تفسير من وحي القرآن - ج ١١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

قرباه ، وتبعث الناس على اكتناز الأموال ، واعتبارها قيمة اجتماعيّة للتفاضل على حساب أهداف المجتمع الإسلامي وقيمه.

أمّا الحديث عن الكنز بمعنى الادّخار الذي يدفع الإنسان إلى حبس المال في صناديق مقفلة ، فلم يكن ظاهرة بارزة لدى الذين يحبون تنمية أموالهم تبعا لأطماعهم ، لأن ذلك لا يحقق لهم الغاية المطلوبة في تكثير المال وازدياده ، فكيف يمكن أن يكون ذلك هو المعنى المقصود من الآية التي جاءت لتعاج حالة عامّة في حياة الناس؟!

ومن خلال ذلك ، فإننا نستوحي منها ـ والله العالم ـ الفكرة التي تؤكد على الانحراف بالمال عن هدفه ، من حيث هو طاقة من طاقات الأمّة التي تتحرك في نطاق الأفراد الذين يملكونها من أجل أن يحقّقوا الغايات التي أمرهم الله بتحقيقها ، ولكنهم يحوّلونها إلى أطماعهم الفرديّة ، وأنانياتهم الشخصية وشهواتهم الذاتية ، فهم يجمعونها لتحقيق حالة عامّة. فهي تعالج الروحية التي يعيشها هؤلاء في ما يترتب عليها من ممارسة وعمل ، وليست في مجال الحديث عن التفاصيل ، من حيث طبيعة الموارد التي يتمثل فيها الإنفاق في سبيل الله ، في ما يقتصر على الضرائب الشرعية المفروضة الخاصة ، أو في ما يعمّها ويعمّ غيرها مما يبذله الإنسان من خلال ذاته في ما تدعو إليه الحاجة العامة ، كما في حالات الجهاد أو الانهيار الاقتصادي أو المجاعة وما إلى ذلك.

* * *

عذاب الذين يكنزون

وربما كان من الطبيعيّ لأمثال هؤلاء ، أن لا يكونوا سائرين على خط

١٠١

الإيمان في حياتهم ، لأن المؤمن الحقّ ، هو الذي يستهدف غايات الإيمان في غاياته ، فيعتبر الملكية للمال وظيفة اجتماعية ، لا امتيازا شخصيا ، وبذلك فإنه يعتبره أمانة الله عنده ، ليكون حاله حال الأمانات الخاصة التي ينبغي للإنسان أن لا يتصرف فيها إلا بما ينسجم مع رضا أصحابها وتوجيهاتهم. ومن هنا يعتبر سبيل الله في الإنفاق ، هو السبيل الذي يجب أن يحكم ملكيته للمال ، فليس له أن يبتعد عنه ولا أن يقترب من غيره ، لأن معنى ذلك اتباع سبيل الشيطان ، في ما يتبع الناس من سبيل الانحراف (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) لأنهم تمرّدوا على الله ، فخالفوا أمره ، وواقعوا نهيه ، واتبعوا خطوات الشيطان الذي يأمرهم بالمنكر وينهاهم عن المعروف (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) لتتحول كل تلك الكنوز التي ادخروها ومنعوها عن أهلها إلى نار تحرق الجباه والظهور والجنوب ، (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) ويقال لهم في تلك الحال ، إننا لم نظلمكم ولم نأت لكم بشيء من عندنا ، بل كل هذا الذي ترونه ، هو ما جمعتموه من المال في الدنيا ، فتحوّل إلى لهيب في الآخرة ، (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) ومنعتموه عن الآخرين البائسين المحرومين (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) لأن الإنسان لا يجني إلا ثمرة عمله ؛ إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ.

* * *

آية الكنز عامة وشاملة لكل الناس

وفي ضوء هذا العرض الذي قدمناه ، نفهم أن الآية لا تختص بأهل الكتاب ، وإن جاءت في سياق الحديث عنهم ، بل هي شاملة لكل الناس ، لأنها

١٠٢

في معرض الحديث عن الظواهر العامّة التي تمثّل المبادئ الشاملة لكل أوضاع الحياة. كما أنها لا تختص بزمان دون زمان ، فإن مثل هذه القضايا لا تمثل شريعة محدودة لتنسخها شريعة أخرى ، بل هي شريعة الحياة في ما تحتاجه من قواعد للانطلاق والإبداع والاستمرار.

* * *

١٠٣

الآيتان

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٣٧)

* * *

معاني المفردات

(كَافَّةً) : قيل معناه كافّين لهم كما يقاتلونكم كافين ، وقيل معناه جماعة كما يقاتلونكم جماعة.

(النَّسِيءُ) : التأخير. وهو شهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية بحسب مصلحتهم.

(لِيُواطِؤُا) : المواطأة : الموافقة.

* * *

١٠٤

أشهر حرّم فيها القتال .. وتحريم النسيء

وهذا حديث لا يبتعد عن أجواء القتال ، ولكنه يعيش في بعض تفاصيل الزمن الذي يحلّ فيه القتال أو يحرم ، لأن الله قد حدّد في ذلك حدودا معينة ، فلا يجوز للناس أن يتجاوزوها أو يتعدوها بأيّة وسيلة كانت إلا في حال الاضطرار ، على ما هو الحال في كل حدود الله التي لم يحلها إلا لمن اضطر إلى تجاوزها.

أمّا تفصيل الموضوع ، فقد أراد الله للزمن أن يتحرك في حياة الناس من المواقع الطبيعيّة التي ركّز عليها تكوين الوجود في حركة الشمس والقمر حول الأرض ، وهي الشهور القمريّة التي تخضع لأوضاع القمر في عالم الحسّ ، وعدّتها اثنا عشر شهرا ، وقد أراد الله أن يجعل في أجواء السنة أشهر سلام ، حرّم فيها القتال على الناس إلا في حالة ردّ العدوان ، وسمّاها الأشهر الحرم ، وهي ذو العقدة وذو الحجة ومحرّم ورجب. وقد حاول بعض الناس في الجاهليّة أن يقدّموا فيها أو يؤخروا تبعا لمصالحهم وشهواتهم ، فحرّموا ما لم يكن حراما ، وأحلّوا ما لم يكن حلالا ، من غير قاعدة ، وعلى غير أساس في ما يرتكز عليه التحريم والتحليل ، وهذا ما عالجت الآيتان بعض مظاهره.

* * *

الأشهر الحرم أربعة

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) والظاهر أن المراد به كتاب الوجود والتكوين من خلال ما أودعه الله في الكون من قوانين الوجود التي تنتظم بها الأشياء وتتحرك من خلالها الظواهر ، مما اعتبره من الثوابت الكونية التي لا تتغير في طبيعتها ، لأن الله أراد منها تركيز القواعد التي

١٠٥

تمثل نظام الحياة الزمني الممتد في كل أجواء الكون (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وأودع فيها قوانينها الثابتة التي تمثل سننه في الكون (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) حرّم فيها القتال بين الناس ليعيش الناس بعضا من الأوقات في حالة سلم وهدنة ، ليتنفسوا فيها الهدوء والطمأنينة ، وليتخففوا فيها من أثقال الحرب ، وليفكّروا فيها في الأسباب التي دعت إلى النزاع والخصام ، وإثارة أجواء التنازع والتقاتل ، وليرتاحوا من ذلك ، فيقودهم الشعور بالراحة إلى التأمل في عواقب الحرب والسلام ، وليوازنوا بين هذه وتلك ليخرجوا إلى النتائج الإيجابية الحاسمة التي تثبّت لهم أقدامهم على طريق الخير والنجاح.

* * *

قيمومة الدين الإسلامي

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الذي بدأ الله تشريعه منذ عهد إبراهيم عليه‌السلام ، وامتدّ في حياة الناس ، وتعمّق في وعيهم ، واستمرّ في ممارساتهم ، حتى أصبحت له حرمة التقاليد الثابتة في كل أوضاعهم ، فلم يجرأ أحد على مواجهته بالإلغاء ، أو بتجاوز حدوده ، في الوقت الذي ابتعدوا فيه عن كثير من حدود الإيمان وتشريعاته. وقد أقرّ الله هذه الشريعة وأراد للمسلمين في دعوة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأخذوا بها باعتبارها الدين الثابت الذي لا يتغير ، لأنه لا ينطلق من حالة طارئة قابلة للزوال تبعا لزوال ظروفها المحيطة بها ، بل من حالة عميقة في عمق المصلحة الإنسانية ، ممتدّة بامتدادها ، لأنّها مما يقوم به أمر حياتهم ، ويثبت به توازن أوضاعهم. فمن أخذ به ، فقد أخذ بالسبيل الأقوم الذي يصلح به أمر معيشته ، ويرفع به مستوى أمنه وسلامته ، ومن ابتعد عنه وانحرف عن خطّه ، فقد ظلم نفسه ، وأساء إلى طبيعة السلام في حياته ،

١٠٦

لذلك فإن الله يحذر عباده من أيّة حالة من حالات التمرد عليه (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) بالقتال.

* * *

أمر بقتال كافة المشركين

(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) بجميع فصائلهم وعشائرهم (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) بجميع تجمعاتكم ، فلا يتركون أحدا من شرّهم وعدوانهم ، فإن ذلك هو السبيل للقضاء على الشرك ، بالقضاء على كل عوامل نموّه وتطوّره وسيطرته على حركة الواقع الفكري والعملي ، كأسلوب دفاعيّ من جهة ، ووقائيّ من جهة أخرى ، من أجل أن يكون الدين كله لله ، وأن تنطلق المسيرة الإسلامية في الاتجاه السليم ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) الذين يقفون عند حدود الله في ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه ، والذين يخافون عقابه ، ويرجون ثوابه ، ويحبون طاعته التي تؤدي إلى رضاه ، ويرفضون معصيته التي تؤدي إلى سخطه ، فيأخذون بأسباب القتال في الزمن الذي أراد الله لهم فيه القتال ، ويتوقفون عن ذلك في ما لم يرد لهم فيه القتال.

* * *

النسيء زيادة في الكفر

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) وامتداد فيه بتغيير شريعة الله من عند أنفسهم في ما لم يأذن به الله ، فيتصرّفون من خلال ذلك ، على أساس أنه

١٠٧

الشريعة التي يريد الله أن يطاع من خلالها ، وبذلك فإنهم يضيفون إلى كفرهم بالله وبتوحيده كفرا بحدود الشريعة ونظامها.

أمّا النسيء ، فالمراد به ما كانت تفعله العرب في الجاهلية ، فإنهم ربما كانوا يؤخرون حرمة بعض الأشهر الحرم إلى غيره ، تبعا لمصالحهم في الحرب والسلم ، فإذا كانت مصلحتهم في الحرب جعلوا محرّمهم صفرا ، واعتبروا صفرا في السنة الثانية محرّما ، يمنعون فيه أنفسهم من القتال عوضا عما مضى ، فهم لا يرفضون الشريعة من الأساس ، بل يحاولون أن يتلاعبوا بعملية توقيتها وتحديدها في التقديم والتأخير ، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان الأساس الذي يرتكز عليه التشريع في إقامة الحياة على قواعد ثابتة يخضع لها الجميع من دون تمييز ومن دون إشكال. (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الناس الآخرون في ما يفرضونه عليهم من هذا التغيير في حدود الله والتجاوز لها ، (يُحِلُّونَهُ عاماً) فيرون محرّما صفرا في هذه السنة (وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) فيجرونه على ما كان عليه ويضيفون إليه بدله في العام القابل (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) ليوافقوا العدد المحرّم وإن ابتعدوا عن المضمون التشريعي له ، فتبقى الأشهر الأربعة في السنة موقع تحريم ، ولكن في أشهر أخرى غير ما شرّعها الله ، (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) من دون أن يأخذوا إذنا في ذلك ، فيشرّعون لأنفسهم ظلما وضلالا (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) فخيّل إليهم ـ في ما زيّنه لهم الشيطان ـ أنهم يملكون أمر ذلك كله ، لأن المهم هو العدد ، بعيدا عن خصوصية هذا الشهر أو ذاك ، لأن الزمن يشبه بعضه بعضا ، فلا مانع من وجهة نظرهم أن نقدم ما أخّره الله أو نؤخر ما قدمه (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) بإجبارهم على الهدى ، لأنه قد أقام عليهم الحجة بدلالتهم إلى طريق الهدى من خلال ما عقلوه وسمعوه من الأنبياء من وحي الله في آياته ، فإذا انحرفوا إلى طرق الضلال ، وظلموا أنفسهم بالسير فيها ، فإن الله يتركهم لأنفسهم ولا يهديهم سواء السبيل من جديد.

* * *

١٠٨

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩)

* * *

معاني المفردات

(انْفِرُوا) : النفر : الخروج إلى الشيء لأمر هيج عليه.

(اثَّاقَلْتُمْ) : التثاقل : تعاطي إظهار ثقل النفس. وهنا بمعنى : جذبتكم الأرض إليها كما لو كانت هناك أثقال شديدة تشدكم إلى الأسفل.

* * *

١٠٩

تعبئة المسلمين للقتال

وتنفتح المعركة بين المسلمين والكافرين في ساحة المواجهة الحاسمة الصعبة في أكثر من صعيد ، ويبدأ الرسول الدعوة إلى الجهاد بأساليب عديدة ، من أجل أن يتحوّل الموقف لدى المسلمين إلى ما يشبه حالة الاستنفار القصوى التي تجمع الجميع في خطّ المواجهة ، لأنّ قضيّة الجهاد في الإسلام ليست من القضايا الجانبيّة التي تحتمل الوقوف منها موقف اللّامبالاة أو الهروب ، بل هي من القضايا المصيرية التي يجب أن يواجهها المؤمن بإيجابيّة منفتحة ومواقف ثابتة ، ولكن بعض المسلمين القلقين في إيمانهم الضعفاء في إرادتهم ، يحاولون التهرب من الانطلاق بعيدا في هذا الخط ، خوفا من نتائجه على الحياة ، ويحاولون التماس الأعذار لأنفسهم في ذلك كله. وهذا هو الذي جعل القرآن يوجّه إليهم اللوم والإنذار بشدّة ، من أجل أن يثير فيهم مكامن الشعور العميق ليهزّها من الأعماق في عملية توعية وإيحاء. فكيف عالج القرآن ذلك؟

* * *

لوم على التثاقل للقتال

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ) في النداء الذي يوجّهه رسول الله إلى المسلمين عند اشتداد المشاكل ، وقسوة التحديات ، وصعوبة الأوضاع الإسلامية ، إذا دهمهم خطر يهددهم ويهدد وجودهم وحرّيتهم ، فكان لا بدّ من مواجهته بالقوى المسلمة التي تتجمع في وحدة الموقف لتجابه ذلك كله في

١١٠

وقفة التحدي المضادّ الذي يصرخ بهم (انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) واخرجوا إلى الجهاد لتقاتلوا أعداء الله من أجل الحصول على رضاه في تحقيق إرادته في الحياة (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) فجذبتكم إليها كما لو كانت هناك أثقال شديدة تشدّكم إلى الأسفل ، من الإخلاد إلى الأرض والاستكانة إليها ، والاستسلام لقضاياها المادية ، وقيمتها الحيوانيّة ، والتطلع إلى شهواتها كغاية تتطلع إليها الحياة ، بعيدا عن كل عوامل السموّ والانفتاح التي تجعل الإنسان يحلّق في السماء حيث النور والخير والإيمان ، كآفاق للحياة والحركة والانطلاق ، في ما يوحيه ذلك من التمرّد على كلّ هذه الأثقال المادية التي تثقل قلبه وروحه وضميره ، وفي ما يثيره في نفسه من معان روحيّة تمدّه بالإشراق والحب والإيمان. (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) واستسلمتم لها في عملية استبدال واقتناع بنتائجها ، كما لو كانت كل شيء في حركة الحياة (مِنَ الْآخِرَةِ) أي بدلا عن الآخرة.

* * *

ميزان الدنيا في الآخرة

ولكن ما هي النتائج الحقيقية الحاسمة ، وما هو حجم هذا البدل في مقياس الأهداف؟ (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) أي إذا نسب إلى نعيم الآخرة (إِلَّا قَلِيلٌ) فإن متاع الدنيا زائل ، أما نعيم الآخرة فباق ما بقيت السماوات والأرض ، فلا مجال للموازنة بينهما ، لأن الميزان سيختلّ لمصلحة الآخرة ضد مصلحة الدنيا. وهكذا يريد القرآن للإنسان ـ من خلال هذه الآية ـ أن يفكر بالمسألة بعيدا عن الضغوط الخارجية في النتائج السلبيّة لتفضيل الدنيا على الآخرة في مواجهة النتائج الإيجابية على مستوى الربح الحقيقي في تفضيل الآخرة على الدنيا. ثم يثير المسألة من ناحية الوعيد ، ليفكر في النتائج

١١١

على مستوى ما يقدم عليه من أوضاع العذاب في الآخرة ليحسب حساب المصير في دقّة وعمق وإيمان.

* * *

التهديد بالعذاب على عدم النفور

(إِلَّا تَنْفِرُوا) وتستجيبوا لله في ما يأمركم به من الجهاد ، فتقعدوا في بيوتكم في حالة كسل وخوف واسترخاء (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) جزاء لتمردكم على الله قبل ذلك ، فإن الله لا يعذّب قوما حتى قيم عليهم الحجة (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) لا يتثاقلون عند الدعوة إلى الجهاد ، لأنهم يتحركون في الحياة من مواقع القاعدة الإيمانية التي تحكم كل تصوراتهم وأعمالهم وعلاقاتهم على أساس من وعي المسؤولية أمام الله ، في ما يعيشون من محبة الله وخوفه ، وبذلك فهم يجدون الحياة ، في مفهومهم لموقعها الحقيقي من شخصيتهم ، هبة الله التي يملك أمر استمرارها ، كما يملك أمر إزالتها من أجل غايات الحياة التي أراد الله لها أن تعيش من أجلها ، فليس لهم أن يمتنعوا عما يريده لهم من ذلك كله ، لأن الأمر كله بيده ، وهذا ما ينبغي لكم أن تعيشوه وتواجهوه وتنتظروه ، فلا تعتبروا المسألة مقتصرة عليكم ، فلستم أوّل الناس الذين يدعوهم الرسول إلى الجهاد ، ولستم آخرهم ، بل أنتم مجرد مرحلة طارئة من مراحل المسيرة الإسلامية الطويلة ، التي قد تتأثّر بعض الشيء بالمواقف السلبيّة التي يقفها السائرون في الطريق ، ولكن ذلك لا يلغيها ولا يجمّدها. (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) لأنّ لله عبادا صالحين مجاهدين يعملون من أجل حمل المسؤولية ومتابعتها بكل صدق وعزيمة وإصرار ، ولا بدّ لهم من أن يتحركوا في الخط الطويل ويسيروا على طبيعة المنهج (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، لأن الأشياء كلها ملكه

١١٢

وفي قبضته ، فلا مجال إلّا له في كل شيء ومع كل شيء وأمام كل شيء ، بالمعنى الذي يجعل العقول والعيون والمشاعر محدّقة بجلاله في عملية وعي متحرك ، وذلك هو سر إخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور في ما يريد الله سبحانه أن يخرجهم منه ، إلى إشراقة النور في الحياة ، من خلال رسالاته التي أراد لرسله أن يعرّفوها للناس ، ويؤكدوها في دعوتهم التي تنطلق في أجواء الرسالات ، ويحركوها في وعي الناس ، لتثير فيهم الشعور الواعي بقدرة الله المطلقة التي تحميهم من الانسحاق أمام نقاط ضعفهم في مواجهة قوّة الآخرين ، ليجدوا في ارتباطهم بالله القوّة كلها ، في الزمن كله.

* * *

١١٣

الآية

(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٠)

* * *

مناسبة النزول

روي في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال : لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل لحق بغار ثور ، قال : وتبعه أبو بكر ، فلمّا سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسّه خلفه ، خاف أن يكون الطلب ، فلما رأى ذلك أبو بكر تنحنح ، فلما سمع ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفه ، فقام له حتى تبعه فأتيا الغار ، فأصبحت قريش في طلبه ،

١١٤

فبعثوا إلى رجل من قافة بني مدلج ، فتبع الأثر حتى انتهى إلى الغار وعلى بابه شجرة ، فبال في أصلها القائف ثم قال : ما جاز صاحبكم الذي تطلبون هذا المكان. قال : فعند ذلك حزن أبو بكر ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تحزن إن الله معنا» ، قال : فمكث هو وأبو بكر في الغار ثلاثة أيام يختلف إليهم بالطعام عامر بن فهيرة وعلي يجهزهم ، فاشتروا ثلاثة أباعر من إبل البحرين واستأجر لهم دليلا ، فلما كان بعض الليل من الليلة التالية ، أتاهم علي بالإبل والدليل ، فركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راحلته وركب أبو بكر أخرى ، فتوجهوا نحو المدينة وقد بعثت قريش في طلبه ... وفي رواية ، وضربت العنكبوت على بابه ـ باب الغار ـ بعشاش بعضها على بعض ، وطلبته قريش أشد الطلب حتى انتهت الى باب الغار ، فقال بعضهم : إن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد (١).

* * *

كلمة الله العليا وكلمة الكفر السفلى

وتأتي هذه الآية لتثير أمامهم التفكير بالمعنى الإيماني العميق الذي يوحيه الإيمان بالله ، في ما ينصر به رسله ، ويدعم به رسالاته ، فالله لا يحتاج إلى أيّ عبد من عباده في تحقيق إرادته بالنصر ، لأنه وليّ القوّة في الحياة كلها ، فلا قوّة لأحد إلّا بإرادته ، ولا سبب للقوّة إلّا منه. وقد يكون السبب متصلا بالنواميس الطبيعيّة التي أودعها في الأشياء ، وقد يكون مرتبطا بالأوضاع غير المألوفة في حركة الأسباب. وبذلك ، فلا مجال لأحد أن يتصوّر ، من موقع وعي الإيمان ، أن الناس إذا ابتعدوا عن نصرة النبي ، فإنه يفقد مبررات النصر ، ليبقى في جميع الظروف تحت رحمة الناس ، فيستطيعون من خلال ذلك ممارسة كل ألوان الضغط المادي والمعنوي عليه في ما يريدون منه ، وما

__________________

(١) السيوطي ، عبد الرحمن جلال الدين ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، دار الفكر ، ١٩٩٣ م ـ ١٤١٤ ه‍ ، ج : ٤ ، ص : ١٩٦.

١١٥

لا يريدون ، فإن الله قادر على أن يحقق القوّة من أكثر من سبب غير مألوف ، لأنه هو الذي أعطى للأسباب المألوفة سببيتها. وهذا هو ما أكّده في كثير من المواقف التي نصر الله بها نبيّه في ساعات الشدّة ، في الوقت الذي كانت كل الظروف العادية منطلقة في أجواء الهزيمة.

وهذا ما تثيره الآية في حديثها عن موقف النبي في ليلة الهجرة ، فقد حاصرته قريش من كل جانب ، وسدّت عليه كل نوافذ الخروج من بيته بعيدا عن رقابتهم من أجل أن تقضي عليه ، ولكن الله أنقذه منهم بطريقة غير عادية ، عند ما خرج من بيته ، تاركا ابن عمه عليا يبيت في فراشه ، ليوهمهم أنه لا يزال هناك ، فأغلق الله أبصارهم عنه ، عند ما رمى التراب فوق رؤوسهم وقرأ عليهم الآية (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس : ٩] ومرّ من بينهم فلم يبصره أحد .. وسار بعد ذلك حتى دخل الغار ـ غار ثور ـ في الطريق إلى المدينة ، ومعه أبو بكر وتراجع القوم عن ذلك ، وردّهم الله على أعقابهم خاسرين ، من خلال ما دبّره الله من أسباب غير مألوفة.

* * *

نصرة الله للرسول

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ) إن امتنعتم عن نصره ، فإن الله لا يعجز عن ذلك ، كما فعل في ليلة الهجرة (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) وخلّصه من أيدي قريش التي أطبقت على بيته وانتظرت الصباح لتهجم عليه (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من موطنه (ثانِيَ اثْنَيْنِ) ، فقد كان معه أبو بكر الذي تواعد وإيّاه على الخروج معا حتى دخلا الغار ، وأقبلت قريش حتى وقفت على بابه ، وبدأ الحوار في ما بينهم ، بين قائل يحثّهم على الدخول ، وقائل يدفعهم إلى الرجوع.

* * *

١١٦

ثقة النبي بالله

واشتد الضغط على مشاعر أبي بكر الذي كان يخشى من الموقف على نفسه وعلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِذْ هُما فِي الْغارِ) يتحاوران ، فيتحدث أبو بكر عن أجواء الخوف المدمّر ، ولكن النبيّ كان يعيش آفاق النصرة التي وعده الله بها ، والله لا يخلف وعده ، فكان يشجع أبا بكر على الثبات في الموقف ، وعلى الاطمئنان لنصر الله (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) فلو كان الناس بأجمعهم مع الإنسان وكان الله ضده ، لم ينفعه ذلك شيئا ، ولو كان الله معه وكان الناس ضدّه لم يضرّه ذلك شيئا ، لأن الله هو الذي يملك القوّة كلها ، فلا قوّة لأحد إلا من خلال ما أعطاه ، فهو الذي يملك من الإنسان ما لا يملكه الإنسان من نفسه ، فإذا أراد رعاية عبد من عباده ، برحمته وقوّته ولطفه ، فإنه يأخذ بكل أسباب القوّة من خلال الله ، وتلك هي الأجواء الروحيّة التي تطوف بالإنسان في ملكوت الله عند ما تشتد عليه الأهوال ، وتضيق عليه السبل ، وتكثر حوله التحدّيات ، ويهجم عليه أهل البغي والطغيان ، فإذا أحسّ من نفسه ضعفا أمام ذلك كله ، وشعر بالحزن يزحف إلى قلبه ، وبالخوف يسيطر على روحه ، رجع إلى الله في روحية العبد الخاشع ، وذهنيّة الإنسان الملتجئ إليه المعتصم به ، فعاش معه في ابتهالاته ودعواته وروحية الصلاة في ضميره ، فإذا بالضعف يتبدّل إلى القوّة ، وبالخوف يتحول إلى شعور بالأمن ، وبالحزن ينطلق إلى الفرح الروحي ، ليوحي لنفسه بأنّ الله معه ، ليثبت أمام الزلزال ، وليقول لإخوانه الذين يعيشون الاهتزاز الروحي والفكري والعملي أمام عواصف المحنة والبلاء : لا تحزنوا إن الله معنا.

وهذا هو الشعار الذي ينبغي لنا أن نثيره في وعينا وحياتنا ومسيرتنا في إحساس عميق بحضور الله في كل وجودنا ، بالمستوى الذي تتمثل لنا فيه عناصر القوّة كأروع ما تكون ، في تحرّكاتنا ومنطلقاتنا ، انطلاقا من وعي الرسالة في الرسول ، وقوّة الإيمان في النبيّ ، وحركة القوّة في الموقف النبويّ

١١٧

المتجسد روحا وشعورا وحياة في أجواء الرسول العظيم.

* * *

نزول السكينة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) في ما تمثله من طمأنينة روحيّة ، وسكون نفسي ، وهدوء شعوريّ ، فلا اهتزاز ولا خوف ولا ضياع ، بل هو الثبات والأمن والهدى الواضح ... إنها سكينة الإيمان الواثق بالله من موقع الإحساس بالحضور الإلهي في كل زمان ومكان كما لو كان يحسّه ويراه. ويتقلب في ألطافه ورضوانه (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) بسبب ما أرسله إليه من ملائكته أو من القوى الخفيّة التي تدعمه وتقوّيه وتحميه ، مما لم نعلمه من خلال ما نملك من أدوات المعرفة الحسية ، ولكنّ الله يعلمه من خلال قدرته التي لا يعجزها شيء وإن عظم.

وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ، وانتصر الرسول في مسيرته ، ووصل إلى شاطئ النجاة في رحلته وأحبط كل كيد الكافرون ، وحطّم كل مكائدهم (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) لأنهم لا يملكون أيّة وسيلة يرتفعون بها إلى الأعلى أمام إرادة الله في ما يريده من النزول بها إلى الأسفل ، إذ ليس ثمة كلمة أخرى تعلو كلمته ، مهما حاول الكافرون وتآمر المتآمرون (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) في مضمونها ومدلولها وآفاقها وحركتها وسموّها ، لأنها تحمل في داخلها كل المعاني الكبيرة التي أراد الله للحياة أن تنطلق بها وتعيش معها ، في سماوات الوحي والإبداع التي تحلّق بالإنسان إلى الأعلى فتنقذه من وهدة السقوط ومن وحل الانحطاط ، ليعيش مع الله في رحابه الواسعة وآفاقه العليا ، (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فإذا أراد شيئا أوجده وخلقه ، وإذا أراد شيئا ، فإنه يصنعه بحكمته على خير ما يمكن أن يكون الوجود وبأفضل ما تنطلق به الحياة ، سبحانه وتعالى عما يشركون.

١١٨

الآية

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤١)

* * *

الدعوة الى النفور خفاقا وثقالا

ويعود النداء الإلهي من جديد ، ليستحثهم ويحرّك فيهم إرادة الجهاد من خلال إرادة الإيمان الحي في نفوسهم ، فما ذا ينتظر المؤمن أمام نداء الله إلا أن يستجيب له ، لأن في ذلك الخير كل الخير ، والنجاح كل النجاح ، لو وعى الإنسان حقيقة الموقف وحقيقة الإيمان.

* * *

نداء النفير العام

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) لأن القضيّة ليست في ما ترزحون تحته من أثقال

١١٩

الإسلام في الحياة ، إن النداء يشبه الدعوة إلى النفير العام على كلّ حال ، بعيدا عن الظروف المعوّقة أو المنشّطة .. (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ) وذلك بأن تقدّموا للمعركة من أموالكم المقدار الذي تحتاجه مما يمكنكم بذله ، فذلك هو لون من ألوان الجهاد ، في ما يمثّله من تضحية وجهد ومشقّة وتعب (وَأَنْفُسِكُمْ) وذلك بأن تقفوا في خطّ المواجهة في المعركة ، لتقاتلوا ولتقتحموا على العدوّ ساحته وتواجهوا الخطر كله (فِي سَبِيلِ اللهِ) لأنكم مدعوّون إلى القتال من أجل حماية الإسلام والمسلمين من كل التحديات التي يوجهها إليهم الكفر كله ، والشرك كله. فأنتم في سبيل من سبل الله ، وبذلك فإن أجركم يقع على الله إن بقيتم على الحياة أو متّم (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) من الاسترخاء في ظلال الكسل وحب الراحة والبعد عن المسؤوليّة ، لأن ذلك لن ينقذكم من المشاكل الصعبة التي يفرضها عليكم الذلّ في حالة السلم من قبل الأعداء ، إذا تخلصتم من مشاكل الحرب ، (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وتعون دقّة المرحلة من خلال ما تفرضه من مجابهة ورقابة ومحاسبة ودراسة للوضع كله بعيدا عن حالات التشنّج والحيرة والضياع.

* * *

١٢٠