تفسير من وحي القرآن - ج ٨

السيد محمد حسين فضل الله

عناصرها الحيويّة في نهاية المطاف.

وربّما يرى بعض المفسرين أنّ الخطاب هو للأمم الثلاث ، أمّة موسى وأمّة عيسى وأمّة محمّد ، ولا يعني به قوم كل نبيّ ، ولا بدّ لنا ـ بلحاظ هذا القول ـ من أن نحمل المسألة على التسلسل التاريخي في مهمة كل نبيّ في رسالته في خصوصيتها الزمنيّة ، في امتدادها الزمنيّ ، وفي خطها الشمولي في انفتاحها على الرسالة الأخرى. والله العالم.

* * *

فكرة الابتلاء وتعدد الشرائع

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي لجمعكم على ملة واحدة في دعوة جميع الأنبياء ، لتلتقوا عليها في الرسالة الخاتمة الّتي تجمع الخطوط العامّة للرسالات كلّها وذلك بطريقة القدرة الحاسمة الّتي لا يملك فيها الإنسان اختياره في الانتماء ، (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ) أي ليمتحنكم ، (فِي ما آتاكُمْ) من تعدّد الشرائع حسب اختلاف الزمن ، ليظهر عمق الإخلاص له لدى المؤمنين ، وسطحيّة الإيمان به من المتعصبين المتخلفين ، فينجح المؤمنون بالله وكتبه ورسله ورسالاته ، ويفشل المتعصبون الّذين يتجمدون في المرحلة الزمنيّة الّتي بعث بها رسولهم ، فلا ينفتحون على رسول آخر ورسالة أخرى ، فيحيا من حيّ عن بيّنة ويهلك من هلك عن بيّنة ، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) الّتي انطلقت من الله في رسالاته ، وتنافسوا في الحصول على الدرجة العليا فيها ، لأنّ ذلك هو الّذي يمنحكم المواقع المتقدمة في القرب من الله والوصول إلى رضوانه في مرحلة الوفادة إليه ، (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) فيجمعكم يوم الجمع في موقف المسؤوليّة والحساب (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمور دينكم ،

٢٠١

مما أحصاه ونسيتموه ، ليجزي الّذين استقاموا على خط الإيمان والعمل الصالح باستقامتهم ، ويجزي الّذين انحرفوا وابتعدوا عن الخط المستقيم بانحرافهم ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ويبادر المبادرون.

* * *

تأكيد على الحكم بما أنزل الله

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) في نداء تأكيديّ لتقرير المبدأ وتعميق المسؤوليّة في كل الموارد الّتي يختلفون فيها ، ويتحاكمون إليك في حلّها ، وإعطاء الحكم الحاسم فيها ، (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) لأنّك تمثّل الحقّ في الرسالة الّتي أنزلها الله لتحرّك الإنسان في مسيرة الحقّ بامتداده في الزمن كله والإنسان كلّه ، لأنّ الله هو الحقّ الّذي خلق السموات والأرض بالحقّ ، ويريد للإنسان أن ينسجم مع الوجود كله في قيامه ـ في الأرض ـ في حياته الفرديّة والجماعيّة على أساس الحقّ ، فلا مجال للخضوع للحالات العاطفيّة الّتي تستجيب لرغبة هذا لمصلحة هناك ، أو تبتعد عن ذاك لمشكلة هناك ، أو لإغراء يندفع في أحلام وتمنيات ووعود ببعض المكاسب الصغيرة والكبيرة ، فقد أرسلك الله لتركز للنّاس أهواءهم على أساس رضى الله لا على أساس السقوط أمام تأثيراتها العاطفيّة في وجدانك الشخصي ، فإنّك لا تملك نفسك ، ولكن رسالتك هي الّتي تؤكد حركتك مع النّاس كلهم.

* * *

٢٠٢

تحذير للرسول من مغبة الافتتان

(وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) ، وذلك بالمراقبة الدائمة لكل الخلفيات الّتي تكمن وراء كلماتهم وحركاتهم ، والدراسة العميقة للتطلعات الّتي يتطلعون إليها في مواقفهم من الرسالة والرسول ، والمتابعة الواعية لكل الخطط الّتي خططوها أو يخططونها للوصول إلى غاياتهم الشريرة ، لأنّهم لا يريدون بك وبالرسالة خيرا ، انطلاقا من عصبيتهم للباطل واستعلائهم على النّاس.

إنّ من واجب الرسول الداعية إلى الله ، العامل في سبيل هداية النّاس إلى الحقّ وشموليّة سلطة الله على الواقع كله ، أن يأخذ بكل أسباب الحذر في حركته في الساحة العمليّة ، لأنّ الآخرين يخططون ويتآمرون ويتلونون بألوان مختلفة ، ليحصلوا على مآربهم وليبتعدوا بالرسول وبالداعية عن الحق الّذي أنزل من الله ، ببعض الأساليب الخادعة والوسائل المغرية ليفتنوه عن دينه وليقترب منهم ومن باطلهم.

* * *

الآثار الاجتماعية للذنوب

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا عن القبول بالحقّ الّذي تقضي به ، أو رفضوا التحاكم إليك ، فلا تحزن ولا تأس عليهم ، ولا تسقط أمام انفعالات الإحباط من خلال سلبيات الواقع ، لأنّ المسألة ليست مسألة فشلك في حركة الدعوة بالحقّ ، ولكنها مسألة انحرافهم الذاتي والفئوي عن رسالة الله ، وابتعادهم عن مصالحهم الحقيقيّة في السير على خط العدالة في حكم الله والرسول ، مما

٢٠٣

يؤدي بهم إلى الكثير من المشاكل الّتي تصيبهم في كلّ مواقع حياتهم الخاصة والعامّة ، فإنّ ذلك هو سنة الله في خلقه إذا انحرفوا وابتعدوا عن الحق.

(فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) ، ويعاقبهم عليها في الدنيا من خلال الارتباط العضويّ بين الأفعال السيئة وعناصرها السلبيّة بحسب العلاقة بين المقدمات والنتائج ، فإنّ الذنب يختزن في داخله السلبيّة الّتي تصيب صاحبه ، فتتبعه في حياته وتعقّد له أموره ، وتوقعه في الكثير من المشاكل ، وتؤدي به إلى المزيد من الخسائر ، وهذا ما حدث لليهود الّذين تتحدث عنهم هذه الآيات في تعاملهم مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخيانتهم له ونقضهم لعهودهم معه ، وتحريك الفتنة بين المسلمين ، وغير ذلك من الذنوب الّتي تفصلهم عن المجتمع ، وتعزلهم عن قضاياه ، وتباعد بينهم وبينه في المصالح المشتركة الّتي تقرّب النّاس إلى بعضهم البعض.

وفي ضوء هذا ، نعرف كيف تحدث الله عن إصابتهم ببعض ذنوبهم ، لأنّ القضيّة قد لا تكون عقابا من الله لهم بشكل مباشر ، بل القضيّة هي العقاب الذاتي الّذي يكمن في داخل الذنب مما يحدث للخاطئين في الدنيا من خلال أعمالهم ، كما جاء في قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم : ٤١] ، فإنّ الله يتحدث عن الاختلال في النظام الاجتماعي للنّاس بسبب كسبهم السيئات الّتي تحمل في داخلها عناصر الفساد الّذي يصيب العالمين به ، فيذوقون النتائج السيئة الكامنة في داخل أعمالهم ، كحقيقة واقعيّة في علاقة العمل السيئ بالنتيجة السلبيّة في حياة الإنسان ، (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) خارجون عن خط الحقّ إلى متاهات الباطل في إصرارهم على الانحراف عن الرسالة والرسول ، مما يجعلهم في موقع الفسق العملي الّذي يخرج به الإنسان عن قاعدة التوازن في الحياة.

٢٠٤

وقد يثور هنا سؤال :

لماذا هذا التحذير للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو المعصوم ـ من أن يفتنه الآخرون عن بعض ما أنزل الله إليه ، والنهي له عن اتباع أهوائهم؟

فهل كان النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الموقع الّذي يمكن فيه أن يتبع أهواء هؤلاء اليهود ، أو أن يفتنه هؤلاء عن دين الله؟

والجواب : إنّ هذه الآية ـ والآيات المماثلة في القرآن ـ لا تتحدّث عن الحالة الشخصيّة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اهتزازها بالعناصر الضاغطة الّتي يحركها هؤلاء ، وفي انفعالها وتأثرها بالإغراءات والأساليب الحميمة الّتي يثيرونها في وجدانه ، بل هي ـ والله العالم ـ واردة في تصوير الواقع الموضوعي في الوسائل والأساليب الّتي يحرّكها هؤلاء في ساحته ، مما يخططون فيه لإخضاعه لأهوائهم ولفتنته عن بعض ما أنزل الله إليه ، بما تشتمل عليه من الضغوط الهائلة الّتي تزلزل الإنسان العادي الّذي لا يملك قاعدة نفسيّة من العصمة الروحيّة المانعة عن الاهتزاز والانحراف ، مما يجعل النهي عن اتباع أهوائهم ، والتحذير من فتنتهم ، مرتبطين بالمسألة الموضوعيّة في العناصر المثيرة الّتي يوجهونها إليه ، لا بالحالة الذاتيّة الّتي يعيشها في وجدانه الرسالي الّذي يملك القوّة الّتي لا تضعف أمام التحديات.

* * *

الحكم حكمان : حكم الجاهلية وحكم الله

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) أي يريدون منك إصداره في القضيّة الّتي تحاكموا إليك فيها ، وهم ـ في أجواء الآية ـ اليهود الّذين كانوا إذا سرق الشريف تركوه

٢٠٥

وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ كما في قصة أسباب النزول ، بحيث كان للمركز الاجتماعي للشخص دور كبير في طبيعة الحكم الصادر له أو ضده ، تبعا للامتيازات الطبقيّة والأهواء الذاتيّة أو الفئويّة ، بعيدا عن حكم الله في التوراة الّذي أكده الإسلام في القرآن والسنّة ، وهو الحكم العادل الّذي ينظر إلى طبيعة القضيّة من خلال عناصر الإثبات فيها ، من دون الالتفات إلى طبيعة الشخص في دائرتها الواقعيّة ، وهذا ما يشعر فيه النّاس بالأمن على حقوقهم وقضاياهم ، لأنّهم متساوون أمام الشريعة في ساحة الواقع والقضاء ، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) في عناصره الحيّة من حيث انسجامه مع المصلحة الإنسانيّة في صعيد القيم الروحيّة والأخلاقيّة والحاجات الحيويّة للإنسان ، مما يفرض الخضوع له ، والانفتاح عليه ، والثقة به ، (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بالعدالة الإلهيّة في الحكم والتشريع من موقع إيمانهم بالربوبية المطلقة لله الّتي ترعى كل المخلوقين بالحكمة واللطف والرحمة على صعيد العدل الّذي ينطلق من الجانب الموضوعي للمسألة في الواقع الإنساني العام من دون تفريق بين قويّ وضعيف وكبير وصغير وغنيّ وفقير ، لأنّ الجميع عباده ، فلا حاجة لديه إلى أحد دون أحد ليظلم هذا أو ذاك ، فإنّ الظلم شأن الضعيف الّذي يعيش الضعف أمام الآخر والخوف منه فيلجأ إلى ظلمه ، والله هو القويّ ، القادر على كل شيء.

وقد ورد في أكثر من حديث التأكيد على حكم الله في مقابل حكم الجاهليّة ، فقد ورد الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الحكم حكمان: حكم الله وحكم الجاهليّة ، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهليّة» (١).

وأخرج البخاري عن ابن عباس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبغض النّاس

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ، ج : ١ ، ص : ٤٧٨.

٢٠٦

إلى الله مبتغ في الإسلام سنّة جاهليّة ، وطالب امرئ بغير حقّ ليريق دمه».

ونستفيد من ذلك أنّ الجاهليّة ليست مرحلة زمنيّة تتمثّل في شرائعها وعاداتها وتقاليدها وأحكامها ، بل هي نهج في الخط الفكريّ الّذي يتحرّك في كل قضاياه وأوضاعه بعيدا عن الله بحيث لا يستهدي الله في ذلك ، ولا يخضع لرسالاته ورسله ، بل ينطلق في تشريعاته وأحكامه من العوامل الذاتيّة ، ومن المواقع السلطويّة الّتي تفرض نفسها على النّاس بالقوّة من دون أن تملك أيّة شرعيّة في مواقعها وتحرّكاتها.

وعلى ضوء ذلك ، فإنّ النظرة الإسلاميّة تؤكد على أنّ أيّ حكم في المجال التشريعيّ أو القضائيّ لا ينسجم مع حكم الله هو حكم الجاهليّة ، ولو كان صادرا في العصر الحاضر ، فإنّ كلمة الجاهليّة تتحوّل ـ من خلال هذه النظرة ـ إلى ذهنيّة ماديّة متحركة مع الواقع المادي في الحياة في الاتجاه الّذي لا يجد للدين أيّ دور في أحكامه وقضاياه ، تماما كما لو لم يكن موجودا في حياة النّاس.

وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في مورد آخر في تعبير آخر وهو حكم الطاغوت ، وذلك قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ٦٠]. وفي ضوء ذلك يمكن لنا أن نواجه كل الواقع التشريعي الوضعي الّذي يتحرّك في بلاد المسلمين في خط العلمانيّة لنعتبره داخلا في حكم الجاهليّة أو حكم الطاغوت ، وخارجا عن حكم الله وعن ولايته ، وهذا ما ينبغي للمسلمين أن يحذروا منه ، وأن يلتفتوا إلى الموقف الّذي يجب أن يتخذوه ويلتزموه في رفضهم وتأييدهم ، لا سيّما في المشاركة في المجالس النيابيّة بتأييد الّذين يعيشون ذهنيّة الجاهليّة في أحكامها وقوانينها لا ذهنيّة الإسلام.

٢٠٧

ماذا نستوحي من هذه الآيات؟

وقد نستوحي من هذه الآيات بعض اللمحات الفكريّة والعمليّة الّتي تفيدنا في حركة العمل الإسلامي في الدعوة إلى الله :

أولا : إنّا نأخذ من هذه الآيات النموذج الحي للنّاس الّذين يقفون ضد العاملين في سبيل الله ويعملون على إقامة الحواجز النفسيّة والماديّة ضد التحرك الإيماني ، سواء كانوا من الّذين يختلفون معنا في الدين ، أو من الّذين لا يدينون بأي دين ، بل يلتزمون الإلحاد كمنهج للحياة ، أو من الّذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، لنتخذ منهم الموقف الّذي أراد الله لرسوله أن يتخذه من معاصريه من هؤلاء ، فلا نضعف ولا نهون أمام كل الأوضاع السلبيّة الّتي نواجهها منهم ، بل نتعامل معهم وفق قاعدة التعامل الواقعي الّتي تقتضي الانتباه جيدا لكل وسائلهم وأوضاعهم ، في كل ما يريدون إثارته في الساحة من قضايا ومواقف ، لنضع الأمور في نصابها الصحيح ، ولنكون في وعي دائم لكل ما يحيط بنا من أمور وأوضاع ، وبذلك تتحول هذه الأيام إلى حركة متنوعة الاتجاهات في طريق العمل الإسلامي الطويل ، فلا تقتصر على الوقائع والفئات في حدود الزمان والمكان اللذين عاشا في داخل التاريخ.

ثانيا : إنّ هذه الآيات تؤكد على ما في الكتب المنزلة من حقيقة فكريّة وتشريعيّة ، وتعتبر الانسجام مع تلك الحقيقة أساسا للخط الإيماني الصحيح في مسيرة الإنسان ، مما يوضح القاعدة الصلبة للشخصيّة الإيمانيّة الّتي ترتكز على المنهج في الفكر ، وعلى الخط في السير ، سواء في ذلك الّذين يتبعون التوراة أو الإنجيل أو القرآن ، وتؤكد ـ في بعض لمحاتها ـ على تداخل هذه الكتب في مفاهيمها العامة وآفاقها الواسعة بحيث لا يعتبر الإيمان بكتاب ، منافيا ، في إيحاءاته الفكريّة والعمليّة ، للإيمان بالكتب الأخرى ، لأنّ

٢٠٨

الخصوصيات الّتي تختلف فيها هذه الكتب لا تمسّ الخطوط العامّة ، بل تمس التفاصيل الّتي أوضحت هذه الكتب على أنّها قد تتغيّر وتتبدّل تبعا للحاجات الّتي يفرضها عامل الزمان ، مما ينتهي فيه حدّ المصلحة الباعثة إلى الحكم تارة ، أو مما تتبدّل فيه المفسدة إلى مصلحة أخرى. وعلى ضوء هذا ، كانت الدعوة إلى أن يحكم أهل الإنجيل والتوراة والقرآن بما فيه من الحقّ ، لأنّ ذلك هو الّذي يلتقي عليه الجميع ، فيكون الابتعاد عنه ظلما وفسقا وكفرا ، ولهذا كان الإلزام القرآني لكل فريق من الفرقاء الّذين ينتمون إلى هذا الكتاب أو ذاك ، بالمعاني الّتي يلتزم بها الكتاب ، لأنّ كل واحد منها يمهّد الطريق للآخر ويدعمه في كل الجوانب الحيّة فيه.

ثالثا : إنّ على الدعاة لله والعاملين في سبيله ، أن يكونوا في حالة حذر دائمة ورصد مستمر لكل الأساليب الملتوية الّتي يحاول دعاة الكفر وأولياؤهم أن يضللوا بها المؤمنين عن دينهم ، في ما يثيرونه حولهم من الأجواء المحمومة الّتي تثير المشاعر وتهز النفوس ، أو في ما يحشدونه من المعلومات الكاذبة الّتي يريدون من خلالها توجيه الأمور في غير وجهتها الصحيحة ، لينحرفوا بالحكم عن الحقّ ، وذلك من أجل اكتشاف اللعبة الملتوية المزخرفة الّتي تتمثل في أكثر من أسلوب ، وأكثر من وجه.

رابعا : إنّ الحكم حكمان ، حكم الجاهليّة ، وهو الحكم الّذي يرتكز على الباطل ويبتعد عن وحي الله ، مما يصنعه البشر لأنفسهم انطلاقا من مصالحهم ومنافعهم وأنانيتهم ، بعيدا عن الله ، وحكم الله الّذي شرعه لعباده في ما أوحى به لرسله ، مما ينسجم مع مصالح الإنسان كإنسان بعيدا عن كل الخصوصيات الّتي ترهق إنسانيته وتعطل مسيرته نحو الخير. ولا بدّ لنا من الدخول في عمليّة المقارنة دائما بين هذين الحكمين ، ليبقى النّاس على وعي عميق منفتح بما يمثله حكم الله من خير وبركة ورحمة للإنسان وللحياة ـ كما توحي به الآية الأخيرة ـ وليبقى الهاجس الّذي يعيش في همّ المجتمع من أجل

٢٠٩

تأكيد استمراره في حركة الحياة في ما يحكم به الحكام ، وفي ما يطبقه النّاس ، من أجل حفظه ورعايته وإصابته ، وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : «إنّ الحكم حكمان : حكم الله وحكم الجاهليّة ، ثمّ قال : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) قال : فأشهد أنّ زيدا قد حكم بحكم الجاهليّة ، يعني في الفرائض» (١).

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ٣٧ ، ج : ١٠١ ، ص : ٤٩٨ ، باب : ٣٥ ، رواية : ٦.

٢١٠

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) (٥٣)

* * *

معاني المفردات

(لا تَتَّخِذُوا) : الاتخاذ هو الاعتماد على الشيء لإعداده لأمره ، وهو افتعال من الأخذ ، والأخذ يكون على وجوه ، تقول : أخذ الكتاب إذا تناوله ، وأخذ القربان إذا تقبّله ، وأخذه الله من مأمنه إذا أهلكه. وأصله : جواز الشيء من جهة إلى جهة من الجهات.

(أَوْلِياءَ) : جمع وليّ ، وهو النصير لأنّه يلي بالنصر صاحبه.

(دائِرَةٌ) : الخط المحيط بالشيء ، والمراد بها الدولة الّتي تتحوّل إلى

٢١١

من كانت له عمن في يده ، وهي تطلق في المكروه باعتبار أنّه يحيط بالإنسان إحاطة الدائرة بمن فيها ، فلا سبيل لهم إلى الانفكاك منه بوجه ، كما في مفردات الراغب (١).

(فَعَسَى) : قال في مجمع البيان : وعسى موضوعة للشك ، وهي من الله تعالى تفيد الوجوب ، لأنّ الكريم إذا أطمع في خير يفعله ، فهو بمنزلة الوعد به في تعلّق النفس به ورجائها له ، ولذلك حقّ لا يضيع ومنزلة لا تخيب (٢).

والظاهر أنّ إطلاقها وارد بالنسبة إلى طبيعة الشيء من حيث كونه مستقبليا لا يتيقن بحصوله مما يجعله في دائرة الشك ، بقطع النظر عن القائل ، فلا يكون الوجوب المذكور في كلام المجمع مدلولا عليه باللفظ ، بل هو أمر مستنبط من دراسة كرم الله وجوده في ما يعد به من الخير.

(بِالْفَتْحِ) : القضاء والفصل ، والمراد به هنا النصر.

(حَبِطَتْ) : قال الراغب في المفردات : حبط العمل على أضرب : أحدها : أن تكون الأعمال دنيويّة فلا تغني في القيامة غناء ، والثاني : أن تكون أعمالا أخرويّة لكن لم يقصد بها صاحبها وجه الله تعالى ، والثالث : أن تكون أعمالا صالحة ، ولكن بإزائها سيئات توفي عليها ، وذلك هو المشار إليه بخفة الميزان. وأصل الحبط من الحبط ، وهو : أن تكثر الدابة أكلا حتّى ينتفخ بطنها (٣).

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ١٧٦.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٢٥٨.

(٣) مفردات الراغب ، ص : ١٠٥.

٢١٢

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول للواحدي : «قال عطيّة العوفي : جاء عبادة بن الصامت فقال : يا رسول الله ، إنّ لي موالي من اليهود كثير عددهم ، حاضر نصرهم ، وإني أبوء إلى الله ورسوله من ولاية اليهود ، وآوي إلى الله ورسوله ، فقال عبد الله بن أبيّ : إني رجل أخاف الدوائر ، ولا أبرأ من ولاية اليهود ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبا الحباب ما تجلب به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه ، فقال : قد قبلت ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) إلى قوله تعالى : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعني عبد الله بن أبيّ (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) وفي ولايتهم ، (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) (١).

وجاء في الدر المنثور عن السدي : قال : «لما كانت وقعة أحد اشتد على طائفة من النّاس ، وتخوّفوا أن يدال عليهم الكفّار ، فقال رجل لصاحبه : أمّا أنا فألحق بفلان اليهودي ، فآخذ منه أمانا وأتهوّد معه ، فإنّي أخاف أن يدال على المسلمين ، وقال الآخر : أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام ، فآخذ منه أمانا وأنتصر معه ، فأنزل الله فيهما ينهاهما : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢).

وأخرج ابن جريج وابن المنذر عن عكرمة قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ، أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر من الأوس ، وهو من بني عمرو بن عوف ، فبعثه

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ١١٠.

(٢) الدر المنثور ، م : ٤ ، ج : ٦ ، ص : ٩٩.

٢١٣

إلى قريظة حين نقضت العهد ، فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه الذبح الذبح. (١).

ونلاحظ في هذا الاختلاف في الرّوايات في سبب نزول هذه الآية ، أنّ من الممكن أن تكون المسألة اجتهادا من الرواة من خلال روايتهم للأحداث المذكورة المتنوعة الّتي اعتبروها مناسبة للآية مما يستوحون منه أنّها أسباب نزول. والله العالم.

وعلى أيّ حال ، فإنّها تمثّل أمورا متصلة بالآية من الناحية التطبيقيّة باعتبار أنّها قد تكون لونا من ألوان التولي لليهود وللنصارى من قبل بعض المسلمين ، وقد لا يكون من المستبعد أن تكون الآية واردة في اتجاه تأكيد القاعدة العامة للعلاقات الّتي تربط بين المسلمين وغيرهم من اليهود والنصارى على أساس إبعادهم عن النتائج السلبيّة الحاصلة من ذلك.

* * *

أسس العلاقة مع اليهود والنّصارى

يفرض الإسلام على المسلم أن يؤمن بالرسل أجمعهم وبالرسالات كلها ، ولكنّه يريد له أن يكون واقعيا في علاقته بالّذين ينتمون إليها ، وذلك من موقع السلوك العدواني الّذي التزموه في علاقتهم بالمسلمين ، لأنّهم يعتقدون بطلان عقيدة المسلمين في ما يعتقدونه من رسول وفي ما يتبعونه من شريعة ، ولأنّ طبيعة التحرك الإسلامي في مجال الدعوة الّتي قد تعارض بعض مفاهيمهم الخاطئة للرسالات الّتي ينتمون إليها ، أو في مجال السلطة الّتي كان

__________________

(١) تفسير الطبري ، م : ٤ ، ج : ٦ ، ص : ١٧٨.

٢١٤

الإسلام يعمل من أجلها على أساس عقيدته وشريعته ، قد تخلق بعض العقد الداخليّة ، وقد تثير بعض المشاكل العمليّة والفكريّة ، مما يفرض فرزا في المواقع وتعقيدا في المواقف ، والتقاء على المعارضة للإسلام ، وقد أثبتت الممارسات التاريخيّة في حال ظهور الإسلام وبعده بعض ذلك. ولهذا أراد الإسلام للمؤمنين أن يعيشوا في داخل حياتهم وخارجها الخطوط الفاصلة العازلة ، بين المواقع المتنوعة والمواقف المختلفة ، من أجل الحفاظ على الجانب الفكري للعقيدة ، فلا يتأثر بالانحراف الّذي قد يأتي من المجاملات الّتي تساهم في تمييع الموقف ، من أجل التأكيد على سلامة المسيرة ، فلا تهتز أمام الأوضاع العاطفيّة والعلاقات الذاتيّة البعيدة عن التركيز.

* * *

المحبة والتعاون أساس قوة العلاقات الإنسانية

وربّما كان الإسلام يتحرك في هذا التأكيد من قاعدة إنسانيّة ثابتة ، وهي أنّ الأساس في قوة العلاقات بما تفرضه من محبة ومودّة ونصرة وتعاون ، هو القاعدة الفكريّة والروحيّة الّتي ينتمي إليها النّاس ، فهي الّتي تمنح الثبات للعلاقة ، وتثبت المواقف في العمل ، سواء في ذلك الحالات الّتي تمثّل التوافق في كل التفاصيل ، أو الحالات الّتي تتوافق فيها القواعد العامّة على أكثر من تفصيل ، فإذا كانت العلاقات تقوم على أساس التوافق ، أمكن لها أن تساهم في إيجاد صيغة للوحدة أو للتنسيق ، أمّا إذا كانت تقوم على أساس التحالف ، وكان التحالف يتحرك في اتجاه النوازع الذاتيّة الّتي تحكم الذات ، فلا بدّ من أن يكون الموقف قائما على أساس الحذر الّذي يدعو إلى الترقّب والتأمّل في رصد الأوضاع والعلاقات على أساس من الواقعيّة ، لأنّ الاستسلام للثقة في الأجواء الّتي لا تدعو إلى الثقة بل تدعو إلى العكس ، يعتبر لونا من السذاجة

٢١٥

العمليّة. وقد كان التاريخ الّذي عاشه المسلمون مع اليهود مليئا بالمشاكل والتآمر والكيد والفتن وبالمستوى الّذي كاد أن يربك المسيرة الإسلاميّة في العهود الّتي رافقت حركة الرسالة ، كما كان السلوك الّذي أحاط بالمسلمين من قبل النصارى ، يوحي بشيء من هذا القبيل في ما يختزنه المستقبل.

* * *

المناعة الداخلية ضرورة إزاء العلاقة مع اليهود

وفي ضوء ذلك كله ، أراد الإسلام من المسلمين أن يتحفظوا في إيجاد علاقة الولاية بينهم وبين هؤلاء ، لتبقى الحواجز النفسيّة الفكريّة سبيلا من سبل المناعة الداخليّة البعيدة عن حالة الميوعة والذوبان ، ولتبقى التحفظات العمليّة أداة من أدوات الحماية الواقعيّة للحياة الإسلاميّة من خلفيات الخطط الخفية المضادة المرسومة من قبل الآخرين. وهذا ما نستوحيه من جو هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فقد نلاحظ ـ في الفقرة الأخيرة ـ نوعا من أنواع الإيحاء الخفي بوجود محورية داخلية بين هؤلاء ، سواء أريد من كلمة البعض ، اليهود في ما بينهم ، أو النصارى في ما بينهم ، كما يفهمه بعض المفسرين الّذين يرجحون ذلك على أساس العداوة التاريخيّة بين اليهود والنصارى ، مما يبعّد تقرير الولاية فيما بينهم ، أو أريد منهم اليهود والنصارى فيما بينهم ، لأنّهم إذا افترقوا في خلافاتهم الذاتيّة ، فإنّهم يتفقون عند ما يكون المسلمون الهدف المشترك الّذي يتوحدون حوله. إنّ هذا التأكيد على هذه الولاية المحورية ، يؤكد على عدم استجابتهم للولاية في ما يتعلق بعلاقتهم بالمسلمين ، وانطلاقهم في خط السلبيّة تجاهم بكل ما لذلك من نتائج وآثار. وفي هذا الجوّ ، نعرف أنّ القضيّة الّتي يؤكدها الإسلام ، لا تعيش في خط الروح العدوانيّة الّتي يعمل على تعبئة المؤمنين بها ضدّ غيرهم

٢١٦

من أصحاب الديانات لتعميق الشعور بالحقد والبغضاء في أوساط المجتمع المؤمن في مواجهة المجتمعات الأخرى ، بل القضيّة هي إيجاد الفواصل الفكريّة والروحيّة الّتي تساعد على المنع من وقوع المسلمين في قبضة الميوعة الفكريّة والسذاجة العمليّة ، اللتين قد تحصلان من انجذابهم إلى ظواهر الأشياء وابتعادهم عن خلفياتها وجذورها ، ليكون التعايش ـ عند ما يفرضه الواقع ـ منطلقا من حالة وعي واقعيّة ، في ما يتعاون عليه المجتمع ، من الشؤون العامّة والقضايا المشتركة ، لا من حالة استغفال لأحد الفرقاء للآخر في ما يريده من أوضاع وعلاقات.

ولهذا رأينا الإسلام يؤكد في أكثر من آية قرآنيّة على بعض الجوانب الإيجابيّة لدى النصارى في سلوكهم العملي ، من خلال الخطوط الأخلاقيّة الموجودة لديهم في تعاليمهم ، في مقابل اليهود الّذين اعتبرهم (أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا) [المائدة : ٨٢] ، لانطلاقهم من كل المواقع السلبيّة ضدّهم. ونراه يؤكد على أنّ الخط الفاصل الذي يحكم إيجابيّة العلاقات وسلبياتها هو السلام الّذي يشعر به الآخرون تجاه المسلمين وعدم العدوان في ما يمثّله من تصرفات وأعمال ، الأمر الّذي يدعو المسلمين إلى البر والعدل في التعامل معهم ، فليست القضيّة أنّ هناك حقدا يراد تأجيجه في الصدور ، بل القضيّة أنّ هناك وعيا يراد تعميقه في العقول ، وأنّ هناك واقعيّة يراد تأكيدها في المواقف ، ولعلّ هذا هو السر في هذا التشديد على الّذين يتولونهم من المسلمين ، (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) لأنّ ذلك يوحي باللّامبالاة لدى هؤلاء في ما يفكر به الآخرون من أفكار ، وفي ما يتخذونه من مواقف ، ويؤدي بالنتيجة إلى ابتعاد اللّامبالين عن مجتمع المسلمين ، واقترابهم من مجتمع الكفر ، كما نجده في بعض الفئات الّتي قد تنجذب إلى خط الأعداء على أساس ما تأمل لديهم من أطماع وشهوات ، لتكون في النهاية سلاحا بيد الكافرين ضد المسلمين ، فيظلمون أنفسهم بالانحراف عن خط الحق ويظلمون

٢١٧

إخوانهم بالسير في خط الأعداء (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الّذين اختاروا لأنفسهم السير في طريق الانحراف العقيدي والعملي بالتولي لغير المسلمين ، فتركهم لاختيارهم السيئ الّذي تمردوا فيه على خط الهداية الطبيعيّة والإيحائيّة الإلهيّة ، وأوكلهم إلى أنفسهم ، ولم يتدخل لإرجاعهم إلى خط الهدى بطريقة غير اعتياديّة ، لأنّ الله لا يفرض الهداية على الّذين يرفضونها بإرادتهم.

* * *

المراد من كلمة الولاية

ولكن ، ما المراد من كلمة «الولاية»؟ هل المراد بها المحبّة والمودّة؟ أو المراد بها النصرة والمعاونة؟ قد يختلف المفسرون في ذلك لأنّ الكلمة تتسع لهذا المعنى ولذاك ، كما تتسع لغيرهما ، ولكنّ الظاهر من الجو الّذي تعيش فيه الآية أنّ المراد بها العلاقة الوثيقة الّتي تمثّل لونا من ألوان الالتزام بالجماعة على أساس العوامل الذاتيّة الّتي توحي بذلك ، مما يجعل المحبة والنصرة والمعاونة بعضا من آثارها ، لا معنى من معانيها ، وهذا ما نفهمه من كلمة الموالاة الّتي تستعمل في علاقة الأمة بقيادتها ، أو ببعضها ، فإنّها تعني العلاقة الشديدة المنطلقة من خط الالتزام بالشخص أو الجماعة ، فلا يبقى هناك مجال للاختلاف المذكور ، والله العالم.

* * *

المنافقون وتولّي غير المسلمين

هذه هي القاعدة الإسلاميّة الّتي تفرض الجانب السلبي في الولاية بين

٢١٨

المؤمنين وبين غيرهم من أهل الكتاب. ولكنّ بعض المسلمين ينحرفون عن هذه القاعدة ، لأنّ في قلوبهم مرضا ناشئا من ضعف الإيمان وفقدان الثقة بالله ، فتراهم يلهثون خلف هؤلاء ويسارعون فيهم ، فيندمجون في داخل مجتمعاتهم حتّى يحسبهم الناظر أنّهم منهم ، في أسلوب العلاقة والتعامل والموقف ، لأنّهم يخافون أن ينهزم المسلمون أمام اليهود والنصارى وتدور الدائرة عليهم ، مما يعرّضهم للخطر ويؤدّي بهم إلى الهلاك. ولذلك كانت الخطة أن يتنازلوا ويخضعوا ويقدموا لهم فروض الطاعة والعبوديّة ، ليحصلوا على الأمن والطمأنينة ، وتلك هي حجّة المنافقين في كل زمان ومكان ، فهم لا يتحركون من مواقع العقيدة ، ولا ينطلقون من مواقع التضحية ، بل يواجهون القضيّة بمنطق المنفعة والطمع والشهوة ، في الوقت الّذي يفرض عليهم الإيمان بالله أن يظلوا على خط الأمل الأخضر برعاية الله للمؤمنين (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) للمسلمين على الكافرين (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) في ما يدفع به عنهم من ضرّ أو يجلب لهم من نفع ، وحينئذ تنكشف أوضاع هؤلاء المنافقين أمام الحقيقة الواضحة ، (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ). ويقف المؤمنون ليسجلوا هذا الموقف ضد المنافقين الّذين قد تفاجئهم الهزيمة الّتي يقع فيها الكافرون ، فيظهر عليهم الألم والهلع ، فينكشف أمرهم للمؤمنين (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ). فما ذا يمثّل هؤلاء الآن أمام الهزيمة الّتي كشفت زيفهم ونفاقهم ، وماذا تمثّلون أنتم في مواقفكم المهتزة بفعل النتيجة المريرة من خيبة الأمل؟ إنّ النهاية الأليمة هي الّتي تنتظر الجميع (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) وتحولت كل جهودهم إلى جهود ضائعة ، فلا مجال لديهم إلّا للحيرة والقلق والضياع ..

* * *

٢١٩

عبر لا بدّ منها للمسلمين

ويبقى للمسلمين الدرس العملي المتحرك في الواقع الّذي يبعث فيهم روح الوعي والحذر للفئات الأخرى الّتي تختلف معهم في الدين والقضايا الحيويّة المتصلة بالعلاقات العامّة ، فلا يستسلمون للسذاجة العاطفيّة الّتي قد تجعلهم يسقطون تحت تأثير الخوف من المستقبل ، الّذي قد يدفع الآخرين إلى الواجهة من السلطة ويرجع المسلمين إلى الخلف ، فيحاولون الارتباط بهم لحماية أنفسهم ، فيفقدون الكثير من صلابة الموقف واستقامة الخط ، في الوقت الّذي لا يحصلون فيه على شيء مما قصدوه ، بل قد يحصلون على العكس من ذلك إذا انتصر المسلمون وانهزم الكافرون. إنّ الارتباط السياسي والاقتصادي والديني بالأجانب أمر مرفوض من الإسلام نفسه ، لأنّه قد يعرض المسلمين للوقوع في التهلكة السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة ، ويؤدي بهم إلى فقدان استقلالهم وقدرتهم على تقرير مصيرهم ، وهذا ما نلاحظ في هذه الأيام من تحوّل المسلمين إلى وجود منسيّ في الواقع السياسي العالمي الّذي يقوده المستكبرون في الأرض ، فلا يسمحون لهم بحريّة الحركة في سياستهم واقتصادهم وأمنهم في قليل أو كثير.

* * *

٢٢٠