تفسير من وحي القرآن - ج ١١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

إلى لون قاتم ينعكس على الوجوه ، (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فتلك هي النتيجة المحتومة للتاريخ الأسود الذي تركوه وراء ظهورهم.

* * *

يوم القيامة تنقطع الروابط بين المشركين

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) فلا يتخلف منهم أحد (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) قفوا لا تتحركوا ، وليلزم كل واحد منكم ومن شركائكم مكانه ، وواجهوا الحقيقة الساحقة ، التي تتساقط فيها الآمال أمام تساقط المواقف ، فها هم أولاء الذين أشركوهم بعبادة ربهم ، وعبدوهم من دونه ، لا يعترفون بهم ، ولا يملكون لهم نفعا ولا شفاعة ، (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي قطعنا الروابط بينهم ، فلا صلة تربطهم بهم ، وها هم يواجهونهم بالتنكر لهم والرفض لعبادتهم ، ليتخلصوا من مسئوليتهم ، فينكروا عليهم عبادتهم لهم لئلا يتحملوا مسئولية شركهم وضلالهم من موقع الإغراء والخديعة والتضليل ، في ما كانوا يمارسونه معهم. (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) لأننا لم نأمركم بذلك ليكون عملكم عبادة لنا من موقع الخضوع والطاعة للأمر الصادر منّا. وربما كان ذلك على سبيل الكناية من جهة عدم استحقاقهم للعبادة حتى لا يواجهوا مسئولية ذلك أمام الله ، (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) فهو الذي يعلم حقيقة الأمر كله ، ويعلم خفايا الأعمال ، (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) فلم يكن لنا من الأمر شيء مما فعلتموه ومما عبدتم ، بل كنا في غفلة عن ذلك.

* * *

٣٠١

الله هو المولى الحق

(هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) فهو يوم الامتحان والاختبار الذي تظهر فيه طبيعة الأعمال والمواقف أمام النتائج الإيجابية والسلبيّة (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) فهو وليّهم في كل شيء ، فلا مولى غيره ، ولا يملك أحد شيئا معه (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من دعاوى وأباطيل ، ووضح الصبح لذي عينين ، فلا مجال لأي ظلام أو ضباب يحجب الرؤية. وهذا هو ما ينبغي للإنسان أن يفكر فيه وهو في الدنيا ، ليعيش المسؤولية في ما يعمل ، فيواجه نتائجها من موقع الوعي والإرادة والإيمان المنفتح على قضايا الحق والمصير.

* * *

٣٠٢

الآيات

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٣٦)

* * *

معاني المفردات

(تُصْرَفُونَ) : تعدلون عن الحق.

(تُؤْفَكُونَ) : الإفك : كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه ، وتؤفكون : تصرفون عن الحق.

٣٠٣

هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟

وتأتي الآيات لتثير علامات الاستفهام أمام هؤلاء المشركين الذين لا ينكرون وجود الله ، ولكنهم يشركون بعبادته غيره ، ويستغرقون في هذا الاتجاه حتى يسيطر على مشاعرهم وأفكارهم ، فينسون الله في غمرة ذلك كله ، فإذا هم والملحدون سواء. ومن هنا تأتي هذه الآيات لتنبش أعماقهم ، لتستخرج منها الأفكار الكامنة في داخلها ، في ما يعتقدونه من أسرار عظمة الله وقدرته ، ليوجههم ـ من خلال ذلك ـ إلى حقيقة التوحيد في اعتقاداتهم وأعمالهم وأحاسيسهم وأفكارهم.

* * *

الله هو الرازق والمالك والمدبّر

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) في ما يهطل من المطر ، وفي ما تنبت الأرض من النبات ، أو في ما تخرجه من المعادن ، أو غير ذلك ، (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) في ما يخلق من أدواتهما ، وفي ما يملكه من تحريك طاقاتهما في تحصيل العلوم النظرية والتجريبيّة. (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) فيملك أمر الموت والحياة بقدرته التي تتصرف فيهما على أساس الحكمة والعظمة؟

ويختلف المفسرون في التمثيل لخروج الحي من الميت ، فيمثل له بعضهم بخروج النبات الحي من الأرض الميتة ، ويتعمق بعض آخر فيمثّل له بما يأكله الحيوان ويمر بمعدته وأمعائه وتجري عليه جميع عمليات التحليل ،

٣٠٤

وبالنهاية ، تتكون منه خلايا جديدة بدلا من الخلايا القديمة ، أمّا خروج الميت من الحيّ ، فقد يمثل له بولادة الميت من الإنسان الحي كالأم التي يموت ولدها في بطنها ، أو موت الخلايا التي يتخلص منها الجسم الحيّ بالتنفس والإفراز.

(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) فيدير الكون وينظمه ويدبّره بقدرته التي لا يعجزها شيء ، وإن عظم؟ (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) لأنهم لا يرون لهذه الأصنام التي يعبدونها مثل هذه القدرة ، وبذلك فسيواجهون الجواب الحاسم الذي يرى كل هذه الأشياء ملكا لله ، (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) في ما تفرضه العقيدة بالله من ضوابط للفكر وللعمل ، لأنّها في عمقها الفكري الإيماني ، توحي للإنسان بالهيمنة المطلقة لله ، بحيث يفقد معها الشعور بالاستقلال في أيّ شيء ، بل يشعر بدلا من ذلك بالعجز أمام الله ، وبالحاجة إليه في أموره كلها ، مما يجعل للتقوى في حياته معنى يتصل بامتدادها وحيويّتها وحركتها في المبدأ وفي التفاصيل ، ويؤكد دورها في تحويل الإنسان من شخص يستغرق في ذاته وفي ما حوله ، إلى شخص يعيش في آفاق الله ، فيشعر برقابته عليه في كل القضايا والأشياء ، ويتحسس حركة المسؤولية في فكره ومشاعره وحياته ، في ما يحدّده خط الإيمان من الارتباط العميق بالله. وربما استطاعت التقوى أن تنقذه من هذه الازدواجية بين التوحيد في العقيدة والشرك في العبادة ، لأنها تفرّغ داخله من كل شيء غير الله ، لتملأه به وحده في ما تثيره من إشراقة الوعي في روحه ، وابتعاد الغفلة عن فكره ، وبذلك تنكشف الحقيقة التي لا بديل عنها ، وتتضح لديه الصورة بتمامها ، (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) الذي يوحي بالقدرة المطلقة المتمثّلة في خلق السماوات والأرض وإنزال الرزق منهما وخلق السمع والأبصار ، وإخراج الميت من الحي ، والحيّ من الميّت ، فذلك هو الذي يؤكد خصائص الربوبيّة الحقيقية فيه ويبعدها عن غيره ، لأن غيره لا يملك شيئا من ذلك ، بل هو العجز المطلق عن كل شيء إلا من خلال إرادة الله.

٣٠٥

(فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) لأنه يمثل الخط الواحد الذي لا التواء فيه ولا انحراف ، فلا بديل عنه إلا الضلال والتخبط في متاهات الضياع التي تتشابه فيها المسالك والدروب والآفاق ، دون أن تترك أيّة علامة تدلّ على الغاية المبتغاة. وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يملك صورة تخيّل له أنها الحق ، بل إنه لا يرتكز على قاعدة ثابتة في ما يفرّق فيه بين الحق والباطل (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي تعدلون عن الحق ، وهو التوحيد ، إلى غيره ، وهو الشرك. (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) بعد أن أقام عليهم الحجة ، ولم يجعل هناك عذرا لمعتذر في أيّ شك وشبهة ، فانحرفوا من موقع الشهوات والأهواء لا من موقع القناعة المرتكزة على العلم والفكر ، ولذلك كان سلوكهم الفكري والعملي فسقا (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بالله وبرسالاته.

* * *

بدء الخلق وإعادته

ثم تنطلق الآية لتوجه النظر إلى الشركاء بعد أن أثارت في أعماقهم التفكير في أمر الله (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) فيبدع الوجود من العدم ، ثم يعيده إلى العدم من جديد ، لينطلق الوجود في صورة جديدة تحاكي الصورة السابقة بكل ملامحها؟ ويلتفتون إلى واقع هؤلاء الذين جعلوهم شركاء ، فيرون قدرتهم المحدودة الناطقة بالعجز ، ويعرفون استحالة نسبة ذلك إليهم ، لأنهم مخلوقون من العدم كغيرهم ، وسيعودون إليه من جديد ، ليبعثوا كما يبعث الآخرون ، فلا يمكن أن يكونوا هم الذين يعطون الأشياء وجودها في البداية والنهاية ، ويعرفون أن الله هو القادر على ذلك كله ، ولذلك بادرت الآية إلى الجواب عن السؤال ، دون أن تنتظر جوابهم ، لأنه من بديهيّات المعرفة ،

٣٠٦

(قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) وتعدلون عن الحقيقة الواضحة ، إلى الباطل؟

وربما يخطر في البال سؤال : كيف يطرح القرآن فكرة إعادة الله للخلق كعقيدة من عقائدهم التي يفرض استسلامهم لها ، مع أنهم لا يعتقدون بالمعاد ، كما تحدّث القرآن غير مرّة؟ وربما كان الجواب عن ذلك : أن هذا الأسلوب القرآني لا يريد استنطاقهم في الجواب من خلال السؤال بشكل فعلي ، بل يريد تقرير الحقيقة العقيدية بطريقة إيحائية ، للإيحاء بأن أي إنسان يوجه إليه هذا السؤال ، فلا بد من أن يجيب بهذا الجواب ، لأن الفطرة تفرض عليه ذلك ، باعتبار ارتباطها بالحقيقة وارتباط الحقيقة بها من أقرب طريق ، وهذا أسلوب درج عليه القرآن في أكثر من موضع.

* * *

الهادي إلى الحق

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) أي اسأل يا محمد هؤلاء المشركين ، هل أحد من آلهتكم الذين تجعلونهم شركاء الله وتنسبون إليهم ما تنسبون من القدرات ، هل أحد منهم يهديكم إلى الحق ، لأن من شأن الألوهية هداية مخلوقاتها إلى الحق. بكلام آخر ، فإن السؤال هنا ينطلق ليقرّر فكرة جديدة ، فيناقش مسألة الشرك من هذا الموقع ، في نموذج الشريك العاقل الذي يحس ويعي ما حوله ، أو في نموذج هذه الأصنام من الجمادات ، فإذا كان الشريك لديهم في موقع الإله ، فلا بدّ من الحديث عن أبسط خصائص الإله وطبيعة دوره ، فهل يمكن أن يتمثل في شخص لا يملك الهداية لنفسه إلّا إذا جاءته من قبل الآخرين ، أو في شيء لا

٣٠٧

يقبل الهداية ذاتيا؟ إن ذلك فرض لا معنى له ، لأن من أبسط خصائصه أن يعطي للكائنات خطّ هدايتها الذي يوصلها إلى النتائج السليمة على مستوى الحياة ، كما يعطيها خطّ الوجود الذي ينقلها من العدم إلى مرحلة الوجود ، فإن ذلك يعني الوعي والعقل والحكمة والقدرة والإرادة والغنى المطلق ، بينما يمثل العكس الجهل والعبث والعجز والفقر والحاجة إلى غيره.

وبذلك يطرح السؤال نفسه لتقرير الحقيقة العقيديّة ، فمن هو الأولى بالعبادة المتمثلة بالاتباع على أساس الطاعة والخضوع؟ فهل هو الذي يهدي الحياة إلى الحق في حركة الكون وفي حركة الإنسان؟

(أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) فلا يملك الاهتداء إلا إذا هداه غيره ، إن كان قابلا للهداية في نفسه ، وذلك في من يملك الحياة والعقل والإرادة؟ فهل يمكن أن يستوي الأمر بين هذا وهذا؟ (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الجائر الذي لا يرتكز على أساس ثابت بل ينطلق من خلال الأهواء والشهوات ، بعيدا عن أيّ منطق للعقل من قريب أو من بعيد.

وإذا كانت الآية في مسألة الإله ، فيمكن للإنسان أن يأخذ منها فكرة القيادة بطريقة الاستيحاء ، وذلك بالتأكيد على أن هناك فرقا في المواقع بين الموقع الذي لا يملك فيه الإنسان عنصر الوعي والهداية التي تؤهله للقيادة وبين الموقع الذي يملك فيه الإنسان كل عناصر الكفاءة الرسالية التي تجعل منه عنصر خير للحياة وللناس أجمعين ، فلا يمكن للقائد الذي يتبعه الناس أن يكون خاليا من كفاءة القيادة في ما يحتاجه الناس فيه ، لأن الاتّباع يفرض وعي القيادة لمسؤوليتها في حياة الناس ، أو في حركة الساحة من حوله.

* * *

٣٠٨

الظن لا يغني من الحق شيئا

(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) في ما يعتقدونه من عقائد ، أو يعبدونه من آلهة ، فلم يرتكزوا على أساس العلم المنطلق من البداهة الفطرية ، أو من البرهان العلمي ، بل ارتكزوا على أساس الشك والحدس والتخمين. وهو ما توحيه كلمة الظن التي تواجه مسألة العلم ، لتشمل كل ما هو غير علمي ، مما لا يمكن الاعتماد عليه في العقيدة والعمل ، (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) لأنه لا يكشف عن الحقيقة من مواقع الفطرة والوجدان ، أو من مواقع الحجة المنتهية إلى الوجدان. وهذا هو الخط الذي يريد الإسلام للإنسان أن يسير عليه في تحصيل القناعة ، أو تحقيق الانتماء ، فلا يجوز له أن يعتمد على ما لا يجوز الاستناد إليه مما لا يرتكز على حجة ولا ينطلق من قاعدة يقينيّة ، بل لا بدّ له من مواجهة الفكرة المتبنّاة من الإجابة على كل علامة استفهام مطروحة أمامه ، بما يطمئن إليه العقل ، وتستقر به النفس ، ويعذر فيه العقلاء ، فإذا لم يحصل ذلك وبقيت الاحتمالات المضادة مفتوحة عنده ، كان الموقف الطبيعي لديه أن يأخذ جانب الحذر ليلاحق الآفاق المتنوعة التي تقف به عند خطّ اليقين. ومن خلال ذلك ، نفهم جيّدا ، كيف يريد الإسلام للإنسان أن يحترم الحقيقة في الحياة ، باحترام مسئولية الفكر لديه ، والتأكيد على أدواته وأساليبه في الوصول إلى النتائج الإيجابيّة في العقيدة ، لأن ذلك هو الذي يعطي للناس جانب العذر عند الله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ).

* * *

٣٠٩

الآيات

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٤)

* * *

٣١٠

ما كان هذا القران أن يفتري من دون الله

وهذا حديث عن موقف هؤلاء الذين يحكمون بما لا يعلمون من دون حجّة ولا برهان ، في ما واجهوا به الرسول من تحدّ وكفران ، وما قابلوا به القرآن من افتراءات. وهو حديث عن الأسلوب الذي ينبغي للرسول ، ولمن كان سائرا في خط الدعوة ، أن يواجه به هذا الموقف السلبيّ المضادّ ، وعن الروحيّة التي يعيشها في داخل انفعالاته أمام حالات التحدي ، فلا يسمح للمشاعر بالاهتزاز ، ولا للموقف بالانفعال ، بل يبقى له العقل الهادىء ، والأسلوب المتّزن ، والموقف الثابت الذي يواجه الهدف بثقة واطمئنان.

* * *

القرآن لا يمكن أن يفتريه بشر

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) لأن دراسة آياته في ما تحمل من فكر أو تتميز به من أسلوب ، وكذلك دراسة شخصية الرسول في صدقه وعمق أمانته ، لا تسمح بهذا الاحتمال ، بل إنّ فيه ملامح الصدق التي تدلّ على أنه يمثّل الحقيقة المعصومة النازلة من الله ، فإن مقارنته بالكتب الإلهية التي جاء بها الرسل السابقون وملاحظة هذا التوافق بينه وبينها ، مما يجعله مصدّقا لما بين يديه منها ، يؤكّد ذلك ، كما جاء في قوله تعالى (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) الذي خطط لكل قضايا الحياة ومسئولياتها ، ليكون الإنسان على بصيرة من أمره ، في ما يواجهه في مستقبل حياته كلها ، (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) لأنه يجيب على كل علامات الاستفهام المضادّة ، فلا يبقى مجال للشك أو للريبة بأنه الكتاب الصادق الموحى به من رب العالمين.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ

٣١١

صادِقِينَ) فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يتحدى هؤلاء المقتدين بأن يأتوا بدليل واحد على أن هذا القرآن ليس من عند الله ، وإنما هو من افتراءات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ذلك أن محتوى دعواهم يذهب الى أن هذا القرآن إذا كان من صنع بشر ، فلا ريب أنه في متناول الناس الإتيان بمثله ، لأنه لن يكون عندها ذلك الكتاب المعجز ، وبالتالي فإن عجزهم عن الإتيان بمثله دليل على كذبهم وكذب دعواهم من جهة ، ودليل على كونه من الله تعالى من جهة أخرى.

إلا أن هؤلاء الذين لا يحترمون عقولهم ، فلا يوجهونها إلى التفكير والبحث عن الحقيقة ، ولا يتحملون مسئوليّة المصير ، فيبتعدون بخطواتهم عن السير في الاتجاه الصحيح ، فينكرون من دون أساس للإنكار ، ويكذّبون من دون حجّة على التكذيب (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) ولم يملكوا حجته ، فإن من الطبيعيّ للجاهل أن يتوقف عند حدود جهله ، فلا يثبت ولا ينفي إلّا إذا انطلق في البحث إلى نتيجة إيجابيّة أو سلبيّة حاسمة ، ولكن كثيرين من الجهّال الذين لا يطيقون البحث ، يستعجلون التكذيب ليبرّروا بذلك انحرافهم وابتعادهم عن المسؤوليّة التي يمثلها خط الحق ، ثم يتحوّل الأمر عندهم إلى عقدة مرضيّة مستعصية تدفعهم إلى محاربته والاعتداء على رموزه. وقد ورد في حديث الإمام علي عليه‌السلام : «الناس أعداء ما جهلوا» (١). وهكذا كذّب هؤلاء بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) وتفسيره في ما يشتمل عليه من حقائق وأسرار ، ولكنها ليست أوّل بادرة تصدر من المكذبين الجاهلين ، بل هي سيرة البشريّة الكافرة التي لم ينطلق كفرها من موقع الحجة والبرهان ، بل من موقع العقدة المعادية ، (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، فأخذهم الله بكفرهم وذنوبهم ، (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ، فعرّضوها للخزي في

__________________

(١) ابن أبي طالب عليه‌السلام ، علي ، نهج البلاغة ـ (المعجم المفهرس) دار التعارف للمطبوعات ، ط : ١ ، ١٠٤١ ه‍ ـ ١٩٩٠ م ، قصار الحكم : ١٧٢ ، ص : ٣٧٨.

٣١٢

الدنيا والعذاب في الآخرة ، وخذ منها العبرة للآخرين من خلال ما يستقبلون من قضايا العقيدة والعمل.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) من موقع تفكير ورويّة ، فيؤدّي به ذلك إلى الإيمان (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) عنادا وجحودا من دون أساس ، بل كل ما هناك أنهم يحافظون على امتيازاتهم الذاتية أو الاجتماعية أو المالية التي يخافون أن يفقدوها من خلال حركة الإيمان (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) الذين يفسدون حياة الناس ، في ما يقودونهم إليه من انحراف في التصوّر ، وغموض في الرؤية ، وابتعاد عن وعي قضيّة الإيمان ، فإن ذلك هو أوّل منطلقات الفساد ، لأنه يبدأ فكرة في الذهن ، وعاطفة في الشعور ، وحركة في الوهم والخيال ، فيتحوّل إلى موقف منحرف في السلوك والعلاقات. وبهذا نفهم أن موضوع المفسدين لا يقتصر على الذين يفسدون الحياة بالعمل ، بل هم الذين يفسدونها بالتصوّر المنحرف ، بالإضافة إلى السلوك الضال.

* * *

مواجهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتكذيب الكافرين

والآن كيف يواجه النبيّ الموقف ، وما هو الأسلوب الذي يتبعه معهم؟ هل هو أسلوب التشنّج والانفعال ، بالمزيد من السباب والشتائم ، أو هو أسلوب الرفق الذي يرتكز على الدراسة الواعية لشخصية الإنسان في ما يتطلع إليه الدعاة إلى الله من مواجهته بالحقيقة الحاسمة ، لتكون بمثابة الصدمة التي تهز الفكر ، من دون أن تثير المشاعر ، لأنها تستهدف تحديد الموقف من الفكرة ، لا تحديد الموقف من الإنسان ، لتستعيده إلى الساحة ولو بعد حين؟ إن القرآن يطرح الأسلوب الثاني ، لأن الدعوة لا تتعقّد من الآخرين ، بل تفكّر

٣١٣

بهم ولهم ، وتستجيب لكل مواقع الخير المستقبلي في أعماق فكر الإنسان وروحه ، فتفسح له المجال للتراجع من دون الشعور بعقدة الذات.

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ) فلم يستجيبوا لك ، ولم يقبلوا بإرادة الحوار معك والتفكير في ما عرضته عليهم من حقائق الإيمان ، (فَقُلْ لِي عَمَلِي) الذي أقتنع بصلاحه وأتحمّل مسئوليته (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) الذي تحملتم مسئوليته بوعي أو بدون وعي ، فكل واحد منا يواجه الموقف من خلال مواقعه الفكرية والعملية ، من دون أن يضرّ أحد أحدا في النتائج السلبيّة لذلك ، ومن دون أن ينفع أحد أحدا في النتائج الإيجابيّة له ، (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ) كما تفعلون الآن في ما تواجهونه من كفران وتكذيب (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) لأنه يبتعد عن خط الحق الذي يريد الله للحياة أن تسير عليه ، وللناس أن يأخذوا به.

ولعل هذا الأسلوب ، يمثّل الأسلوب الواقعيّ الذي يواجه به كل صاحب فكر حقّ ، أصحاب فكر الباطل ، فيشعر معه بالطمأنينة والثقة والتخفّف من ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه ، إذا أدّى ما عليه من واجب ، في ما طرحه من أفكار وما مارسه من وسائل الهداية ، سواء كان هؤلاء من ذوي قرباه ، أو من أصدقائه ، أو من الناس البعيدين عنه ، فلا يشعر بعقدة الذنب أمامهم ، ولا يعيش انفعال المشاعر من خلالهم ، لأن الحياة رسالة وإرادة وقدرة ، فإذا بلّغ رسالته بالوسائل الملائمة ، وأكّد إرادته بالمواقف القويّة ، وأعطى كل طاقته ، ولم يبق عنده شيء مما يقدّمه أو يعطيه ، فقد قام بواجبه ، بكل صدق وإخلاص ، وفي ذلك الرضا كل الرضا ، والراحة كل الراحة ، في ما يريده الله له ، وفي ما يطلبه منه.

* * *

٣١٤

السمع هو سمع العقل

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) ولكن بعقول غائبة عن كل المداليل التي توحي بها الكلمات ، ومشاعر معقّدة ممّا تتضمنه الآيات ، فلا تتعقد منهم إذا رفضوا ما تطرحه عليهم ، أو كذبوا بما تدعوهم إليه ، ولا تتهم نفسك بالفشل لأنك لم تنجح في دعوتك أو في حركة أسلوبك ، بل اعتبر المسألة كما لو كنت تتحدث مع الصمّ الذين لا يسمعون ، لأن الصمم على قسمين ، فهناك صمم في السمع على أساس عضويّ عند ما تختل قوّة السمع في الأذن ، وهناك صمم في الوعي ، في ما يمثّله من اختلال بوعي الحاسّة لما سمعه من خلال ما يتحرك به عقل السمع من وعي المضمون الداخلي للكلمة ، وبذلك كانت مشكلة الداعية أمام الناس تتمثل في نقطتين : الأولى أن يسمعوا منه الكلمات كألفاظ وأصوات ، والثانية ، أن يسمعوها منه كمعان ومداليل. والأولى تتصل بالجانب المادي للسمع ، والثانية تتصل بالجانب المعنوي له. وبذلك كانت المسألة مرتبطة به من جهة وبالآخرين من جهة أخرى. وإذا كان من مهمته أن يزيل الموانع من جهته ، فليس من مسئوليته أن يرفع الموانع من جهة الآخرين إذا أغلقوا آذانهم عن الاستماع ، أو إذا أغلقوا عقولهم عن الوعي لما استمعوا إليه ، (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) ما سمعوه .. وبهذا كانت الكلمة الأخيرة إيحاء بأن الذي يسمع ولا يعقل ، كمن لم يسمع من الأساس ، لأن مهمة السمع أن يرسل الكلمة إلى القلب والعقل والشعور ، فإذا تجمّدت عند حدود الأذن ، كانت بمثابة الصدى الذي لا معنى له ، بل هو الدويّ الذي يحس به الأصمّ دون أن يعي منه شيئا.

* * *

٣١٥

البصر هو بصيرة الإيمان

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) نظر الأبله الذي لا يعي معاني الأشياء التي ينظر إليها ، فلا يجد منها إلا الصورة من دون أن يتعرف ملامحها ، أو يدقّق في مضمونها ، أو يدرك آفاقها ، وبذلك لا يتحوّل البصر عنده إلى أداة للمعرفة ، بل يبقى مجرد آلة تصوير ترصد الهيئة الظاهرية للشيء ، ثم تتركها في سلّة المهملات. وهكذا تكون النظرة البلهاء المغلقة ، حالة ظلام عقليّ في حركة الشخصية ، فيتساوى أمامها الأعمى والبصير ، لأن النتائج السلبيّة واحدة أمام الحالتين ، فلا تتعقد ـ يا محمد ـ من ذلك ، لأنهم ينظرون إليك بعيون مبصرة في حركة الضوء ، عمياء في حركة العقل. (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦].

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) عند ما يعذبهم ، فإنه يؤاخذهم بأعمالهم بعد أن منحهم كل أدوات المعرفة من سمع وبصر وعقل ، وسهّل لهم كل وسائلها من وحي وشريعة وغير ذلك ، (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) عند ما يتركون ذلك ، فلا يستعملونه في ما يفتح عيونهم على النور ، وقلوبهم على الإيمان.

* * *

٣١٦

الآيات

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٤٧)

* * *

معاني المفردات

(يَلْبَثُوا) : لبث بالمكان : أقام به ملازما له.

(بِالْقِسْطِ) : القسط : العدل.

* * *

الحشر والتعارف يوم القيامة

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) في يوم القيامة ، في حالة من حالات انعدام الإحساس

٣١٧

بالزمن الطويل الذي قطعوه في رحلتهم في الدنيا ، وفي انتقالهم من الدنيا إلى الآخرة ، فلا يشعرون إلا بالساعة التي هم فيها ، (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) لأنهم يواجهون الموقف في الضوء ، (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) فيتحاورون ويتجادلون ، ويلقي بعضهم مسئولية مصيره على البعض الآخر ، بينما يتهرب أولئك من المسؤوليّة ، وينفتح أهل الجنة على بعضهم البعض في حوار المحبّة ، كما ينفتحون على أهل النار في حوار القضايا التي تفرض نفسها على الساحة هناك ، في ما يحدثنا عنه القرآن في أكثر من موقع ، ولا يمنع ذلك ما أفاض به القرآن من الحديث عن الذهول الذي يصيب الناس في يوم القيامة ، لأن ذلك جار على سبيل الكناية ، في ما يريد الله أن يوحي به من هول الموقف وصعوبة المشاكل التي تواجه الناس هناك ، لا سيّما هؤلاء الذين جحدوا الله وكذبوا برسالاته ، وتمرّدوا على رسله.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) فلم يعملوا له ، ولم يستعدوا للنتائج السلبيّة التي حذّرهم منها الرسل ، أو للنتائج الإيجابيّة التي دعوهم إليها ، وبذلك قدموا إلى يوم القيامة من دون زاد ومن دون استعداد (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) لأنهم سلكوا طريقا لا تؤدي بهم إلى النجاة ، وتركوا الصراط المستقيم ، فضاعوا ما بين شهواتهم وأطماعهم وما بين أضاليل الآخرين.

* * *

الله شهيد على الأعمال

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من خزي الدنيا وعذابها ، فتشاهده بنفسك في ما يبتليهم الله من صنوف البلاء ، وما يعدّه لهم من مصائر السوء ، (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) فيواجهونه في غيابك (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) لأن القضية ليست متعلقة بك وليست

٣١٨

داخلة في مسئوليتك ، فسيرجعون إلينا ، ويلاقون الجزاء الأكبر من العذاب في ما يلاقونه من مصير الهلاك والدمار ، ولن نحتاج في الحكم عليهم إلى شهادة شاهد ، (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) فهو الشاهد والحاكم كما توحي بذلك كلمة الإمام علي عليه‌السلام التي استوحاها من كتاب الله : اتقوا معاصي الله في الخلوات ، فإن الشاهد هو الحاكم (١).

* * *

لكل أمة رسول

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) يبلّغهم آيات الله ، ويعلمهم شرائعه ، ويدعوهم إلى سبيله (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) وأقام عليهم الحجة في ذلك كله ، فوصلت دعوة الله إلى كل أذن ، ودخلت إلى كل قلب ، وأثارت علامات الاستفهام التي تقود إلى الحوار في كل فكر (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، فاليوم تجزى كل نفس بما كسبت ، ليكون شعار يوم القيامة : لا ظلم اليوم ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في قليل أو كثير.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، قصار الحكم : ٣٢٤ ، ص : ٤٠١.

٣١٩

الآيات

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٥٦)

* * *

معاني المفردات

(أَجَلٌ) : الأجل : المدة المضروبة للشيء.

٣٢٠