تفسير من وحي القرآن - ج ٨

السيد محمد حسين فضل الله

ويبقى للمتأمل في الآية المجال الّذي يمكّنه من اكتشاف اتجاه جديد في فهم المعنى ، لأنّ هناك أكثر من وجه تحتمله هذه الآية لما يحيط الجانب التعبيري فيها من غموض ، مما لم يوضح الله لنا كل أسراره. والله العالم.

* * *

٣٤١

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦) جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) (٩٩)

* * *

معاني المفردات

(لَيَبْلُوَنَّكُمُ) : البلاء : الاختبار والامتحان ، وأصله إظهار باطن الحال ،

٣٤٢

ومنه البلاء بالنعمة لأنّه يظهر به باطن حال المنعم عليه في الشكر أو الكفر ، والبلى الخلوقة لظهور تقادم العهد فيه.

(بِالْغَيْبِ) : الغيب : ما غاب عن الحواس ومنه الغيبة وهو الذكر بظهر الغيب فيه.

(حُرُمٌ) : جمع حرام للذكر والأنثى ، وتقول : رجل حرام ومحرم بمعنى واحد ، وحلال ومحلّ بمعنى واحد كذلك ، وأحرم الرّجل دخل في الشهر الحرام أو دخل في الحرم أو أهلّ بالحج ، وأصل الباب : المنع ، وسميت النساء حرمة لأنّها تمنع ، والمحروم الممنوع الرزق.

(مِثْلُ) : المثل والمثل والشّبه والشّبه واحد.

(النَّعَمِ) : هي الإبل والبقر والغنم ، وإن انفردت الإبل قيل لها : نعم ، وإن انفردت البقر والغنم لم تسمّ نعما. ذكره الزجاج (١).

(عَدْلٍ) : قال الفراء : العدل ـ بفتح العين ـ ما عادل الشيء من غير جنسه ، والعدل ـ بالكسر ـ المثل تقول : عندي عدل غلامك أو شاتك إذا كانت شاة تعدل شاة أو غلام يعدل غلاما ، فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت فقلت عدل. وقال البصريون: العدل والعدل في معنى المثل كان من الجنس أو غير الجنس.

(وَبالَ) : الوبال : ثقل الشيء في المكروه ، ومنه قولهم : طعام وبيل وماء وبيل إذا كانا ثقلين غير ناميين في المال ، ومنه قوله تعالى : (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) [المزمل : ١٦] أي ثقيلا شديدا.

(الْبَحْرِ) : عنى بالبحر جميع المياه ، والعرب تسمي النهر بحرا ، ومنه قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الروم : ٤١] والأغلب على البحر أن

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ٢ ، ص : ٣٠٤.

٣٤٣

يكون ماؤه ملحا ، ولكن إذا أطلق دخل فيه الأنهار.

(وَلِلسَّيَّارَةِ) : جماعة المسافرين.

(الْكَعْبَةِ) : قال الراغب في مفرداته : الكعبة : كل بيت على هيئته في التربيع وبها سميت الكعبة ، قال تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) (١).

قال في مجمع البيان : وإنّما قيل للمربع كعبة لنتوء (٢) زواياه الأربع ... ومنه كعب الإنسان لنتوئه ، وكعبت المرأة إذا نتأ ثديها (٣).

(الْبَيْتَ الْحَرامَ) : سمّي بذلك لأنّ الله حرّم أن يصاد صيده ، وأن يعضد شجره ، وأن يختلى خلاه ، ولأنّه عظّم حرمته.

(قِياماً لِلنَّاسِ) : قال الراغب : أي قواما لهم يقوم به معاشهم ومعادهم. قال الأصم : قائما لا ينسخ (٤).

(وَالْهَدْيَ) : مختص بما يهدى الى البيت ، قال الأخفش : والواحدة هدية قال : ويقال للأنثى هدي ، كأنّه مصدر وصف به.

(وَالْقَلائِدَ) : جمع قلادة ، وهي المفتولة الّتي تجعل في العنق من خيط وفضة وغيرهما ، وبها شبه كل ما يتطوق وكل ما يحيط الشيء ، يقال : تقلد سيفه تشبيها بالقلادة. وقيل : إنّ المراد بالقلائد ، ذوات القلائد ، لأنّهم ـ أي العرب ـ كانوا يقلدون الهدي بما يدل عليه.

وقال في مجمع البيان : كان أهل الجاهليّة لا يغزون في الأشهر الحرم

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٤٥٠.

(٢) نتأ نتوءا الشيء : خرج عن موضعه من غير أن ينفصل ، ارتفع وانتفخ.

(٣) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٣٠٨.

(٤) مفردات الراغب ، ص : ٤٣٢.

٣٤٤

وكانوا ينصلون فيها الأسنّة ويتفرغ النّاس فيها إلى معايشهم وكان الرّجل يقلّد بغيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف (١).

(الْبَلاغُ) : وصول المعنى إلى غيره. وهو ها هنا وصول الإنذار إلى نفوس المكلفين. وأصل البلاغ : البلوغ ، ومنه البلاغة : وهي إيصال المعنى إلى النفس في أحسن صورة من اللفظ. والبلاغ : الكفاية ، لأنّه يبلغ مقدار الحاجة.

* * *

مناسبة النزول

جاء في الدر المنثور : عن مقاتل بن حيان ، قال : أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبيّة ، فكانت الوحش والطير والصيد يغشاهم في رحالهم ، لم يروا مثله قط في ما خلا ، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) (٢).

وجاء عن الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي في التهذيب : عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن الحلبي ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) قال : حشر عليهم الصيد من كل وجه حتّى دنا منهم ليبلونهم به» (٣).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٣٠٩.

(٢) الدر المنثور ، ج : ٣ ، ص : ١٨٥.

(٣) التهذيب ، ج : ٥ ، باب : ١٦ ، ص : ٣٠٠ ، رواية : ٢.

٣٤٥

تركيز الشعور بالغيب وروح السلام

في هذه الآيات حديث عن صيد البر والبحر في حال الإحرام ، في ما يتعلّق بأحكامه الشرعيّة ، وإيحاء بأنّ التحريم والتحليل في الإسلام ، يعتبران نوعا من أنواع الاختبار والامتحان للمسلمين ، بالإضافة إلى تعلّقهما بالمصالح والمفاسد ، وذلك لأنّ الإيمان حالة فكريّة ووجدانيّة في داخل النفس ، يتحرّك فيها الإحساس بالغيب ، في ما يوحيه الإيمان بالله من أجواء غيبيّة لا تتصل بالحس بشكل مباشر ، ولذا ، فهو قد يضعف ـ في بعض الحالات ـ ليعود مجرّد خاطرة من خواطر الفكر ، وعاطفة من عواطف الشعور ، فلا يلتزم بطاعة ، ولا يمتنع عن معصية ، وقد يشتد فيتجسد التزاما بأوامر الله ونواهيه. لذا احتضن التشريع الإلهي في طياته وجها من وجوه البلاء والاختبار ، ليميّز الله الإيمان المائع من الإيمان المستقر. وهذا ما أراد الله بيانه في هذه الآيات ، فقد فرض على الناس في حال الإحرام ، وفي داخل الحرم ، ترك الصيد البري ، مما تناله أيديهم من فراخ الطير وبيضه ، وصغار الصيد ، ومما تناله رماحهم من كبارها ما كان من الوحوش ونحوه ، لأنّ الله يريد لهم ، من جهة ، أن يعيشوا حالة السلام مع كل شيء حيّ حولهم ، وكوسيلة من وسائل تأكيد الإرادة الفاعلة القويّة في ما يأمر به الله تعالى وينهاه من جهة أخرى ، مما يتصل بأمور حياتهم في مطلق الأحوال ، لا سيّما في حال الإحرام بوصفه مظهرا بارزا من مظاهر الالتزام الاختياري للإنسان بأحكام الله تعالى ، بحيث يشكل منطلقا ، من جملة المنطلقات التشريعيّة الأخرى ، كالصوم والصّلاة .. إلخ ، للتقيد التام بهذه الأحكام في كل الأوقات والأحوال والأمكنة.

فيقف الإنسان مع التزامه الداخلي بين يدي الله بصفته الإيمانيّة الّتي تُمثّل الإيمان بالغيب ، والخشية بالغيب ، والإحساس العميق بحركة الغيب في وجدانه الخفي ، كما أراد الله للبلد الحرام أن يكون منطقة سلام للحيوان

٣٤٦

وللإنسان ، فلا يعرض لهما أحد بسوء من موقع حرمة البيت والإنسان فيه. وقد ذكر في التفاسير أنّ هناك أكثر من رواية صحيحة ، تؤكد على أنّ الوحوش والطير كانت تنتقل قريبا من المسلمين في حالة عمرة الحديبية فلا يعرضون لها بسوء ، التزاما منهم بحرمة إحرامهم ، وبعظمة البلد الحرام والبيت الحرام ، واستمر هذا التشريع في حياة المسلمين ، فلا مجال بعد ذلك للاعتداء في هذا النطاق ، فقد حرّمه الله تحت طائلة العذاب الأليم في الآخرة ، والخسارة في الدنيا ، في ما تمثّله الكفّارة من عقوبة رادعة في مستوى الجانب المالي من حياة الإنسان. وقد فصّلها الله في هذه الآيات ، على سبيل التخيير بين أن يقدم مثل ما قتله من الأنعام هديا يهدى به بالغ الكعبة لينحر بها ، أو يذبح في الحرم بمكة ، أو بمنى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ليحدّداه تحديدا دقيقا (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) في نطاق التشريع.

ولكنّ هذه الأحاديث معارضة بأحاديث أخرى تتحدث عن تكرر الكفّارة حسب تكرر القتل ، وهو الأشبه بما جرت على طريقة الشرع في تكرار الجزاء عند تكرار الجريمة ، والأمر في ذلك موكول إلى أبحاث الفقه ، وجاءت خاتمة الآية : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) لتثير في نفوس المؤمنين الشعور العميق بالهول العظيم من انتقام الله من المتمرّدين ، وذلك من أجل أن يذوق عاقبة أمره فيرتدع عن التعدي على حدود الله ، وذلك هو التشريع الجديد الّذي يحاسب النّاس على أساسه في ما يستقبلونه من التعدي على حرمات الحرم ، أو الإحرام. أمّا الأفعال المماثلة الّتي مارسها النّاس فيها قبل هذا التشريع ، فليس لله على النّاس فيها شيء ، إذ لم يسبق فيها تحريم من الله ليؤاخذهم به. وليس للتشريع في الإسلام مفعول رجعيّ ، لأنّ الله لا يعاقب النّاس في الدنيا والآخرة إلّا في ما أقام عليه الحجّة بالأمر والنهي. والظاهر أنّ التعبير بكلمة العفو في قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَمَّا

٣٤٧

سَلَفَ) لا يراد بها العفو عن الذنب ، بل يراد بها عدم العقوبة ، وربّما كانت مناسبة التعبير مرتكزة على أساس ما في هذا الفعل من مفسدة وحزازة لما يوحي به من عدم احترام حرمة الحرم ، مما يجعله شبيها بالذنب في طبيعته ، وإن لم يكن ذنبا في حقيقته ، وأمّا كلمة (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) فيبدو أنّها تأكيد لحكم وجوب الكفّارة باعتبارها لونا من ألوان الانتقام العملي في الدنيا ، بالإضافة إلى عذاب الله ، وذلك من أجل المقابلة بين حالة العفو وحالة الانتقام في تلخيص سريع للموضوع. ولكنّ هناك بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، تعتبر الكفّارة جزاء في قتل الصيد للمرة الأولى ، وترى أنّ المرة الثانية لا تستتبع كفّارة ، بل الانتقام من الله الّذي يوحي بجزاء صعب كبير من خلال الإضمار الّذي يحمله التعبير ، من جهة أخرى ، ولعلّ استيحاء كلمة (وَمَنْ عادَ) يعطي هذا المعنى ، لأنّ الظاهر منها التكرار في أعلى حدوده من خلال الاستغراق في التفكير بهاتين الصفتين من صفاته (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) لأنّها توحي بأنّ قوته لا تقف عند حد ، فإنّه لا يمكن لأيّة قوّة أن تنتقص منها بشيء ، لأنّها فوق كل شيء ، وبذلك تكون صورة الانتقام قريبة من صورة العزّة.

وتعود الآية الكريمة لتتحدث عن الموضوع في سياق التحديد لما يحرم من الصيد وما يحل منه ، (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) فقد حرّم الله صيد البر للمحرمين ، أمّا صيد البحر وطعامه ، فقد أحله الله متاعا للمؤمنين المحرمين وللقافلة ، ولعلّ ذلك جاء لأنّ الله يريد للإحرام أن يكون حالة من حالات السلام في ما يعيش فيه الإنسان من الأرض ليكون ذلك سبيلا من سبل تركيز روح السلام في نفس المؤمن فيمن حوله وفي ما حوله من مخلوقات الله. أمّا البحر فهو منطقة استثنائيّة ، لا يتمثّل فيها العدوان في الصيد ، أو لا تتمثّل فيها صورة السلام والحرب ، كما تتمثّل في مجتمع الأرض. والله العالم.

٣٤٨

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فكانت تقوى الله هي الإيحاء الروحي الّذي أراد الله إثارته في أعماق الإنسان في إثارة الشعور بالحشر أمامه في يوم القيامة ، ليكون ذلك أساسا للانضباط أمام حدود الله في حلاله وحرامه.

* * *

الكعبة ـ البيت الحرام مركز سلام قياما لمعاش النّاس

وجاءت الآية الكريمة (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) لتؤكد أنّ الله جعل للنّاس الكعبة البيت الحرام ، قياما للنّاس في أقطار الأرض ، وهي ملتقى حجّهم وعمرتهم ، وهي منطقة السلام الّتي أراد الله لهم أن يعيشوا فيها الأمن والطمأنينة ، فلا يعتدي أحد على أحد ، ولا يخاف شخص من آخر ، كما جعل الله الحرمة للشهر الحرام ليكون زمن سلام يحفظ للنّاس حياتهم واستقرارهم في أجواء الأمن والطمأنينة. أمّا الهدي والقلائد في قوله : (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) ، فهما من توابع حرمة البيت.

وقد ذكر العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان ملاحظة جيّدة حول الغاية من تقرير هذه الحقيقة في هذه الآية ، فقال : «وكان المراد من ذكر هذه الحقيقة عقيب الآيات الناهية عن الصيد ، هو دفع ما يتوهم أنّ هذه أحكام عديمة أو قليلة الجدوى ، فأى فائدة لتحريم الصيد في مكان من الأمكنة ، أو زمان من الأزمنة؟ وأي جدوى في سوق الهدي ونحو ذلك؟ وهل هذه الأحكام إلّا مشاكلة لما يوجد من النواميس الخرافيّة بين الأمم الجاهلة الهمجيّة؟ فأجيب عن ذلك بأنّ اعتبار البيت الحرام والشهر الحرام وما يتبعهما من الحكم ، مبنيّ

٣٤٩

على حقيقة علميّة وأساس جديّ ، وهو أنّها قيام يقوم به صلب حياتهم» (١).

وكانت الفقرة الأخيرة في الآية : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) للإيحاء بأنّ الله يعلم ما يصلح من أمور النّاس وما يفسدها من خلال علمه المطلق بما في السموات والأرض وبكلّ شيء في الكون ، فهو يشرع للحياة وللنّاس من خلال علمه بكل حاجاتها وحاجاتهم ، مما يؤدي إلى الإذعان لسلامة الأحكام الّتي يشرّعها الله تعالى ، والاطمئنان إلى الحلول الّتي يقدمها للمشاكل الإنسانيّة في شريعته.

وكانت خاتمة هذه الآيات تأكيدا لحالة الانضباط أمام حدود الله ، في تعميق الشعور بأن (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن يتمرّد عليه ، (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن يطيعه أو ينيب إليه. فذلك هو الخط الّذي ينبغي للإنسان أن يسير عليه في حياته ، في موقفه من ربّه ، من موقع إرادته واختياره في ما يتحمله من مسئوليّة نفسه ومصيره ، و (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ).

أمّا الرسول ، فليست مهمته إلّا البلاغ الواضح الّذي لا يترك هناك شبهة ولا مشكلة في المعرفة لأيّ إنسان ، ليقيم الحجّة على النّاس من قبل الله ، ليتحمل كل إنسان مسئوليته.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٦ ، ص : ١٤٢.

٣٥٠

الآية

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٠٠)

* * *

معاني المفردات

(لا يَسْتَوِي) : الاستواء على أربعة أقسام : استواء في المقدار ، واستواء في المكان ، واستواء في الإنفاق ، والاستواء بمعنى الاستيلاء راجع إلى الاستواء في المكان لأنّه تمكّن واقتدار.

(الْخَبِيثُ) : أصله : الرديء ، مأخوذ من خبث الحديد وهو رديئه بعد ما يخلص من النّار جيّده ، ففي الحديد امتزاج جيّد برديء.

(أَعْجَبَكَ) : الإعجاب سرور بما يتعجّب منه ، والعجب مذموم لأنّه كبر يدخل على النفس بحال يتعجّب منها.

* * *

٣٥١

القيمة في الإسلام للنوع لا للكم

في القرآن الكريم أكثر من آية تتناول طرق التربية الإنسانيّة وفق المنهج الّذي تريد أن تركزه في حياة الإنسان كقاعدة عامّة للحركة. وقد كان من المنهج الّذي أراده القرآن ، أنّ على الإنسان أن يبتعد في ميزانه للأشياء في دائرة التقويم ، عن النظر إلى جانب الكمّ ، بل يجب أن يقترب من النظرة إلى الأشياء بمنظار «الكيف» و«النوع» ، لأنّ الكثرة لا تعبّر عن طبيعة الشيء في ذاته ، بل هي تعبير عن حجمه. ومن الطبيعي أنّ القيمة تنطلق من الخصائص الذاتيّة للشيء لا من الحجم الخاص به ، لأنّ تلك الخصائص هي الّتي تميّز عمق القوّة فيه وامتدادها ، بينما يمثّل الكمّ حجم المساحة. ولهذا أكد القرآن على مواجهة الكثرة في واقع الحياة في عمليّة ملاحقة للنماذج الّتي تمثّلها ، فانتهى إلى نتيجة حاسمة تقرر أنّ (أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الأعراف : ١٨٧] ، و (لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٠٩] ، و (لا يَفْقَهُونَ) [الأنفال : ٦٥] ، وأنّ القلة هي الّتي تمثّل الإيمان والوعي والعلم والتقوى ، وأنّ القلة قد تغلب الكثرة إذا كانت الخصائص الذاتيّة للقلّة أقوى من الحجم العددي للكثرة ، وذلك من أجل تفريغ الداخل من السقوط أمام المظهر الفخم للكثرة.

وقد جاءت هذه الآية لتثير أمام الإنسان بعضا من مفردات هذا المنهج ، فهناك مفهوم الخبيث ومفهوم الطيب ، في ما يتمثّلان به في حركة الواقع في الأشخاص والأشياء والعلاقات. فهناك إنسان خبيث في نواياه السيئة ، وفي كلماته الحاقدة وأفعاله الشريرة ، وهناك إنسان طيّب في دوافعه وأفكاره الحسنة ، وفي أقو اله النافعة ، وفي ممارساته الخيرة. وهناك الطعام الطيب والخبيث في مذاقه وفي تأثيراته ، وهناك الأرض الطيبة والخبيثة في ما ينبت فيها وما يتمثّل فيها من حالة الخصب والجدب. وربّما يتنامى الخبيث ويتكاثر

٣٥٢

ويسيطر على الساحة بفعل الظروف الموضوعيّة المحيطة به ، وربّما يقل الطيبّ ويضعف بفعل التحديات الّتي تواجهه والمؤثرات السلبيّة الّتي تفعل السيئ ، فتؤخر نموه ، وتضعف حركته. ولكنّ ذلك لن يجعل من الخبيث قيمة إنسانيّة أو حياتيّة أو طبيعيّة ، ولن يغيّر شيئا مما يحمله الطيّب من قيمة في ميزان الله والحياة ، لأنّ الله ينظر إلى الأشخاص والأشياء من خلال ما فيها من عوامل الخير ومؤثراته ، فيرفض ما كان فيها بعيدا عن الخير ، ويرضى عمّا كان قريبا منه. وتبقى للطيّب في نطاق ذلك قيمته ومكانته ، وتظل للخبيث وضاعته وحقارته ، وهكذا في ما تتمثّله الحياة لنفسها من خير وشر.

* * *

كل حلال طيب وكل حرام خبيث

وإذا كانت القضيّة بهذه المنزلة من الوضوح في ميزان النظرة الإلهيّة إلى الواقع ، فلا بدّ من أن يتحرّك الإنسان من خلالها في علاقته بالأشخاص والأشياء ، فيتخلّص من حالة الانبهار الفكري والشعوري الّتي تسقطه أمام الجانب الكميّ في الحياة ، ليرتبط بالجانب النوعي منه ، ويبادر إلى تأكيد حالة الانتماء للأشخاص والمؤسسات انطلاقا مما تختزنه في داخلها من عناصر الطيبة والخبث ، بعيدا عن طبيعة الحجم ، فلا ينتمي إلّا إلى الطيبين من النّاس ، ولا يتعاون إلّا مع الطيّب من المؤسسات ، في ما يعنيه الطيّب من معنى الفكر والروح والشعور والعمل. وينطلق في حركة الحياة في مجالاته الخاصة ، ليأكل ما كان طيبا ، ويرفض ما كان خبيثا ، ويتكلم الكلمة الطيبة ويعيش لها ، ويرفض الكلمة الخبيثة ويحاربها ، ويستمر في ذلك كلّه ليلتقي الطيب والخبيث مع الحلال والحرام ، لأنّهما يمثّلان ذلك في عمق المعنى وامتداده.

٣٥٣

وهذا ما نستفيده من قوله تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧] فكل حلال طيب وكل حرام خبيث.

* * *

خط التقوى خط الحلال الطيب

وفي ضوء ذلك ، يتمثّل خط التقوى في أجواء الخبيث والطيب ، ليكون السير في نطاق الأشياء الطيبة ، والعلاقات الطيبة ، والأشخاص الطيبين ، انسجاما مع خط التقوى ، كما يكون السير في الخبيث ، من ذلك كلّه ، ابتعادا عن الخط التقي في الحياة. وإذا كانت التقوى تلتقي بخط الخبيث والطيب في الموقف ، فإنّها تلتقي بخط العقل في حركته في حياة الإنسان ، في ما يدعوه إليه من خير وصلاح ، وفي ما يبعده عنه من شر وفساد ، ولذلك جاءت هذه الآية لتؤكد هذا الارتباط بين التقوى والعقل ، (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) وذلك كوسيلة وحيدة للفلاح في الدنيا والآخرة ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وعلى هذا الأساس ، تنطلق الآية لتخرج المسألة من نطاق التقويم في المجال الفكري ، لتكون مجرّد ترف يلهو به الفكر ، بما يلهو به ، من معادلات تجريديّة بعيدة عن الواقع ، فتدخلها في المجال العملي الّذي يحيط بجميع الجوانب الحيّة في حياة الإنسان العامّة والخاصة ، ليلتقي بكل آفاقه ومواقع فكره وحركته ، بالمستوى الّذي يمثّل الطابع العام لشخصيّته في حقيقة الانتماء ونوعيّة العلاقات ، وحركيّة الممارسة.

* * *

٣٥٤

الديمقراطية في ميزان النوع والكم

وربّما نجد الاتجاه السائد في العصر الحاضر في العالم ، اعتبار الأكثريّة ـ في مستوى الكميّة بعيدا عن النوعيّة ـ الأساس في الشرعيّة العمليّة الّتي تمثّل عنوان الحسن والطيب في جانب الأكثريّة ، والقبيح والخبيث في جانب الأقليّة ، وهذا ما يتمثّل في اللعبة الديمقراطيّة ، فهل يعني هذا أنّ التفكير الإنساني يعتبر القيمة الإيجابيّة في دائرة الأكثريّة كما يعتبر القيمة السلبيّة في دائرة الأقليّة دائما؟

إنّنا نلاحظ أنّ المسألة تتحرك في اللعبة الديمقراطية من موقع حركة النظام في الواقع العملي للنّاس ، باعتبار أنّ البديل عن ذلك حكم الفرد الّذي يمثّل الاستبداد ، فالمسألة نسبيّة في حساب القيمة النظاميّة ، ولذلك قيل : إنّ الديمقراطيّة أقل الأنظمة سوءا بمقارنتها بالأنظمة الاستبداديّة ، لا أكثرها حسنا ، فهي ـ لديهم ـ النظام الّذي يمكن أن يحقق التوازن بأقل قدر ممكن في حساب الحريات بحيث تكون المصلحة في طبيعة النظام لا في مضمونه.

ولذلك نرى الأصوات ترتفع بقوّة بانتقاد الأداء الشعبي الأكثري إذا انحرف عن المصالح الحيويّة للنّاس ، ويرون أنّ الأكثريّة قد أخطأت في النتائج ، أو أنها كانت بعيدة عن وعي المسؤوليّة. ولذلك يعملون على التغيير من خلال لعبة ديمقراطيّة أخرى لاضطرارهم إلى البقاء في دائرة النظام الديمقراطي لتفادي النظام الاستبدادي.

إنّ معنى ذلك أنّ الأكثرية لا تمثّل ـ حتى عند المؤمنين بها كنظام ـ القيمة الإيجابية في مضمونها الفكري والأخلاقي والقانوني ، لأنّ قضيّة الخبيث والطيب ، والحق والباطل ، تتمثّل في العناصر الكامنة في ذات الأشياء في العمق الداخلي لا في موقف النّاس منها ، أو التصورات الذهنيّة الخاضعة في

٣٥٥

كثير من الحالات إلى المؤثرات الخاطئة البعيدة عن المصلحة الحقيقيّة للنّاس.

وفي ضوء ذلك ، يبقى الخط القرآني في مضمون القيمة الإيجابيّة والسلبيّة هو الّذي يحكم الإنسان في نتائجه العمليّة في الحياة.

* * *

٣٥٦

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) (١٠٢)

* * *

معاني المفردات

(تُبْدَ) : الإبداء الإظهار : أبدى الشيء إذا أظهره ، وبدا يبدو بدوا إذا ظهر. وبدا له رأيه بداء إذا تغيّر لأنه ظهر له ، والبادية خلاف الحاضرة ، والبدو خلاف الحضر من الظهور ، ومنه قوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) [الجاثية : ٣٣] الآية. ولم يجيء في أقوال العرب البداء بمعنى الندامة وتغيّر الرأي ، وإذا كان لفظ البداء يطلق على الله ، فالمراد به الإرادة والظهور دون ما يظن قوم من الجهال ، وعليه تشهد أقوال العرب وأشعارهم ، فمن ذلك :

قل ما بدا لك من زور ومن كذب

حلمي أصمّ وأذني غير صمّام

(تَسُؤْكُمْ) : السوء كل ما يغمّ الإنسان من الأمور الدنيويّة والأخرويّة ومن الأحوال النفسيّة والبدنيّة والخارجة من فوات مال وفقد حميم.

* * *

٣٥٧

مناسبة النزول

ما هذه الأشياء الّتي نهى الله عنها وأوضح أنّها إذا بدت فستكون نتيجتها الإساءة إلى السائلين؟ هل هي أشياء محددة ، أو هي من الأشياء العامّة الّتي أعطاها الله هذه الصفة وترك للإنسان أمر اكتشافها في كل قضاياه ومشاكله؟

لقد ذكر المفسرون عدّة روايات في الجوانب عن ذلك ، في ما ذكره صاحب مجمع البيان : «فقيل : سأل النّاس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أحفوه بالمسألة ، فقام مغضبا خطيبا فقال : سلوني ، فو الله لا تسألوني عن شيء إلّا بيّنته لكم ، فقال رجل من بني سهم يقال له عبد الله بن حذاقة ، وكان يطعن في نسبه ، فقال : يا نبيّ الله من أبي؟ فقال : أبوك حذافة بن قيس. فقام إليه رجل آخر ، فقال : يا رسول الله ، أين أبي؟ فقال : في النّار ، فقام عمر بن الخطاب وقبّل رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : إنّا يا رسول الله حديثو عهد بجاهليّة وشرك فاعف عنّا ، عفا الله عنك ، فسكن غضبه ، فقال : أمّا والّذي نفسي بيده لقد صورت لي الجنّة والنّار آنفا في عرض هذا الحائط ، لم أر كاليوم في الخير والشر. عن الزهري وقتادة عن أنس.

وقيل : كان قوم يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استهزاء مرة ، وامتحانا مرة ، فيقول له بعضهم : من أبي؟ ويقول الآخر : أين أبي؟ ويقول الآخر إذا ضلّت ناقته : أين ناقتي؟ فأنزل الله عزوجل هذه الآية. عن ابن عباس.

وقيل : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّ الله كتب عليكم الحجّ ، فقام عكاشة بن محصن ، وقيل : سراقة بن مالك ، فقال : أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتّى عاد مرتين أو ثلاثا ، فقال رسول الله : ويحك ، وما يؤمنك أن أقول نعم ، والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني كما تركتكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم

٣٥٨

واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأبي أمامة الباهلي» (١).

وقد نتحفظ أمام هذه الرّواية ، في طريقة رد الفعل من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كثرة سؤالهم ، بما لا يتفق مع خلقه العظيم ، في كشف الأمور الشخصيّة المتعلّقة بالأموات ، والانطلاق مع المسألة من موقع الانفعال ، حتّى قام عمر ابن الخطاب ليبعث في نفسه الهدوء بأسلوب عاطفي. ولكن الجوّ العام الّذي تثيره الرّوايات ، يعطي الفكرة من خلال النماذج المتنوعة المتعلقة بقضايا التكليف ، مما يوحي بأنّ القضيّة تتسع لذلك كلّه في ما يريده الإسلام من تربية الإنسان على أساس من الانطلاق بالمعرفة في الاتجاه الّذي ينفع النّاس ، مما يحتاج النّاس فيه إلى السؤال من خلال غموض الفكرة وعدم وجود الأساس الّذي يكفل لنا مهمة الوضوح.

* * *

منهج التعاطي مع أحكام الله

في هاتين الآيتين حديث عن المنهج الّذي يريد الله أن يضعه للنّاس في مواجهتهم لما يلقى إليهم من أحكام الله ، عند نزولها في القرآن ، مما لم يرد الله أن يثقل عليهم أمره بالتكليف ، بل ترك الحريّة فيه للمكلفين ، في ما يفعلونه أو يتركونه ، بالنسبة إليه. فقد يبدو لبعضهم أن يدخلوا في تفاصيل ذلك لا من جهة غموض في حدود التكليف ، ليكون السؤال محاولة للسير به في طريق الوضوح ، ولا من جهة شبهة في طبيعة المضمون ، ليكون السؤال وسيلة لإزالة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٣١٢ ـ ٣١٣.

٣٥٩

الشبهة ، بل كان ذلك لمجرّد الفضول الذاتي الّذي يدفع الإنسان إلى السؤال من خلال عناصر الإثارة في الساحة ، ليثير الجوّ من حوله في عمليّة تساؤل ونقاش. فأراد الله لهم أن يتركوا ذلك من أجل أن يتحول السؤال عندهم ، في ما يمثّله من قلق المعرفة ، إلى سبيل من سبل إغناء الفكر العملي عنده ، في ما يحتاجه في حركة العقيدة أو الحياة ، بعيدا عن الأشياء الّتي لا علاقة لها بذلك ، بل هي من القضايا الّتي تمثّل ترفا فكريا لا ضرورة له.

* * *

وقفة مع الميزان

وقد أثار صاحب الميزان الحديث حول اختصاص الآية بالسؤال عن متعلّقات الأحكام وخصوصياتها مما لا ضرورة له ، لأنّ الله لم يعرض لها في ما يعرض له من تفاصيل الآيات ، ولم يكلّف الإنسان عناء العمل في دائرتها. قال في توجيه ذلك : «إنّ الآية الثانية : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) إلخ ، وكذا قوله : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) تدل على أنّ المسؤول عنها أشياء مرتبطة بالأحكام المشرعة كالخصوصيات الراجعة إلى متعلّقات الأحكام مما ربّما يستقصي في البحث عنه والإصرار في المداقة عليه ، ونتيجة ذلك ظهور التشديد ونزول التحريج كلّما أمعن في السؤال وألح على البحث كما قصّة الله سبحانه في قصة البقرة عن بني إسرائيل ، حيث شدّد الله سبحانه بالتضييق عليهم كلّما بالغوا في السؤال عن نعوت البقرة الّتي أمروا بذبحها» (١).

ولكنّنا نعتقد أنّ ذلك لا يخصص الآية بما ذكر من حيث الاستيحاء ، وإن

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٦ ، ص : ١٥٢.

٣٦٠