تفسير من وحي القرآن - ج ٨

السيد محمد حسين فضل الله

السر ، وكان هواهم مع يهود لتكذيبهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجحودهم الإسلام ، وكانت أحبار يهود هم الذين يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتعنتونه ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل ، فكان القرآن ينزل فيهم في ما يسألون عنه ...» (١). وذلك لصرف النبيّ محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإشغاله عن مهمته الأصليّة في بناء القاعدة ـ بما تثيره من القضايا الجانبية ، أو بما تمارسه من أساليب اللف والدوران ، ولتشغل المسلمين عن همومهم العملية من أجل مواجهة حياتهم الجديدة في ظل الإسلام ، بما يحدثون في داخلهم من ارتباك وقلق وتشويش ، وبما يثيرونه بينهم من خلافات وانقسامات.

* * *

اليهود وعقدة الزهو والغرور

وفي ضوء هذا العرض البسيط الذي يجعلنا نعيش في الأجواء التاريخيّة لنزول هذه الآيات ، نستطيع أن نعرف عقدة اليهود الّتي يحملونها ضدّ الإسلام والمسلمين في ما أثاروه ويثيرونه من مشاكل وخلافات وهموم وتحديات للواقع الإسلامي على مدى التاريخ ، لأنهم لا ينطلقون من قيم فكريّة وروحيّة معينة في ما يخططون ويكيدون له في تصرفاتهم وأعمالهم وعلاقاتهم ، بل ينطلقون من شعور مريض بالزهو والخيلاء والكبرياء والتفوق على بقيّة الشعوب ، الأمر الذي يدفعهم إلى المزيد من العنصريّة السوداء المتعصبة الحاقدة ، ويدفعهم إلى خنق كل عوامل التقدم والنمو والقوة التي للآخرين ـ لا سيّما المسلمين ـ الذين يطرحون ـ من خلال القرآن الكريم ـ الرفض لفكرة

__________________

(١) السيرة النبوية ، ابن هشام ، ت : مصطفى السقاء وآخرون ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٣ م ، ج : ٢ ، ص : ٥١٣.

٣٠١

شعب الله المختار ، والدعوة إلى إقامة الحياة بكل مظاهرها وتجلياتها وأبعادها على أساس المنطق المسلح بالحجج والبراهين الدامغة ، وبوسيلة الحوار البناء والجدال بالتي هي أحسن. ولذلك ، فإن قصة اليهود في التاريخ هي قصة الشعب المعقد الذي انطلق من التوراة في البداية ، لكنه ما لبث أن ابتعد عنها في تفكيره ، واقتصر منها على الإطار دون الصورة الحقيقيّة ، وصولا إلى استبدالها بالصور المزيفة ، التي تحاكي زيفهم الفكري والروحي الذي يعيشونه في خطوات الماضي والحاضر والمستقبل.

* * *

النصارى في منتجع القيم الروحية

أما النصارى ، فقد انطلقوا من خلال الإنجيل على أساس القيم الروحيّة التي يحفل بها ، مما يجعل من قضية اللقاء بهم قضية تخضع للأجواء الخاشعة في تصورها لله وفي حركة العبادة له ، بالرّغم من الاختلاف في تفاصيل ذلك كله ولهذا كانت الآيات تؤكد على هذا الجانب الروحي دون الذاتي فليست المسألة فئة تلتقي بفئة على أساس النطاق البشري الذي تمثله هذه أو تلك ، ولكن المسألة مسألة قيم يعيشها ويؤمن بها هؤلاء ليكون اللقاء على أساس ذلك. وقد أشارت الآيات إلى هذه الناحية ، واعتبرت وجود القسيسين والرهبان ظاهرة إيجابيّة ، في ما يمثله هذا اللون من الناس من انقطاع للعبادة وابتهال لله ، وتواضع للناس ، وابتعاد عن الاستكبار. وتحدثت عن التجربة الأولى للقاء ، في الوقت الذي لم يكن فيه المجتمع النصراني قد عاش عقدة الصراع ضدّ الإسلام والمسلمين ، نظرا إلى أن القضية كانت قضية الدعوة في بداياتها الأولى ، فقد تلقى الذين استمعوا إلى آيات الله ، آيات الله ، بروح منفتحة على الخير من كلمات البر ، واعية لعمق الروح الإيماني ، عائشة للفرح

٣٠٢

الروحي المتدفق من روحيّة الوحي الإلهي ، منفعلين بالحقيقة الصافية المشرقة القائمة على التأمل والإلهام ، مرسلة نفوسهم دموع الخشوع فياضة ، وامضة بإشارات المحبة والسلام ، ويرتعد كيانهم ويقشعر لبرودة الإيمان وهيبة الموقف أمام عظمة الله تعالى ، وتكرع أرواحهم كأس الملاطفة من معين الذات الإيماني حتّى الثمالة. فإذا بهم أمام الحقّ الذي عرفوه ، يبكون من الفرح ، (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) تماما كما هو فرح الأطفال بالهدية الحلوة ، في براءة الطفولة ، فيبتلون إلى الله في صلاة خاشعة ، لأن الإيمان ليس مجرّد فكر يخضع للمعادلات العقليّة ، ولكنه فكر وروح وشعور عامر بحركة الحياة ، فإذا به يقظة إحساس ، ومنطلق روح ، وصفاء قلب ، وهزّة كيان ، (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) ، الذين يعيشون الحضور الدائم مع الله ، فيعيشون ـ من خلال ذلك ـ الحضور الواعي لمسؤوليّة الحياة مع الآخرين.

وهكذا يتحرك التساؤل في قوّة إرادة الإيمان ، (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) الذين يفرض نفسه علينا في كل ما نفكر ونشعر ونعيش من قضايا الحياة وتفاصيلها ، وحركة النفس وتطلعاتها ، (وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) الذي يتمثل في وضوح الحقيقة في وجداننا وأعماقنا؟! وتلك هي قصة الإنسان الواعي ، إذا عاش وضوح الرؤية للأفكار والأشياء ، فإنه لا يملك إلا أن يلتصق بالمعرفة التصاق إيمان ، وينفعل بالحياة ، من خلالها ، انفعال الموقف والممارسة. أما الإنسان الذي يهرب من الحقيقة الّتي تواجهه ، ويختبئ وراء أقنعة متنوعة تحجب عنه إشراقتها ، فهو الإنسان المعقّد الذي لا يعيش الإيمان كمسؤوليّة ، بل يتحرك معه على أساس الرغبة والرهبة في نطاق أنانيّة الذات ، وهو غير هذا الإنسان الذي يقف وقفة الابتهال الخاشع أمام الله ليعبر عن رغباته الروحيّة بين يديه ، (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) فها هي الأشواق الروحيّة تتطلع إلى العيش مع النفوس الصالحة المؤمنة التي جاهدت في سبيل الله عند ما كانت في الدنيا ، وجاءت لتعيش نتائج جهادها في جنة الله ، رضوانا ورحمة ومغفرة.

٣٠٣

وكانت الاستجابة لهذه الابتهالات الروحيّة ثوابا بما قالوا ، (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) الذين أحسنوا القول والعمل ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أما هؤلاء الذين ابتعدوا عن مواقع رحمة الله بعد أن دعاهم الله إليها وتمردوا في روح عدوانية كافرة ، أما هؤلاء فهم أصحاب الجحيم (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

* * *

الديانات السماوية وعقد أصحابها

وهكذا نستوحي من هذه الآيات ، أن المشكلة الّتي يعانيها أصحاب الديانات السماويّة ، في ما يختلفون فيه ، ليست مشكلة الفكر الذي يتنازعون في صحته وفساده ، وليست مشكلة الشريعة الّتي يختلفون في صوابها وخطئها بل هي مشكلة الروحيّة التي يواجهون بها بعضهم البعض. فقد ينطلق البعض من موقع العقدة الّتي تحاول أن تتداخل بسلبياتها الخانقة في كل فكر وكل أسلوب ، لتنحرف به عن مساره الطبيعي في حالة المواجهة الفكريّة ، فيتحول الأمر إلى حرب بين العواطف والتشنجات بدلا من أن يكون حوارا بين الأفكار ، ويلف الموضوع ذلك الضباب النفسي الحائل دون وضوح الرؤية مما يؤدي إلى التشاحن والتباغض ، فالحرب في نهاية المطاف. وقد ينطلق البعض من موقع الفكرة التي تتطلع إلى الوضوح ، فتواجه الفكر بالفكر الذي يناقش ويحاور من أجل أن يكتشف المناطق المجهولة لديه أو يكشف للآخرين المناطق المجهولة عندهم ، ليقف الجميع ، من خلال ذلك ، على أرض الحقيقة الّتي يلتقي عليها كلّ الناس الذين يعيشون الشوق الروحي إلى المعرفة ، وهذا ما يهدف إليه الإسلام في أسلوبه الفكري ، في الدعوة إلى الحوار ، بالروحيّة التي لا تتحرك من خلفيات العقدة ، بل تعيش انطلاقات

٣٠٤

الفكرة الباحثة عن الوضوح في رحلة البحث عن الإيمان ، فلا يتحول الاختلاف إلى عداوة تتعمّق بالممارسات السلبية ، بل يتحول إلى تجربة حيّة صادقة تفتح الطريق إلى صداقة فكريّة تتأكد بالكلمات والمواقف الإيجابيّة.

* * *

التواضع للحق أساس الانفتاح على الآخر

وقد يكون من الأفكار التي نستوحيها ـ من هذه الآيات ـ أن هذه المودّة القريبة التي يقررها القرآن الكريم ، في موقف النصارى من المسلمين ، كانت بسبب هذه الروحيّة المتواضعة المنطلقة التي يعيشها القسيسون والرهبان في ما يستلهمونه من تعاليم الإنجيل ، وما يستوحونه من ابتهالات التأمل بين يدي الله. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإنها تعود إلى الانفتاح الفكري والروحي على الأفكار والآفاق الجديدة التي يطرحها الآخرون من خلال آيات الله ، فلا يواجهونها بالرفض السريع ، بل بالتأمل الدقيق والفكر العميق ، وفي ضوء ذلك ، نستطيع أن نشير إلى عدة نقاط في الموضوع :

أولا : إن ذلك يدفعنا إلى إفساح المجال ـ دائما ـ للانطلاق بالواقع إلى هذا الجو ، فنعمل على إثارة المعاني الروحيّة في أخلاقيات النصرانيّة المستمدة من الإنجيل من أجل اكتشاف مواطن اللقاء في ما يلتقي فيه الإسلام والنصرانيّة من مفاهيم في الإيمان والحياة ، ليكون ذلك أساسا لاحتواء كل السلبيات التي تتحرك في الساحة فتدفعها إلى التعقيد والارتباك. وبذلك يمكن للعاملين أن يبدءوا في عملية الإعداد لإيجاد الأرضية الصلبة الّتي تؤدي إلى الوقوف المشترك ، في موقف الاتحاد أو التفاهم.

ثانيا : إن هذه الفكرة توحي لنا بالابتعاد عمّا تعارف عليه الناس من

٣٠٥

أساليب المجاملة الخادعة الّتي تحاول أن تتغافل عن كل السلبيات بطريقة سطحيّة مائعة تواجه المشكلة في مستوى اللحظات السريعة ، لننطلق إلى الدراسة الهادئة الدقيقة الّتي تعمل على التعامل مع الموقف ، من خلال المعطيات الواقعيّة الموجودة في الساحة فتثير الإيجابيات في بعض المواقع ، وتشير إلى السلبيات في بعض آخر ، وقد تغفلها في مواقع أخرى ، لتوجه الحالة إلى النتائج الطيبة. إن الابتعاد عن مثل هذه الدراسة الواقعيّة الهادئة ، والسير في خط الأساليب العاطفية ، يميع الموقف ويفقده جديته ، بل يوحي بالهروب من الواقع والاختفاء خلف الألفاظ البرّاقة ، والعودة من جديد إلى تعقيدات الواقع الصعب ، بعد اكتشاف السراب في لحظة الوصول إلى الأفق البعيد.

ثالثا : إن هذا الجو الإيجابي في الآيات ، الذي يؤدي إلى النتائج الإيجابية على صعيد اللقاء ، يدفعنا إلى اكتشاف المسألة على مستوى الأرضيّة التي نقف عليها ، لنتعرّف الملامح الحقيقيّة للواقع ، لأن العوامل التاريخيّة والسياسيّة المعقدة ، قد تركت آثارا عميقة في داخل القلوب والنفوس والأفكار ، وخلفت جروحا في الأعماق ، مما جعل الجو يختلف كثيرا عن أجواء هذه الآيات ، فكانت العقدة موضع الفكر ، وعاش الحقد في مواقع المحبة ، وارتفعت الحواجز أمام فرص اللقاء ، وبدأت الساحة في بعض مواقعها تتكشف عن نصرانيّة يهوديّة في حقدها وعداوتها للإسلام والمسلمين ، الأمر الذي يوحي بالحذر الذي يدفع إلى الواقعيّة ولا يدعو إلى الشلل لئلا يجرنا التساهل في مثل هذه الأمور إلى الوقوع في الفخ المنصوب لنا تحت تأثير الشعارات الخادعة الداعية إلى المحبة ، في الوقت الذي تعمل فيه ، بكلّ جهدها ، للتخطيط الدقيق للسير في خط الحقد والعداوة.

رابعا : إن التأكيد على استخدام صيغة التفضيل في عداوة اليهود والذين أشركوا للمسلمين ، يجعلنا نواجه الموقف في علاقتنا مع اليهود والجماعات

٣٠٦

الملحدة والمشركة ، من خلال هذا الخط ، فنعيش معهم ، كما يعيش الإنسان مع عدوّه ، لأنّ اليهود يخططون لإضعاف الإسلام والمسلمين ، وبالتالي للقضاء على وجوده ووجودهم ، ولأن الملحدين والمشركين يعملون على نسف كل قواعد الإيمان في الحياة ، مما يجعل من مسألة العداوة أمرا طبيعيا ، لأنّ ذلك يرى أن رسالته وعقيدته يفرضان عليه القضاء على فكرك أو عليك ، وبالتالي لا يمكنك أن تعتبره صديقا ، أو تتعامل معه معاملة الصديق ، إلّا إذا كنت ساذجا لا تفهم الأشياء بوضوح.

وفي ضوء هذا ، ينبغي لنا أن نواجه بحذر الدعوات المؤكدة على التسامح في هذا المجال ، في ما يرفع من شعارات التسامح الديني ، ورفض التعصّب ، وما إلى ذلك. فقد يكون المقصود من ذلك كله ، تخفيف حالة التوتر الفكري والروحي والعملي الّتي يعيشها الإنسان المؤمن المسلم ، للمحافظة على خط الثبات في مواقعه الإسلاميّة ، وعدم إفساح المجال للاهتزاز والتزلزل أمام هجمات الأعداء ، لأنّ الإنسان كلّما اقترب من حالة الاسترخاء في مواقع التحدي ، كلّما اقترب من الهزيمة أمام مخططات الأعداء.

ربّما يكون من المصلحة للإسلام والمسلمين أن يحافظوا على نسبة عالية من درجات التوتر والالتزام بالخط ، لئلا يستغل العدو حالة الاسترخاء الّتي يعمل لإيجادها ، فيهزمنا بالضربة القاضية ، ولكن ليس معنى ذلك أنّنا نواجه الموقف بأساليب الانفعال المثيرة الّتي تملأ الجو بكل عناصر الإثارة ، لتخلق حربا هنا ، وحربا هناك ، وتثير الفوضى والخلافات الطائفيّة الحاقدة في كل مكان ، لأنّنا لا نجد في ذلك مصلحة للمسيرة الإسلاميّة ، بل معنى كل ذلك أنّنا نواجه الموقف بأساليب الوعي الّتي تتحرّك في الساحة بطريقة واقعيّة تتعامل مع المعطيات والظروف الموضوعيّة من موقع المحافظة على الوجود أمام الآخرين الّذين يعملون لتصفية هذا الوجود أو هزيمته.

٣٠٧

وقد يفرض علينا الواقع أن ندخل مع هؤلاء في علاقات تجاريّة وسياسيّة وعلميّة ، فلا نجد في ذلك أيّ حرج ، في حدود المصلحة العليا للإسلام والمسلمين ، لأنّ الإنسان قد يجد من الخير أن يتعامل مع عدوه في حالات الهدنة مع الاحتفاظ بالحيطة والحذر في مختلف الظروف والأوقات والمظاهر.

* * *

٣٠٨

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (٨٨)

* * *

مناسبة النزول

جاء في مجمع البيان ، في تفسير هذه الآية : «قال المفسرون : جلس رسول الله يوما ، فذكّر النّاس ووصف القيامة ، فرقّ النّاس وبكوا ، واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي ، وهم عليّ ، وأبو بكر ، وعبد الله بن مسعود ، وأبو ذر الغفاري ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعبد الله بن عمر ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وسلمان الفارسي ، ومعقل بن مقرن ، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ، ولا يناموا على الفرش ، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويلبسوا المسوح،

٣٠٩

ويرفضوا الدنيا ، ويسيحوا في الأرض ، وهمّ بعضهم أن يجبّ مذاكيره.

فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتى دار عثمان ، فلم يصادفه ، فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية ـ واسمها حولاء ، وكانت عطارة ـ : أحقّ ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكرهت أن تبدي على زوجها ، فقالت : يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك. فانصرف رسول الله ، فلما دخل عثمان أخبرته بذلك ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو وأصحابه ، فقال لهم رسول الله : «ألم أنبئكم أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، وما أردنا إلّا الخير فقال رسول الله : إني لم أؤمر بذلك. ثمّ قال : إنّ لأنفسكم عليكم حقا ، فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا ، فإنّي أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، وآتي النساء ، ومن رغب عن سنتي فليس مني.

ثمّ جمع النّاس وخطبهم وقال : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم ، وشهوات الدنيا؟ أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قسّيسين ورهبانا ، فإنّه ليس في ديني ترك اللحم ، ولا النساء ، ولا اتخاذ الصوامع ، وإنّ سياحة أمتي الصوم ، ورهبانيتهم الجهاد ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وحجّوا ، واعتمروا ، وأقيموا الصّلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، واستقيموا يستقم لكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع ، فأنزل الله الآية» (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

٣١٠

حديث لا يخلو من مبالغة

قد يلمح الإنسان في هاتين الآيتين ، شيئا من هذا الحديث الّذي رواه المفسرون في أسباب النزول. فقد جاءتا لتعالج هذه الظاهرة الجديدة الّتي انطلقت من حالة روحيّة وجدانيّة ، عاشها هؤلاء المسلمون في انفعالهم بالآيات والمواعظ الّتي سمعوها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن القيامة وأهوالها ، فاعتبروا الموقف الطبيعي لهم ، أن يتركوا الدنيا بكل طيباتها وشهواتها ، ويتفرغوا للآخرة بالعبادة والتجرّد عن كل النوازع والملذات ، لأنّ ذلك هو السبيل للخلاص من الأهوال والشدائد ، وللتعبير عن الإخلاص لله ، أي بتعذيب النفس في الدنيا وحرمانها من كل ما تشتهيه كقيمة روحيّة يحبها الله ورسوله. وقد يكون في هذا الحديث ، لون من ألوان المبالغة في تصوير حالة هؤلاء الأشخاص من الصحابة بتلك الصورة ، لأنّ السلوك العملي الّذي كان يتمثّل في حياة رسول الله ، يمكن أن يعطيهم الصورة الواضحة للموقف ، ولا سيّما أنّ منهم من يملك المعرفة الشاملة في الخط الإسلامي للحياة.

* * *

الإسلام يوازن بين الدنيا والآخرة

إنّنا نسجل بعض التحفظات التأمليّة في بعض هذه التفاصيل ، ولكنّنا نعتبر الحديث صورة حية لهذا النموذج من النّاس الذين يفهمون جانبا واحدا من الصورة ، ولا يتطلعون إلى الجانب الآخر ، فيسيئون فهم القضّية كما هي في واقع التشريع ، فإذا جاؤوا إلى آيات الزهد ، قالوا بأنّ الإسلام هو دين الابتعاد عن الملذات والشهوات ، وإهمال الحياة بكل مظاهرها ونوازعها ،

٣١١

وبدأوا يخططون لأسلوب معين من التربية في اتجاه تذويب كل النوازع والغرائز والشهوات ، وتجميدها ، وتحويل الإنسان إلى شخصيّة جامدة الشعور أمام الطيبات ، قاتمة الملامح أمام انفعالاتها ، مغمضة العيون أمام مباهجها وزخارفها ، واعتبار ذلك السلوك هو القيمة الروحيّة الأمثل لاقتراب الإنسان من رحمة الله ، وهكذا يحاول البعض أن يرى في الصورة صورة الإسلام الّذي لا يتفق مع حيويّة الحياة. وإذا جاؤوا إلى آيات الإقبال على الحياة ، والاستمتاع بطيباتها ، في ما يأكل النّاس وما يشربون أو يستمتعون به من حاجاتهم ، قالوا إنّ الإسلام دين الماديّة البعيدة عن الآفاق الروحيّة ، فهو يعمل على ربط الإنسان بالدنيا في قيمها الحسيّة الماديّة ، وإبعاده عن القيم المعنوية الروحيّة ، ويخطط لأسلوب تربوي ، في اتجاه تحويل كل المعاني الروحيّة إلى وسائل مثيرة ، لإعطاء المادة لونا من ألوان الروح ، مما يؤكد ارتباط الإنسان بالمادة وإبعاده عن الروحيّة المجرّدة. وبذلك يتحوّل الإنسان إلى كائن حسيّ باحث عن الشهوات ، ظامئ للذّات ، بعيد عن عالم التجرّد والروح. وهكذا تمتد الصورة ليتحدث المغرضون ـ من خلالها ـ بأنّ الإسلام هو دين الحسّ المادي ، لا دين الروحيّة الصافية.

وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصحّح النظرة ، وليوضح الفكرة من القاعدة ، بأنّ الدنيا ليست الآخرة ، وأنّ الإنسان ليس ملاكا ، وأنّ الإسلام دين للحياة بأسمى معالمها وأقدس قيمها ومثلها ، ودين للإنسان بأجلى مظاهر إنسانيّته ، وأكمل مراتبها. وذلك من خلال خطة ترسم للواقع ملامحه على صورة الرسالة ، وتخطط للرسالة حركتها على أرض الواقع ، ليكون الإسلام دين الحياة كما ينبغي أن تكون عليه واقعا ، لا دينا يبرر الواقع المنحرف فيلغي رساليته في التغيير ، ولا يحوّل الرسالة إلى فكرة تعيش في نطاق التجريد والخيال. فالإنسان بشر ، يعيش في الدنيا ، وللبشرية حاجاتها ، وللدنيا وسائلها ، فلا بدّ من أن ينام الجسد ، لتكون اليقظة حيّة فاعلة ، ولا بدّ من أن يأكل ويشرب

٣١٢

ويلبس ويستمتع ، لتستمر الحياة من خلال مقوّماتها الضروريّة وغير الضروريّة ، والإنسان ـ بعد ذلك ـ بشر في روح الرسالة ، فلا بدّ له من أن يعيش الصّلاة والصوم والحجّ والعمرة والجهاد والابتهال إلى الله ، ولا بدّ له من أن يواجه هذه القضايا الّتي تتعامل معه من مواقع روحيّته بوسائلها الّتي لا تجعل الآخرة تتنكر للدنيا ، ولا تجعل الملاك يبتعد عن آفاق البشر.

* * *

الاستقامة أن تأخذ بجوانب الرفعة والإلزام

واعتبر ذلك خطا من خطوط الاستقامة الّتي تأخذ بجوانب الرخصة ، كما تلتزم بجوانب الإلزام ، لأنّ للرخص الّتي شرّعها الإسلام دورا كبيرا في بناء الشخصيّة واستقامة الطريق ، تماما كما هي الأمور الإلزاميّة في جانب الواجب والحرام. فإذا حرّم الإنسان على نفسه شيئا رخصه الله في فعله ، فإنّ ذلك قد يترك في الشخصيّة آثارا سلبيّة تشوّه الصورة في ملامحها العامة ، سواء في ما توحيه من أفكار أو في ما تفرضه من مواقف وعلاقات ومشاعر ، فالإنسان الّذي يعتبر رفض الطيبات قيمة روحيّة كبيرة ، سيجد في النّاس الّذين يقبلون عليها بحدودها الشرعيّة ، أناسا في المستوى المنخفض للقيمة الإسلاميّة ، وسيتعامل مع الأشخاص الّذين يرتبط معهم بعلاقات اجتماعيّة ذات مسئوليات معيّنة ، بطريقة بعيدة عن خط المسؤوليّة ، كما هو الحال في النّاس الّذين يهملون علاقاتهم الزوجيّة والأسريّة والاجتماعيّة عند ما يسيرون في خط ما يعتبرونه الصورة الحقيقيّة لمفهوم الزهد في الإسلام.

وقد نلاحظ في الحديث عن السبب في هلاك الأمم السالفة ، في

٣١٣

الكلمات الّتي يختم بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثه ، أنّ التشديد الّذي كان لونا من ألوان الفهم الخاطئ للخط الرسالي الّذي جاءت به الرسالات الإلهيّة ، هو السبب في تشديد الله عليهم ، كعقوبة دنيويّة تعرّفهم نتائج الانحراف في الدنيا من خلال طبيعة العلم الّذي يفرضه الانحراف ، لتوحي لهم بأنّ الله لا يريد للإنسان أن يعذّب نفسه ويشدد عليها بوسائل التشديد ، لأنّه لا يعتبر ذلك فضيلة دينيّة إلّا من خلال الخط الكبير.

* * *

لا تحرّموا طيبات ما أحل الله

وفي ضوء ذلك كلّه ، جاءت الآية الأولى ، لتنهى المؤمنين عن تحريم الطيبات الّتي أحلّها الله لهم ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) وذلك بالامتناع عن ممارستها ، بحجّة أنّ تركها يمثّل وسيلة من وسائل رضا الله ، ويوحي بأنّ ذلك يمثّل لونا من ألوان الاعتداء على حدود الله الّتي رسمها لعباده لتسير حياتهم عليها ، ولترتبط قضاياهم بها ، فإذا تجاوزوها ، كان ذلك اعتداء عليها وعلى الحياة ، لأنّ ذلك ينحرف بالخطة الحكيمة عن مسارها الطبيعي ويسيء إلى الناس وإلى حياتهم في نهاية المطاف ، وقد يكون في ذلك اعتداء على الله ، في ما أراده من التحرّك في تطبيق التشريع على أساس حقّه على النّاس في الالتزام به كما ينبغي له.

(وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) وقد يفسّر البعض معنى الاعتداء ، بتجاوز حدود الاعتدال في ممارسة الطيبات ، فلا يتخذ النهي عن تحريم الطيبات أساسا للانكباب على متع الحياة الدنيا بطريقة متطرفة ، لأنّ ذلك يساوي التطرّف في الترك الّذي لا يوافق عليه الإسلام في تشريعه وتخطيطه

٣١٤

للحياة. وقد يكون هذا المعنى معقولا كما هو ، ولكنّه ليس قريبا إلى ظاهر الآية ـ كما يقول صاحب تفسير الميزان (١) ـ. ولعلّ الوجه في ذلك هو أنّ الآية جاءت في مقام تقرير المبدأ في موضوع تحريم الطيبات ، وليست في مقام الدخول في كميّة ممارسة الإنسان من الاستمتاع بالطيبات ، فهي تريد أن تقرر أنّ مثل هذا التحريم يُمثل لونا من ألوان الاعتداء على حدود الله ، تماما كما هي الآيات الكريمة الّتي تجري مجرى هذه الآية في هذه الجهة ، كقوله تعالى في ذيل آية البقرة : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٢٩] وفي ذيل آيات الإرث : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) [النساء : ١٣ ـ ١٤].

ويقول صاحب الميزان في التعقيب على هذه الآيات : «والآيات ـ كما ترى ـ تعد الاستقامة والالتزام بما شرّعه الله ، طاعة له تعالى ولرسوله ممدوحة ، والخروج عن التسليم والالتزام والانقياد اعتداء وتعدّيا لحدود الله ، مذموما معاقبا عليه» (٢).

وإذا كان الله لا يحبّ المعتدين ، فإنّ على المؤمن أن يتلمّس في تفكيره وسلوكه مواقع الانسجام مع خط الله والانطلاق في طاعته ، ومواقع الاعتداء على حدود الله والسير في خط معصيته في كل موقع من مواقع الحياة ، لأنّ المؤمن يعمل دائما من أجل الحصول على محبة الله ورضاه ، فلا يطيق ـ في أي حال ـ أن يعيش بعيدا عن ذلك مع النّاس الّذين لا يحبّهم الله.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٦ ، ص : ١٠٨.

(٢) م. ن. ، ج : ٦ ، ص : ١٠٧ ـ ١٠٨.

٣١٥

كلوا الحلال الطيب

وجاءت الآية الثانية (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) ، لتثير أمام النّاس أنّ هذه الطيبات ، هي من الحلال الطيّب الّذي رزقه الله للنّاس ، وبالتالي ليس هناك من مشكلة في تناولها ، لأنّ الله الّذي رزقهم إياها ، جعلها رزقا حلالا طيبا ، والله لا يرزق الإنسان شيئا ليمنعه عنه ، إلّا في الحدود الّتي تدخل في تفاصيل الفعل والممارسة ، (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) ، فإنّ الإيمان بالله يجعل المؤمن يعيش الحضور الدائم مع الله ، والإحساس العميق بوجوده ، مما يدفعه إلى مراقبته الّتي تقوده إلى التقوى في جميع الأمور ، إذا لا معنى للإيمان بدون الالتزام والمراقبة الدائمة ، وذلك هو الخط الّذي يدعو القرآن الكريم النّاس إلى السير عليه في كل موقف من مواقف التشريع ، وفي كل موقع من مواقع الحياة ، ليكون ذلك هو الأساس الّذي يحقّق الانضباط المستمر المرتكز على قاعدة الإيمان والإسلام.

* * *

٣١٦

الآية

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٨٩)

* * *

معاني المفردات

(بِاللَّغْوِ) : اللغو في اللغة ما لا يعتدّ به ، ولغو اليمين الحلف من غير قصد ، كما لو سبق اللسان لقول : لا والله.

(عَقَّدْتُمُ) : عقد الأيمان : التعهد بالشيء أمام الله مع قصده بشكل جديّ واع.

(فَكَفَّارَتُهُ) : من الكفر ـ بفتح الكاف ـ وهو الستر والتغطية ، ثمّ استعملت الكفّارة في الأعمال الّتي تكفر الذنوب.

* * *

٣١٧

مناسبة النزول

جاء في مجمع البيان : قيل : لمّا نزلت : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) قالوا يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله هذه الآية.

وقيل : نزلت في عبد الله بن رواحة ، كان عنده ضيف فأخرت زوجته عشاءه ، فحلف لا يأكل من الطعام ، وحلفت المرأة لا تأكل إن لم يأكل ، وحلف الضيف لا يأكل إن لم يأكلا ، فأكل عبد الله بن رواحة وأكلا معه ، فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، فقال له : أحسنت. عن ابن زيد (١).

كما جاء في الكافي بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله ـ جعفر الصادق عليه‌السلام ـ قال : «سمعته يقول في قول الله عزوجل : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) قال: «اللّغو» قول الرّجل : «لا والله ، وبلى والله» ولا يعقد على شيء» (٢).

* * *

اليمين التزام أمام الله

إنّ اليمين الّتي يحلف بها الإنسان على فعل شيء ، أو ترك شيء ، تمثّل التزاما بالشيء بين يدي الله على أساس اقترانه باسمه ، كما إذا كنت تأتي به كشاهد على التزامك عند ما يتعلّق اليمين بعمل مستقبلي تريد أن تقوم به ، لتجعل ذلك ووثيقة تؤكد بها الموقف ، لتبعث الطمأنينة في نفس الشخص الّذي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٢٩٧.

(٢) الكافي ، ج : ٧ ، ص : ٤٤٣ ، رواية : ١.

٣١٨

تلتزم له ، أو معه ، أو كشهادة على حدوث الواقعة على حدوث الواقعة عند ما يتعلّق اليمين بشيء حدث ، أو سيحدث لتجعله قاعدة. وبذلك كانت اليمين تمثّل مسئوليّة كبيرة لشخصيّة الحالف ، لأنّها تضع اسم الله في الميزان ، ليدلل على جانب الاحترام له في حالات الصدق ، أو على جانب الإهانة له في حالات الكذب ، بل ربّما كان أولياء الله يعتبرون الحلف بالله في كل مناسبة ، حتّى في الأمور الكبيرة ، منافيا لإجلال الله وتعظيمه ، ويرون في تحمّل الخسارة الناشئة من ترك اليمين في حالة تعرض الإنسان لاتهام ظالم يريد أن يدفعه عنه باليمين ، نوعا من أنواع التعظيم لله والإجلال لاسمه الكريم ، كما ورد عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أنّ أباه كانت عنده امرأة من الخوارج ، أظنه قال : من بني حنيفة ، فقال له مولى له : يا ابن رسول الله ، إن عندك امرأة تبرأ من جدّك ، فقضي لأبي أنّه طلقها ، فادعت عليه صداقها فجاءت به إلى أمير المدينة تستعديه ، فقال له أمير المدينة : يا عليّ إمّا أن تحلف وإمّا تعطيها ، فقال لي : يا بني قم فأعطها أربعمائة دينار ، فقلت له : يا أبت جعلت فداك ألست محقا؟ قال : بلى يا بني ولكني أجللت الله أن أحلف به يمين صبر» (١).

اليمين قسمان : لغو وعقد

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ). ولكنّ اليمين على قسمين : يمين لغو ، وهو اللفظ الّذي ينطلق بالحلف بالله على سبيل العادة والألفة من دون أن يقصد الإنسان مضمونه في التّصور والالتزام ، تماما ، كالألفاظ الّتي تصبح لازمة للشخص ، من خلال التكرار ، فيكررها

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج : ١٦ ، ص : ١١٧ ـ ١١٨ ، باب : ٢ ، رواية : ١.

٣١٩

بمناسبة وبدون مناسبة ، ويمين عقد ـ إذا صحّ التعبير ـ وهو اللفظ الّذي ينطلق بكلمة القسم بالله على سبيل عقد القلب على مضمونه ، كالتزام يلتزمه على نفسه.

وقد جاءت الآية لتدل على أنّ الله لا يؤاخذ الإنسان باللغو في اليمين ، إذا لم يلتزم بمضمونه أو يؤده ، لأنّه لا يعبر عن حالة في النفس ، أو عقد في الضمير ، فهو لا يزيد عن صوت من الأصوات الببغائيّة الّتي يطلقها الإنسان بلا معنى ، أمّا إذا كان اليمين عقدا في ما يعقد به الإنسان قلبه ويلتزمه في ضميره ، فإنّ الله يؤاخذ الإنسان على عدم التزامه العملي به ، وهو الّذي يسمى بالحنث ، ولكنّها مؤاخذة يمكن للإنسان أن يتخلّص منها في الدنيا ، بدفع الكفارة المفروضة في هذه الحال ، (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) لا من أخبثه مما يعافه النّاس بشكل طبيعي ، ولا من أطيبه مما لا يكون إلّا لدى الطبقة الثريّة من النّاس ، (أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) فإنّ العتق أحد وسائل التكفير عن الذنب ، في ما أراده الله من تكثير الوسائل لتحرير الرقيق ، فإن لم يجد من ذلك شيئا لفقره وعجزه (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) ولم تلتزموا بمقتضاها ، ليكون ذلك رادا لكم عن النقض عند ما تواجهون إمكانيّة الخسارة والجهد والمشقة في ذلك كله ، (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) من الإهمال والعبث والنقض ، لأنّ اليمين موقف يلتزم به الإنسان فيلزم به نفسه ، فلا بدّ له من المحافظة على موقفه والتزامه ، فإنّه متصل بقيمة احترامه لشخصيته من جهة ولمن أقسم به ـ وهو الله ـ من جهة أخرى.

وقد جاءت بعض التفاسير والأحاديث بإدخال الحلف بفعل الحرام وترك الواجب في مفهوم يمين اللغو ، والظاهر أنّه داخل فيه حكما وموضوعا باعتبار إلغاء الشارع له ، لأنّ ما يجب حفظه من الأيمان هو ما يريد الشارع للإنسان الالتزام به ، فلا معنى لوجوب حفظ مثل هذه الأيمان غير المشروعة بطبيعتها ، وليست داخلة فيه موضوعا ، لما سبق أنّ المراد باللغو ، ما كان عاريا عن

٣٢٠