تفسير من وحي القرآن - ج ٨

السيد محمد حسين فضل الله

ولله ملك السماوات والأرض

قل يا محمّد ، (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ويمنعه في إرادته الّتي لا تنفك عن حصول المراد (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) فهل يملك هذا الإنسان الموصوف بالألوهيّة في اتحاد الله به وتجسده في ذاته أن يدفع الهلاك عن نفسه وعن أمّه ، فيموت ـ هو وأمّه ـ كما يموت النّاس؟! (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) فهل يستطيعون منع الله من إهلاكهم ، فكيف يمكن ادعاء الألوهيّة لبشر لا يقدر على الدفاع عن نفسه وعن أقرب النّاس إليه ، في الوقت الّذي لا يختلف فيه عن أيّ بشر في أنّه مسخّر مغلوب على أمره لا يملك من أمره شيئا ، إلّا ما ملّكه الله خالقه ، (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) فهو ـ وحده ـ الّذي له السلطة المطلقة على الكون كلّه من موقع أنّه المالك له بجميع موجوداته النامية والحيّة والجامدة ، والمدبر لها والمحيط بجميع شؤونها ، والمهيمن على الأمر كلّه ، (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) بإرادته الّتي لا يعجزها شيء ، فقد خلق آدم من طين من دون أب وأمّ ، وهو لا يمثل النوع الإنساني كله ، وبقدرته خلق عيسى من أمّ دون أب ، مما يدل على شموليّة قدرته وتنوع إرادته ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو القادر على الخلق لمن أراد كيف أراد ، وهو القادر على الإهلاك في أيّة حالة ولأيّ مخلوق لأنّ قدرته لا حدّ لها ، فهي القدرة المطلقة على كل شيء ، وهو الله وحده لا شريك له في أمره وفي قدرته.

* * *

١٠١

الآية

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٨)

* * *

معاني المفردات

(وَأَحِبَّاؤُهُ) : الأحباء : جمع الحبيب ، والحب : المحبة ، وقد يكون بمعنى الإرادة ، وقد يكون بمعنى الشهوة ، وقد يستعمل في كل واحد منهما ، يقال : أحب استقامة أمورك ، وأحب جاريتي.

* * *

مناسبة النزول

جاء في الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي بإسناده عن ابن عباس قال : «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن أبيّ ، وبحريّ بن عمرو ، وشاس بن عديّ ،

١٠٢

فكلمهم وكلموه ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوّفنا يا محمّد ، نحن والله أبناء الله وأحباؤه ، كقول النصارى ، فأنزل الله فيهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١).

* * *

زعم اليهود والنصارى أنهم أحباء الله

يزعم اليهود والنّصارى أنّهم أولياء الله وأحباؤه ، وأنّهم شعب الله المختار ، وأنّهم أقرب النّاس إليه من دون غيرهم ، وأنّ الآخرة لهم وحدهم.

ويثير القرآن هذه النقطة المتأصّلة في تفكيرهم ، واضعا إياها على طاولة النقاش الهادىء ، فيطالبهم ، أولا ، بالبرهان على صدق دعواهم هذه ، ويؤكد ثانيا ، على المقياس الّذي جعله الله أساسا للقرب والبعد عنه ، وبالتالي لغضبه ورضاه ، وذلك بالعمل بأوامره وترك نواهيه ، من دون فرق بين اليهود والنّصارى وغيرهم ، فليس لله أيّة علاقة خاصة بأيّ أحد من خلقه ، بل النّاس كلهم عبيد له لا يفضّل إنسانا على إنسان إلّا بالتقوى والعمل الصالح ، مهما كانت درجته أو كان نسبه.

وقد جاءت هذه الآية لتشجب فكرتهم من خلال التساؤل عن السبب في عذاب الله لهم بما اقترفوه من ذنوب إذا كانوا من أحبائه وأوليائه ، إذ إنّ الله لا يعذّب من كانت له هذه الدرجة عنده. ثمّ يطرح الفكرة الحاسمة الّتي تجعل النّاس سواسية أمامه في الطاعة والمعصية ، وفي العقاب والثواب ، فله السلطة المطلقة في المغفرة لمن يشاء ، والعذاب لمن يريد ، من دون أن يعطي امتيازا

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٣ ، ص : ٤٤.

١٠٣

لأي إنسان خارج نطاق إرادته وحكمته. ويقرّب المحسن إليه ، فلا وليّ ولا نصير من دون الله لأي أحد ، مهما كانت صفته أو قيمته ، مسيحيّا كان أو يهوديا أو مسلما ، تلك هي الحقيقة ، وما عداها ، كله أحلام لا أساس لها من الواقع ، ولا قرابة لها بالحق.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فإذا لم نكن أبناءه بالجسد لأنّ الله لم يلدنا كما يلد الأب أولاده ، فإنّنا أبناؤه بالمعنى الروحي (١) الّذي يجعلنا أقرب إليه من غيرنا ، كما هو حال الأبناء بالنسبة إلى أبيهم ، فإنّه يعاملهم بما لا يعامل به الآخرين في رعايته لهم ، وعطفه عليهم ، وانفتاحهم عليه ، فيتقبّل منهم ما لا يتقبله من غيرهم في أوضاعهم السببية معه ، ويمنحهم ما لا يمنحه لغيرهم في مبادراته الإيجابيّة ، ولا يهملهم ، في بعض الظروف الّتي تدفع إلى الإهمال ، بما يهمل به غيرهم. ونحن أحباؤه الّذين لنا عنده منزلة خاصة من المحبة مما لا يملكه أحد غيرنا من خلقه ، ولذلك فإنّنا لا نخاف من عذابه ، ولا نخشى نقمته ، لأنّ الأدب لا يعذب أبناءه ، والمحبّ لا ينتقم من أحبائه ، فلنا الحريّة في ما نفعل أو نترك في الدنيا لأنّنا فوق القانون ، فلا نتعرض لما يتعرض له المخالفون له.

* * *

الله يدحض دعواهم الباطلة

(قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) فالله قد قضى بعذاب الّذين ينحرفون عن خطّه المستقيم ، ويحرفون الكلم عن مواضعه ، ويتمردون على رسله ،

__________________

(١) جاء في إنجيل يوحنا : [الكتاب المقدس ، إنجيل : يوحنا ، الإصحاح : ٨ ، الآية : ٤١ ـ ٤٢ ، ص : ١٦٢] ، قال عيسى عليه‌السلام في خطابه لليهود : «أنتم تعملون أعمال أبيكم. فقالوا له : إنّنا لم نُولد من زنى : لنا أب واحد وهو الله. فقال لهم يسوع : لو كان الله أباكم لكنتم تحبّونني لأنّي خرجت من قبل الله وأتيت. لأنّي لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني».

١٠٤

ويعصمون أوامره ونواهيه ، ويقتلون الأنبياء بغير حقَّ ، أيّا كان الانتماء الاسميّ لأمثال هؤلاء ، كما قال تعالى في آية أخرى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) [النساء : ١٢٣]. وهذا هو الخط الإلهي في علاقته بعباده ، فلا قرابة بينه وبين أحد منهم ، إذ لا تنال الكرامة عنده إلّا بالتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣]. ولا فرق في قضاء الله بالعذاب بين الدنيا والآخرة ، وقد عذّب الله بعض أهل الكتاب ـ وهم اليهود ـ بمختلف ألوان العذاب في أكثر من مرحلة من مراحل تاريخهم ، فقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وخضعوا لأكثر من سلطة ظالمة ، وقاموا بقتل أنفسهم وتخريب بلادهم بأيديهم ، وهكذا عاش النّصارى في أكثر من مشكلة داخليّة أو خارجيّة من البلاء المتنوّع في حياتهم العامّة والخاصة.

وإذا كان مثل هذا البلاء أمرا طبيعيّا ناشئا من التعقيدات المتجسدة في الواقع الّذي عاشوه ، ومن الظروف الموضوعيّة المحيطة بهم ، فإنّ العذاب الدنيوي لا ينفصل عن أسبابه الطبيعيّة ، لأنّ الله ينزل عذابه ليذيقهم بعض الّذي عملوه بحسب السّنة الإلهيّة ، في علاقة المسببات بأسبابها ، الأمر الّذي يجعل من البلاء في بعض الحياة عذابا إلهيّا من خلال ما يقدره الله من ذلك ، عند ما يترك للأسباب أن تنفتح على مسبباتها من دون أن يتدخل ـ بشكل غير عادي ـ لرفع ذلك عنهم بما يرحم به بعض عباده في أسباب غير عاديّة.

وهكذا تتأكد الآية من خلال إقرارهم بأنّهم معرّضون لعذاب الله ، كما ينقل عن اليهود بأنّهم يعذبون أربعين يوما عدد الأيام الّتي عبدوا فيها العجل.

وعلى ضوء ذلك ، فإنّ الحجّة الإلهيّة تردّ عليهم بأنّ دعواهم لو كانت صادقة ، فكيف يؤاخذهم الله بما يؤاخذ به بقيّة النّاس في العذاب الّذي ينزل

١٠٥

بهم بسبب أفعالهم السيئة؟! (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) فلا ميزة لكم على أيّ إنسان آخر من خلق الله من ناحية ذاتيّة أو من امتيازات إلهية ، (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) المغفرة له بحكمته ، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) بحسب استحقاقه له ، ولله الأمر في ذلك كله من قبل ومن بعد ، ولا أمر لغيره ، (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) بكل ما تشتمل عليه من موجودات ومخلوقات ، فليس لأحد عليه حقٌّ في ذاته ، ولا يملك أحد معه شيئا ، وليس هناك أيّة علاقة ذاتيّة بينه وبين أحد من خلقه ، ليكون هذا ابنا أو حبيبا من خلال طبيعته الشخصيّة أو العائليّة أو الفئويّة .. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فهو الّذي يحدد للنّاس مصيرهم في الجنّة أو النّار على أساس ما يحاسبهم به ، وهو الّذي يتصرّف في أمورهم بما يشاء ، وهو الّذي يملك كل مصيرهم.

* * *

١٠٦

الآية

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٩)

* * *

معاني المفردات

(فَتْرَةٍ) : الفترة : فعلة ، من فتر عن عمله يفتر فتورا : إذا سكن فيه ، وفترته عنه. والفترة : انقطاع ما بين النبيين عند جميع المفسرين. والأصل فيها : الانقطاع عمّا كان الأمر عليه من الجدّ في العمل ، وفتر الماء إذا انقطع عمّا كان عليه من البرد إلى السخونة ، وامرأة فاترة الطرف ، أي منقطعة عن حدّة النظر.

* * *

١٠٧

مناسبة النزول

جاء في الدر المنثور ـ للسيوطي ـ بإسناده عن ابن عباس قال : «دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهود إلى الإسلام فرغبهم فيه وحذرهم ، فأبوا عليه ، فقال لهم معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب : يا معشر يهود ، اتقوا الله ، فو الله إنّكم لتعلمون أنّه رسول الله ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته ، فقال رافع بن حريمة ووهب بن يهودا : ما قلنا لكم هذا ، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى ، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده ، فأنزل الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)» (١).

وقد نلاحظ على هذه الرّواية ، أنّ الآية ليست ظاهرة ـ بحسب سياقها ـ في أسلوب رد الفعل على ما قاله اليهود ، بل هي ظاهرة في التأكيد على إقامة الحجّة على النّاس بإرسال النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليكون بشيرا ونذيرا حتّى لا يقولوا ما جاءنا بشير ، فلا حجّة علينا في مسألة الإيمان والعمل ، في حين أن المسألة التي تثيرها الرواية تتعلق بمسألة ختم النبوّة بموسى عليه‌السلام أو عدم ختمها به. والله العالم.

* * *

إلقاء الحجة على أهل الكتاب بمجيء البشير والنذير

ويأتي النداء من جديد إلى أهل الكتاب تذكيرا لهم بأنّ الرسالات لا تتجمّد عند حدود فترة معينة من الزمن ، وأنّ الرسل لا يغيبون عن ساحة الحياة ما دامت الحاجة إليهم ملحّة ، وأنّ الله ـ برحمته ـ لا يغفل عباده ولا يبعدهم

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٣ ، ص : ٤٥.

١٠٨

عن لطفه وعنايته ، إذا عاشوا بعض ألوان الضياع ، واندفعوا في أجواء الغفلة عنه وعن رسالاته ، وقد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد غياب طويل للرسل ، ليبيّن للنّاس ما جهلوه ، ويفصّل لهم إجمال ما عرفوه ، ويخطط لهم الطريق إلى الله من جديد على أساس من وحي الله ، ويبشرهم ثوابه في جنته ، وينذرهم عقابه في ناره ، لئلا يتعلل النّاس بالفراغ من البشير والنذير ، فيتمرّدون ويبررون كل انحراف ـ باسم الجهل والغفلة ـ فهذا هو البشير النذير ، فاستجيبوا له ، لأنّ الاستجابة له تمثل الاستجابة لله الّذي هو على كل شيء قدير.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ) الّذين تملكون في الكتاب الّذي أنزله الله عليكم قاعدة معرفة الحجّة الّتي يحتجّ الله بها على عباده في إنزال الرسل ، مما يفرض عليكم تأمله بوحي من العقل الواعي المؤمن لا بوحي من العصبيّة العمياء الّتي تبادر إلى الإنكار من دون أساس ، (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) الّذي أرسلناه للنّاس كافة ـ وأنتم من بينهم ـ وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يُبَيِّنُ لَكُمْ) يوضح لكم أسس العقيدة وامتدادات الشريعة ومناهج الفكر والعمل ، ممّا أنزل الله عليه من وحيه ، وحباه بعلمه ، واصطفاه لرسالته ، فكان النبيّ المعلّم المبيّن للحق كله ، (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي على انقطاع منهم ، فقد غاب الرسل عن الساحة مدّة طويلة بحيث كاد النّاس ينسون دين الله ورسالاته. وقد اختلف المفسرون في مقدار هذه المدّة ، فجاء عن قتادة قوله ـ على ما روي عنه : «كان بين عيسى ومحمّد خمسمائة سنة وستون ، وفي رواية أخرى عنه قال : وكانت الفترة بين عيسى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ذكر لنا أنّها كانت ستمائة سنة أو ما شاء الله من ذلك ، وقال معمر ، قال الكلبي : خمسمائة سنة وأربعون سنة ، وعن ابن جريج : كانت الفترة خمسمائة سنة ، وعن الضحّاك : قال : كانت الفترة بين عيسى ومحمّد أربعمائة سنة وبعضا وثلاثين سنة» (١).

__________________

(١) م. س. ، ج : ٣ ، ص : ٤٥ ـ ٤٦.

١٠٩

وجاء في الكافي ـ للكليني ـ بإسناده عن أبي الربيع قال : «حججنا مع أبي جعفر عليه‌السلام في السنة الّتي كان حجّ فيها هشام بن عبد الملك ، وكان معه نافع ـ مولى عمر بن الخطاب ـ فنظر نافع إلى أبي جعفر عليه‌السلام في ركن البيت وقد اجتمع عليه النّاس ، فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الّذي قد تداكّ عليه النّاس؟ فقال : هذا نبيّ أهل الكوفة ، هذا محمّد بن عليّ. فقال : أشهد لآتينّه فلأسألنّه عن مسائل لا يجيبني فيها إلّا نبيّ أو ابن نبيّ أو وصي نبيّ. قال : فاذهب إليه وسله ، لعلك تخجله. فجاءنا نافع حتّى اتكأ على النّاس ثمّ أشرف على أبي جعفر عليه‌السلام فقال : يا محمّد بن عليّ ، إنّي قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وقد عرفت حلالها وحرامها ، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلّا نبيّ أو وصي نبيّ أو ابن نبيّ ، قال : فرفع أبو جعفر عليه‌السلام رأسه فقال : سل عمّا بدا لك ، فقال : أخبرني كم بين عيسى وبين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سنة؟ قال : أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال : أخبرني بالقولين جميعا ، قال : أمّا في قولي فخمسمائة سنة ، وأمّا في قولك فستمائة سنة» (١).

والظاهر من هذا الحديث أنّ المشهور عند المسلمين ـ غير الشيعة ـ رقم الستمائة.

(أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) أي لئلا تقولوا في يوم القيامة عند ما تقفون للحساب ، لم تقم علينا الحجّة في الزمن الّذي عشنا فيه ، لأنّ الله لم يرسل لنا رسولا يعرفنا على ما أسرفنا فيه على أنفسنا من السيئات ، (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ) يبشركم بنعمة من الله ورضوان وجنّة فيها نعيم مقيم ، (نَذِيرٍ) ينذركم بعذاب الله ، في ناره ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو الّذي يملك إرسال الرسل متى شاء ، وانقطاعهم في فترة من الزمن ـ كما يشاء.

__________________

(١) الكافي ، ج : ٨ ، ص : ١٢٠ ، باب : ٨ ، رواية : ٩٣.

١١٠

وربّما يثأر سؤال :

كيف يمكن أن يترك الله النّاس بدون رسول يبشرهم وينذرهم فترة من الزمن قد تناهز الخمسمائة سنة أو تزيد ، وهل هذا إلّا إهمال الخالق لخلقه في الوقت الّذي يحملهم فيه مسئوليّة انحرافهم عن الخطّ المستقيم؟

والجواب : إنّ الله لم يهمل خلقه بل إنّه أنزل عليهم الرسالة الشاملة وهي رسالة موسى وعيسى في التوراة والإنجيل ، وأراد لهم الأخذ بها وإطاعة أوامرها ونواهيها ، والتعبّد له من خلالها. ولم تكن المرحلة مرحلة فراغ من المبلّغين والمرشدين من أوصياء الأنبياء وأوليائهم ، مما يمكن أن تقوم الحجّة بهم على النّاس بالدرجة الّتي يمكن أن يواجهوا المسؤولية فيها بحيث يستحقون الثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة ، ولكنّ المرحلة قد امتدت إلى الفترة الّتي أرسل بها النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث تحوّل الفراغ الرسالي إلى ما يشبه حالة النسيان للنبوات ، والضياع للنّاس ، فكانت الحاجة ماسّة إلى تجديد الرسالة بالرسول الجديد الّذي جاء بالكتاب مصدّقا لما بين يديه من الكتب والرسل ، وأطلق البشارة والإنذار لأهل الكتاب الّذين يعرفون ذلك ، ولغيرهم ممن لا يعرفونه ليهتدوا به إلى الطريق المستقيم. والله العالم.

* * *

١١١

الآيات

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٦)

* * *

١١٢

معاني المفردات

(الْمُقَدَّسَةَ) : التقديس : التطهير ، وقيل للسطل الّذي يتطهر به القدس ، ومنه تسبيح الله وتقديسه وهو تنزيهه عمّا لا يجوز عليه من الصاحبة والولد ، وفعل الظلم والكذب.

(جَبَّارِينَ) : الجبار : هو الّذي لا يُنال إلّا بالقهر ، وأصله في النخل ، وهو ما فات اليد طولا ، والجبّار من النّاس هو الّذي يجبرهم على ما يريد ، والجبر : جبر العظم ، وهو كالإكراه على الصلاح.

والجبّار في صفة الله تعالى صفة تعظيم لأنّه يفيد الاقتدار وهو سبحانه لم يزل جبّارا بمعنى أنّ ذاته تدعو العارف بها إلى تعظيمها ، والجبّار في صفة المخلوقين صفة ذم لأنّه يتعظم بما ليس له ، إذا العظمة لله سبحانه.

(فَافْرُقْ بَيْنَنا) : أي افصل بيننا وبينهم.

(يَتِيهُونَ) : أصل التيه : التحيّر الّذي لا يهتدى لأجله للخروج عن الطريق إلى الغرض المقصود ، والتيهاء من الأرض : هي الّتي لا يهتدى فيها.

(تَأْسَ) : الأسى : الحزن.

* * *

صورة من صور انحراف بني إسرائيل

وهذه صورة حيّة من صور هذا الشعب المنحرف من بني إسرائيل ، فبعد أن خلّصهم الله من فرعون على يد نبيّه موسى عليه‌السلام الّذي كان واحدا منهم

١١٣

أرسله إليهم واصطفاه برسالته ، ليحرّرهم من العبوديّة المتعمّقة في داخلهم من جرّاء استضعاف فرعون لهم ، وذلك عبر قيم الحريّة المتمثّلة في توحيد الله ، والكفر بكل الطغاة والجبابرة من آلهة البشر ، والشعور بالمعنى الإنساني الحرّ لوجودهم.

وانطلق معهم نبيّهم موسى عليه‌السلام بأسلوب الرسالة الّذي يخاطب فيهم إنسانيتهم ، ليوحي إليهم بحسّ الكرامة في ذاتهم ، ويعلمهم أنّ العقيدة والالتزام والطّاعة كلّها لا تمثّل تعليمات يصدرها الكبار إليهم كما تعوّدوا في عهد عبوديتهم لفرعون ، بل هي فكرة وإرادة ومعاناة ، وحركة داخليّة تنطلق في رحاب الكون ، ليتحول جهدها كله إلى فعل إيمان. ولذلك كان يدعوهم إلى التأمّل والتفكّر والتذكّر والقراءة والحوار.

وهو قد خاض معهم الحوار في كل ما يطرأ عليهم من مشاكل ، ليعلّمهم كيف يفكرون ، وكيف يشاركونه الفكر ، ولكنّهم كانوا يبتعدون عنه ، كلما اقترب إليهم ، وبدأوا يتمرّدون عليه في أكثر من موقف ، وذلك بسبب ما اعتادوا عليه من عبوديّة ، فكانوا ينتظرون منه عليه‌السلام أن يعاملهم كما عاملهم فرعون ، فيستضعفهم ويستعبدهم من خلال حكمه ، كي يشعروا بالاستقرار ، وكانوا يعتبرون أنّ معنى خلاصهم من فرعون ، هو أن يعيشوا حالة استرخاء ودعة وطمأنينة بعيدا عن كل أجواء الصراع ومشاكله ، فلم يكونوا مستعدين للقتال ، بل كانوا يتحفزون للهرب عند أول دعوة للمعركة ، ولكنّ شخصيّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تلتقي بشخصيّة فرعون من قريب أو من بعيد ، فإنّ هناك فرقا بين من يريد النّاس لنفسه ، وبين من يريدهم لله ولأنفسهم من موقع صلاحهم ، ولهذا لم يستطع موسى عليه‌السلام النّجاح معهم ، ولم يكن من خطّته أن يحقق النّجاح على هذا المستوى ، لأنّه كان يعمل على تغيير مفاهيمهم وروحيتهم وطريقتهم في التفكير والعمل. ولذلك كانت الموعظة الهادئة والانسجام مع مطاليبهم والعفو عن خطاياهم معه هو السبيل إلى الوصول إلى بعض هذا

١١٤

الهدف الّذي استطاع أن يعطي الساحة بعض النماذج الّتي ارتفعت إلى مستوى الرسالة فعاشت مع موسى آفاقه وأحلامه ...

وتمثّل هذه الآيات أحد نماذج أسلوب موسى معهم في الحوار ، وأسلوبهم في الهزيمة النفسيّة والتمرّد عليه. (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ٢٠] فهو دعاهم إلى فترة من التأمّل ، ليستعيدوا فيها تاريخهم المظلم الغارق بالعبوديّة والظلام ، وليقارنوا بينه وبين تاريخهم الجديد الّذي منحهم الله فيه الحريّة على يد رسوله بالمعجزات الخارقة ، وجعل منهم أنبياء فأكرمهم برسالته وصيّرهم ملوكا ، ورزقهم من النعم ما لم يؤته لأحد من العالمين الّذين عاصروهم. وقد كانت هذه الدعوى منه كي يواجهوا الحاضر والمستقبل من هذا الموقع ، ليرتفعوا إلى المستوى الّذي أراد الله أن يرفعهم إليه ، فيتحملوا مسئوليّة الرسالة معه ، ويعلموا على التحرك من أجل التغيير بقيادته.

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) وكانت القافلة تسير إلى بيت المقدس ، ولاحت لهم الأرض المقدسة من بعيد ، فهي الهدف الّذي عاشوا له من خلال موسى ، فطلب منهم أن يدخلوها ليستقروا وليعيشوا الحكم العادل على أساس النبوّة ، ولكنّهم رفضوا ذلك العرض ، لأنّ الدخول إليها سوف يكلفهم صراعا وقتالا وتضحيات لا يريدونها ، (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) ، فقد كان يحكمها قوم جبّارون ، ولم يكونوا على استعداد للدخول في صراع معهم. ولذلك كان ردّ الفعل لطلب موسى أن قالوا له : إنّ دخولهم معلّق على خروج الجبابرة بهدوء واستسلام ، حتّى إذا خرجوا من دون أن يكلفهم ذلك نقطة دم ، كان الدخول معقولا. وكان هناك رجلان لا ثالث لهما من الّذين يخافون الله ، أنعم الله عليهما بنعمة الإيمان ، وعرفنا ـ من خلال ذلك ـ معنى المسؤوليّة في مواطن التحدّيات ،

١١٥

ووقفا في مواجهة هذا الجمع المهزوم ليقولا له : إنّنا نملك القوّة الّتي تستطيع أن تحكم الفكر والنّاس والحياة ، وكل هذه الأمور من وسائل القوّة الغالبة ، فلندخل الباب عليهم ولنهاجمهم في عقر دارهم ، ليكونوا في موقع الضعف ، ونكون في موقع القوّة ، فإنّ القوم طلاب ملك ونحن جنود رسالة ، وستتغلب الرسالة على الملك إذا أخذت بأسباب القوّة الماديّة ، مضافا إلى ما تملكه من القوّة الروحيّة : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة : ٢٣].

ولكنّ هذه الكلمات ضاعت في هدير الهزيمة وضجيج التخاذل ، وانطلق الصوت المهزوم يتكلم بلغة الهزيمة الّتي تحاول أن تعطي الكلمات صفة القرار الحاسم : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) تلك هي الكلمة الأخيرة الّتي لا تقبل نقاشا ، وامتد الصوت ليعلن الانفصال عن موسى عليه‌السلام ، فهم غير ملزمين بطاعته في القتال ، لأنّهم يحبون الحياة أكثر مما يحبون المقدّسات. (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) أمّا إذا كان موسى عليه‌السلام يحدّثهم عن الله ، ويستعين به عليهم ، ويملأ قلوبهم بالشعور بقوّته ، فليذهب هو وربّه فليقاتلا إذا كانا يريان القتال لازما ، ويريان المعركة منتصرة ، فتلك هي مسئوليتهما لخدمة الرسالة الّتي أرسلها الله وحملها موسى عليه‌السلام ، أمّا هم ؛ جنوده وأتباعه ، فلا مسئوليّة لهم في ذلك كله ، فإنّهم قاعدون منتظرون للنتائج الإيجابيّة أو السلبيّة.

وشعر موسى بالحرج ، فلم يعد لديه أيّة سلطة أو قوّة يمكن أن يمارسها على هؤلاء النّاس ، وكان يريد أن يعذر إلى الله ليخرج من حدود المسؤوليّة ، على رضى من الله ومحبة ، فتوجه إلى الله ليعلن إليه ما يعمله الله من ظروفه : (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) ، ولا أملك أحدا من هؤلاء في ما يملكه القائد من أمر جنوده ، (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ، الّذين خرجوا عن

١١٦

طاعتك وتمردوا على رسولك. وجاءتهم العقوبة الّتي يستحقها الخائفون المهزومون الّذين رفضوا الهدى ، فلا يستأهلون النصر إذا لم يعملوا له ، فكتب الله عليهم أن يظلوا في التيه أربعين سنة ، (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) فلا يملكون دخول الأرض المقدسة ، لأنّهم هم الّذين اختاروا لأنفسهم ذلك ، وسيتحملون متاعب الضياع وأهواله ، وسيعيشون آلام الاهتزاز ومشاكله. وذلك هو مصيرهم الّذي استحقوه نتيجة فسقهم العملي ، فلا تتألم ـ يا موسى ـ من موقع الرحمة في قلبك ، فإنّ هؤلاء لا يستحقون الرحمة ، (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

* * *

وقفات أمام القصة

وقد نحتاج إلى بعض الوقفات في أجواء هذه الآيات

١ ـ ما المراد من قوله : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً)؟ هل المراد المعنى المتبادر من الكلمة أي السلطنة والحاكميّة ، وذلك مما ذكره القرآن في ملوكهم من طالوت فداود إلى غيرهما ، وهذا ما لم يتحقق لبني إسرائيل إلّا لفترة قصيرة ، والظاهر من الآية أنّه قد جعلهم ـ بشكل شامل ـ ملوكا في مقابل قوله تعالى ـ قبل ذلك ـ (جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) ، الأمر الّذي يوحي بأنّ الأنبياء فيهم معدودون ، بينما كلمة الملوك شاملة للجميع ، مما يبعد الكلمة عن هذا الاحتمال ظاهرا؟

أو أنّ المراد ملك المصير والأمر والموقف والموقع ، بحيث باتوا أحرارا بعد أن كانوا مستعبدين ، وباتوا مستقلين بعد أن كانوا أتباعا ، وباتوا في حركة من أمرهم بعد أن كانوا سادرين في الجمود؟

وبكلمة أخرى ، باتوا يملكون شؤون أنفسهم وأمورها بعد ما كانوا

١١٧

مملوكين من فرعون وزبانيته يتصرف فيهم كيفما شاء ، ومتى شاء .. وبذلك باتوا في مقابل الحالة السابقة الّتي كانوا فيها مملوكين. والّذي يجعل هذا المعنى محتملا ، بل وراجحا ، هو عدم المانعية من إطلاق كلمة الملك على من يملك نفسه وظروفه وحركته ومصيره .. لا سيما أنّها في اللغة قد تطلق على السلطان ، وقد تطلق على المالك لزمام الأمور ، أو المالك لشيء خاص.

وقد جاء في تفسير الدر المنثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : «كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا» (١).

وفيه : أخرج أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في قوله : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : زوجة ومسكن وخادم (٢).

إلّا أنّ هذا التفسير لا ينسجم وسياق الآية ، ذلك أنّ الآية واردة في مقام الامتنان على بني إسرائيل ، والامتنان يفيد التخصيص دون الاشتراك ، ولما كان اتخاذ المنازل والنساء والخدم عادة لا تخلو منها أمة من الأمم كما يفيد التاريخ ، لم يعد هذا الأمر أمرا يخص بني إسرائيل حتّى يكون من موارد امتنان الله تعالى عليهم. هذا في جانب ، وفي جانب آخر ، فإنّ إطلاق «الجعل» يتنافى وواقع حال بني إسرائيل أنفسهم ، إذ من البديهي أنّهم لم يكونوا كلهم ذوي منازل ونساء وخدم ، وإنّما كان بعضهم على هذا الوصف دون البعض الآخر.

ولعل التنبه إلى ما تقدم أوجب ورود بعض الرّوايات الّتي تنسب إلى بني إسرائيل أنّهم أول من ملك الخدم ، كما ورد عن قتادة ، وهذا ما يتنافى والتاريخ.

لكن إذا ما كانت هذه الأحاديث ناظرة إلى واقع حال بني إسرائيل الجديد ـ بعيدا عن تفسيرا الآية ـ ثمّ حملت عليها ، عندها تكون في سياق تبيان

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج : ٣ ، ص : ٤٦.

(٢) م. ن. ، ج : ٣ ، ص : ٤٧.

١١٨

المستوى الاقتصادي والاجتماعي لبني إسرائيل.

إذ من الواضح ، أنّ وصف الملك في الأحاديث ، وصف يحاكي مرتبة اقتصادية ـ اجتماعية ، وهو ـ بالتالي ـ وصف ناظر إلى الانقسام الاجتماعي داخل المجتمع الإسرائيلي بين من هم ملوك ، ومن هم دونهم ، وهو بذلك ، إنّما يعكس واقعا اقتصاديا اجتماعيا جديدا لم يكونوا عليه ثمّ عملوا به ، وهذا بدوره يؤثر على جانب من الاستقلالية الذاتية ذات المدخلية الاقتصادية الّتي تجعل الإنسان مالكا لنفسه ، ولا يخفى أنّ الاستعباد غالبا ما يجد طريقه من بوابات الحاجة إلى الآخرين لإشباع الحاجات الذاتية.

٢ ـ ما هي الأرض المقدسة المذكورة في الآية؟

قيل : هي بيت المقدس ، وقيل : هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن ، وقيل : هي أرض الطور وما حولها ، وقيل : هي أرض الشام كلها. وربّما كان هذا القول هو الأقرب للواقع التاريخي ، لأنّها أرض النبوات ، ومهبط الرسالات ، وساحة الأديان التوحيديّة الكبرى ، مما يجعل صفة القداسة الّتي تنطلق من طهارتها من الشرك أكثر التصاقا بها. والله العالم.

٣ ـ ما المقصود من (جَبَّارِينَ) في الآية؟

قيل : إنّهم العمالقة الّذين يتميزون بضخامة الأجسام ، وطولها غير العادي ، حتّى وضعت الأساطير في الحديث عن أحجامهم في العرض والطول ما يشبه الخرافات ، وقد دخلت الإسرائيليات الخرافيّة ـ في هذا الموضوع ـ في الكتب الإسلاميّة ، وقد ذكر المؤرخون في الحديث عنهم ، فقالوا : «كان العمالقة قوما من العنصر السامي يعيشون في شمال جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء وقد هاجموا مصر واستولوا عليها لفترات طويلة ودامت حكومتهم حوالي (٥٠٠) عام منذ عام ٢٢١٣ قبل الميلاد حتّى عام ١٧٠٣ قبل الميلاد» كما جاء في دائرة المعارف لفريد وجدي.

١١٩

ويبدو أنّ قوم موسى كانوا يعيشون الإحساس بالقوّة القاهرة لهؤلاء مما يجعلهم يرتجفون رعبا من التفكير بأنّهم سوف يواجهونهم في ساحة الحرب. وربّما كانوا يحملون بعض الإشاعات الأسطوريّة عنهم مما اعتاد النّاس أن يتحدثوا به عن أرباب القوّة بطريقة المبالغة ، ولهذا كان موقفهم حاسما في رفض الدخول إلى الأرض المقدسة الّتي يسيطر هؤلاء عليها ، من دون التفكير بما يملكونه ـ هم ـ من عناصر القوّة في مقابل ما يعيش فيه العمالقة من عناصر الضعف ، لا سيّما أنّ هؤلاء قد لا يملكون حريّة الحركة في داخل المدينة كنتيجة للتعقيدات الّتي تفرضها ضخامة أجسامهم ، كما أنّ الهجوم المفاجئ قد يهزمهم من ناحية نفسيّة. وتلك هي مشكلة الّذين لا يعيشون الإيمان الواعي بالله والثّقة برسله ، هذا الإيمان الّذي من شأنه أن يوحي بالثّقة بالنفس بما يفرضه من امتلاء العقل والقلب والحركة بالله وتفريغ الذات من الإحساس بقوّة الآخرين ، ولهذا رأينا الرجلين اللذين يخافان الله ، واللّذين أنعم الله عليهما بنعمة الإيمان القوي ، يشجعان تلك الجماعات على الهجوم المباغت متوكلين على الله ، ومنفتحين على عناصر النصر ، من خلال الإيمان به ، وبرسله ، وبنصره ، وأن يكون لديهم ، بالتالي ، ثقة كبيرة بالغلبة عليهم ، لأنّ المسألة هي في امتلاكهم لإرادة النصر والإيمان كي ينصرهم الله تعالى على الآخرين ـ ولو بعد حين ـ.

٤ ـ لقد ورد في سياق قصّة موسى وقومه قوله : (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) حيث يبرز أمامنا سؤال عن المقصود بكلمة (كَتَبَ) فهل المراد بها القضاء بتوطينهم فيها ، أم أنّ المراد بها تمليكها لهم على نحو ما ينادي اليهود الآن بأنّ الأرض المقدسة هي ملك «إسرائيل» باعتبارها وعدا إلهيا؟

إنّ جلّ ما يمكن لنا استيحاؤه من ظاهر قوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أنّ

١٢٠