تفسير من وحي القرآن - ج ٨

السيد محمد حسين فضل الله

موسى عليه‌السلام من التوراة ، (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) ، وذلك لأنَّ الجو الَّذي يراد إثارته ، ليس هو الحديث عن الكم ، بل الحديث عن الكيف والنوع والأساس. فإذا كنت تبرّر لنفسك أن تقتل إنسانا بسبب النوازع الذاتيّة المنحرفة ، فإنّ ذلك يبرر لك التصرف بالأسلوب نفسه في جميع الحالات الأخرى المماثلة ، وذلك لعدم الفرق بين حالة وحالة ، أو لأنّ الاعتداء على الفرد هو اعتداء على النوع في الحقيقة لاشتراك عموم الأفراد في هذه الحقيقة وغرضها في الحياة. (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) لأنّ الشخص الّذي يحترم الحياة فينقذها من نفسه ، بما تدفعه إليه نوازعه الشخصيّة ، أو يخلصها من غرق أو من حرق أو من غير ذلك ، هو إنسان يؤمن بالحياة كقيمة إنسانيّة كبيرة ، ويؤمن بمسؤوليته عن حمايتها من الهلاك.

وتلك هي قصة التشريع الّذي لا يستهدف التأكيد على الحالة الفرديّة في نطاقها المحدود ، بل يهدف إلى أن تكون الحالة تعبيرا عن فكرة في الفكر ، وقيمة في الروح ، وإحساس في الشعور ، وبالتالي أن تكون حالة إنسانيّة في عمق المعنى الإنساني الّذي يطبع الشخصيّة بطابعه الأصيل الممتدّ. وفي ضوء ذلك تبطل الإشكالات الّتي تتساءل عن السر في تهوين قتل النّاس جميعا بتشبيهه بقتل شخص واحد ، إذ إنّ هذا التساؤل يوحي بعدم الفهم للآية ، لأنّها تدلّ على المعنى الّذي يختفي وراء قتل الفرد ، وتؤكّد أنّه يلتقي مع المعنى الّذي يختفي وراء قتل الجميع ، من حيث التقائهما عند معنى الاستهانة بالحياة كمبدإ مع الالتزام ـ طبعا ـ بأنّ تكرير المبدأ في عدة حالات وأفراد يثير مشاكل أكبر مما يثيره وقوفه على حالة واحدة في معرض بحث التفاصيل.

وجاء في الحديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام في ما رواه الكافي ، مرفوعا إلى محمّد بن مسلم ، قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ

١٤١

أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)؟ قال : له في النّار مقعد لو قتل النّاس جميعا لم يرد إلّا إلى ذلك المقعد» (١).

وفي هذه الرّواية دلالة على أنّ الإنسان يعذب على القتل ـ من حيث المبدأ ـ باعتباره الجريمة الّتي تقتل الحياة ، فيعاقب على ذلك بقطع النظر عن عدد الّذين يقتلهم. ولا مانع من أن يضاعف عليه العذاب من جهة أخرى ، ولكن في المكان نفسه ، كما جاء في رواية أخرى : عن حمران ، قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ما معنى قول الله عزوجل : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)؟ قال : قلت : وكيف فكأنّما قتل النّاس جميعا فإنّما قتل واحدا؟ فقال : يوضع في موضع من جهنم إليه ينتهي شدة عذاب أهلها ، لو قتل النّاس جميعا إنّما كان يدخل ذلك المكان ، قلت : فإن قتل آخر؟ قال يضاعف عليه» (٢).

وهكذا ، ختمت الآية بالحديث عن التاريخ الّذي عاشه هؤلاء الّذين كتب الله عليهم هذه الشريعة ، (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) الّتي تفصّل لهم الخطط الكبيرة الّتي تنظم لهم حياتهم وتحفظها من كل عدوان ، (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) قد تجاوزوا تلك الحدود وأسرفوا في عصيانهم ، ولم يقفوا عند حدود الله في ما أمرهم به أو نهاهم عنه.

* * *

__________________

(١) الكافي ، ج : ٧ ، ص : ٢٧٢ ، رواية : ٦.

(٢) م. ن. ، ج : ٧ ، ص : ٢٧١ ، رواية : ١.

١٤٢

كيف نستوحي الآية؟

تحمل هذه الآية قضيّة مهمة ، ألا وهي قضيّة الحياة والموت الّتي قد تتمثل في حياة الجسد وموته ، أو في حياة الروح وموتها في المشاعر الروحيّة ، الّتي قد تستيقظ في داخل النفس على المعاني الإنسانيّة لتبعثها أو لتجمّدها ، أو في حياة الفكر وموته في ما يتعلق بضلاله وهداه ، أو بجهله وعمله ، باعتبار أنّ الضلال موت والهدى حياة ، لما قد يعطيه الضلال من جمود ، في مقابل ما يعطيه الهدى من حيويّة وانطلاق ، كما أنّ الجهل موت لما يخلقه في النفس من معاني التخلّف والجمود في مقابل العلم الّذي يحقّق لها الانطلاق والحركة في آفاق الحياة. ومن هنا ، فإنّه من الممكن استيحاء الآية ، من خلال معانيها القريبة والبعيدة.

جاء عن الإمام الباقر عليه‌السلام في ما رواه عنه الفضيل بن يسار قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام قول الله عزوجل في كتابه : (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً). قال : من حرق أو غرق ، قلت : فمن أخرجها من ضلال إلى هده؟ فقال : ذلك تأويلها الأعظم» (١).

ثانيا : عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : قول الله تبارك وتعالى : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ)؟ فقال : من أخرجها من ضلال إلى هدى فقد أحياها ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها» (٢).

__________________

(١) م. س. ، ج : ٢ ، ص : ٢٠ ، باب : ٨ ، رواية : ٥٦.

(٢) م. ن. ، ج : ٧١ ، ص : ٤٠٣ ، باب : ٢٨ ، رواية : ٥.

١٤٣

ثالثا : عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى بن عمران الحلبي ، عن أبي خالد القماط ، عن حمران ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أسألك ـ أصلحك الله ـ؟ فقال : نعم ، فقلت : كنت على حال ، وأنا اليوم على حال أخرى ، كنت أدخل الأرض فأدعو الرّجل والاثنين والمرأة فينقذ الله من شاء ، وأنا اليوم لا أدعو أحدا. فقال : وما عليك أن تخلّي بين النّاس وبين ربّهم ، فمن أراد الله أن يخرجه من ظلمة إلى نور أخرجه. ثمّ قال : ولا عليك إن آنست من أحد خيرا أن تنبذ إليه الشيء نبذا ، قلت : أخبرني عن قول الله عزوجل : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) قال : من حرق أو غرق ، ثمّ سكت ، ثمّ قال : تأويلها الأعظم إن دعاها فاستجابت له»(١).

* * *

معنى التأويل

ويمكن لنا من خلال الرّوايات فهم «التأويل» بمعناه الحقيقي ، لا الباطني كما يحاول البعض تفسيره ، فالقرآن قد أنزل على طريقة العرب في التعبير ، ليفهمه الجميع بشكل طبيعي ، من دون أن تكون فيه أيّة إشارات رمزيّة ، في ما تعارف عليه الأسلوب الرمزي الّذي يحمّل الكلمة غير معناها ، ويجري بها في غير مجالها ، من دون أساس للاستعارة والكناية والمجاز ، لذا فإنّ التأويل ليس إلّا عمليّة استيحاء للمعنى من خلال التقاء المعاني ببعضها البعض في الأهداف الّتي يستهدفها القرآن في القضايا الّتي يثيرها أمام النّاس ، والمفاهيم الّتي يوحيها إليهم ، كما في هذه الآية الّتي تحدثت عن الحياة والموت ، وعن النّاس الّذي يعتدون على الحياة ، وعن أولئك الّذين ينقذونها. فقد يستوحي منها

__________________

(١) م. س. ، ج : ٢ ، ص : ٢٢١ : رواية : ٣.

١٤٤

الإنسان الفكرة فيمن ينقلون النّاس من الضلال إلى الهدى ، أو بالعكس ، أو فيمن ينقلونهم من الجهل إلى العلم أو بالعكس ، وذلك لأنّ الله قد أشار إلى ذلك بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [الأنفال : ٢٤] ، كما عبّر عن الّذين يعيشون الضلال في واقعهم بالموتى في قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) [النمل : ٨٠]. وهكذا يمكن لعمليّة الاستيحاء هذه أن تأخذ من الحياة والموت كل الأجواء الّتي تشارك هذين المعنيين في تحويل الإنسان من حالة الجمود والهمود ، إلى حالة اليقظة والحركة على مستوى الفكر والعمل والحياة ...

* * *

١٤٥

الآيتان

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٤)

* * *

معاني المفردات

(أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) : المراد به : أنّه إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرّجل اليسرى ، والعكس بالعكس.

(أَوْ يُنْفَوْا) : النفي : الطرد ، وأصله : الإهلاك بالإعدام ، ومنه النفاية لرديء المتاع ، ومنه النفي وهو ما تطاير من الماء عن الدلو.

(خِزْيٌ) : الخزي : الفضيحة أو الذلّ : يقال خزي يخزي خزيا : إذا افتضح ، وخزي يخزي خزاية ، إذا استحيا ، وخزا الرّجل يخزوه خزوا : ساسه وقهره.

* * *

١٤٦

جزاء المفسدين في الأرض

وهذا حديث عن حدّ من حدود الله ، وضعت الشريعة له وسائل عمليّة جزائيّة حاسمة من خلال حديثها عن حدود الله تعالى ، كما في هذه الآية ، وذلك لحفظ الأمن ومنع النفوس الشريرة من الاندفاع بعيدا عن نوازعها الذاتيّة المنحرفة ، الّتي تندفع نحو القتل والنهب وقطع الطريق وتدبير المكائد للإسلام والمسلمين ، وإشاعة الفوضى والخراب والفساد في حياة النَّاس ، وما إلى ذلك ... وليتضح الأمر بالنسبة لعقاب المحاربين لله ورسوله ، علينا البحث في أمور عدّة :

أولا : من هو المحارب لله؟ هل هو مفهوم مطلق عام يشمل كل الموارد ، أو هو من العناوين الّتي تنطبق على مصاديق وموارد معيّنة ليس إلَّا ، من قبيل الإشارة إلى تلك الموارد الّتي هي الأساس في الحكم؟ ربَّما كان من المناسب ـ في بداية هذا البحث ـ أن نذكر ما رواه المفسرون في سبب نزول هذه الآية ، حيث ذكر صاحب «مجمع البيان» أنَّها نزلت في قوم كان بينهم وبين النبيّ موادعة ، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض ، عن ابن عباس والضحّاك ، وقيل : نزلت في أهل الشرك ، عن الحسن وعكرمة ، وقيل : نزلت في العرنيين لما نزلوا المدينة (مظهرين) (١) للإسلام واستوخموها (٢) واصفرت ألوانهم ، فأمرهم النبي أن يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها ، ففعلوا ذلك فصحّوا. ثمَّ مالوا إلى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الإبل وارتدوا عن الإسلام ، فأخذهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف

__________________

(١) زيدت هذه الكلمة لتوضيح المعنى ، وقد وضعت في الكتاب في الهامش هكذا.

(٢) استوخم المكان : استثقله ولم يوافق هواؤه بدنه.

١٤٧

وسمل أعينهم (١) ، عن قتادة وسعيد بن جبير والسدي ، وقيل : نزلت في قطّاع الطريق ، عن أكثر المفسرين ، وعليه جلّ الفقهاء (٢).

هذا هو الجوّ الَّذي عاشت فيه الآية ، في ما رواه المفسرون ، وفي ما اجتهد فيه المجتهدون ، لأنَّ أسباب النزول ليست كلها رواية بل قد تكون رأيا واجتهادا ، وعلى هذا الأساس ، كان تحديد الفقهاء والمفسرين لمفهوم المحارب في مورد تعيين مصداقه. وقد جاء في (مجمع البيان) المروي عن أهل البيت عليه‌السلام : «أنَّ المحارب هو كل من شهر السلاح وأخاف الطريق سواء كان في المصر أو خارج المصر ، فإنَّ اللص المحارب في المصر وخارج المصر سواء. وهو مذهب الشافعي والأوزاعي ومالك. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنَّ المحارب هو قاطع الطريق في غير المصر» (٣).

وأمَّا قوله : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) فقد ذكر أبو جعفر الطبري في تفسيره عن مجاهد ، قال : «الزنى والسرقة وقتل النَّاس وإهلاك الحرث والنسل» (٤).

والظاهر أنَّ مثل هذه التفسيرات تشبه أن تكون تفسيرا للشيء ببعض مصاديقه ، لا تفسيرا له بالمعنى ، وذلك لأنَّ كلمة المحارب لا تختص ـ في المفهوم العرفي ـ بمن شهر السلاح ، بل تشمل كل المواقف العدوانيّة الّتي تستهدف تحطيم الكيان القوي للإسلام والمسلمين ، سواء بحمل السلاح ضده ، أو بتدبير المؤامرات والخطط بالتعاون مع أجهزة الكفر ومؤسساته وأتباعه ، أو بإثارة الفتن والقلاقل الّتي تضعف من قوته ، وتضاعف من الخطر

__________________

(١) سمل عينه : فقأها.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

(٣) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٢٣٦.

(٤) جامع البيان ، م : ٤ ، ج : ٦ ، ص : ١٣٦.

١٤٨

عليه ، ونحو ذلك .. فإنَّ مثل هذه الأمور تلتقي بالمفهوم الشامل لكلمة المحارب ، لصدقها على كل تلك الموارد ، لأنَّ موارد الحرب تختلف في تحركها داخل المواقع وفي تمثلها للوسائل والأساليب. وأمَّا المفسدون في الأرض ، فهم الَّذين يعملون على إفساد الحياة العامة للنَّاس وذلك بإشاعة وسائله وموارده سواء في القضايا المتعلّقة بالجانب الأخلاقي ، أو المتعلّقة بالجانب الاقتصادي أو السياسي ، أو غير ذلك .. مما يجعل من الفساد حالة عامة في الأرض. أمّا الّذين يمارسونه كحالة خاصة تمس حياتهم الشخصيّة ، فإنّهم لا يحملون هذا الوصف ، بل ينطبق عليهم وصف الفاسدين ، وربّما كان هذا التحديد هو الأقرب إلى الذهنية العامة في فهم اللفظ عرفا ، ولا بدّ لوليّ الأمر الّذي يرجع إليه الحكم في التطبيق والتنفيذ من مراعاة الدقة في ذلك كله ، من حيث ملاحظة طبيعة العمل في موارده ونتائجه ، ومن حيث صدق العناوين عليه ، لأنّ القضية ترتبط في كثير من مجالاتها بالجانب التقييمي للواقع ، أكثر من ارتباطها بالجانب النظري المجرد منها ، والله العالم بحقائق أحكامه.

ثانيا : هل الآية مختصة بالمحارب في دار الشرك أو تشمل دار الإسلام؟ جاء في حديث الإمام الصادق عليه‌السلام مما رواه الكليني بإسناده عن سورة بن كليب قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «رجل يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد الحاجة فيلقاه رجل أو يستقفيه فيضربه ويأخذ ثوبه؟ قال : أيّ شيء يقول فيه من قبلكم؟ قلت : يقولون : هذه دغارة معلنة وإنّما المحارب في قرى مشركة ، فقال : أيهما أعظم ؛ حرمة دار الإسلام أو دار الشرك؟ قال : فقلت : دار الإسلام ، فقال : هؤلاء من أهل هذه الآية : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) إلى آخر الآية» (١).

__________________

(١) الكافي ، ج : ٧ ، ص : ٢٤٥ ، رواية : ٢.

١٤٩

ثالثا : اختلف المفسرون والفقهاء في العقوبات المذكورة ، هل هي على سبيل التخيير للحاكم فله أن يختار أي واحد منها ، أو أنّ لكل واحد منها موضعا معينا ، فيكون ذكرها على سبيل الإجمال باعتبار أنّها عقوبة للمحارب وللمفسد ، مع إيكال التفاصيل إلى السنّة النّبويّة؟

ذكر صاحب (مجمع البيان) عن الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق عليه‌السلام ، قال: «إنّما جزاء المحارب على قدر استحقاقه ، فإن قتل فجزاؤه أن يقتل ، وإن قتل وأخذ المال فجزاؤه أن يقتل ويصلب ، وإن أخذ المال ولم يقتل فجزاؤه أن تقطع يده ورجله من خلاف ، وإن أخاف السبيل فقط فإنّما عليه النفي لا غير ، وبه قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والربيع. وعلى هذا ، فإنّ «أو» ليست للإباحة هنا ، وإنّما هي مرتبة الحكم باختلاف الجناية ، وقال الشافعي : إن أخذ المال جهرا كان للإمام صلبه حيا ولم يقتل ، قال : ويحدّ كل واحد بقدر فعله ، فمن وجب عليه القتل والصلب قتل قبل صلبه كراهية تعذيبه ويصلب ثلاثا ثمّ ينزل ، قال أبو عبيد : سألت محمّد بن الحسن عن قوله : (أَوْ يُصَلَّبُوا) فقال : هو أن يصلب حيا ثمّ يطعن بالرماح حتى يقتل ، وهو رأي أبي حنيفة ، فقيل له : هذا مثلة ، قال : المثلة يراد به ، وقيل : معنى «أو» ها هنا للإباحة والتخيير ، أي إن شاء الإمام قتل ، وإن شاء صلب ، وإن شاء نفى ، عن الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد ، وقد روي ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام» (١).

ولسنا هنا في مجال تحديد الرأي الأقرب في هذا التفسير ، ولكن يمكن أن يكون الأقرب إلى ظاهر القرآن هو حمل «أو» على التخيير كما وردت الرّواية في ذلك عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام وذلك في رواية الكافي

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ٢ ، ص : ٢٣٦.

١٥٠

بإسناده إلى جميل بن دراج ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن قول الله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ) إلى آخر الآية ، أيّ شيّء عليه من هذه الحدود الّتي سمى الله عزوجل؟ قال : ذلك إلى الإمام إن شاء قطع ، وإن شاء صلب ، وإن شاء نفى ، وإن شاء قتل ، قلت : النفي إلى أين؟ قال : ينفى من مصر إلى مصر آخر ، وقال : إنّ عليّا عليه‌السلام نفي رجلين من الكوفة إلى البصرة» (١).

وجاء في رواية الكافي عن بريد بن معاوية ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) قال : ذلك إلى الإمام يفعل ما يشاء ، قلت : فمفوّض ذلك إليه؟ قال : لا ، ولكن نحو الجناية» (٢). والظاهر من الرّواية أنّ اختيار الإمام لا بُدّ من أن ينطلق من دراسة طبيعة ما تقتضيه من نوع العقوبة في تأثيرها ، فلا تنافي في الرّوايات الّتي عيّنت لكل نوع من الحرابة عقوبة خاصة. وإن كان المعنى الآخر لا يبتعد عن موازين الصحة في التعبير. والّذي يذهب إليه أصحابنا الإمامية ، أن ينفى من بلد إلى بلد حتّى يتوب ويرجع ، وبه قال ابن عباس والحسن والسدي وسعيد بن جبير وغيرهم ، وإليه ذهب الشافعي. قال أصحابنا : ولا يمكّن من الدخول إلى بلاد الشرك ، ويقاتل المشركون على تمكينهم من الدخول إلى بلادهم حتّى يتوبوا (٣).

وقد جاء في بعض روايات أهل البيت عليه‌السلام أنّ المراد من النفي في الأرض عدم الاستقرار فيها بحيث لا يكون له مقر فيها ، وذلك مما رواه ـ في

__________________

(١) الكافي ، ج : ٧ ، ص : ٢٤٥ ، رواية : ٨.

(٢) م. ن. ، ج : ٧ ، ص : ٢٤٦ ، رواية : ٨.

(٣) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

١٥١

الكافي ـ عن عبيد الله بن إسحاق المدائني عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : سئل عن قول الله عزوجل : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا) الآية ، فما الّذي فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟ فقال : إذا حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا فقتل قتل به ، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإن شهر السيف فحارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا ولم يقتل ولم يأخذ المال ينفى من الأرض ، قال : قلت : كيف ينفى؟ وما حدّ نفيه؟ قال : ينفى من المصر الّذي فعل فيه ما فعل إلى مصر غيره ، ويكتب إلى أهل ذلك المصر أنّه منفيّ فلا تجالسوه ولا تبايعوه ولا تناكحوه ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه ، فيفعل ذلك به سنة ، فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره كتب إليهم بمثل ذلك حتّى تتمّ السنة ، قلت : فإن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها؟ قال : إن توجه إلى أرض الشرك ليدخلها قوتل أهلها (١).

«وقال أبو حنيفة وأصحابه : إنّ النفي هو الحبس والسجن. واحتجوا بأن المسجون يكون بمنزلة المخرج من الدنيا إذا كان ممنوعا من التصرف محولا بينه وبين أهله مع مقاساته الشدائد في الحبس» (٢).

وجاء في كتاب البرهان في تفسير القرآن عن أحمد بن الفضل الخاقاني ، عن آل رزين قال : «قطع الطريق بجولاء على السابلة من الحجاج وغيرهم وأفلت القطاع ، فبلغ الخبر المعتصم ، فكتب إلى العامل بها وتأمر الطريق بذلك فقطع على طرف إذن أمير المؤمنين ثمّ انفلت القطاع ، فإن أنت طلبت هؤلاء وظفرت بهم وإلّا أمرت أن تضرب ألف سوط ثُمّ تصلب بحيث قطع الطريق. قال : وأصلهم العامل حتّى ظفر بهم ، واستوثق منهم ثمّ كتب بذلك

__________________

(١) الكافي ، ج : ٧ ، ص : ٢٤٦ ، رواية : ٨.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٢٣٧.

١٥٢

إلى المعتصم ، فجمع الفقهاء وقال ابن أبي داود : ثمّ سأل الآخرين عن الحكم فيهم ، وأبو جعفر محمّد بن علي الرضا الجواد حاضر فقالوا : سبق حكم الله فيهم في قوله : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ولأمير المؤمنين أن يحكم بأي ذلك شاء فيهم ، فالتفت إلى أبي جعفر عليه‌السلام ، فقال له : ما تقول في ما أجابوا فيه؟ قال : قد تكلم هؤلاء الفقهاء والقاضي بما سمع أمير المؤمنين ، قال : وأخبرني بما عندك. قال : إنّهم قد ضلوا في ما أفتوا به ، والّذي يجب في ذلك أن ينظر أمير المؤمنين في هؤلاء الّذين قطعوا الطريق ، فإن كانوا أخافوا السبيل فقط ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا مالا ، يأمر بإيداعهم الحبس ، فإنّ ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السبيل ، وإن كانوا قد أخافوا السبيل وقتلوا النفس وأخذوا المال أمر بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وصلبهم بعد ذلك ، فكتب إلى العامل بأن يُمثل ذلك فيهم».

والظاهر من هذه الرّواية أنّ الإمام محمّد الجواد عليه‌السلام يفسر النفي من الأرض بإدخالهم السجن بما يوافق أبي حنيفة وأصحابه ، ولعلّ الوجه في ذلك أنّ النفي من الأرض يعني إخراجهم من الأرض الّتي يتحركون فيها ، وهذا مما يتحقق بالحبس باعتبار أنّه يمثّل إبعاد الإنسان عنها ، فلا يراه أحد فيها ولا يرى أحدا فيها. ولكنّ الرّواية ـ على الظاهر ـ ضعيفة لمعارضتها بما دلّ على أنّ المراد بالنفي الإخراج من البلد إلى بلد آخر ، كما أنّ هذا التفسير خلاف الظاهر ، إذ المتبادر من النفي من الأرض إبعاده عنها بإخراجه منها من حيث الأساس ، والله العالم.

أمّا طريقة ثبوت التوبة ـ الّتي هي الندم على الجريمة والعزم على الترك في المستقبل ـ فلا بدّ من الاعتماد فيها على وسائل الإثبات في أمثال هذه الأمور ، ويتحقق ذلك بشهادة عدلين على إعلان التوبة من المحارب أو المفسد

١٥٣

في الأرض في ظروف أو في أمكنة بعثه بشكل إرادي من دون ضغط أو إكراه من أحد.

وربَّما يثبت ذلك بظهور الصلاح في سلوكه ، وتحوّله إلى إنسان صالح مسالم لا يؤذي أحدا ، ولا يتعرض لأيّة تجربة مماثلة لما فعله ، مما يوحي بأنَّه تائب عن الجريمة.

* * *

كيف نفسر «قسوة» هذا التشريع؟

قد تُثار هنا فكرة قسوة هذا التشريع بما لا يتناسب مع صفة الرحمة الّتي يتحدث عنها الإسلام كصفة لازمة لتشريعاته ، وقد سبقت الإشارة في سياق تفسير آيات القصاص إلى ضرورة دراسة «الرحمة» ضمن نطاق تحديد المصلحة الواقعيّة لحياة الإنسان العامة ، والخاصة ، لا نطاق العاطفة المتمثلة في الشفقة كإحساس ذاتي عاطفي ، الأمر الَّذي يجعلنا ندخل في عمليّة توازن ومقارنة بين حجم الجريمة الّتي يقوم بها هؤلاء المحاربون لله ولرسوله المفسدون في الأرض ، وتأثيرها على سلامة المجتمع الَّذي يتعرض للخطر من قبل هؤلاء ، وبين حجم العقاب الَّذي يراد منه أن يكون عنصر ردع للآخرين ، لئلا يتكرر ظهور مثل هذه النماذج البشريّة المجرمة المنحرفة الّتي تُسيء إلى النّاس عند ما تُسيء إلى حدود الله الّتي تنظّم السلامة العامة للمجتمع. ومن هنا ، كان التشريع الإسلامي في تناوله للمشكلة من جذورها يعيش ويتحرك في الواقع الإنساني بحيث لا يحل جانبا من المشكلة دون آخر ، بل يضع حدّا للمعاناة الدّائمة الّتي تنتج عن مثل هذه المشكلات من خلال استئصالها ، فيعيش المجتمع بذلك في راحة ووئام.

١٥٤

(ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) تحقيرا وإبعادا لهم عن ساحة الحياة الكريمة ، فيرتدع بذلك كل من يفكر في هذا الاتجاه ، ويرى لنفسه الكرامة والمنزلة الرفيعة. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) لأنَّهم تمردوا على الله وحاربوه في دينه وفي بلاده وعباده. ولكنَّ الإسلام لا يغلق الباب على هؤلاء ، بل يفتح لهم باب الرحمة بشكل واسع من دون أن يؤدي ذلك إلى الاجتراء على سلوك هذا السبيل المنحرف. فقد فرَّق بين نموذجين من هؤلاء : النموذج الَّذي لا يفكر بالتوبة إلَّا بعد إلقاء القبض عليه ومواجهته للعقوبة ، والنموذج الَّذي يتوب وهو يملك حريّة الحركة في الهرب ، والتخلص من العقوبة. فإن الجزاء القاسي في الدنيا والآخرة ينتظر النموذج الأول ، لأنَّ استمراره في الالتزام بخط الجريمة والانحراف إلى اللحظة الّتي يلقى القبض فيها عليه ، يدل على تأصّل الانحراف في شخصيته ، ويوحي بإمكانيّة الامتداد في ممارستها في المستقبل. أمّا النموذج الثاني ، وهو الَّذي أشارت الآية إليه بقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فأولئك هم الَّذين ينالهم الله بالمغفرة والرحمة ، لأنَّهم تابوا من موقع القناعة الحرّة الّتي لا تخضع لضغط ، مما يوحي بأنَّ الجريمة لم تكن إلَّا عرضا طارئا لا عمق ولا امتداد لها في حياته ، ولذلك يعينهم الله على تجاوزها ، لئلا تبقى ـ في داخلهم ـ عنصر قلق وحيرة وضياع ، فيفتح لهم أبواب مغفرته ، وبذلك يشعرون بأنَّ الله يتقبلهم فيبدءون حياة جديدة في ظل المغفرة والرحمة ، تبتعد بهم عن كل ما يرهق حياتهم وحياة الآخرين بالانحراف والخطيئة.

* * *

١٥٥

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣٥)

* * *

معاني المفردات

(اتَّقُوا اللهَ) : أصل الاتقاء في اللغة : الحجز بين الشيئين ، يقال : اتقى السيف بالترس ، ويقال : اتقوا الغريم بحقه ، والمراد به هنا مراقبة الله واتقاء سخطه وعذابه بامتثال أوامره ونواهيه.

(الْوَسِيلَةَ) : من قولهم : توسلت إليه : أي تقربت ، يقال : وسل إليه أي تقرّب ، والمراد بها : الوصلة والقربة ، أي ما يتوسل به إلى رضوان الله أو يقربكم إليه من طاعته.

وقال الراغب : الوسيلة : التوصل إلى الشيء برغبة (١).

وقد يطلق على أعلى منزلة أو درجة في الجنّة ، كما في بعض الأخبار.

وقد جاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : سلوا الله لي الوسيلة فإنَّها درجة في

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٥٦٠.

١٥٦

الجنّة لا ينالها إلَّا عبد واحد وأرجو أن أكون أنا (١). والرِّواية ضعيفة ، ولا مجال لحمل كلمة الوسيلة عليه لأنّها موجهة إلى النّاس للحصول عليها مما يمكن أن تكون لهم جميعا.

* * *

اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) وهذا نداء للمؤمنين كي يتقوا الله ويراقبوه في داخل نفوسهم ، في حركتهم في الحياة ، ولا يكونوا كالَّذين أغلقت قلوبهم عن الله ، وانفتحت للشيطان ، فعاشوا تحت تأثير الشعور بالحريّة في ما يأخذون ويدعون ، من دون رقيب ولا حسيب. وتتحول التقوى بذلك إلى خطّ للفكر وللحياة ، وإلى طابع للشخصيّة ، وعنوان للحركة. (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) ثمَّ عقب ذلك بالطلب إليهم بأن يبتغوا إليه الوسيلة الّتي تُمثّل الوصلة إليه والقرب منه ، وهي كناية عن الطرق الّتي يتحرك فيها الإنسان على أساس من هدى الله ، والغايات الّتي يدعو الله النّاس إلى أن يبلغوها ، من خلال ما يتعاملون به من وسائل وما يخططون له من أهداف ، وذلك بالسير على منهاجه القويم وصراطه المستقيم في أحكامه الّتي شرّعها ، والأعمال الّتي دعا إليها ، والمواقف الّتي حثّ عليها ، وبذلك يصل الإنسان إلى طاعة ربِّه ، لأنَّ الله ليس جسما يحدّه مكان ، ليكون الوصول إليه بالوسائل الماديّة الطبيعيّة ، بل هو فوق ذلك لا يحويه مكان ، ولا يحدّه زمان ، فلا بدَّ للوصول إليه من الاستجابة له في أوامره ونواهيه. وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة في سورة الإسراء : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً* أُولئِكَ الَّذِينَ

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٢٣٨.

١٥٧

يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) [الإسراء : ٥٦ ـ ٥٧] ، وذلك تأكيد للإنسان كي يدقق ويفتش في كل ما حوله ومن حوله من الفرض المتاحة له في علاقاته بالآخرين وخدمته لهم وعمله في حياتهم ، ومن الأشخاص الّذين يُمثّل الارتباط بهم ارتباطا بخط الله لأنّهم يمثلون معاني الحق والعدل والهدى ، ويتحركون في خط القيادة حيث يقودون النّاس إلى القرب من طاعة الله والبعد عن معصيته. إنّه القلق الروحي الإيجابي الّذي يجعل الإنسان يتطلع إلى الله ، ليجعل الحياة كلها خطوات عمليّة تقرّبه إليه وتصله به في مواطن القرب والرحمة والرضوان .. هذا وقد حاول بعض المفسرين أن يستنطق كلمة الوسيلة لتشمل شفاعة الأنبياء والأئمة والأولياء الصالحين ، لاعتبارها نوعا من أنواع التقرّب إلى الله الّذي نص عليه القرآن الكريم ، وبذلك تكون داخلة في المفهوم الواسع لكلمة الوسيلة.

ولكنّنا نلاحظ على ذلك ، أنّ الشفاعة حقيقة قرآنيّة إيمانيّة دلت عليها الآيات القرآنيّة الّتي جعلت الشفاعة لمن ارتضى مكرمة لعباده المقرّبين إليه الّذين أراد الله أن يكرمهم بالشفاعة لمن أراد الله أن يغفر لهم ويرفع درجتهم في الآخرة ، ولا قيمة للحديث عن منافاة ذلك للتوحيد واقترابه من الشرك ، إذ التوسل بهؤلاء المقرّبين طلبا للشفاعة منهم إلى الله ليس توسلا شخصيا موجها إليهم في خصائصهم الذاتية ، بل هو طلب من الله بقضاء الحاجة بكرامتهم عنده وأن يشفعهم به ، بما لهم من درجة الشفاعة إليه من خلال ما جعله من ذلك ، فليس للعبد ـ وإن كان نبيّا ـ أيّ شأن ذاتي أو قدرة شخصيّة في ذلك ، وليس هناك أيّ توجه نحوه ، إلّا من خلال ما جعله الله من ذلك على طريقة استغفار الرسول لهم وطلبه من الله أن يغفر لهم ويقضي حاجتهم على هدى ما جاءت به الآية الكريمة في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النساء : ٦٤] ،

١٥٨

وفي طلب إخوة يوسف من أبيهم يعقوب أن يستغفر لهم : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يوسف : ٩٧ ـ ٩٨].

ولذلك فإنّ التوسل بهذا المعنى يؤكد التوحيد ولا ينافيه. وقد وردت به الرّوايات المتواترة من طرق الشيعة والسنّة ، ولكن سياق الآية لا يشمل هذه القضية ، لأنّها واردة في مقام تأكيد الارتباط بالله من حيث الإخلاص في العبوديّة له ، والاستقامة على خط العمل في مواقع رضاه والابتعاد عن مواقع سخطه ، وهذا ما توحي به كلمة التقوى والجهاد في الله حق جهاده ، مما يجعل المسألة منفتحة على الله في حركة الإنسان نحو السبل الّتي تقربه إليه ، وتدفع به نحو الوصول إلى الفلاح في الدنيا والآخرة. وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام في نهج البلاغة في قوله : «إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى الله سبحانه وتعالى ، الإيمان به وبرسوله ، والجهاد في سبيله ، فإنّه ذروة الإسلام ، وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة ، وإقام الصّلاة فإنّها الملّة ، وإيتاء الزّكاة فإنّها فريضة واجبة ، وصوم شهر رمضان فإنّه جنّة من العقاب ، وحجّ البيت واعتماره فإنّهما ينفيان الفقر ويرحضان (١) الذّنب ، وصلة الرّحم فإنّها مثراة (٢) في المال ومنسأة (٣) في الأجل ، وصدقة السّرّ فإنّها تكفّر الخطيئة ، وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السّوء ، وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان» (٤).

وإذا كان للشخص دور في معنى الوسيلة ، فإنّ دوره هو أن يقرب العباد إلى الله بالدعوة والموعظة والتسليم والتزكية والاتجاه بالإنسان إلى

__________________

(١) يرحضان : يغسلان.

(٢) مثراة : مكثرة.

(٣) منسأة : مطيلة.

(٤) نهج البلاغة ، ص : ١٦٣ ، خطبة : ١١٠.

١٥٩

الصراط المستقيم ، ليكون التقرّب إلى الله به بالعمل على طاعته ، وهذا ما أشار إليه العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان تعليقا على ما ورد في تفسير القمي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قال : فقال : تقربوا إليه بالإمام. أقول : أي بطاعته فهو من قبيل الجري والانطباق على المصداق (١). وعلى هذا ، فإنّ ملاحظته تلتقي بملاحظتنا من أنّها ليست واردة في التوسل. والله العالم.

وينطلق نداء الدّعوة إلى الجهاد في سبيل الله ، (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) ليكمل الصورة الحيّة للشخصيّة المؤمنة ، ليتحول خط التقوى إلى معاناة شاقة وجهاد شديد ، بالمال والنفس ، وبكل الطاقات الّتي تتحرك في نطاق قدرته بمختلف الأساليب الّتي يتبعها المجاهدون في جهادهم ، مما يبني حياة الإنسان على قاعدة صلبة ثابتة لا مجال فيها لاهتزاز ، ولا موضوع فيها لانحراف ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وذلك هو سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٥ ، ص : ٣٤١.

١٦٠