّةٌ) : الذرية : الجماعة من نسل القبيلة.

(يَفْتِنَهُمْ) : يصرفهم عن دينهم.

(الْمُسْرِفِينَ) : المجاوزين الحدّ.

* * *

٣٥٣

فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) فلم يؤمن منهم إلا قليل ، ولكنهم لم يكونوا مطمئنين لمصيرهم ، وذلك من خلال الضغوط الصعبة التي يستطيع فرعون أن يمارسها ضدهم ، وبذلك كان إيمانهم (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) عن دينهم ، وذلك بالتأكيد على نقاط الضعف الكامنة في نفوسهم وفي حياتهم التي تبعث فيهم الاهتزاز في الموقف والانتماء.

(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) في ما يحاوله من السيطرة الغاشمة على المستضعفين ، والعمل على إذلالهم ، وتدمير شخصيتهم ، وسحق إرادتهم ، للإيحاء الدائم لهم بأنهم في المرتبة الدنيا ، وهو في المرتبة العليا (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) الذين أسرفوا في التمرد والعصيان والطغيان والجحود والكفران ، حتى تجاوزوا كل الحدود. وأيّ إسراف أعظم من ادّعاء الربوبيّة.

(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) في ما يوحيه الإيمان به من الإيمان بقدرته المطلقة التي لا تقف عند حدّ ، مما يعني الشعور بالأمن في ظله ، والاطمئنان لرعايته ولرحمته (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) واعتمدوا ، فلا تخافوا معه أحدا مهما كانت عظمته ، ومهما كان دوره (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) لله أمركم وحياتكم في كل شيء ، فذلك هو سبيل القوّة لمن أراد أن يعيش معنى القوّة في روحه وفكره وحياته ، ليواجه التحدي الكبير في ما يثيره أعداء الله من تهاويل. وتجاوبوا مع هذا النداء ، فعاشوا الشعور بالقوّة في نطاق التوكل على الله ، الذي يوحي بالأمن أمام احتمالات المستقبل ، فلا يخاف من أشباح الغيب الكامنة في الزمن الخفيّ ، ولا يشعر بالشلل من ذلك ، بل يجد في الله ضمانة من كل خوف واهتزاز (فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) فهو ثقتنا في كل شيء ، وهو الذي يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء. (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

٣٥٤

فلا نسقط أمام التجربة القاسية والاختبار الصعب ، بل اجعلنا ممن يثبت في كل الاهتزازات ، فلا يشعر هؤلاء الظالمون بأنهم على صواب في ما يرون ، إذا رأونا نتساقط أمام الفتنة العمياء (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فلا تسلّطهم علينا من خلال القوّة الغاشمة التي يملكونها ، بل اشملنا برعايتك ورحمتك في كل أمورنا الحاضرة والمستقبلية ، حتى لا نحتاج إلى أحد غيرك ، ولا نلجأ إلى أحد سواك.

* * *

٣٥٥

الآيات

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٩٣)

* * *

٣٥٦

معاني المفردات

(تَبَوَّءا) : اتخذا.

(اطْمِسْ) : الطمس : إزالة الأثر بالمحو.

(وَاشْدُدْ) : هنا بمعنى اطبع.

(وَجاوَزْنا) : المجاوزة : الخروج عن الحد.

(بَغْياً) : ظلما.

(وَعَدْواً) : ظلما.

* * *

موسى يؤمر ببناء قاعدة للمواجهة

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) لتبقى قاعدة للانطلاق في عملية صنع القوّة المستقبلية ، لأن بدايات النصر قد لاحت ، فلا مجال للاهتزاز في المواقع ، بل لا بد من الإيحاء بالثبات ، في ما تمثله إقامة البيوت من ذلك (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي متقابلة في مواجهة بعضها البعض ، لأن ذلك يحقق إمكانات المواجهة أمام أيّ خطر داهم كأسلوب من أساليب تجميع القوّة.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) التي تمثل الطابع الروحي الذي يطبع هذا المجتمع

٣٥٧

الجديد الذي يرتكز على أساس عبادة الله في مواجهة عبادة الطاغوت. وربما كان الاكتفاء بإقامة الصلاة باعتبارها المعراج الروحي الذي يجسّد معنى الإيمان بالله في مواقف العبادة والخضوع (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصر على فرعون وبداية التحرك من أجل نهاية الطغيان ، ليبدأ عهد جديد يرف فيه لواء الحق والعدل على رؤوس الجميع ، فلا يبقى هناك مجال لأيّ ضغط خارجيّ كافر ، مهما كان نوعه. ويمكن أن يتوسّع معنى البشارة ليشمل أجواء الآخرة التي تتلقى فيها الملائكة وفود المؤمنين بالبشرى بالجنة التي كانوا يوعدون.

* * *

دعاء موسى على فرعون

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في ما مكنتهم فيه من أسباب القوّة ، من مال كثير ، وجاه عظيم ، مما جعل منهم الفتنة للناس الآخرين ، ومكنهم من استغلال ذلك في عملية الإغواء والإضلال (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) في ما اعتاده الناس من ممارسة الضغط النفسي عليهم بالزينة التي تبهر الأبصار وتغري النفوس ، وبالأموال التي تضعف المواقف وتسحق الإرادة (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) وامحقها ، لئلا يكون لهم سبيل من سبل الضلال في ذلك كله (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي اطبع على قلوبهم حتى لا تنفتح على أيّ فكر يوحي لهم بالامتداد في حياة الناس ، وربما فسّر بمعنى آخر على خلاف الظاهر (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) لعل الظاهر أنها من تتمة الدعاء ، أي وعذّبهم العذاب الأليم الذي ينتظرهم في نهاية المطاف ، فيؤمنوا من موقع العذاب الذي يلتقون معه بالحقيقة. وقد يعتبرها البعض معطوفة على قوله: (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) ، وهو غير ظاهر.

* * *

٣٥٨

العبرة من دعاء موسى

وقد نستوحي من ذلك أن الطغاة والظالمين يتوصلون إلى إضلال الناس والسيطرة عليهم من خلال الحالة الاستعراضية التي يحاولون من خلالها التأثير على نفسيّة الناس لإضعافها بمظاهر الزينة والمال والجاه التي تبهر الأبصار وتعشي العقول ، مما قد يقتضينا معالجة هذه المؤثّرات الضاغطة بمختلف أساليب التوعية التي تضع القضية في نصابها وحجمها الطبيعيّ ، وذلك من جهة تخفيف الضغط على مواقفهم من خلال ذلك.

وقد لا يكون النبي موسى عليه‌السلام في موقف المنفعل الذي يريد أن يعالج المسألة بالدعاء المتحرك من موقع المأزق الذي يحيط به ، بل كانت القضية أن التجارب قد استنفدت معهم ، وأنهم يقفون في الطريق ليمنعوا الرسالة من أن تتحرك في خط الدعوة ، وفي مجال تحقيق الأهداف ، وليعطلوا حركة الحرية في نفوس المستضعفين من خلال دعوة النبي ، وذلك بالضغوط المباشرة تارة ، وبالضغوط غير المباشرة أخرى ، فلم يكن هناك مجال إلا بالقضاء عليهم ، لتبقى الساحة خالية من الحواجز الصعبة التي تمنع الانطلاق ، لئلا تنسحق أمام حالات الشلل والجمود الذي أريد لها أن تنسحق أمامها. وهكذا كان ، فقد أوحى الله إلى موسى وهارون بما يريد (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما) وسيحل العذاب بفرعون وجماعته ، فاستقيما في موقع القوّة الجديد الذي ستحصلان عليه بعد إهلاك الطاغوت ، وتابعا المسيرة في الخط الذي أراد الله لكما أن تسيرا عليه ، لأن الإنسان قد يضعف أمام السلطة ، فيترك ما كان يدعو إليه ، ويستسلم للدوافع الذاتية والمؤثرات الشيطانية إذا لم ينفتح على الله في كل الأحوال ، (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) طريق الحق ، ولا يهتدون إلى غايات الخير والعدل والإيمان.

٣٥٩

وذلك هو أسلوب التربية القرآنية ، الذي يوحي بأن من الضروري متابعة الإيحاء للدعاة إلى الله بالحذر من الانحراف ، بعيدا عن أيّة حالة ذاتية ، مما يمكن للناس أن يجعلوه مانعا عن توجيه النصح ، من عظمة الشخصية ، وحجم الموقع ، لأن المسألة لا تتصل بمستوى الذات ، بل ترتبط بضخامة التحديات التي قد تزلزل الإنسان ، وقد تهوي به إلى مكان سحيق. ولا نريد في هذا المجال أن نتحدث عن قصة العصمة التي تمنع النبي عن الانحراف مما يمنع من توجيه النصح إليه في هذا الاتجاه ، لأننا نحسب أن تأديب الله لرسله ، هو أحد المؤثرات في العصمة التي تمنحهم مناعة الموقف وقوّة الالتزام. وقد لا تفوتنا الملاحظة في أسلوب القرآن ، الذي يعبّر دائما عن الكافرين والظالمين بأنهم لا يعلمون ، مما يعني أن مشكلة هؤلاء أنهم لم ينفتحوا على الحقيقة من موقع جهل ، أو من موقع غفلة وتمرّد ، فقد لا يعرفون الحق مباشرة ، وقد لا يعرفون نتائج البعد عنه عند ما يختار الإنسان لنفسه ذلك.

* * *

ملاحقة فرعون لبني إسرائيل

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) في ما هيّأه الله لهم من وسائل الخلاص من ظلم فرعون بطريق المعجزة (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) من دون حق ، من موقع العدوان ، ورأى أن الطريق ممهدة أمامه لملاحقتهم ، وظنّ أن الله يلطف به كما لطف بهم ، ولكن جاءه الموج من كل مكان (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) استعرض كل حياته ، بكل ما فيها من كفر وبغي وطغيان وعدوان على الناس ، وانفتحت له آفاق الإيمان فجأة ، وانجلت عن عينيه وعن قلبه غشاوة الضلال.

* * *

٣٦٠