تفسير من وحي القرآن - ج ١١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

الآية

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢)

* * *

معاني المفردات

(طائِفَةٌ) : جماعة.

(لِيَتَفَقَّهُوا) : الفقه : العلم بالشيء ، وقد اختص بعلم أحكام الشريعة.

* * *

القرآن يدعو المؤمنين للنفر للتفقه والإنذار

لا بد للأمّة من التنوّع في سدّ الحاجات التي يتوقف عليها نموّها وتطوّرها وحركتها الشاملة في الحياة ، وربما كان في مقدمة ذلك الحاجة إلى المعرفة الدينية الشاملة التي تثير الوعي الديني المنفتح في واقع الناس ،

٢٤١

فيتحركون من خلاله إلى مواجهة قضاياهم العامّة والخاصة من قاعدة إسلامية ثابتة تدفع بهم إلى تحويل المواقف إلى حركة حيّة للمفاهيم الإسلاميّة من جهة ، وللأحكام الشرعية من جهة أخرى ، وإلى صدق الانتماء إلى العقيدة والشريعة في كل شيء ، فلا تبقى هناك أيّة ازدواجية بين ما هو الدين وما هو الحياة ، كما يحدث للكثيرين الذين يجهلون دينهم في مفاهيمه وفي تفاصيل أحكامه. وهذا ما جعل التفقّه في الدين واجبا كفائيا على الأمة كلها ، يفرض عليها أن تعدّ من أفرادها مجموعة تتكفل بالحصول على المعرفة الدينية الشاملة التي تجعل من حركة الإسلام في وعي الأمة وثقافتها حركة واعية تفرض نفسها على الساحة كلها حتى تجعلها إسلاما يتحرك في كل جانب واتجاه. وهذا ما عالجته هذه الآية التي أرادت للمؤمنين أن ينفر بعضهم إلى التفقّه في الدين ، عند ما ينفر بعضهم إلى الجهاد ، فلا يعتبروا الجهاد مهمّة الأمة كلها إلا في الحالات الصعبة التي تحتاج فيها الأمة إلى كل الطاقات المقاتلة للدفاع عن وجودها أمام الأعداء.

* * *

الجهاد واجب كفائي

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) إلى الجهاد ، لأن الجهاد قد يفرض قيام بعض الأمة بمسؤولياته من خلال الحاجة التي تفرضها المعركة. فقد لا تكون الساحة بحاجة إلى الجميع ، بل يكتفى بالبعض منهم ، ولذلك فإن المسألة تخضع لأوامر القيادة وتخطيطها في من يجب عليه الخروج ومن لا يجب عليه ذلك ، فإذا أرادت من أحد الخروج ، فلا يجوز له التخلف ، كما قد يحدث في بعض الحالات في ما تحدثت به الآيات السابقة. أمّا إذا رخّصت

٢٤٢

لفريق بالبقاء ، لعدم الحاجة إليه ، أو لحاجة أخرى تفرضها المصلحة الإسلامية العليا في مسألة الجهاد ، أو في المسائل الأخرى المتعلقة بالأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمة ، فيجب عليه البقاء ، انسجاما مع المصلحة الإسلامية في تنفيذ الخطة الشاملة الموضوعة من قبل القيادة.

* * *

النفر للتفقّه

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) فلا بد من أن يكون هناك جماعة تتخصص في الأمور الدينية لتحفظ للأمة وعي دينها من خلال المعرفة الواسعة في أمور العقيدة والشريعة ، لأن ذلك هو الأساس لانطلاقة الحياة في سبيل الله على هدى الإسلام بعيدا عن كل انحراف أو طغيان في ما يمكن أن يحدث من خلال الجهل الذي يستغلّه المستغلون ، فيصورون الحق بصورة الباطل وبالعكس ، فيتبعهم الجاهلون ، لعدم وجود من يميز بين الحق والباطل في ساحة المعرفة الحقّة ، فلا يجب على هذه الجماعة أن تنفر إلى الجهاد ، بل هي تعيش الجهاد ولكن في موقع آخر ، وهو جهاد المعرفة التي تواجه التحديات الفكرية التي تواجه الأمة من قبل أعداء الإسلام ، لتثير فيها الشكوك والشبهات ، وتبعدها عن الطريق المستقيم ، بل ربما يكون الجهاد في هذا الوجه ، أكثر إلحاحا وأعظم أهميّة من الجهاد بالسيف ، لأنه هو الذي يعطي ذلك الجهاد توازنه وسلامته واستقامته على الخط الواضح السليم. ومن هنا ورد في بعض الأحاديث المأثورة : «إذا كان يوم القيامة وزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء» (١).

__________________

(١) البحار ، ج : ٧ ، باب : ٨ ، ص : ٣٥٧ ، رواية : ١٤٤.

٢٤٣

مهمة الفقراء

(وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وتلك هي مهمّة الفقهاء الذين يحملون مسئولية الفقه الديني ليبلّغوه إلى الأمة ، في نطاق الإمكانات التي يملكونها في الحركة ، لأن القضية لا تمثّل حالة ذاتيّة تمنحهم الحرية في العطاء وعدمه ، بل هي حالة عامة ، لأنهم يحملون في فكرهم فكر الأمّة وثقافتها ودينها ، فلا يجوز لهم أن يمنعوها منه ، أو يحجبوه عنها ، بل ربما يستوحي الإنسان من الآية ، أن المسألة لا تقتصر على الجواب عند السؤال ، بل تتسع وتتسع ليتسلموا زمام المبادرة في الإبلاغ والإنذار ، لأن ذلك هو الذي يفتح آفاقها على الجوانب الخفيّة للمعرفة الدينية ، وهو الذي يوحي إليها بعلامات الاستفهام في التفاصيل ، باعتبار أن الجهل قد يؤدي إلى الغفلة التي لا يشعر الإنسان معها بالحاجة إلى السؤال. وهذا هو الردّ على الذين يصرفون شطرا كبيرا من أعمارهم في التفقّه في الدين ، حتى إذا تمّ لهم النضج العلمي والفكري ، جلسوا في بيوتهم وابتعدوا عن المجتمع متعلّلين بأنهم لا يرون الانفتاح على الناس بالتعليم على أساس المبادرة واجبا عليهم ، بل يرون الأمر متوقفا على السؤال ، فيجب عليهم الجواب للرّد على السائل ، ولا يجب عليهم تعليم من لم يسأل.

* * *

٢٤٤

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٢٣)

* * *

معاني المفردات

(يَلُونَكُمْ) : يقربون منكم.

(غِلْظَةً) : شدّة.

* * *

قتال الكفار القريبين

هل هذا نداء للمؤمنين بإعلان الحرب على الكفّار الذين يعيشون قريبا منهم لتتحوّل الساحة إلى حروب حارّة متّصلة بين المؤمنين والكافرين بطريقة شاملة ، أو أنّه حديث عن التفاصيل المتصلة بالمسؤولية المباشرة التي يحملها المؤمنون القريبون إلى مواقع القتال في مواجهة الخطر الآتي منهم ، بقتالهم

٢٤٥

وتحصين مواقعهم والدفاع عنهم.

ربّما كان الأقرب إلى جوّ الآية هو المعنى الثاني ، لأن قضيّة القتال تتصل بالتخطيط الإسلامي للمعركة من قبل القيادة التي تتولّى أمور المسلمين ، فقد تفرض الخطة القتال في هذا الموقع وقد لا تفرض ذلك ، بل تفرض ـ بدلا منه ـ الانتظار للوصول إلى الظرف الملائم أو تقتضي الهدنة والمعاهدة وغير ذلك.

* * *

الجهاد مرتبط بظروف المصلحة

وليس معنى ذلك أن الإسلام لا يفرض الجهاد الابتدائي للدعوة إلى الإسلام ، لأنه أمر أساسي في التشريع الإسلامي ، ولكنّ هذا الأمر لا يبتعد أيضا عن التخطيط للمسألة تبعا لما هو الأصلح في حركة الإسلام في الحياة ، من خلال الظروف الموضوعية المحيطة بالواقع من الزمان والمكان والأوضاع العامة والخاصة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي القريبين منكم ، فيما إذا اقتضت مصلحة الإسلام القتال من أجل أن تكون الحياة كلها لله ، (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي شدّة وتصميما على المواجهة ، في مقابل الضعف والتخاذل ، وليس المراد بها القسوة والجفاء والخشونة والفظاظة ، فإن ذلك ليس من الإسلام في شيء ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) الذين يخافون ربهم ويخشونه ويراقبونه في كل شيء ، ويتحملون مسئوليتهم أمامه في ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه ، ويستمدون منه القوّة في الموقف ، ويعرفون أنه معهم في جميع المواقف.

* * *

٢٤٦

الآيات

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٢٧)

* * *

معاني المفردات

(يُفْتَنُونَ) : يمتحنون.

(لا يَفْقَهُونَ) : لا يعلمون.

* * *

٢٤٧

كيفية مواجهة المؤمنين والمنافقين لنزول السورة

وهذا هو أحد الأساليب التي كان يمارسها المنافقون في التهوين من شأن القرآن وإبطال أثره في نفوس الناس ، ومحاولة الإيحاء لهم بأنه لا يمثل شيئا في موضوع التنمية الروحية والتوعية الإيمانية ، لأنه كلام عاديّ ، تماما كأيّ كلام آخر من كلام المخلوقين ، وذلك من أجل إقناعهم بأنه ليس وحيا إلهيّا في ما يعنيه الوحي من أسرار خارقة للعادة من خلال ما يقتضيه من نتائج غير طبيعية على مستوى التغيير والتأثير.

* * *

السورة تزيد المؤمنين إيمانا

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) على النبيّ على ملأ من الناس ، وقفوا أمامها واجتمعوا عليها في عمليّة استعراضية للتشكيك ، ليطرحوا السؤال على بعضهم البعض أمام الناس كما لو كان شيئا عفويّا يحصل لهم بكل بساطة ، (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) وهو يعرف الجواب مقدّما بأنه لم يحصل شيء من ذلك ، أو أنه يطرح السؤال بلهجة الإنكار والاستهزاء ، وربما كان هذا التساؤل واردا في مجال التعليق على الآية الكريمة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال : ٢].

ويجيب القرآن على هذا السؤال أو التساؤل ، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) لأن المؤمنين يعيشون وعي الكلمة بطريقة مسئولة ، وبذلك ينفذون إلى

٢٤٨

عمق المعنى في حركته وامتداده ، ويستلهمونه في أجواء إيحائيّة لينطلقوا مع مفاهيمه في الهواء الطلق ليجسّدوها واقعا حيّا في حياة الأفراد والجماعات ، فيتفاعل ذلك مع الأفكار والمشاعر والمواقف ، لتتحوّل إلى زيادة نوعيّة وكميّة في حجم الإيمان في الداخل. (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) في ما يمثله الإيمان من الداخل ، من حركة الشخصية في أكثر من مجال على أساس هذا الفرح الروحي الذي يطوّقهم من جميع الجهات ، فيشعرون بالواقع كما لو كان بشارة كبيرة في حجم هذا السؤال.

* * *

السورة تزيد المنافقين رجسا

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في ما يعانونه من حالة النفاق الذي يجعلهم يعيشون الاهتزاز النفسي والجمود الروحي ، فلا ينفتحون على الإشراق في معاني الآيات القرآنيّة ، ولا ينسجمون مع مفاهيمها وأحكامها ، بل يتعقدون ـ بدلا من ذلك ـ ويواجهونها بالسخرية والاستهزاء والجحود والنكران ، أمّا هؤلاء (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) لأنهم عند ما يواجهونها من مواقع العقدة المستأصلة ، فستتآكل نفوسهم في الداخل منها ، وتعيش الحقد والعداوة والبغضاء من جديد ، وبذلك تزيد حالة الخبث والقذارة الروحية ، بالإضافة إلى ما لديهم من خبث وقذارة واستمرار على ذلك ، لأنّهم ليسوا في أجواء التفكير والتغيير ، (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) بالله وبرسوله وبآياته (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) ويختبرون (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) وذلك من خلال التجربة الصعبة التي تواجههم ، في ما ينزل عليهم من البلاء ، فيسقطون أمامها ، ويتضاءلون في مواقع التحديات ، وينحرفون عن الخطّ الذي كانوا يحملون مسئولية السير على هداه (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) من هذه الذنوب والأخطاء الكبيرة

٢٤٩

التي يقترفونها (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) في ما يوحي به الناس من أن المؤمنين في المنطقة لا يمثلون مركز قوّة ، ولا يجدون موقعا متقدما ، (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) في حيرة وتساؤل أو سخرية واستهزاء (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) فكأنهم يخافون اكتشاف نفاقهم من قبل الناس من حولهم ، من خلال سماعهم لبعض كلماتهم ، أو مشاهدة بعض حركاتهم ، وبعد أن أحسّوا بالأمن والطمأني نة (ثُمَّ انْصَرَفُوا) وتفرّقوا وذهب كل منهم إلى ناحية (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الحق ، فلم يوفقهم إليه ، بعد أن أعرضوا عنه من دون حجّة ولا دليل ولا وعي (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) وذلك هو سبب ضلالهم ، فلو أنهم كانوا واعين لما يواجههم من دعوة الحق ورسالة الله ، في موقف فهم للفكرة وللأسلوب ، وللساحة وللهدف ، لعرفوا ما فيها من هدى وحقّ وإيمان.

* * *

٢٥٠

الآيتان

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩)

* * *

معاني المفردات

(عَزِيزٌ) : شديد ، والعزيز في صفات الله تعالى ، معناه المنيع القادر الذي لا يتعذر عليه فعل ما يريده (١).

(عَنِتُّمْ) : العنت : المشقة.

(تَوَلَّوْا) : أعرضوا.

(حَسْبِيَ اللهُ) : أحسبه أي كفاه.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٥ ، ص : ١٠٩.

٢٥١

القرآن يتحدث عن صفات الرسول

وتلك هي صورة النبي الإنسان في مشاعره الحلوة الرقيقة التي تنساب بالحنان والعاطفة على الناس من حوله فيضمّ المؤمنين إليه في حرص كبير وخوف شديد من أن يمسّهم سوء ، أو يعرض لهم مكروه ، أو يصيبهم جهد أو مشقة وعذاب ، في جوّ حميم من الرأفة والرحمة التي تغمر القلوب وتملأ النفوس غبطة وسرورا ، وذلك هو الذي يفسح المجال للسائلين أن يجدوا لديه القلب المفتوح الذي ينفتح لكل علامة استفهام تدور في أفكارهم ، ليجيب عنها بكل محبة وعمق وانفتاح ، وهو الذي يتيح الفرصة للضالّين أن يلتمسوا الهدى عنده ، فلا يتعقّدون من أسلوب ولا يتشنّجون من نظرة ، بل يواجهون ـ بدلا من ذلك ـ النظرة الحنونة ، والابتسامة المشرقة ، والكلمة الطيبة ، واللفتة الحلوة ، فيقتربون إليه بالجوّ الحميم ، قبل أن يقتربوا بالفكرة العميقة الموحية ، بل يكون هذا الجوّ ، هو المدخل الذي يتيح للفكرة أن تلج إلى القلب وتتحرك في العقل ، فتتحول إلى حركة إيمان في النفس. وهذا هو ما يحتاجه الداعية الذي يتحمل مسئولية الدعوة إلى الله ، فإن عليه أن يعيش الخلق العظيم قبل أن يعيش الفكرة ، أو وهو يعيش الفكرة على الأقل ، فيجب الناس من عمق العاطفة ويحرص عليهم ، ويرحمهم ويرأف بهم ولا يتعقّد منهم ، ليسهل عليه أمر الوصول إلى قلوبهم وعقولهم من أقرب طريق. وربما ساهمت ابتسامة حلوة وكلمة طيّبة من داعية في انفتاح إنسان ما على الهداية ، كما قد تساهم حالة تشنّجية وكلمة قاسية في انغلاق الإنسان وابتعاده عن الخط المستقيم ، تبعا للعقدة التي تنحلّ بكلمة وابتسامة ، أو تتعقّد بكلمة وقساوة ونظرة حقد.

* * *

٢٥٢

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) فهو ليس من فصيلة غير فصيلة البشر ، ولذا فإنه يعيش أحاسيسكم ومشاعركم وأفكاركم في روحيّة من الانفتاح والامتداد والشمول ، (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) ، إنه يتألم لأيّة حالة من الجهد والتعب والمشقة في ما قد تقاسونه في حياتكم (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) في ما تستقبلون من قضية المصير في الدنيا والآخرة ، تماما كحرص الأم على أولادها عند ما تعمل على أن تبعدهم عن كل أذى ومكروه ، فلا يريد لكم الضلال ، لأن فيه الهلاك ، ولا يحبّ لكم الضياع ، لأن في ذلك الخسران كله ، (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فهو الذي يجسّد الرحمة في أقواله وأفعاله ونظراته وعلاقاته ، وفي كل خطوات رسالته ، حتى كان هو الرحمة للعالمين ، كما كانت رسالته كذلك.

* * *

لا يضر الرسالة إعراض الناس عنها

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا عن الاستماع إلى دعوتك ، والسير في خط رسالتك ، بالرغم من كل الأجواء الحميمة الحلوة التي تحيط بها في عمق المشاعر وروعة الأحاسيس ، فلا تتعقد من ذلك ، ولا تتراجع عن دعوتك في شعور بالخذلان والسقوط ، بل انطلق في طريقك انطلاقة الرسول الواثق بربّه ، المؤمن برسالته ، الذي يرى أن من واجبه أداء الرسالة بحسب ما يستطيع ، من دون أن يكون مسئولا عن النتائج السلبيّة ـ إن حدثت ـ لأنها لا تكون ناشئة

٢٥٣

عن فعل تقصير ، بل عن ظروف وأوضاع وأسباب خارجة عن إرادته ، وتحرّك بقوّة ، بعيدا عن كل مشاعر الضعف ، (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهو ربّ القوّة وخالقها ، وهو الذي يكفي الإنسان من كل عدوّ ومن كل شر ، ويوحي إليه بالثقة المطلقة ، وبذلك يكون التوكل عليه حركة داخليّة وخارجية في خطّ الشعور بالأمن والطمأنينة بسلامة الاتجاه وفاعليته وروحيّته (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ومن يتوكل على الله فهو حسبه في كل شيء.

وتلك هي نقطة القوّة لدى المؤمنين عند ما يتحركون في خط الرسالة ، فلا يشعرون بالضعف إذا خذلهم الناس ، بل يجدون الله معهم في كل موقف ، فيحسّون معه بالقوة التي يستريحون إليها ، وينطلقون معها ويستمرون من خلالها على الخط المستقيم.

* * *

خاتمة سورة التوبة

وهكذا تنتهي هذه السورة المباركة ، بإعلان الموقف الحاسم الذي تقفه الدعوة من الجاحدين والمعرضين ، وذلك بالامتداد في الخط الرسالي ، بعيدا عن كل النتائج المضادّة ، تماما كما كان الأمر في بداية السورة ، فكما كان الموقف هو البراءة من المشركين ، في ما أوحى به الله ورسوله ، فهذا هو الموقف من المعرضين عن نداء الرسول ، بالإعراض عنهم والالتزام بالله في ما يريد وفي ما لا يريد ، ويبقى للداعية هذا الجوّ المنفتح الذي يزداد إشراقا وتوهّجا وأملا وإيمانا كلما تقدمت به الطريق ، وواجهته التحدّيات ، واستجاب له المستجيبون ، أو أعرض عنه المعرضون ، فإذا توقف في بعض المحطّات ، فلكي يتعرف على التجربة الناجحة هنا ، أو الفاشلة هناك ، ليأخذ منها العبرة أو

٢٥٤

يستفيد منها الدرس ، ثم يمضي في الطريق غير عابئ بالصعوبات ، لأن مهمته ـ في الأساس ـ هي أن يواكب المسيرة ليبلغ مداها ، على مستوى المراحل ، ولينقلها من جيل إلى جيل ، من أجل أن تتكامل في فكرها وتتوازن في خطواتها ، وتصل إلى غاياتها الكبرى في تحويل الحياة كلها إلى حركة إسلامية قوية منفتحة ، ليكون الدّين كله لله في الفكر والعمل والحركة المنطلقة أبدا مع إشراقة الشمس في كل مكان.

* * *

٢٥٥
٢٥٦

سورة يونس

مكيّة

وآياتها مائة وتسعة

٢٥٧
٢٥٨

الأجواء العامة لسورة يونس

«يونس» هو اسم نبيّ أرسله الله لهداية الناس ، ولكنهم تمرّدوا عليه ، ففارقهم ودعا عليهم ، وكانت له قصّة بلاء في ما ابتلاه الله به من التقام الحوت له ، ثم إنقاذ الله له حيث أخرجه من بطن الحوت ، وأنبت عليه شجرة من يقطين ، وانطلق اسمه ـ بعد ذلك ـ في الضباب ، لأن القرآن لم يفصح لنا الكثير عن ذلك ، كما لم يتحدث لنا عن تفاصيل قصته قبل ذلك ، كما هي طريقة القرآن في التأكيد على الملامح المميّزة للشخصية المتعلقة بالخط السلبيّ أو الإيجابيّ للرسالة وللإنسان وللحياة. ولهذا فإن القرآن لا ينقل إلينا تاريخا يحدّد ملامح البداية والنهاية ، لأنها ليست بذات موضوع في الهدف القرآنيّ غالبا. وفي ضوء ذلك كان اسم السورة ، لا يمثل حجما كبيرا في حركة الآيات في داخلها ، بل يمثل حالة سريعة لا تكاد تقف عندها ، حتى تشعر أنها انتهت لتفسح المجال لقصة أخرى وشخصيّة ثانية ، لأن الهدف هو الإيحاء باللمحة وبالصورة وبالكلمة المليئة بالروح ، الموحية بالإيمان. وهذا ما تتمثله في الآية الكريمة : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨]. ونلاحظ أنّ الحديث

٢٥٩

عن قومه لا عنه ، لأن دوره ليس ذاتيا معهم ، بل هو دور النبيّ الذي يمتدّ ويتعمق في الأمة حتى يتحوّل إلى رمز لها ، في ما يمثله الرمز من فكر ومعنى وخط حياة ، لا مجرّد انتماء إلى اسم أو كلمة أو موقع.

وهكذا أراد الله لهذا الاسم أن يحتوي التصوّر الكليّ للفكرة من خلال القصة ـ النموذج والاسم ـ في ما تجسده حركة الدعوة في دور النبيّ ، وفي تمرّد القرية وأهلها عليه ، وفي ردّ الفعل النبويّ الذي عاشه يونس في انفعالاته الذاتية ضدّهم ، وفي تراجع هؤلاء عن الموقف السلبي ، ليتحول إلى موقف إيجابيّ في دائرة الإيمان ، الذي يعيش أجواء التوبة الخالصة التي يتقبلها الله ، فيكشف عنهم العذاب. ويعود الخير والسلام للجميع ، ويواجه يونس الموقف بذهول واستغراب وحيرة ، ويسدل الستار.

وفي هذا الجو كله ، نتعرف ملامح جديدة للدعوة إلى الله من خلال ما تريد السورة أن تثيره من الإنذار والتبشير في جو الرسالة الإسلامية ، ومدى التحديات التي كانت تواجهها في هذا الاتجاه ، وكيف يريد الله للإنسان أن يستغرق في التفكير به ليرجع إليه ، ليتعرف على نعمه الوافرة ، ليصل إلى دار السلام ويهتدي إلى الصراط المستقيم ، ولينطلق إلى التأمل في القرآن ليصدّق به وليدرك نفع تعاليمه له كإنسان في تفكيره وتخطيطه وتشريعه ، وفي ما يوحي به من مفاهيم وأجواء ، ويبقى للنبي أن يصبر ويتحمل المسؤوليات الصعبة بكل قوّة ، ويبلّغ الرسالة ، مهما كانت التحديات ، ومهما كانت الظروف ، من دون أن يكرههم على ذلك بالقوّة ، أو يقودهم إلى السير معه بالعنف ، بل هو الرفق والتسامح والمحبة والرحمة. وهكذا يجد فيها حركة الدعوة ، في حركة الإيمان في التاريخ ، كما يجد فيها ملامح الشخصيّات النبويّة التي تحركت من أجل الله في ما يأمر به أو ينهى عنه ، لتثير في العاملين كل روحيّة الإسلام ، وصفاء الإيمان ، وسلامة التطبيق.

* * *

٢٦٠