تفسير من وحي القرآن - ج ٨

السيد محمد حسين فضل الله

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢)

* * *

معاني المفردات

(لا تُحِلُّوا) : أي لا تتصرفوا بها بكل حرّية بعيدا عن قواعد الحل والتحريم ، بل التزموا فيها ما ألزمكم الله به. والحلال والحل : المباح ، وهو ما لا حرمة لفعله على تركه. والحرام والحرم ضده ، وحريم البئر : ما حولها لأنَّها تحرم على غير حافرها. والحُرُم : الإحرام ، وأحرم الرّجل صار محرما ، وأحرم دخل في الشهر الحرام.

(شَعائِرَ) : جمع شعيرة ، وهي أعلام الحج وأعماله ، واشتقاقها من قولهم : شعر فلان بهذا الأمر إذا علم به. والمشاعر : المعالم. الإشعار :

٢١

الاعلام من جهة الجنس ، وقيل : الشعيرة والعلامة والآية واحدة ، وعلى ضوء هذا ، فإنَّها تشمل كل علامات دينه ودلائله ومظاهر آياته.

(الْهَدْيَ) : ما يهدى من الأنعام إلى الكعبة ليذبح هناك.

(الْقَلائِدَ) : جمع قلادة وهو ما يقلّد به الهدي. والتقليد في البدن أن يعلّق في عنقها شيء ليعلم أنَّها هدي ، والقلد السوار لأنَّها كالقلادة لليد.

(آمِّينَ) : قاصدين ، الأمّ : القصد ، يقال : أممت كذا إذا قصدته ويمّمت بمعناه. ومنه الإمام الَّذي يقتدى به ، والأمة : الدين لأنَّه يقصد ، والإمّة ـ بالكسر ـ النعمة لأنَّها تقصد.

(حَلَلْتُمْ) : حلَّ المحرم من إحرامه يحِلُّ حِلّا إذا خرج من حرمه. فأحلِّ هنا ، بمعنى خرج.

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) : الجرم : القطع والكسب. ومعنى لا يجرمنكم أي لا يكسبنكم ، وقيل : معناه لا يحملنكم ـ عن الكسائي ـ ، أو لا يبعثنكم.

(شَنَآنُ) : الشنئان : البغض ، يقال : شنئت الرّجل أشناه شنأ وشنأ وشَنَآنا ومشنأة أبغضته.

* * *

مناسبة النزول

جاء في مجمع البيان : «قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له الحطم ، وقال السدي : أقبل الحطم بن هند البكري حتّى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، وخلَّف خيله خارج المدينة ، فقال : إلام تدعو؟ وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والسلّم قال لأصحابه : يدخل عليكم اليوم رجل من بني ربيعة

٢٢

يتكلم بلسان شيطان ، فلما أجابه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أنظرني لعلّي أسلم ولي من أشاوره ، فخرج من عنده ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر ، فمرّ بسرح من سروح المدينة فساقه وانطلق به ...

ثمَّ أقبل من عام قابل حاجّا قد قلَّد هديا ، فأراد رسول الله أن يبعث إليه ، فنزلت هذه الآية (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) ، وهو قول عكرمة وابن جريج. وقال ابن زيد : نزلت يوم الفتح في ناس يؤمّون البيت من المشركين يهلّون بعمرة ، فقال المسلمون : يا رسول الله إنَّ هؤلاء مشركون مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم ، فأنزل الله تعالى الآية (١).

* * *

لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام

إن ما ورود في أسباب النزول يعني ضمنا ، أنَّ الآية واردة في مقام حض المسلمين على حفظ واحترام الشعائر والمواقف والأشخاص الّتي ترتبط ببعض العبادات أو الأوضاع العامة المتعلقة بالتخطيط للسلام في الحياة أو الأماكن المقدسة ، ولذا بدأ بشعائر الله الّتي اختلف الرأي في تطبيقها على عدّة مواطن ومعالم ومناسك ، باعتبار صدق هذا العنوان عليها ، كما جاء في الآية الكريمة : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [البقرة : ١٥٨] ، ولكن لا مانع من القول بأنَّها شاملة لكل حرمات الله ومعالم أمره ونهيه ، باعتبارها علامات على طاعة الله ، وربّما يومئ إلى ذلك في الآية المتقدمة في جعل الصفا والمروة من شعائر الله ، مما يعني أنَّ هناك غيرها من الأشياء الّتي يطلق عليها الشعائر. ومن الواضح أنَّ إطلاق كلمة الشعائر على الأمكنة والأشياء ليس بلحاظ ذاتها ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ١٩٢ ـ ١٩٣.

٢٣

بل باعتبار المعاني الّتي ترمز إليها والأعمال الّتي تؤدى فيها ، وبذلك يكون النهي عن استحلالها ، نهيا عن تجاوز الحدود والفرائض الّتي أوجبها الله فيها مما يدخل في طاعته والانقياد له. وأمّا النهي عن استحلال الشهر الحرام ، الّذي جعله الله عنوانا للشهور الأربعة : رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرم ، فلكي يكون للنّاس في حياتهم زمن سلام يسترحون فيه إلى أمنه وطمأنينته ، ويعلمون فيه على الدعوة إلى تقوية أواصر السلام والمحبة فيما بينهم من خلال ما يعيشون فيه من أجواء الخير والسعادة ... ولذلك أراد منهم ترك القتال فيه ، مهما كانت الدوافع والأوضاع ، إلَّا في الحالات الصعبة الّتي لا مجال فيها إلَّا للمواجهة القتالية الّتي تمثل خط الدفاع عن القضايا. أمّا الهدي ، فقد أراد الله للنّاس احترامه وعدم التعرض له بسلب ، أو باعتراض طريقه ومنع وصوله إلى محله ، وكذلك الأمر بالنسبة للقلائد.

وفي ختام ذلك نهى عن الاعتداء على الَّذين يؤمون البيت الحرام ويقصدونه ابتغاء رزق الله عن طريق التجارة ، أو الحصول على رضى الله وفق أساليبهم العباديّة الخاصة لله وإن كانت غير خالصة له.

(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) لأنَّ التحريم كان بسبب حالة الإحرام ، فجاز للإنسان بعد زوالها العودة إلى حالة الحل الّتي يمارس فيها حريته في كل ما أحلّه الله له في الأصل من صيد أو غيره. (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يحملنكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) أي بغض قوم (أَنْ صَدُّوكُمْ) منعوكم (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، فلم يمكنوكم من الدخول إليه أو البقاء فيه ، (أَنْ تَعْتَدُوا) بأن تبادلوهم المثل في وقت سلطتكم عليهم ، لأنَّ الله لا يريد لكم أن تكونوا معتدين مثلهم على حرية النّاس في الدخول إليه في حال كان منهم ذلك ، إذ إنَّ المعاملة بالمثل تمثل اعتداء على المعتدي ، وذلك لو كان الموضوع واردا في النطاق الشخصي ، أمّا إذا كان الموضوع قضية تتعلقّ بالخط التشريعي الَّذي لا يملك فيه الإنسان أمر الرد من خلالها ، فيكون ردّه اعتداء صارخا على حدود الله من

٢٤

خلال الاعتداء على حرمة بيته وعباده. وهذا من الأمور الّتي يمكن للمؤمنين أن يلتزموها كخطّ ممتدّ للحياة ، في أجواء الاعتداء الَّذي يتعرضون له ، فقد يكون من الواجب عليهم التفريق بين الموارد الشخصية الّتي يملكون فيها حقّ الرد على المعتدي ، وبين الموارد العامة الّتي وضع الله فيها للنّاس حدودا ، فإنَّه لا يجوز رد الاعتداء بمثله ، كأن يضرب إنسانا قريبا لإنسان ، فيرد بضرب قريب الضارب ، لأنَّ الله يقول : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤] إذ لا ذنب له ، فهو بريء ولا مبرّر لضربه لمجرد صلته بالمعتدي ، وهكذا يجب الوقوف عند حدود الله في حلاله وحرامه ، بعيدا عن الانفعالات العاطفى الّتي تدفع إلى انتهاك الحرمات الّتي لا يجيز الله للنّاس أن ينتهكوها ، حتّى إذا انتهك الآخرون حرمة مماثلة ، فلا يمثل ذلك حالة شخصية بل هي ملك لله ، وهذا ما يجعل للأسلوب الإسلامي في الممارسة شخصيته المستقلة الّتي لا تتأثر بردود الفعل ولا بأساليب الآخرين.

* * *

التعاون أساس تحقيق البر والتقوى في حياة النَّاس

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) وهذا هو الشعار الإسلامي للحياة والنّاس ، المرتكز على البر الذي يمثل الخير في العقيدة والعمل. وذلك في ما توحيه الآية الكريمة : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة : ١٧٧] فإنَّها اعتبرت القاعدة الفكرية العقيدية مظهرا من مظاهر البر ، لأنَّ الانحراف عن الخط الصحيح ، والابتعاد عن القاعدة الصلبة

٢٥

للفكر ، يؤديان إلى اهتزاز الحياة وتحولها عن أهدافها السليمة ، وينتهي بها ـ بالتالي ـ إلى الوقوع في قبضة الباطل والشرّ ، لأنَّ بداية الشر فكرةٌ شريرة ، كما أنَّ منطلق الباطل خاطرة فاسدة ، وبهذا كان الإيمان بالله واليوم الآخر والكتاب والنبيين منطلق خير للحياة بما يمثله من تخطيط للمشاريع الخيّرة المنفتحة على الله في دوافعها وخطواتها وآفاقها الواسعة ، ومن تشريع يستهدف بناء الشخصية الإسلامية الإنسانية على الصورة الّتي يحبها الله للإنسان ، ويوحي بالتالي بالاطمئنان الروحي والنفسي والثقة بالحاضر والمستقبل في حركة الحياة.

ولم يقف البر عند حدود الفكر ، بل ، انطلق في خط العمل في ما تحدّثت عنه الآية من إيتاء المال على حبه لكل من يحتاج إليه من الفئات المحرومة ، ومن إقامة الصلاة الّتي توصي بطهارة الروح والقلب والجسد ، وإيتاء الزكاة الّتي تمثل روحية العطاء في شخصية الإنسان ، والوفاء بالعهد بما يمثله من الالتزام بالكلمة والموقف ، والصبر في جميع الحالات الَّذي يرتكز على صلابة الإرادة وقوة العزيمة وثبات الموقف ، والصدق الَّذي ينطلق من قاعدة الإخلاص للحقيقة ، والتقوى الّتي تنفتح آفاقها على المراقبة الدقيقة لله ، وبذلك ينفتح البر على آفاق حياة الإنسان الداخلية والخارجية.

أمّا التقوى ، فإنَّها الروح الّتي تمد الإنسان بالقلق الروحي الَّذي يدفعه إلى متابعة العمل بدقة ، لئلا يخطئ هنا ، وينحرف هناك ، وينقلب على وجهه في نهاية المطاف.

وبذلك يتحول القلق إلى عنصر إيجابي يعطي للعمل إشراقة الروح والفكر ، بدلا من أن يسلمه إلى أجواء الضياع والشلل في الاتجاه السلبي. إنَّها الالتفاتة الإيمانية الّتي تقود الإنسان إلى الشعور بحضور الله في سره وعلانيته ، في يقظته ونومه ، حتّى ليشعر ـ معه ـ بالإحساس الحقيقي بوجوده معه ، كما لو كان يراه عيانا ، فيدفعه ذلك إلى الالتزام بكل صغيرة وكبيرة يعلم بأنَّ الله يحبها

٢٦

ويرضاها ، وإلى الابتعاد عن كل صغيرة وكبيرة يعلم بأنَّ الله يكرهها ويبغضها. فلا يفقده الله حيث يريد أن يجده ، ولا يجده حيث يريد أن يفقده ، ويتسامى هذا الإحساس في روحه حتّى لينفذ إلى دوافعه ونواياه ، فيحاول أن ينظفها ويطهرها ويدفع بها إلى حيث الطهر في النيّة والتسامي في الفكرة.

وقد طرح الإسلام التعاون كأساس لتحقيق البر والتقوى في حياة النّاس ، لأنَّ كثيرا من حالاتهما لا يمكن ، من حيث المبدأ ، تأديته بجهد فردي ، بل لا بدَّ من تضافر الجهود المختلفة لإنجازه ، لا سيما في المجالات الّتي يراد منها بلوغ نتائج كبيرة ، كما هو الحال مثلا في المجالات الفكرية من التفاصيل والتعقيدات والانطلاقات ، ممّا يمكن لبعض الأفكار أن يكتشف جانبا هنا ، ولبعضها الآخر أن يكتشف جانبا هناك ، ليتم البناء الفكري على قاعدة صلبة ثابتة ، وقد نحتاج أن نسجّل في هذا المجال أنَّ الإنسانية لم تبلغ رقيّها الفكري إلَّا بفضل الجهود المتنوعة الّتي تعاونت فيها البشرية في مختلف حقول المعرفة والعلوم ، متفاعلة فيما بينها أو متبادلة ، متوافقة أو مختلفة ، وفي ضوء ذلك ، لا بدَّ من أن تكون الروحية المهيمنة على ذلك هي روح الوصول إلى الحقيقة ، لا روح الصراعات على المصالح الخاصة ومراكز النفوذ والقوّة والهيمنة باسم الحقيقة.

أمّا في المجال الاجتماعي ، فثمة مشاريع كثيرة لحل مشكلة البؤس والفقر للفئات المحرومة ، تحتاج إلى تعاون عام ، وإلى جهود متنوعة لا تحتملها طاقة فرد ، مهما كان دوره. ولذلك ، فإنَّها لن تتكامل بدون التعاون والتعاضد والتكامل. وإذا ما انطلقنا إلى دائرة المبادئ والأخلاق ، فإنَّنا سنلتقي بحالات الضعف الّتي قد تسيطر على الإنسان فتفقده التزامه بالحق ، وانسجامه مع الصفات الطيبة ، فإذا تعاون معه إخوانه على المسيرة المشتركة ، أمكن له أن يأخذ قوة من قوتهم ، وروحا من روحهم ، ليستقيم له المبدأ ، وليتقوَّم لديه الخلق.

٢٧

وهذا ما أوحى به الله في قوله تعالى : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر : ٣] (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) [البلد : ١٧]. وهكذا نجد التقوى كإحساس في داخل النفس ، وكموقف في ساحة العمل ، تحتاج إلى مزيد من التعاون في خط التنمية الروحيّة الّتي تعمق الإحساس بالله في الأعماق ، ليلتقي هناك الخوف من الله بحبه ، فيتحول إلى انضباط على مستوى الفكر والموقف ، ولأنَّ الإنسان قد ينهار أمام الإغراء أو الخوف ، أو يضعف ويغيب في مجالات الضياع ، فهو يحتاج لمن يأخذ بيده فيشد عليها ، أو يمد له يده لينتشله من براثن السقوط أو يذكره فلا ينسى ، أو يرشده فلا يتيه أو يضيع ، أو يقيل من أمامه العثرات فلا يسقط أو يهوي. وبذلك يلتقي الجميع على خط الله متآلفين متراحمين متكافلين بالصبر والحق.

وخلاصة الفكرة ، أنَّ الإسلام يدعو إلى إقامة الحياة على التعاون ، الَّذي تتجمّع فيه الطاقات وتتنامى فيه المواقف ، وتتضافر فيه الجهود ، لتتكامل للقضايا الكبيرة عناصرها ، ولتتحقق للبرّ والتقوى مصداقيتهما في حياة النّاس ، وليبتعد الإنسان عن روح الفردية الّتي تغذي في داخله الشعور بالزهو الذاتي ، فتضخم له شخصيته على حساب القيم والمبادئ العامة ، وبذلك يتحول إلى شخص جديد يرى الحياة ساحة للجميع على أساس مسئوليتهم المشتركة الكبيرة بين يدي الله

* * *

القران وشروط التصرف

(وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) إذ يتمثّل الإثم بالعمل الَّذي يسير في غير خط الله ، انطلاقا من كل القيم الشريرة الفاسدة ، والنوازع النفسية الهابطة ،

٢٨

كالكذب والجزع والبخل والكبر والتجبر والتمرّد الروحي والفكري والعملي على الله سبحانه وتعالى ... كما يتمثل العدوان بالاعتداء على أموال النّاس وأعراضهم ونفوسهم ، وبالتنكر لكل القيم الروحية الّتي تحمي الإنسان من أخيه ، لذا ينهانا تعالى عن التعاون (عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) لأنَّهما يهدمان الحياة ويضعانها في أجواء الضياع والقلق والضلال ، ويحولانها إلى غابة لا تحكمها القوانين والشرائع ، بل تتحكم فيها القوّة الغاشمة العمياء ، ليكون الحق للأقوى بعيدا عن ميزان العدل الَّذي يجعل القوّة للحق ، والضعف للباطل. وعلى هذا الأساس ، ألغى الإسلام كل العصبيات العائلية والعشائرية والإقليمية والقومية والعنصرية الّتي أكدتها قيم الجاهلية ، لأنَّها لا تمثل التعاون على أساس الحق والعدل والتقوى ، وتعتبر الإطار الَّذي تتحرك فيه العصبية أساسا لشرعية كل عمل تعاوني في مصلحتها ، أيّا كان موقعه من قضية الحق والباطل ، كما عبّر عنه القول الجاهلي المأثور : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما». وفي ضوء هذا الرفض الإسلامي ، جاءت الكلمة المأثورة عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام في ما رواه الزهري عنه : «العصبية الّتي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرّجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين ، وليس من العصبية أن يحب الرّجل قومه ، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم» (١). فالله سبحانه وتعالى ، يريد للنَّاس ألَّا يتعاونوا على الإثم والعدوان ، بحيث يصرفون كل طاقاتهم في هذا الاتجاه ، واستلزاما لهذا الغرض يريد منهم أن يبتعدوا عن الجو المحموم الَّذي تخلقه مجتمعات الإثم والعدوان في نفوس الأفراد ، وذلك لإضعاف الدوافع الّتي تقود إلى الإثم ، ولكي تتلاشى النوازع الّتي تعمل على إثارة روح العدوان على الآخرين في النفس ، ولتتحول ، بالتالي ، الحياة إلى ساحة خير وإيمان وسلام ...

__________________

(١) البحار ، م : ٢٥ ، ج : ٧٠ ، ص : ٣٧٧ ، باب : ٢٣٣ ، رواية : ٦.

٢٩

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) وجاءت الدعوة إلى التقوى مقرونة بالتذكير بالصفة الإلهية الّتي تؤكد على أنَّه شديد العقاب في موضع النكال والنقمة ، لتخفّف من اندفاعات النفس الذّاتية في خط الانحراف ، فيواجه الإنسان الموقف بكثير من الشعور العميق بالنتائج المرعبة الّتي تنتظر السائرين على طريق الضلال بعيدا عن الله ، ويتعرف كيف يتفاداها بالطاعة والسير على خط العبودية المستقيم في أفكاره ومواقفه له تعالى ، وذلك هو سرّ الأسلوب القرآني الَّذي لا يريد للتشريع التحليلي والتحريمي أن يتعلق بالفراغ بعيدا عن حركة المسؤولية بل يعمل على إثارة المسؤولية الثقلية في وعي الجميع من خلال التلويح بالعقاب الشديد

* * *

٣٠

الآيتان

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤)

* * *

معاني المفردات

(الْمَيْتَةُ) الحيوان الَّذي مات حتف أنفه بحيث يكون موته بصورة طبيعية.

(أُهِلَ) : أصل الإهلال رفع الصوت بالشيء. ومنه استهلال الصبي وهو صياحه إذا سقط من بطن أمه ، ومنه إهلال المحرم بالحج والعمرة إذا لبّى به ،

٣١

وسمّي الهلال هلالا لأنَّه يرفع الصوت عنده.

والمراد هنا ، بما (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) : ما ذكر اسم غير الله عليه.

(وَالْمُنْخَنِقَةُ) : الميتة بطريقة الخنق عموما ، يقال : خنقه خنقا إذا ضغطة ومنه المخنقة للقلادة. والمنخنقة على وجه الخصوص هي الّتي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق وتموت.

(وَالْمَوْقُوذَةُ) : الوقذ شدة الضرب ، يقال : وقذتها أقذها وقذا وأوقذتها إيقاذا إذا أثخنتها ضربا. والموقوذة المضروبة بعنف حتّى الموت.

وقيل : إنَّها الّتي تموت عن مرض. ونقل القرطبي في تفسيره أنَّ أهل الجاهلية ـ كما نقل عن الضحاك ـ كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها(١) (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) : الردى : الهلاك. والتردّي : التهوّر. والمراد بها الّتي تموت نتيجة السقوط من مكان مرتفع.

(وَالنَّطِيحَةُ) : المنطوحة الّتي ماتت بفعل النطح من قبل حيوان آخر.

(وَما أَكَلَ السَّبُعُ) : الحيوان الَّذي يقتل لهجوم حيوان مفترس عليه.

(ما ذَكَّيْتُمْ) : التذكية : فري الأوداج والحلقوم لما كانت فيه حياة ولا يكون بحكم الميت. وذلك بشرائطه الشرعيّة.

(النُّصُبِ) : الحجارة الّتي كانوا يعبدونها ، واحدها نُصب ، وتفترق عن الأصنام أنَّها ليست لها أشكال وصور كصور الأصنام.

__________________

(١) القرطبي ، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري ، مختصر تفسير القرطبي ، اختصار ودراسة وتعليق محمد كريم راجح ، دار الكتاب العربي ، ١٤٠٧ ه‍ ـ ١٩٨٧ م ، ج : ٢ ، ص : ١٠.

٣٢

(تَسْتَقْسِمُوا) : طلب القسمة.

(بِالْأَزْلامِ) : جمع زلم وزلم وهو القدح.

(مَخْمَصَةٍ) : شدة ضمور البطن ، وهو مفعلة مثل المجبنة والمبخلة ، من خمص البطن وهو طيّه واضطماره من الجوع وشدة السغب دون أن يكون مخلوقا كذلك.

(مُتَجانِفٍ) : المتجانف المتمايل للإثم المنحرف إليه ، من جنف القوم إذا مالوا ، وكل أعوج أجنف.

(الطَّيِّباتُ) : الطيب هو الحلال ، وقيل هو المستلذّ.

(الْجَوارِحِ) : الكواسب من الطير والسباع ، الواحدة جارحة ، وسمّيت جوارح لأنَّها تكسب أربابها الطعام بصيدها.

(مُكَلِّبِينَ) : إكلاب الكلب : إغراؤه بالصيد ، ويحتمل أن يكون المراد به الرّجل الَّذي كثرت كلابه ، وقيل : هو الَّذي يعلم الكلاب أخذ الصيد.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ بسنده عن أبي رافع قال : «أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل الكلاب ، فقال النّاس : يا رسول الله ما أحلّ لنا من هذه الأمة الّتي أمرت بقتلها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وهي : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ). وذكر المفسرون شرح هذه القصة ، فقالوا : قال أبو رافع : جاء جبريل عليه‌السلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستأذن عليه فأذن له فلم يدخل ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : قد أذنّا لك يا رسول الله ،

٣٣

فقال : أجل يا رسول الله ، ولكنّا لا ندخل بيتا فيه صورة ، ولا كلب ، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو. قال أبو رافع : فأمرني أن لا أدع كلبا بالمدينة إلَّا قتلته حتّى بلغت العوالي فإذا امرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته ، فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فأمرني بقتله ، فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فلما أمر رسول الله بقتل الكلاب ، جاء ناس فقالوا : يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة الّتي تقتلها؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فلما أمر نزلت أذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اقتناء الكلاب الّتي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها ، وأمر بقتل الكلب الكلب والعقور وما يضر ويؤذي ودفع القتل عما سواهما وما لا ضرر فيه» (١).

ونلاحظ على هذه الرِّواية الارتباك في المضمون ، فإنَّ القضية المطروحة هي أنَّ جبريل لم يدخل بيت رسول الله لأنَّه لا يدخل بيتا فيه صورة أو كلب ، ولم تتحدث الرِّواية عن وجود كلب في داره ، بل تحدثت عن وجود جرو في بعض بيوتهم أي بيوت المسلمين ، مما لا علاقة له بعدم دخول جبريل إلى بيت النبي محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمَّ ما المناسبة بين عدم دخول جبريل إلى البيت وقتل كل كلاب المدينة من دون تفريق بين كلب الهراش وكلب الصيد وكلب الحراسة؟ وهل أنَّ وجود الكلاب من حيث المبدأ مرفوض عند الله بحيث كان وجودها مفسدة يقتضي الأمر بقتلها جميعا؟ إذا لماذا خلقها الله إذا كانت الشرّ كله؟ ثمَّ إنَّ الرِّواية لم تذكر أنَّ الله قد أوحى إليه بذلك مما قد يستفيد منه البعض بأنَّه رد فعل لعدم دخول جبريل عليه كما لو كانت القضيّة انتقاما منها ، وذلك لا يتناسب مع روحيّة النبي وإنسانيته ورفقه بالحيوان ، لا سيّما إذا لا حظنا صدور الأمر بقتل

__________________

(١) الواحدي ، أبو الحسن علي بن أحمد ، أسباب النزول ، دار الفكر ، ١٤١٤ ه‍ ـ ١٩٩٤ م ، ص : ١٠٦.

٣٤

الكلب الحارس لتلك المرأة الضعيفة الّتي تقول الرِّواية إنَّ أبا رافع رحمها ولم يرحمها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهناك ملاحظة في نهاية الرِّواية ، فإنَّ المسلمين لما ضجوا من قتل الكلاب ، سألوه ما ذا أحلّ لهم من الكلاب ، فلم يجبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتظارا لأمر ربِّه ، في الوقت الَّذي كانت مبادرته بقتلها ـ حسب الرِّواية ـ بدون انتظار لأمره حتّى نزلت الآية. ولو دققنا في سياق الآية في مفرداتها الّتي تدل على أنَّ السؤال عن تحديد ما أحلّ لهم بشكل مطلق ـ من كل شيء يتصل بحياتهم لا من الكلاب ـ لوجدنا عدم تناسب بين القضيّة وهذا السياق ، مما يجعلنا نستقرب كون القصة موضوعة جملة وتفصيلا ، لأنَّها لا تتناسب مع المقام القدسي للنبي محمَّد صلى الله وعليه وآله وسلم في روحه وإنسانيته وعدم انفعاله بأية حالة نفسيّة أو ردّ فعل ذاتي ، بل إنَّ انطلاقه من أمر الله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ـ ٤].

وروي عن سعيد بن جبير أنَّها نزلت في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين ... فقالا : «يا رسول الله إنّا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، فإنَّ كلاب آل درع وآل حورية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب ، فمنه ما يدرك ذكاته ومنه ما يقتل فلا يدرك ذكاته وقد حرّم الله الميتة ، فما ذا يحل لنا منها؟ فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) يعني الذبائح (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) يعني وصيد ما علمتم من الجوارح ، وهي الكواسب من الكلاب وسباع الطير» (١).

* * *

__________________

(١) م. س. ، ص : ١٠٦.

٣٥

التقنين بين الدين والمبادئ الوضعية

ربَّما كان من خصوصيات الأديان ومن بينها الإسلام بالنسبة إلى المبادئ الوضعية ، هذا الشمول في التشريع ، بحيث يتدخل في كل خصوصيات الإنسان ، فيحدد له تكاليفه حتّى في مأكولاته ومشروباته وملبوساته وزواجه .. فلم يجعل له الحريّة في ممارسة ذلك كله إلَّا في نطاق ما أحلّ الله ، فإذا تجاوز بعض ذلك ، كان عاصيا مستحقا للعقوبة في الآخرة وفي الدنيا في بعض الحالات. وربَّما كان الفرق بين فكرة التقنين في المبادئ الوضعيّة أو المبادئ الشرعيّة ، هي أنَّ القانون الوضعي ينطلق ـ غالبا ـ من دراسة الإنسان من حيث هو كائن اجتماعي ، يتبادل المسؤوليّة بينه وبين المجتمع ، فهو من جهة مسئول عن المجتمع ، ومن جهة أخرى المجتمع مسئول عنه ، ولا دخل له في حياته الخاصة إلَّا بقدر ارتباطها بسلامة المجتمع. من هنا ، فإنَّ أي تشريع يتناول الفرد كفرد يعتبر اعتداء على الحريّة الشخصيّة ، أمّا الإسلام ، فإنَّه ينطلق من فكرة أنَّ الإنسان مخلوق لله وعبد له ، فليس له الحرّية في أن يعمل أي عمل ، أو يتحرك في أي مشروع ، إلّا من خلال الرخصة الّتي يتلقاها من الله. وبذلك كان الله ـ من خلال شريعته ـ هو الَّذي ينظم له حياته الشخصية والاجتماعية ، فيحدد له كل ما يتصرف فيه من شؤونه الخاصة والعامة ، ولم يمنحه الحريّة في الإضرار بحياته سواء من ناحية الأكل والشرب ، أو غيرهما ، لأنَّه لا يملك نفسه ، بل هو ملك الله ، فليس له أن يتصرف في ملك الله إلَّا بإذن منه ، وهكذا يتدخل التشريع في حياة الإنسان الخاصة ، ليضغط على حريّته في نطاق مصلحته الحقيقية.

* * *

٣٦

طاعة الله يجب أن تكون عمياء

وعلى ضوء هذا ، نلتقي بهاتين الآيتين في نطاق التحليل والتحريم ، فقد حرّم الله على النّاس الميتة ، وهي ما مات حتف أنفه ، والمخنوقة ، والمتردية ، وبقايا الفريسة ، وما مات بسبب الانتطاح من حيوان آخر ، وحرّم إلى جانب ذلك ما ذبح على الأصنام تقرّبا لها ، وما ذكر عليه اسم غير الله ، والدم ولحم الخنزير. نحن لا نريد تبيان فلسفة هذا التشريع تفصيليّا ، إنَّما نكتفي بالإشارة إلى أنَّ هناك أبحاثا تتحدث عن الأضرار الّتي قد تصيب الإنسان في جسده من خلال أكل الميتة بجميع أنواعها ، كما أنَّ هناك أفكارا تتحدث عن الأثر الروحي المترتب على أكل اللحوم ، مما يجعل للذبح معنى روحيا عباديا ، لأنَّ الحيوان خلقه الله ، فليس لك أن تذبحه أو تأكله إلَّا على أساس اسم الله ، الأمر الَّذي قد يعطي إحساسك نبضا روحيا يوحي إليك بالطمأنينة والانفتاح على معنى العبودية لله في طعامك وشرابك ، فإذا ذبحته للأصنام أو ذكرت عليه اسم غير الله ، كنت بعيدا عن ذلك الجو كله ، وتحولت حياتك إلى حياة تعيش ماديّتها بعيدا عن الروح ، وهذا ما لا يريده الله لعباده ، لأنَّه يبتعد بهم عن الآفاق الروحيّة الّتي تشدهم إليه في ممارستهم لحياتهم العادية ، حيث يتحول الجانب الروحي لديهم إلى زاوية ضيّقة محدودة من زوايا حياتهم ، لتبقى الساحات الأخرى مسرحا للشيطان.

وهذا النوع من التفسيرات لا بأس به ، لأنَّ الله تعالى لم يمنعنا من محاولة فهم أسرار شريعته ، لكن شريطة أن يظل ذلك في نطاق التأمل الذاتي الّذي يحتفظ به الإنسان لنفسه ، كما يحتفظ بالكثير من الانطباعات والتأملات الشخصيّة من دون أن تترك تأثيرا على المسار العملي في ما يفعله أو يتركه. فإنَّ الإيمان يفرض على المؤمن من موقع إحساسه بالعبوديّة ، أن يسلم أمره لله

٣٧

تعالى ، وأن يعطيه إطاعة عمياء في كل أوامره ونواهيه ، سواء عرف سر التشريع في موارد الطاعة والمعصية أو لم يعرفها ، فإنَّ ذلك لا دخل له بالموضوع ، وبالتالي يجب أن يكون شعار المؤمن دائما : عليّ إطاعة الله من منطلقات الله لا سيما في ما لم أحط به علما من مصالح وأسرار.

وأحلّ الله للإنسان ، في ما أحلّه من حيوانات ، الحيوان الَّذي يذكيه الإنسان ، وذلك وفق شروط فقهية تحدد كيفية التذكية ، وهذا ما أشار إليه في قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي إلَّا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه من هذه الأشياء ، وقد جاء عن الإمامين الباقر والصادق عليه‌السلام : «إن أدنى ما يدرك به الذكاة أن تدركه يتحرك أذنه أو ذنبه أو تطرف عينه» (١) ، وخلاصته أن تكون به حياة بحسب العلامات الدالة عليه.

واختلف المفسرون في الاستثناء ، هل يرجع إلى ما تقدم ذكره من المحرمات غير ما لا يقبل الذكاة كالميتة والدم ولحم الخنزير ، أو يرجع إلى فقرة (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) والظاهر رجوعه إلى الجميع ، وقد روي ذلك عن علي عليه‌السلام وابن عباس وقيل ـ كما في مجمع البيان ـ «هو استثناء من التحريم لا من المحرمات ، لأنَّ الميتة لا ذكاة لها ولا الخنزير ، فمعناه : حرمت عليكم سائر ما ذكر إلا ما ذكيتم مما أحلّه الله لكم بالتذكية فإنَّه حلال لكم ، عن مالك وجماعة من أهل المدينة واختاره الجبائي» (٢). إلَّا أنَّ هذا القول يناقش ، حيث يثأر سؤال هنا حول السر في تعداد الأنواع التالية في قوله تعالى : (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ) مع دخولها في الميتة الّتي حرّمت في صدر الآية وإن اختلفت أسباب الموت من خنق ، أو تردّ أو نطح ، أو إهلال لغير الله به ، أو ما أكل السبع.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ١٩٨.

(٢) م. ن. ، ج : ٣ ، ص : ١٩٨.

٣٨

وأجيب عنه ـ كما في مجمع البيان ـ «إنَّ الفائدة في ذلك أنَّهم كانوا لا يعدون الميتة إلَّا ما مات حتف أنفه من دون شيء من هذه الأسباب ، فأعلمهم الله سبحانه أنَّ حكم الجميع واحد ، وأنَّ وجه الاستباحة هو التذكية المشروعة فقط ، قال السدي : إنَّ ناسا من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك ولا يعدُّونه ميتا ، إنَّما يعدُّون الميت الَّذي يموت من الوجع»(١).

وعلى ضوء ذلك ، فإنَّ الميتة في الآية لا تشمل إلَّا ما مات حتف أنفه ، أمَّا الأنواع المذكورة الأخرى ، بالإضافة إلى ما ذبح بطريقة غير شرعيّة ، فلا يستفاد حكمها من الميتة ، بل يستفاد من التنصيص عليها وما يستفاد من حصر الحل في التذكية.

ولذلك لا يمكن إلحاق الميتة مطلقا بهذه العناوين من النجاسة أو حرمة البيع أو نحو ذلك ، مما جعل الميتة موضوعا له ، إلَّا بدليل خاص ، لأنَّ المفهوم القرآني اللغوي لا يشملها ، والله العالم.

* * *

هل ذبح الحيوان فعل غير إنساني؟

وقد يثأر اعتراض إنسانيٌّ على مسألة تحليل ذبح الحيوانات وأكل لحمها بأنَّه نوعٌ من أنواع التعذيب الَّذي ينافي الرحمة ويُصادر حياة مخلوق حيّ ، الأمر الَّذي قد لا نرى فرقا في قبحه الأخلاقي بينه وبين قتل الإنسان وأكل لحمه ، ولهذا ذهب البعض إلى تحريم أكل اللحوم بلحاظ استلزامه قتل

__________________

(١) م. س. ، ج : ٣ ، ص : ١٩٨.

٣٩

الحيوان ، ورأوا في ذلك نوعا من الوحشيّة الإنسانيّة الّتي لا تختلف في طبيعتها وفي شكلها عن وحشيّة السباع.

والجواب عن ذلك ، أنَّ مسألة الحياة لا تعالج بهذه الطريقة وأنَّ الرحمة ليست حالة شعورية تنطلق من الإحساس الساذج. فالحياة هبة الله للمخلوق الحّي ، وقد أراد لها الاستمرار وفق شروط حيويّة خاصة قوامها الاعتماد المتبادل فيما بينها في عمليّة التغذي ، كما نلاحظ ذلك في عالم الحيوان ـ غير النباتي ـ الَّذي لا مجال لبقاء حياته واستمرار نظامه الوجودي إلَّا بأن يأكل بعضه بعضا بمختلف الوسائل المتنوّعة ، الأمر الَّذي يوحي بأنَّ نظام الخلق للحيوانات المختلفة في قوتها وضعفها في أصل وجودها قائمٌ على ذلك ، بحيث كانت سنَّة الكون منطلقة من المصلحة العميقة في حركة الحياة.

وليس الإنسان بدعا من عالم الحيوان ، في نظام التغذية ، في حاجته الوجوديّة إلى أكل الحيوان ـ في نطاق خاص ـ فإنَّ استمرار حياته ـ في عناصرها القوية ـ يتوقف على ذلك.

وفي ضوء ذلك ، نجد أنَّ مسألة مصادرة الحياة ليست شرّا مطلقا في ذاتها ، بل هي ضرورةٌ لاستمرار حياة أخرى يخضع لها النظام الكوني ، بحيث لو لا ذلك لانهارت الحياة نفسها وفقدت القدرة على الاستمرار ، مما يجعلها داخلةٌ في عمق تنظيم الحياة نفسها تنوعا وتكاملا وترابطا متبادلا.

وهكذا نلتقي بمسألة التعذيب ، الحاصل من الذبح ، فإنَّه تماما كالتعذيب الحاصل من الافتراس في تغذية الحيوان من الحيوان ، ولا بُدَّ من تجاوز قبحه بالتركيز على أنَّ الله جعله من شؤون الفطرة في أصل الخلق مما تتقدم فيه المصلحة في جانبها الإيجابي على المفسدة في جانبها السلبي. وبذلك نعرف أنَّ الرحمة أمرٌ نسبيٌّ إذا ما قيست إلى المصلحة المتوخاة ، بالإضافة إلى الجانب الشعوري ، فقد يكون الشيء رحمة من جانب علاقته بالنظام العام وإن

٤٠