تفسير من وحي القرآن - ج ٨

السيد محمد حسين فضل الله

لم يكن كذلك في الجانب الذاتي للشخص ، وهذا أمر طبيعيٌّ في كل القضايا المتصلة بالأمور الحيويّة في علاقة الإنسان بمسؤولياته تجاه الإنسان الآخر ، وفي نظام العقوبات الّتي يتوقف عليها نظام الحياة.

* * *

الاستقسام بالأزلام .. والقمار

وجاء الحديث في الآية الأولى عن الاستقسام بالأزلام ، ومعناه ـ كما يقول صاحب مجمع البيان ـ «طلب قسم الأرزاق بالقداح الّتي كانوا يتفاءلون بها» (١) كما عن جماعة من المفسرين. وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليه‌السلام : «أنّ الأزلام عشرة : سبعة لها أنصباء ، وثلاثة لا أنصباء لها ، فالّتي لها أنصباء : الفذ والتوأم والمسبل والنافس والحلس والرقيب والمعلّى ، فالفذ له سهم ، والتوأم سهمان ، والمسبل له ثلاثة أسهم ، والنافس له أربعة أسهم ، والحلس له خمسة أسهم ، والرقيب له ستة أسهم ، والمعلى له سبعة أسهم ، والّتي لا أنصباء لها : السفيح والمنيح والوغد ، وكانوا يعمدون إلى الجزور ، فيجزّئونه أجزاء ، ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل ، وثمن الجزور على من تخرج له الّتي لا أنصباء لها ، وهو القمار ، فحرّمه الله تعالى ...» (٢) واعتبره فسقا وانحرافا عن خط إرادته. وفي ضوء هذا التفسير ، يأخذ الاستقسام بالأزلام معنى القمار ، مما يجعل من تحريم القمار تحريما له ، ويبتعد عن معنى التفاؤل بالقداح في ما يريد الإنسان أن

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ١٩٩.

(٢) م. ن. ، ج : ٣ ، ص : ١٩٩.

٤١

يفعله وما لا يريد أن يفعله.

وقد نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أنّ تحريم مثل هذا التفاؤل لا يحمل الكثير من المعنى المتصل بحياة الإنسان ، وقد حاول البعض أن يرجع سر هذا التحريم إلى إبعاد الإنسان عن أسلوب المحاولة للتعرّف على الغيب ، مما قد يقوده إلى الخرافة ، وإلى الابتعاد عن تلمّس الوسائل الطبيعية للمعرفة ، ولكنّ ذلك لا يغيّر من الواقع شيئا ، لأنّ النّاس قد يلجأون إليه في وقت الحيرة عند ما تغلق عنهم كل أبواب المعرفة ، فتكون مثل هذه الطريقة أشبه بعملية الاختيار العشوائي الّتي يمارسها كل متحير يجد نفسه ملزما بذلك على أيّ حال. على أنّ قضيّة استعمال القداح للتفاؤل لا تتناسب مع كلمة الاستقسام الّتي توحي بأنّ هناك فرزا واقعيا للاستحقاقات ، مما يبعد المعنى المذكور عن أن يكون تفسيرا للكلمة.

* * *

هل الاستخارة من قبيل الاستقسام بالأزلام؟

واعتبر بعض المفسرين الاستخارة في أشكالها المتعددة ، كالاستخارة بالسبحة أو بالرقاع ، من قبيل الاستقسام بالأزلام ، وعليه تكون مرفوضة بنص القرآن الكريم ، ولكننا نسجل عليه :

أولا : الملاحظة السابقة في أنّ التفسير بما ذكر لا يتناسب مع طبيعة الكلمة.

وثانيا : أنّ الاستخارة ـ في طبيعتها ومدلولها ـ تمثل نوعا من الرجوع إلى الله والابتهال إليه في تحديد الخيرة للإنسان الحائر في ما تحير فيه ، عند ما تسدّ عليه أبواب المذاهب ، وتغلق عنه سبل المعرفة ، فهي من القضايا الّتي تدخل

٤٢

في الأساليب الإيمانية ، في معرفة الخيرة ، بعد استنفاد كل وسائل الفكر والمشورة ، وبقاء الموضوع على حاله من الغموض والإبهام. فما المانع من أن يستجيب الله لعباده ابتهالاتهم وينقذهم من حيرتهم؟!

* * *

الاستخارة ليست طريقا لشلّ الفكر

لا نريد من خلال هذا التفسير أن نبرّر للإنسان الانطلاق بعيدا في هذا الأسلوب من ناحية ذاتية ، ليستحدث النّاس لأنفسهم ـ باسم الإيمان ـ وسائل معرفة المستقبل. فنحن لا نشجع ذلك ـ كمبدإ ـ لأنَّه يؤدي بنا إلى الفوضى من جهة ، وإلى الوقوع في قبضة الخرافة والدجل من جهة أخرى. ولكنَّنا نقول : أنَّ النصوص الدينية المعتمدة إذا أقرّت مثل هذا الأسلوب ، فلا يكون ذلك بعيدا عن خط الإيمان والإسلام ، ولا يؤدي إلى إغلاق باب الفكر والمشورة ، لتكون الاستخارة بديلا عنهما ، بل يكون له مبرراته الإنمانية في حدوده المعقولة.

وفي ضوء ذلك ، نثير الملاحظات على سلوك بعض النّاس الذَّين اتخذوا الاستخارة خطا عمليا في أسلوب العمل والحركة ، فلم يسمحوا لأنفسهم بالتفكير أو بالاستشارة ، بل اكتفوا بالمسبحة يستنطقونها وجه الخير لما يصنعون ، أو بالرقاع ، يتعرفون من كلماتها سر الحقيقة في ما يمارسون. وهكذا حكموا على أفكارهم بالشلل ، فإذا دعوت أحدهم إلى أمر بسيط لا يحتاج إلَّا إلى بعض الحسابات البسيطة المحيطة بالموضوع ، بادرك بالاستخارة ليقطع عليك أمر مناقشة القضية من جوانبها الواقعية ، وإذا عرضت لأحدهم حاجة في ما يتعلق بشؤون حياته ، أو شؤون من يتصل به ، في قضية زواج أو

٤٣

تجارة أو غيرهما ، كانت الاستخارة هي الأساس في اتخاذ القرار ، وليس الفكر الَّذي يلقي الضوء على طبيعة الموضوع ، مما قد يترك كثيرا من الآثار السلبية على حياته وحياة الآخرين.

إنَّنا نعتقد أنَّ الله قد أعطى الإنسان وسائل المعرفة في ذاته ليستعملها ، ودعاه إلى الاستعانة بالطاقات الّتي يملكها الآخرون ليستفيد منها ، فإذا ترك هذه وتلك وأقبل على الاستخارة ، كان متنكرا لما وجّهه الله إليه من خلال إرادته ، ولذلك لن يستقبل الله حيرته بالعناية ، لأنّه ـ تعالى ـ يستجيب لنداء الحيرة التي لا تملك معرفة السبيل إلى النور ، ولا يستجيب للحيرة الّتي تجلس بعيدا عن الحركة الإرادية الواعية ، لتنتظر الحل من السماء ، في الوقت الَّذي تملك فيه كل الوسائل القريبة إلى الحل ، وهذا ما يجب أن يثيره المؤمن في نفسه وفي حياته ليستقيم له القصد ، ولتنفتح له آفاق النور بالمعرفة الواسعة.

* * *

اليوم يئس الّذين كفروا

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) وكان الكافرون يطمعون في إضلال المؤمنين في عقيدتهم وعملهم ، وهم يتحينون الفرص للوصول إلى هدفهم ، فقد يلوّحون بالرغبة تارة ، وقد يثيرون الرهبة في أجواء الرعب أخرى .. وتقدمت المسيرة في اتجاه الثبات والصمود ، ودارت هناك معارك كثيرة ، وعاش المسلمون الصراع كأقسى ما يكون ، وانتقل الإسلام من دور الفكر العقيدي إلى دور الخط التشريعي الَّذي يدخل مع المسلمين في حياتهم الخاصة والعامة ، فيعمق لهم الإحساس بالانتماء والالتزام بالله ورسوله ، ويثير في أنفسهم الشعور بالقوّة من خلال التخطيط

٤٤

للكيان المتكامل الَّذي لا تجد فيه أيّة ثغرة في فكر أو شريعة ، ويحدّد لهم الفواصل الّتي تفصلهم عن الكافرين في فكرهم وعاداتهم وتقاليدهم حتّى في ما يتعلّق بأكلهم وشربهم ولبسهم ، وممارستهم لأساليب الحياة ...

وبدأ الكفَّار يشعرون باليأس ، فمحاولاتهم المتكررة وقد تحطمت على صخرة الواقع الإسلامي الجديد الَّذي يلتقي بالصمود والثبات ، وجاء القرآن ليبشر المؤمنين بتراجع الكافرين عن خططهم تحت ووطأة الشعور باليأس ، وليدعوهم إلى عدم الخوف منهم في المستقبل ، وليعلموا على تعميق خوف الله في نفوسهم ، لأنّ الخوف من الله هو الَّذي ركّز أقدامهم على الطريق وقادهم إلى الفتح والنصر ، وهو الَّذي يدفعهم من جديد إلى انتصارات جديدة ، وفتوحات جديدة.

* * *

إكمال الدين .. بولاية عليّ (عليه السلام)

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، هذا الدين الَّذي تكامل من خلال نزوله منجّما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاملا مع كل آية من آياته المفاهيم العامة للكون والإنسان والحياة. وكان التشريع يخطو خطواته الثابتة راصدا الواقع ومراقبا حاجاته ليأتي في حجم المشكلة ، وكان الله رفيقا بعباده ، فلم ينزل عليهم القرآن جملة واحدة ، ولم يبعث الأحكام لهم دفعة واحدة ، بل كان التدرج هو الخط الَّذي خطّه الإسلام للإنسان ليصل به إلى التكامل ، حتّى كانت نهاية المطاف وأكمل الله للمسلمين دينهم ، وأتمّ عليهم نعمته به ، فهو النعمة الّتي لا نعمة مثلها ، لأنَّها السبيل إلى النجاة في الدنيا والآخرة .. فرضي لهم الإسلام دينا.

٤٥

ولنا أن نتساءل عمّا أنزله الله على رسوله فكمل به الدين ، ورضيه للمسلمين دينا ، وتمت به النعمة؟ لقد اختلف المفسرون في ذلك ، فمنهم من قال : إنَّه فرائض الله وحدوده وحلاله وحرامه ، الّتي أكملها الله للمسلمين في ذلك الوقت بتنزيل آخر حكم شرعي ، ومنهم من قال : إنّه إكمال الحج وتخصيصهم بالبلد الحرام ، بعد أن كان مشتركا بينهم وبين المشركين ، ومنهم من قال : إنَّه إكمال الدين بإكمال قوته وسلطته وكفايته الأعداء .. والمروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنَّه قال : «آخر فريضة أنزلها الله تعالى الولاية ، ثمَّ لم ينزل بعدها فريضة ، ثمَّ نزل : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) بكراع الغميم (١) ، فأقامها رسول الله بالجحفة ، فلم ينزل بعدها فريضة» (٢). وروى صاحب «مجمع البيان» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، كما نقلها الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتاب «نزول القرآن» «أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى في غدير خم عليا منصب الولاية ، وأنَّ النّاس في ذلك اليوم لم يكادوا ليتفرقّوا حتّى نزلت آية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك اللحظة : الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، وولاية عليّ بن أبي طالب من بعدي ، وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله» (٣).

وما يجاري صدقيّة هذه الرِّوايات ما رواه ابن جرير الطبري في كتاب الولاية عن زيد بن أرقم ـ الصحابي المعروف ـ أنَّ هذه الآية نزلت في يوم غدير خم بشأن علي بن أبي طالب. وكذلك روى الخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي هريرة ، نقلا عن تفسير الأمثل ، «عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّ آية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)

__________________

(١) كراع الغميم : اسم موضع بين مكّة والمدينة.

(٢) البحار ، م : ١٢ ، ج : ٣٧ ، ص : ٣٤٣ ، باب : ٥٢ ، رواية : ٥.

(٣) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٢٠٠.

٤٦

نزلت عقيب حادثة غدير خم والعهد بالولاية لعلي عليه‌السلام ، وفي هذه المناسبة قال عمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم» (١).

وجاء في كتاب الغدير إضافة إلى الرِّوايات الثالث المذكورة ، ثلاث عشرة رواية أخرى في هذا المجال.

وورد في تفسير البرهان وتفسير نور الثقلين عشر روايات مختلفة حول نزول الآية في حق علي عليه‌السلام.

وهكذا نلاحظ استفاضة هذه الرِّوايات بحيث لا يمكن تجاهلها ، أو اعتبارها أخبار آحاد كما يحاول البعض مناقشة المسألة في هذا الاتجاه (٢).

وقد يثور اعتراض على القول بأنَّ هذه الآية قد نزلت في الإشارة إلى ولاية علي عليه‌السلام ، بعدم وجود علاقة بينها بهذا المعنى ، وبين الفقرات الأخرى السابقة واللاحقة المتحدثة عما يحلّ ويحرم من اللحوم ، الأمر الَّذي يبعد هذا التفسير لمصلحة التفسير الآخر بأنَّه إشارة إلى إكمال الفرائض والحدود والحلال والحرام بالتنزيل في الوحي. والجواب عن ذلك ، أنَّ الآيات القرآنية لم تجمع على أساس النزول التاريخي ، فقد نجد بعض الآيات المكيّة واردة في بعض السور المدنية ، بل كانت تابعة للمناسبات الّتي لا حظها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الَّذي جمع القرآن بإشرافه ، وربَّما كانت المناسبة في الموضوع أنَّ الآية تتحدث عمّا شرعه الله في تفاصيل الأحكام الممثلة للدين ، ولهذا من المناسب التحدث عن إتمام الدين الَّذي بدأ بالنبوّة ، بقضيّة الولاية. والله العالم.

__________________

(١) انظر : الشيرازي ، ناصر مكارم ، الأمثل في تفسير القرآن المنزل ، مؤسسة البعثة ، بيروت. ط : ١ ، ١٤١٣ ه‍ ، نقلا عن تفسير الأمثل ، ج : ٣ ، ص : ٥٢٨.

(٢) انظر : م. ن. ، ج : ٣ ، ص : ٥٢٩.

٤٧

ومن هنا اعتبرت قضية الولاية من القضايا المهمة المصيرية في مستقبل الإسلام وقوته ، مما يؤكد ويؤيّد اعتبارها إكمالا للدين الّذي يحتاج إلى الرعاية من الشخص الّذي عاش فكره وشعوره وجهاده للإسلام ، حتّى لم يعد هناك ـ في داخل ذاته ـ أيّ نوع من الفراغ الَّذي يحتضن اهتمامات غير إسلامية. وقد يمكن للإنسان أن يفكر بأنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمكن له ترك قضية الولاية من بعده للاجتهادات المختلفة ، الّتي قد تختلف على أسس ذاتية أو تقليدية ، باعتبار أنَّها لا تخضع لبرنامج إسلامي تشريعيّ محدد. فالدين الَّذي قد تعرّض لكل شيء في أحكامه وتشريعاته حتّى أدق التفاصيل ، لا يتصور فيه أن يترك أمر الخلافة الكبير في أهميّته ونتائجه ، لا سيما لجهة استمرار خط الرسالة والنبوة ، حيث ، وكما هو معلوم تاريخيا ، لم يكن الوضع الإسلامي قد وصل إلى مستوى النضوج الكامل بفعل الأحداث الصعبة ، مما يجعل تركيز مسألة الخلافة والولاية وتأكيدها أمرا أساسيا في حركة التشريع.

وعلى أيّ حال ، فإنَّنا نثير هذه الأفكار انطلاقا من وعينا لأهمية القيادة في حياة الأمة ، ليكون هذا الاتجاه في التفكير أساسا للبحث من أجل مواجهة الموقف بجديّة ومسئوليّة من ناحية المبدأ والمنطلق. ويبقى للأدلة والحجج والنصوص الشرعيّة الدور الأكبر الأساس في الحكم على ما حدث بعيدا عن كل اجتهاد ذاتي ، أو انتماء مذهبي ، لأنَّ القضيّة قضيّة إيمان وعلم ، فلا بدّ للمسلمين من الارتفاع في خلافاتهم إلى هذا المستوى الَّذي يقودهم إلى الحقيقة الدينيّة والتاريخيّة من أقرب طريق ، ويعلمهم كيف يمارسون هذا الخلاف بالأسلوب الإسلامي للحوار الَّذي يعتمد على الإخلاص للحقيقة من خلال الإخلاص لله ، ومواجهة المواقف من موقع الفكر العميق المنفتح المتأمل ، والله من وراء القصد.

* * *

٤٨

حلّية أكل اللحوم المحرّمة عند الاضطرار

(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لقد جاء تحريم بعض اللحوم ، حفاظا على سلامة جسد الإنسان وروحه ، فإذا طرأ عليه أمر يجعل الامتناع عن أكل المحرمات موجبا للوقوع في التهلكة كالمجاعة مثلا ، فإنّ الله أباح له في هذه الحالة ما حرّمة في الحالات الطبيعية ، للغاية ذاتها الّتي كان التحريم من أجلها. وذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) أنّ هناك وجهين محتملين فيه :

أحدهما : أنّ معناه غير مائل لإثم ، أو متعمّد له أو مختار أو مستحلّ. وذلك بأن يكون القيد قيدا توضيحيا لأنّ معنى الاضطرار يوحي بكل هذه المفاهيم.

وثانيهما : أيّ غير عاص بأن يكون باغيا أو عاديا أو خارجا في معصية ، وذلك بأن يكون الاضطرار في ظروف عاديّة لا أثر فيها للأجواء المنحرفة الّتي تتحرك في طريق البغي والتمرُّد والعدوان ، وذلك من قبيل الاستيحاء للآية الكريمة : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٧٣] لورودهما في سياق واحد ، وبذلك تكون الإباحة لغير هذه الفئة ، فمن اضطر في مثل هذه الأجواء فلا رخصة له ، ولكنّه يتناول هذه المحرمات ارتكابا لأخفّ المحذورين ، بحكم العقل الّذي يدفعه إلى ذلك.

وبعد الحديث عن المحرّمات ، جاءت الآية الثانية لتتحدث عمّا أحلّ الله للمؤمنين ، وذلك من خلال سؤال تقدموا به للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لينطلقوا على أساس قاعدة شرعيّة واضحة ، فسألوه : ماذا أحلّ لهم؟ وكان الجواب عاما لا تحديد فيه للتفاصيل بل للمبدأ ، فالله قد أحل للإنسان كلّ طيّب : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) لأنّ التحريم لم ينطلق كعقوبة للإنسان بل لمصلحته. أمّا تحديد ما أحلّ لهم بالطيب ، فللإيحاء بطبيعة الخصائص الكامنة في كل ما أحلّه الله

٤٩

للإنسان ، سواء كانت ظاهرة يحسُّها بحواسه أم كانت باطنة يدركها بالحسّ الداخلي مما تشتمل عليه من منافع ، وقد يكون للإشارة إلى الجانب السلبي ، وهو عدم كونه من الخبائث الّتي يستقذرها الحسُّ والروح والفكر ، في الّذي أشار إليه تحت عنوان الخبائث.

ثُمّ تحدث عن بعض أنواع الصّيد الّذي كان يتوهّم فيه الحرمة ، وهو ما يصيده الكلب المعلّم الّذي تلقى تدريبا كافيا للصّيد ، بحيث لا يقبل على الحيوان بغريزته الجائعة ، بل بمهمته الصائدة ، وقد كان يخيّل للبعض أنّه من أنواع الميتة المحرمة ، خاصّة عند ما يصل صاحب الكلب إلى صيده وهو ميت ، فأنزل الله حليّته ، لأنّ الكلب يعتبر أحد وسائل الصّيد المتعارفة ، فيكون صيده ذكاته ، وهذا هو معنى قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) حالة كونهم مكلّبين ، أي أصحاب صيد بالكلاب. ويحتمل أن يكون المراد بالكلمة ما جاء في تفسير الكشاف ، قال : «مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها لذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف واشتقاقه من الكلب ، لأنّ التأديب أكثر ما يكون في الكلاب ، فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه ، أو لأنّ السّبع يسمى كلبا. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» (١) (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) من علم التكليب لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل ، أو مما عرفكم أن تعلّموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وإمساك الصّيد عليه وأن لا يأكل منه ـ كما جاء في الكشاف ـ (٢). (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ولم تدركوا ذكاته ، ولا تتوهموا حرمته. والإمساك على صاحبه : أن لا يأكل منه ، بمعنى أن لا يمسك الصّيد انطلاقا من غريزته المندفعة للافتراس لحاجاته الطبيعيّة كأي حيوان يبحث عن الفريسة ليأكلها ، بل يمسكه

__________________

(١) الزمخشري ، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر ، الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، دار الفكر ، ج : ١ ، ص : ٥٩٤.

(٢) م. ن. ج : ١ ، ص : ٥٩٤.

٥٠

من خلال المهمّة الّتي أرسله صاحبه لتحقيقها لحسابه.

وقد جاء عن ابن عباس ، كما في الدر المنثور للسيوطي ، في المسلم يأخذ كلب المجوسي المعلم أو بازه أو صقره مما علمه المجوسي فيرسله فيأخذه قال : لا تأكله ، وإن سميت ، لأنّه من تعليم المجوسي ، وإنّما قال : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) (١). مما يوحي بأنّه استفاد من الآية اختصاص الحل بتعليم المؤمنين ، ولكن الظاهر أنّ الخصوصيّة للتعليم الّذي ألهمه الله لعباده ، لا لخصوصيّة المعلِّم من حيث كونه مؤمنا أو لا. (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) قبل أن ترسلوه إليه ، فإنّ الله أراد للإنسان أن ينطلق في قتل الحيوان باسمه ، لأنّه خالقه ، فليس له أن يقتله إلّا على أساس وحيه ورخصته به ، ليكون ذلك وسيلة للخروج من الحالة الذاتيّة الغريزيّة العدوانيّة إلى الحالة الروحيّة المتحركة في دائرة أمر الله ونهيه ، بحيث يعيش الإنسان معنى العبوديّة لله في علاقته بالحيوان في حاجاته للتغذي به. والله العالم.

(وَاتَّقُوا اللهَ) في ذلك كلّه ، وذلك بالوقوف عند حدوده تعالى في نوع الحيوان الّذي يحل أكله ، وفي شروط الصّيد ، فلا تبتعدوا عن شريعته في ذلك ، فإنّ للأكل تقواه في الحلال والحرام منه ، كما لكل شيء تقواه في أعمال الإنسان العامة ، ولا بدّ للإنسان من أن يحرّك التقوى في كل تفاصيل حياته ليكون في خط العبوديّة في حياته كلها. (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) في ما يحصيه من أعمال عباده ويحاسبهم عليها لموافقتها أو مخالفتها لأوامره ونواهيه. هذا وقد اختلف الفقهاء في اختصاص حليّة الصّيد بالكلب المعلّم أو شموله لكل حيوان معلّم ، سواء كان صقرا أو فهدا أو كلبا أو غيرها .. فأخذ بعضهم بعموم الجوارح واعتبر كلمة (مُكَلِّبِينَ) واردة على سبيل التشبيه ، لأنّ الغالب في الحيوان الصائد أن يكون كلبا ، وبعضهم اعتبر هذه الكلمة قيدا فقال

__________________

(١) السيوطي ، عبد الرحمن جلال الدين ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، دار الفكر ، ١٩٩٣ م ـ ١٤١٤ ه‍ ، ج : ٣ ، ص : ٢٣.

٥١

بالخصوص ، وهذا ما روي عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام ، فقد جاء في تفسير عليّ بن إبراهيم بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «سألته عن صيد البزاة والصقور والفهود والكلاب ، فقال : لا تأكل إلّا ما ذكيت ، إلّا الكلاب ، فقلت : فإن قتلته؟ قال : كل ، فإنّ الله يقول : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ). ثمّ قال عليه‌السلام : كل شيء من السّباع تمسك الصّيد على نفسها إلّا الكلاب المعلّمة فإنّها تمسك على صاحبها ، وقال : إذا أرسلت الكلب المعلّم فأذكر اسم الله عليه فهو ذكاته ، وهو أن تقول : باسم الله والله أكبر»(١).

ويظهر من هذه الرّواية أنّ الاختصاص بالكلب ينطلق من عدم توفر الشرط وهو الإمساك بالصّيد على صاحبه لا على نفسه من حيث حاجته إلى الطعام ، فإنّ الحيوانات الأخرى تملك طبيعة مفترسة تجعلها تتجه إلى الصّيد من خلال شخصيّة الحيوان المفترس الباحث عن الطعام ، فيكون إمساكها بالصّيد حالة ذاتية لا حالة آلية كصائدة لحساب صاحبها الّذي أرسلها ، أمّا الكلب ، فإنّه ليس حيوانا مفترسا بطبيعته ، مما يجعل من تعليمه أمرا يدفع به إلى الصيّد كآلة للاصطياد لحساب صاحبه ، وربّما يكون جائعا فيأكل من الحيوان من خلال الحاجة الطارئة لا من خلال الغريزة الطبيعيّة كما هو الحال في الحيوانات الأخرى.

وعلى ضوء ذلك ، لا يكون التركيز في الاختصاص ـ حسب هذه الرّواية ومثيلاتها ـ على كلمة (مُكَلِّبِينَ) بل على كلمة (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) من حيث طبيعة الأمور في الكلب وغيره.

وهناك روايات أخرى معارضة لهذه الرّواية وغيرها في الاختصاص بالكلب ، مما جعل بعض فقهاء أهل البيت يذهب إلى الرأي القائل بالشمول لكلِّ الحيوانات المعلّمة. والله العالم.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٢٠٢.

٥٢

الآية

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٥)

* * *

معاني المفردات

(الطَّيِّباتُ) : المستلذات الّتي تستلذها النفس وينتفع بها الجسد ، ولا يستخبثها الذوق والطبع.

(وَالْمُحْصَناتُ) : الحرائر كما قيل ، وقيل : العفيفات من الزنى وهو الأقرب. وقد ذكر أنّ للإحصان معاني أربعة : الإسلام والتزوج والحريّة والعفة.

(مُسافِحِينَ) : معلنين بالزنى بهنّ أو مجاهرين به. والسفاح : الزنى.

(مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) : أي المسرّين بالزنى. والمراد به الزنى بالسرّ والخدن : الصديق ، يقع على الذكر والأنثى.

٥٣

(حَبِطَ عَمَلُهُ) : بطل ثواب عمله فلا يعتدّ به ولا يؤجر عليه.

* * *

حليّة الطيبات والمحصنات للمؤمنين

(الْيَوْمَ) قيل إنّ المراد به يوم عرفة ، وقيل هو اليوم الّذي تلا فتح خيبر. وذهب بعض المفسرين المتأخرين إلى أنّه يوم (غدير خم) باعتبار أنّه اليوم الّذي برز الإسلام فيه كقوّة تمتلك السيطرة على أوضاع المجتمع وتستطيع ـ بفعل ذلك ـ إصدار مثل هذا الحكم لمصلحة أتباعه دون أن يساوره أي قلق بسبب الأعداء (١) ، ولكن الملحوظ أنّ مثل هذه الأحكام ، ليست بدعا من الأحكام الإسلاميّة العاديّة الّتي سبق أن بيّنها القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة ، مما قد يكون أكثر خطورة على الواقع الاجتماعي عصر الدعوة كتحريم الخمر والميسر والرّبا ، وغير ذلك مما يتصل بالسلوك العام للنّاس ، لا سيّما إذا عرفنا أنّ الآية واردة في سياق الرخصة مما كان النّاس يمارسونه لا في سياق التحريم ، كما في قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) حيث أكّد الله حلّيتها امتنانا على النّاس وبيانا للطابع التشريعي السمح للإسلام الّذي ينطلق من مصلحة الإنسان في حاجاته الطبيعيّة ، ومن فطرة الإنسان في استطابة الطيّبات من الطعام واستخباث الخبائث ، والإقبال على ما يصلح بدنه مما تستطيبه عناصر الجسد في المنافع الموجودة فيه حتّى لو كان مرّ المذاق في الطعام.

(وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) مما يحل لكم منه في التشريع الإلهي العام ، فلا يجوز لكم أكل الطعام الّذي صدر الحكم بتحريمه ، وهو (الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أو مما لم يذكر اسم الله عليه ، لأنّ مثل هذه الأمور لا علاقة لها بالجهة الّتي تقدمها ، بل بالعنوان الّذي تتمثل فيه.

__________________

(١) انظر : تفسير الأمثل ، ج : ٣ ، ص : ٥٣٧.

٥٤

أمّا خصوصيّة أهل الكتاب فقد تتمثل في نقطتين :

النقطة الأولى : مسألة النجاسة والطهارة ، فقد يتوقف النّاس في أمر الطعام الّذي يلامسونه بأيديهم لاحتمال نجاسته بمباشرتهم إياه ، فكانت هذه الآية إعلانا تشريعيّا بطهارتهم ، فتكون الآية دالة على أنّه لا مانع من أكل طعام أهل الكتاب الّذي يباشرونه بأيديهم من هذه الجهة ، لأنّهم طاهرون في ذواتهم ، ولعلّ هذا ما نستوحيه من الأحاديث الكثيرة الواردة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام بأنّ المراد بالطعام الحبوب وأشباهها ، في مقابل القول بأنّ المراد به الذبائح ، فليس المقصود الحبوب اليابسة لتحمل على مسألة التعاطي بالبيع والشراء ، لأنّ مثل هذه المسألة لم تكن واردة في حساب التحريم ولم تكن مشكلة في الواقع الإسلامي الّذي كان المسلمون يتعاملون فيه مع أهل الكتاب في المدينة بشكل طبيعي ، بل المقصود به الطعام المطبوخ الّذي يقدمونه للنّاس.

وقد ذهب فقهاء المسلمين السنّة وبعض فقهاء الشيعة الإماميّة إلى طهارة أهل الكتاب في ذواتهم ، وهو الّذي نرتئيه ونفتي به في نطاق الرأي الفقهي العام الّذي نفتي به وهو طهارة كل إنسان.

النقطة الثانية : وهي مسألة حليّة ذبائحهم بلحاظ اشتراط إسلام الذابح في حليّة الذبيحة كما هو المشهور الّذي كاد أن يكون إجماعا لدى فقهاء الشيعة الإماميّة ، وربّما استوحى البعض ذلك من الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام في تفسير الطعام بالحبوب وأشباهها ، وفي مقابل التفسير المعروف عند أهل السنّة بأنّ المراد به ذبائحهم. ولكننا نجد أنّ الحديث المفصل في هذه الرّوايات هو ما رواه الكليني محمّد بن يعقوب ـ في الكافي ـ عن أبي علي الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن عليّ بن النعمان ، عن ابن مسكان ، عن قتيبة الأعشى ، قال : «سأل رجل

٥٥

أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده ، فقال : له : الغنم يرسل فيها اليهودي والنصراني فتعرض فيها العارضة فتذبح أنأكل ذبيحته؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا تدخل ثمنها في مالك ولا تأكلها فإنّما هي الاسم ولا يؤمن عليها إلّا مسلم. فقال له الرّجل : قال الله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : كان أبي عليه‌السلام يقول : إنّما هو الحبوب وأشباهها» (١).

وظاهر هذا الحديث أنّ مسألة ذبائح أهل الكتاب ليست محرّمة بقول مطلق ، بل بلحاظ أنّه لا بدّ في حل الذبيحة من إحراز التسمية ـ الّتي هي الشرط الأساس كما في القرآن ـ ولا مجال لإحرازها في ذبيحة الكتابي الّذي لا يرى شرطيّته ، فلا يوثق بتوفرها لديه في الذبح. فلو أحرزنا التسمية مع شروط التذكية كانت الذبيحة حلالا ، وهذا ما يُفهم من التأكيد في أحاديث أئمة أهل البيت عليه‌السلام على الاسم الّذي لا بدّ من إحرازه في الذبح وحليّة الذبيحة ، وهذا ما استقربه الشهيد الثاني في المسالك وأفتى به الصدوق وابن أبي عقيل وابن الجنيد وبعض الفقهاء المعاصرين ، وهو الّذي نفتي به مع بعض التحفظات.

وتبقي مسألة المراد من الآية خاضعة لتفسير أهل البيت عليه‌السلام للطعام بالحبوب وأشباهها ، وربّما كان هذا التفسير متطلعا للتأكيد على أنّ الآية لا تشمله في مسألة الحل بلحاظ عدم استكمال شروط الذبيحة فيه عندهم. والله العالم.

(وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) فلا يحرم عليكم إطعامهم من طعامكم ، لأنّ اختلاف الانتماء الديني لا يؤدّي إلى اختلاف في العلاقات الاجتماعيّة الإنسانيّة في تبادل الدعوات إلى الطعام من خلال الروابط الخاصة والمتعلّقة بالقربى

__________________

(١) الكليني ، الكافي ، دار الكتب الإسلامية ، ج : ٦ ، ص : ٢٤٠ ، رواية : ١٠.

٥٦

والجوار ونحوهما. وليست المسألة كمسألة التزاوج بين المسلمات والكفّار في قوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) [الممتحنة : ١٠] حيث يرتفع الحلُّ من الجانبين.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) وأحلّ الله لكم الزواج بالعفيفات من المؤمنات ، (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فيجوز الزواج بهن لأنهن يؤمنّ بالله واليوم الآخر وبالتوراة والإنجيل ، مما يجعل هناك قاعدة للعلاقة الزوجيّة باعتبار أنّ المسلم يؤمن بذلك كلِّه أيضا ، خلافا للكوافر اللاتي لا يؤمن بالله بل يلتزمن الشرك ، فلا يجوز للمسلمين التزوج والإمساك بعصم الكوافر أو بالمشركات حتّى يؤمنّ. وعلى ضوء هذا ، فإنّ المسألة في الزواج ترتكز على الإيمان حتّى مع اختلاف بعض خصوصياته مما لا مجال فيه للكافرين بالله والمشركين به ، وهذا ما جاءت به الآية الكريمة في قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠] حيث وردت في سياق الزواج بالنساء الكافرات من مجتمع مكة ، فلا تشمل نساء أهل الكتاب ، والآية الكريمة في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١] فإنّها لا تشمل أهل الكتاب لأنّ مصطلح المشركين في القرآن لا يشملهم ، ولا تصلح كل منهما ـ على تقدير الشمول ـ أن تكون ناسخة لهذه الآيات ، لأنّها متأخرة عنها ولا ينسخ السابق اللاحق.

وقد حاول بعض المانعين لزواج الكتابيّة تأويل الآية بأنّ المراد ب (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) اللاتي أسلمن منهنّ ـ بعد كفر ـ ، والمراد بال (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) اللاتي كنّ في الأصل مؤمنات بأن ولدن على الإسلام ، وذلك أنّ قوما كانوا يتحرجون من العقد على من أسلمت عن كفر ، فبيّن سبحانه أنّه لا حرج في ذلك ، فلهذا أفردهنّ بالذكر ، حكى ذلك أبو القاسم النجفي. ولكن هذا القول مردود بأنّه دعوى من دون دليل ، لأنّ ظاهر المقابلة بين المؤمنات واللاتي من أهل الكتاب إرادة التنوع في واقع الانتماء

٥٧

الديني لا في الانتماء السابق مع اتحاد الانتماء الحالي. والله العالم.

(إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي مهورهنَّ ، ولعلَّ التعبير عن المهور بالأجور باعتبار انتفاع الرّجل بالمرأة من حيث المنفعة الجنسيّة واللذة الغريزيّة الّتي يحصل عليها منها ، فأشبه حال الزواج حال الإجارة الّتي يدفع فيها المستأجر ماله في قبال المنفعة ، مع التأكيد على أنَّ حقيقة الزواج تختلف عن حقيقة الإجارة في الشكل والمضمون والحقوق ، مما يجعل من الزواج مسألة استعارة على أساس التشبيه بالشكل فقط. وقد استخدم هذا التعبير في قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [النساء : ٢٤].

(مُحْصِنِينَ) في العلاقة المذكورة بهنَّ بمعنى ارتكازها على العفة باعتبار العلاقة الزوجيّة المحلّلة الّتي هي عنوان العفة في ارتباط الرّجل بالمرأة (غَيْرَ مُسافِحِينَ) بالزنى ، بأن تكون العلاقة بينهما علاقة الزاني بالزانية لعدم شرعيّة العلاقة ، (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) فلا تكون الرابطة بينهما رابطة الصديق بصديقته الّتي يستمتع بها سرّا عن طريق الاستمتاع الجنسي بعيدا عن الارتباط الزوجي.

وهذا هو التجسيد العملي للإيمان الَّذي لا يتمثل بالعقيدة والكلمة فحسب ، بل يمتد إلى الجانب العملي في الوقوف عند حدود الله في الحلال والحرام ، لأنَّ ذلك يؤكد عمق الإيمان في الذات وثباته في الواقع. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) بالتمرّد عليه والابتعاد عن السير على خطه المستقيم في الالتزام بحلال الله وحرامه ، فسيقع في هوّة الكفر في نهاية المطاف ، لأنَّ السير مع المعصية يضعف الإيمان في النفس ، فإذا امتد في كل مواقعها ، زال كليّا من الذات ، (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) كما يحبط عمل الكافر ، فلا ينتفع من الإيمان بشيء ، لأنَّ عمله لن يكون صورة لإيمانه بل يكون وجها من وجوه الكفر ، وهو الوجه العملي له ، (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [آل عمران : ٨٥] ، (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الشورى : ٤٥].

٥٨

وقد وردت روايات عدّة في تفسير هذه الآية عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام منها :

١ ـ ما رواه محمّد بن يعقوب الكليني ، عن الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن الحسين بن عليّ ، عن حمّاد بن عثمان ، عن عبيد بن زرارة ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) ، قال : ترك العمل الّذي أقرّ به ، من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم ولا شغل» (١).

٢ ـ وجاء في رواية أخرى عن أبان بن عبد الرحمن ، قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : أدنى ما يخرج به الرّجل من الإسلام أن يرى الرأي بخلاف الحق فيقيم عليه ، قال : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) وقال : الّذي يكفر بالإيمان الّذي لا يعمل بما أمر الله به ولا يرضى به» (٢).

٣ ـ وفي رواية أخرى عن محمّد بن مسلم ، عن أحدهما عليه‌السلام في قول الله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) قال : هو ترك العمل حتّى يدعه أجمع ، قال : منه الّذي يدع الصلاة متعمدا لا من شغل ولا من سكر ، يعني النوم» (٣).

* * *

__________________

(١) الكافي ، ج : ٢ ، ص : ٣٨٤ ، رواية : ٥.

(٢) البحار ، م : ٢٥ ، ج : ٦٩ ، ص : ٦١ ، باب : ٩٨ ، رواية : ١٦.

(٣) م. ن. ، م : ٢٥ ، ج : ٦٩ ، ص : ٦١ ، باب : ٩٨ ، رواية : ١٧.

٥٩

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٦)

* * *

معاني المفردات

(إِذا قُمْتُمْ) : أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة.

(الْمَرافِقِ) : جمع مرفق ، وهو مفصل الساعد ، أو الذراع من الأعلى.

(الْكَعْبَيْنِ) : هما عظمان ناشزان يفصلان بين الساق والقدم.

(جُنُباً) : أصابتكم الجنابة بجماع أو إنزال منّي.

(فَاطَّهَّرُوا) : فاغتسلوا.

٦٠