تفسير من وحي القرآن - ج ٧

السيد محمد حسين فضل الله

الخطيئة هي المعصية التي لا تتجاوز موردها وبالا ، والإثم المعصية التي يستمرّ وبالها كقتل النفس من غير حق.

(لَهَمَّتْ) : الهمّ ما هممت به ، ومنه الهمّة ، والهمام : الملك العظيم.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ قال : أنزلت كلها في قصة واحدة ، وذلك أن رجلا من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر بن الحارث سرق درعا من جار له يقال له قتادة بن النعمان ، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق ، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق ، ثم خبّأها عند رجل من اليهود يقال له زيد بن السمين ، فالتمست الدرع عند طعمة ، فلم توجد عنده ، وحلف لهم والله ما أخذها وما له بها (١) من علم ، فقال أصحاب الدرع : بلى ، والله قد أدلج علينا فأخذها وطلبنا أثره حتى دخل داره ، فرأينا أثر الدقيق ، فلما أن حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي ، فأخذوه ، فقال : دفعها إليّ طعمة بن أبيرق ، وشهد له أناس من اليهود على ذلك ، فقالت بنو ظفر ، وهم قوم طعمة : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكلموه في ذلك ، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم ، وقالوا : إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرىء اليهودي ، فهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفعل ـ وكان هواه معهم ـ وأن يعاقب اليهودي ، حتى أنزل الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) الآيات

__________________

(١) في الأصل «به».

٤٤١

كلها. وهذا قول جماعة من المفسرين (١).

وهناك رواية أخرى ذكرها صاحب مجمع البيان قال : نزلت في بني أبيرق وكانوا ثلاثة إخوة : بشر وبشير ومبشر ، وكان بشير يكنى أبا طعمة ، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم يقول : قاله فلان ، وكانوا أهل حاجة في الجاهلية والإسلام ، فنقب أبو طعمة على عليّة (٢) رفاعة ابن زيد وأخذ له طعاما وسيفا ودرعا ، فشكا ذلك إلى ابن أخيه قتادة بن النعمان ، وكان قتادة بدريّا ، فتجسسا في الدار وسألا أهل الدار في ذلك ، فقال بنو أبيرق : والله ، ما صاحبكم إلا لبيد بن سهل ، رجل ذو حسب ونسب ، فأصلت عليهم لبيد بن سهل سيفه وخرج إليهم وقال : يا بني أبيرق ، أترمونني بالسّرق وأنتم أولى به مني وأنتم منافقون تهجون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنسبون ذلك إلى قريش ، لتبيننّ ذلك أو لأضعنّ سيفي فيكم ، فداروه ، وأتي قتادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن أهل بيت منا أهل بيت سوء عدوا على عمّي فخرقوا عليه له من ظهرها وأصابوا له طعاما وسلاحا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انظروا في شأنكم ، فلما سمع ذلك رجل من بطنهم الذي هم منه يقال له أسير بن عروة ، جمع رجالا من أهل الدار ثم انطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّ قتادة بن النعمان وعمّه عمدا إلى أهل بيت منا لهم حسب ونسب وصلاح وأنّبوهم (٣) بالقبيح وقالوا لهم ما لا ينبغي ، وانصرف ، فلما أتى قتادة رسول الله بعد ذلك ليكلمه ، جبهه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبها شديدا (٤) وقال : عمدت إلى أهل بيت حسب ونسب تأتيهم بالقبيح وتقول لهم ما لا ينبغي ، قال : فقام قتادة من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجع إلى عمه

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ١٠٠.

(٢) العلية : بيت منفصل عن الأرض ببيت أو نحوه.

(٣) أبّنه : عابه وعيّره.

(٤) جبه الرجل : ضربه على جبهته ، ردّ عن حاجته.

٤٤٢

وقال : يا ليتني مت ولم أكن كلمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد قال لي ما كرهت ، فقال عمه رفاعة : الله المستعان ، فنزلت الآيات (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، فبلغ بشيرا ما نزل فيه من القرآن ، فهرب إلى مكة ، وارتد كافرا (١).

* * *

ملاحظات حول روايات النزول

ونلاحظ على هاتين الروايتين أنهما لا تنسجمان مع أخلاقية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعصمته وعدالته وابتعاده عن النطق عن الهوى ، فقد ذكرت الرواية الأولى ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استجاب لأهل السارق المسلم الذين كلموه في الدفاع عن صاحبهم خوفا من ثبوت الحكم عليه وافتضاحه ، وخوفا من تبرئة اليهودي الذي يعلمون ببراءته ، فهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفعل ، لأن هواه كان معهم ، وصمم أن يعاقب اليهودي انسجاما مع هواه ، على حسب إيحاء الرواية ، لولا أن الله سبحانه أنقذه من هذا الموقف الظالم الذي يسيء إلى موقعه الرسالي.

إن الصورة هي صورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا يدقق في الدعوى ولا يطلب عليها شهودا ، بل يستجيب لكلام هؤلاء الناس الذين يهواهم ـ كما تقول الرواية ـ من دون أن يسألهم عن طبيعة الدعوى وعن الأساس في اتهام اليهودي الذي لا تمنع عداوته لله ورسوله أن يعدل النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه ، فيسأله عن دفاعه عن نفسه وعن طبيعة اتهام الآخرين له ، والله يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ١٦٠ ـ ١٦١.

٤٤٣

عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨].

أما الرواية الثانية ، فإنها تصور النبي لنا في الوهلة الأولى ـ عند ما أخبره قتادة بالحادث وقال : انظروا في شأنكم ـ بأنه يدقّق في طبيعة القضايا والبحث عن وسائل الإثبات ، مما يجعله في موقع المنتظر للنتائج من حيث الشهود ، ولكنه عند ما جاءه الرجل الذي هو من بطنهم ، وشكا له قتادة وعمه ، لم يتثبت من صحة الحديث ولم يتأكد من طبيعة المسألة التي سبق لقتادة أن حدثه عنها ، فوبخ قتادة على كلامه مع هؤلاء ، كما لو كانوا أبرياء ، من دون أن يسأله عن ظروف الحديث وطبيعته ، مما جعل قتادة يتمنى موته وجعل عمه يلجأ إلى الله ليستعين به ، لأنه لم يجد هناك من يثبت له حقه ، حتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حسب الرواية.

إن مثل هذا النوع من الروايات يخضع لاجتهادات المفسرين أكثر مما يخضع للروايات الموثقة المباشرة التي تتحدث عن سماع ذلك ، مما يجعلنا نتصور أنهم استنطقوا الآية في مدلولها الحرفي ، ففهموا منها أن الله كان يعاتب نبيّه على دفاعه عن الخائنين وجداله عنهم ، لا سيّما أنه أمره بالاستغفار كما لو كان قد صدر منه ذنب في الانحراف عن خط العدالة والتعاطف مع المنحرفين ، ولكنهم لم ينفتحوا على الأسلوب القرآني الذي يخاطب الأمة من خلال مخاطبته للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تماما كما لو كان هو الذي تتمثل في سلوكه المفردات.

إن القضية هي أن الرواة ، أو المفسرين ، لم يدرسوا شخصية النبي الأخلاقية وعدالته الرسالية التي لا يمكن أن تنجذب إلى أي شخص وضد أي شخص من خلال عاطفة ذاتية متصلة بالنوازع النفسية الخاصة وهو صاحب الخلق العظيم ، ورسول العدل والإحسان ، فكيف يبتعد عن خط العدل وروحية الإحسان!

* * *

٤٤٤

الإسلام يرفض الدفاع عن الخائنين

نحن الآن أمام آيات كريمة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لتعالج حالة معينة من الحالات المقلقة التي كانت تحدث داخل المجتمع الإسلامي ، فتثير بعض المشاعر والانفعالات والأفكار ؛ الإيجابية منها من جهة والسلبيّة منها من جهة أخرى. وكان القرآن ينزل من أجل مواجهة الأفكار والمشاعر السلبية التي كانت تشد الناس إلى جاهليتهم ، وتربطهم بالقيم الفاسدة التي أراد الله لها أن تزول من حياتهم. وتلك هي إحدى وسائل القرآن التربوية ، فقد كان يرصد الوقائع والأحداث التي كانت تمر بالمسلمين ، ليوجههم من خلال الوجهة الصحيحة ، فلا تغرق أفكارهم في بحار الخيال والمثال ، بل يحركونها في حركة الواقع ، عند ما يعيشون المشاكل كأشّد ما تكون إلحاحا وتأثيرا وضغطا على الكيان ، ثم تنطلق الحلول في حجم الواقع ، ليتطابق الحل مع المشكلة على صعيد واحد.

ولهذه الآيات قصة ذكرها المفسرون في أسباب النزول ، وخلاصتها أن أحد المسلمين سرق مالا من شخص مسلّم ، وكان للسارق عشيرة تملك مواقع متقدمة في المجتمع ، وكانت الدلائل التي اتبعها المسلمون ـ أو أرادوا أن يتبعوها في التحقيق ـ تهدي إلى السارق الحقيقي ، واجتمعت عشيرته للتشاور ، وقرروا أن يبعدوا التهمة عنه ، فجاءوا بالمال المسروق ووضعوه عند يهودي هناك ، لتثبت الجريمة عليه ويبرّأ السارق ، وحاولوا أن يخلقوا جوا يوحي بالثقة بالنتائج التي أرادوها أمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ظنا منهم أن يهودية هذا الشخص تساهم في استبعاد دفة الاتهام عن السارق الحقيقي في التحقيق في المسألة ، وتسهّل ـ بالتالي ـ ثبوت التهمة عليه. وقد خيّل إليهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربما يميل إلى ما أرادوه أو ظنوه ، إرادة منه لتبرئة المسلّم على كل حال.

ولكن الله أراد أن يسدّد رسوله ويطلعه على جانب الغيب في المسألة ،

٤٤٥

حتى لا يتوقف أمام الإثباتات الظاهرية للقضية ، على أساس أن القضاء في الإسلام يخضع للبيّنات والأيمان ، فهي الوسائل المطروحة لدى القضاة ، حتى ولو كان النبي هو القاضي ، ولا مسئولية له بعد ذلك في خطأ النتيجة أو صوابها ، ما دام غير مكلّف بأن يعلم الغيب في حقائق الأشياء ، لأنه لا يملك وسائله بشكل ذاتي ، كما أن القضاء لا يغيّر ولا يبدّل شيئا في واقع الموضوع ، فإذا لم يكن للمدعي حقّ في دعوى ، وكانت البيّنة إلى جانبه وحكم القاضي بها ، فإن ذلك لا يحلّ له أكل الباطل في ما انتهت إليه الدعوى. ولكن ذلك جار على الأوضاع العادية في مسائل التحاكم ؛ أما في القضايا التي تتعلق بالخط المستقيم للعدالة بشكل عام ، فإنها ترتبط بالأجواء الداخلية والسلوكية للتصور الإسلامي للعلاقات التي تعطي المسلمين الجوّ الرائع في الأخلاق والسلوك ، في ما يجب أن يتمثلوه ويعيشوه في حياتهم ، كما حدث في هذه القضية التي أراد الله من خلالها تقرير مبادئ عدة في حياة المسلمين العاطفية والاجتماعية ، من أجل أن لا تنحرف عن خط العدالة في ذلك كله.

* * *

الحكم بما يريه الله من الحق

١ ـ (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ). إن الله أنزل الكتاب بالحق ليكون هو القاعدة الفكرية والعملية التي ينطلق منها المؤمنون في تسيير جميع شؤون حياتهم ، فلا مجال لاتباع الآراء والأهواء التي تبتعد عنه ، لأن الله يريد للحياة أن تقوم على أساس الحق الذي يواجه القضايا من منطلق الواقع ، بعيدا عن أية علاقة أو انتماء أو مطمع ... وفي هذا الجو لا بد أن يحكم الحاكم ، في كل المسائل التي تثار أمامه ، بما أراه الله من الحق فلا يتطلع إلى أيّ شيء آخر في ما يدخل في حيثيات حكمه ،

٤٤٦

مهما كانت الظروف والاعتبارات ، والنتائج ، لأن ذلك يمثل انحرافا عن الحق وابتعادا عنه. وهذا هو الخط الذي نستهديه في كل مجالاتنا الفكرية والاجتماعية والسياسية ؛ فإذا كان الكتاب هو الذي أنزله الله بالحق ، فإن علينا أن ننطلق من مفاهيمه وتعاليمه في كل شيء ، وأن ننطلق من أجوائه في منهج التفكير وطريقته.

* * *

الاستغفار وسيلة تربوية روحية

٢ ـ (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) الاستغفار من وسائل التربية الروحية التي يريد الإسلام من الإنسان أن يمارسها بوعي المؤمن الذي قد يرتكب المعصية ، أو وقد يهمّ بها ، أو قد تطوف بخاطره ، أو يعيش في مناخها ... من أجل تحقيق هدفين :

الأول : القرب من الله بعد أن أبعدته تلك الأجواء والمشاعر والأفكار عنه ، لأنه يمثل الإحساس بالذنب في عملية اعتراف وندم وتراجع.

الثاني : الحصول على المناعة الداخلية من خلال الإيحاء بالتأنيب الداخلي للذات وهو في موقع الابتهال إلى الله. وقد يلاحظ الإنسان ويتساءل كيف يوجّه القرآن الخطاب إلى الرسول بالاستغفار ، وهو المعصوم الذي لا تخطر بباله المعصية ، فضلا عن ارتكابها ؛ وقد يجاب عن ذلك بأن الأسلوب القرآني يوحي بالخطاب للأمة من خلال خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمعانا في تأكيد الأهمية للموضوع ، وربما يخطر بالبال أن الاستغفار لا يراد منه معناه الحرفي الذي يدلّ على وقوع الإنسان في الذنب أو حضوره في أجوائه ، بل يقصد منه الابتهال إليه تعالى ليسدّد الإنسان بالابتعاد عن ذلك ، من باب التعبير عن عصمة الله للإنسان بتوفيقه للبعد عن الذنب ، بطريقة الطلب إلى الله أن

٤٤٧

يغفر له ذلك ، كأسلوب من أساليب التعبير عن النتائج بالمقدمات ؛ والله العالم.

* * *

الخيانة مرفوضة بكل أشكالها

٣ ـ (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً).

إن الإسلام يرفض الخيانة من الإنسان بأيّ شكل كانت ، وفي أيّ موقع وجد ، في الحقوق العامة والخاصة من حياة الفرد والمجتمع ، في قضايا المال والحكم والنفس والعرض والعلاقات ... ويؤكد الإسلام ، في رفضه لكل القيم الشريرة ، على أن يتحرك الرفض في الفكر والشعور والعمل ، فلا يعيش الإنسان فكر الخيانة كطريقة يخطط بها الخطط ، ليتحرك الفكر من هذا الموقع ، ولا يرضى له بأن يتعاطف مع الخائنين بالشعور والكلمة والموقف ، لأن المؤمن لا يجتمع في قلبه حب الأمانة وكره الخيانة مع محبة الخائنين ؛ وعلى هذا ، فلا بد من مواجهة الخونة بالموقف السلبي الحاسم الذي يتمثل فيه موقف المواجهة لهم ، وترك الدفاع عنهم ، ومناصرتهم بأية وسيلة كانت ؛ وفي ضوء ذلك ، لا يبيح الإسلام مهنة المحاماة إذا انطلقت في خط الدفاع عن المجرمين.

وقد أكد القرآن هذا الخط في عدة أساليب ، فبدأ بالنهي عن أن يكون المؤمن خصيما ، أي مدافعا عن المؤمنين ، لأن الكتاب يرفض الخيانة ، فلا يجوز للمؤمن أن يدافع عنها بالدفاع عن رموزها ، وإلا كان ذلك انحرافا عن الوقوف عند الحق. واعتبر الخائنين خائنين لأنفسهم ، كما هو خائنون للناس من حولهم ، لأنهم أوقعوا أنفسهم في الهلكة بما مارسوا من الأعمال التي تعرضهم لعذاب الله ، فكيف يجادل الإنسان عن هؤلاء؟ وهل يكون ذلك إلا

٤٤٨

نوعا من أنواع مساعدة الإنسان على خيانة نفسه ، بالتمرّد على إرادة الله ، في الوقت الذي يريد الله للمؤمن أن يساعد العصاة على أنفسهم بهدايتهم إلى سبيل الله في السير على هدى أمره ونهيه؟ ثم تحدثت عن طبيعة العلاقة بين الله وبينهم وبين الخائنين هؤلاء ، فهم من الأشخاص الذين لا يحبهم الله ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) ، فكيف يمكن للإنسان المسلّم أن يحب من لا يحبه الله ، مع أن علامة إيمان المؤمن هي أن يحب من يحبه الله ، ويبغض من يبغضه الله ؛ بحيث يكون شعوره السلبي والإيجابي تبعا لإيمانه ، في ما يوحيه من مشاعر وعواطف؟!

* * *

الله محيط بعمل الإنسان

٤ ـ ويطوف القرآن بالمسلمين في الآفاق الروحية للإيمان التي قد يبتعدون عنها ، في ما يقتربون من أجواء العصبية الجاهلية ؛ فهؤلاء الذين اجتمعوا ليلا ليتداولوا في أمر الخيانة ليبعدوا التهمة عن السارق ويلصقوها بالبريء ، كانوا يحاذرون أن يراهم أحد أو يستمع إليهم ، لأنهم يخشون من الناس على مصالحهم وعلى مكانتهم ، ويخافون من انتقامهم عند انكشاف خطة المؤامرة ، ولم يحسبوا لله حسابا في ذلك كله ، وهو الذي يعلم سرّهم وعلانيتهم ، فكيف يستخفون منه؟ أولا يعيشون الشعور بالحاجة إلى ذلك ، فيلحّ عليهم إلحاحا شديدا في داخل كيانهم ، ليكتشفوا من خلال ذلك أن الإنسان لا يتمكن من أن يستخفي من الله ، مما يدفعه إلى أن لا يفعل ما لا يرضاه ، لأنه مطّلع عليه. (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وهذا ما ينبغي للإنسان المؤمن أن ينفتح عليه في حياته ، من الإحساس العميق بحضور الله في نفسه ، بالمستوى الذي يشعر بإحاطته به من كل جانب ، ليمنعه ذلك من المعصية في ما يفعله أو ما يتركه.

* * *

٤٤٩

الآخرة يوم ظهور الحق

٥ ـ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً).

ما هي فائدة جدالكم عنهم؟ إنكم قد تستطيعون الدفاع عنهم في الدنيا ، فتنقذونهم من عقوباتهم لأنكم تملكون الوسائل المقنعة التي تثبت دعواكم الباطلة بطريقة أو بأخرى ، ولا يملك الحاكم وسيلة العلم بالغيب ليكتشف كذبكم ، ولكن هل ينتهي الأمر عند هذا؟ ألا تؤمنون بالآخرة وعذابها وثوابها ، يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها؟ فهل تستطيعون أن تجادلوا عنهم هناك؟ حيث لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ، ومن الذي يكون عليهم وكيلا ، ليتولى الدفاع عنهم إمام الله؟ إن على الإنسان المؤمن أن يفكر بقضية الأمن والمصير على مستوى الآخرة لا على مستوى الدنيا ، لأن أمر الدنيا زائل بثوابها وعذابها ، أما أمر الآخرة فإلى خلود في كل أجواء النعيم والجحيم ؛ وهذا هو المفهوم الإسلامي الذي يريد أن يوحي للناس ، أن يتجاوزوا حياتهم إلى الحياة الآخرة ، من خلال ما يخوضون فيه من جدال حول القضايا التي يختلف فيها أمر الحق والباطل ، مما يدفعهم إلى مراقبة الله في ذلك كله ، ليكون هو الأساس في النظرة إلى الأشياء.

* * *

رحمة الله واسعة لكلّ توّاب

٦ ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً).

٤٥٠

إن الله يفتح باب رحمته ومغفرته لكل خاطئ ، من مواقع الرحمة التي جعلها لعباده في كل زمان ومكان ؛ وفي ذلك إيحاء للإنسان بأن الخطيئة ليست ضريبة لازمة للخاطئ ، بل هي حالة طارئة يمكنه أن يتجاوزها إلى حيث الطاعة والرضوان بالاستغفار الذي يعبر عن الندم والتوبة وإرادة التغيير ، والتصميم على أن يصحح الإنسان نفسه وطريقه ، كوسيلة من وسائل السمو بالنفس الإنسانية إلى آفاق الله.

* * *

كل نفس بما كسبت رهينة

٧ ـ (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

إن الإنسان يتحمل مسئولية عمله ، في ما يكسبه من آثام وخطايا بكل ما تفرضه من نتائج سلبية على مستوى حياته في الدنيا ، وعلى مستوى مصيره في الآخرة ؛ فإذا كانت القضية تنعكس على شخصيته ، في ما يتصل بأمور الكرامة والشرف ، فإن عشيرته وأولاده وأهل بلده لا يتحملون شيئا من ذلك ، لأن شرف الإنسان يخصه ولا يخص غيره ، من خلال ممارسته. وإذا كانت القضية تنعكس على مصيره في ما يتصل بعذاب الله ، فلا يعذب إنسان لعمل إنسان آخر ، لأن العذاب كان نتيجة كسبه السيئ ، فهو الذي يحمل مسئوليته ؛ وعلى هذا الأساس ينبغي للإنسان أن يواجه مواقفه ليعرف كيف يتحمل مسئوليته أمامها ، وليعي ـ جيدا ـ أن الناس لا يغنون عنه شيئا في قليل أو في كثير ، كما أن أخطاء الآخرين لا تلزمه بشيء ولا تخيفه في شيء ، وعليه أن يراقب الله في كل أموره ، فإنه العليم الحكيم الذي يحيط بكل شيء ويدبّر الأمور بحكمته.

* * *

٤٥١

الإسلام يرفض الظلم والكذب والبهتان

٨ ـ (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

ليس للإنسان المؤمن أن يبرّئ نفسه باتهام غيره البريء ، بل عليه أن يتحمل مسئولية عمله بالالتزام بكل النتائج المترتبة عليه ، من دون فرق بين أن يكون هذا البريء الذي يراد إلصاق التهمة به مسلما أو غير مسلّم ، لأن القضية قضية المبدأ الذي يفرضه الإيمان كموقف في الحياة ، وهو أنه لا يجوز معاقبة أيّ إنسان بريء بما لم يفعله ، ولا يجوز اتهامه حتى لو لم تترتب عليه أية نتائج عملية ؛ لأن ذلك كذب وظلم وبهتان ، والإسلام لا يريد لمجتمعه أن يعيش فيه الناس تحت رحمة الاتهامات الكاذبة والعقد النفسية ، والقوى المسيطرة ، بل يريد للفرد ، مهما كان دينه وعقيدته وموقعه الاجتماعي ، أن يشعر بالأمن والطمأنينة تحت ظل العدل الذي يمارسه الحاكم والمحكوم ، في حماية الحق أينما كان موقعه ، وفي مواجهة الباطل أينما كان مجاله ؛ وبهذه الروح أراد الله لليهودي البريء أن يعيش في حماية الإسلام ، من دون أن يكون ليهوديته أية صفة سلبية ضده في ميزان الحكم بالعدل ، كما أراد للمسلّم السارق أن يأخذ حصته من العقوبة في خط العدل ، من دون أن يكون لإسلامه أية صفة إيجابية في الحكم له بالباطل. إن الإسلام يواجه الواقع في مجالات الحكم على أساس ما هو الحق والباطل ، بعيدا عن أية نظرة إيجابية أو سلبية ، فيمن له الحق أو فيمن عليه الحق.

* * *

٤٥٢

الله تعالى عاصم لنبيه من الضلال

٩ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

هؤلاء الناس الذين يملكون مواقع اجتماعية ، وحصلوا على الثقة لدى الناس في ظاهر أمرهم ، ودخلوا في الإسلام ؛ كانوا يحاولون بمختلف أساليبهم أن يصوروا الأمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما لو كان حقيقة ، من خلال البينات التي أقاموها والأجواء العاطفية التي أثاروها والضغوط النفسية التي حشدوها ، والتي أرادوا من خلالها أن يقنعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببراءة السارق الحقيقي وجريمة البريء لينحرفوا بالقضية من خط الهدى إلى خط الضلال ؛ ولكن الله يلهم نبيّه ـ في الحالات الصعبة التي تمثل جانبا من الخطورة في حركة الإسلام في الحياة ـ ويعرّفه واقع الأمور من خلال الغيب ، ليكشف له وجه الحق ، لأن الاعتماد على الوسائل العادية التي يتبعها القضاء الإسلامي من الإيمان والبينات ، قد تخطئ السبيل إلى النتائج الحقيقية ، في ما يملك الناس أمر التلاعب فيه ؛ وربما كانت بعض المراحل لا تتحمل الخطأ الذي قد تتحمله مراحل أخرى ، مما يستدعي التدخل الغيبي. وهكذا أوحى الله لنبيه بالحق ، فلم يستطع هؤلاء القوم أن ينحرفوا بحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن وجه الحق ، ولكنهم هم الذين ضلوا بانحرافهم في شهاداتهم الباطلة ، وفي دفاعهم عن المجرم واتهامهم للبريء ؛ وذلك من فضل الله ورحمته على رسوله وعلى الأمّة ، كما كان من فضله عليه أن أنزل عليه الكتاب الذي يفصّل له حقائق الحياة ، في ما تريد أن تبلغه من النمو والسمو والتقدم والسّلام ، وأنزل عليه الحكمة ، في ما يتحرك فيه من مواقف قيادية ونظرات عملية يضع فيها الأمور

٤٥٣

في مواضعها ، وألهمه وعلّمه علم ما لم يكن يعلم من كل الأمور التي يحتاج إليها في رسالته من الناحية الفكرية والتطبيقية ، ورفعه أعلى الدرجات ؛ وكان فضل الله عليه عظيما.

وقد نستوحي من هذه الآية أن على الإنسان ، الذي يتحمل أية مسئولية في حياة الناس ، أن ينتبه إلى هذه النماذج القلقة التي تعمل على تضليل القادة وإبعادهم عن خط العدل بمختلف الأساليب والوسائل الضاغطة ، مما يدفعنا إلى التدقيق في طبيعة الطروحات التي يطرحونها والشهادات التي يشهدونها ، ليكتشف الإنسان منها بعض الخفايا الدقيقة من وسائلهم ، لا سيّما في المسائل التي تتصل بصورة العدالة الإسلامية ، مما هو مماثل لهذه القضية التي نزلت هذه الآيات فيها ؛ فإن الناس قد يتحمسون كثيرا لاتهام الأشخاص الذين يخالفونهم في العقيدة ، أو في الاتجاهات المتنوعة التي تقسم الناس إلى فرق وشيع وأحزاب ، كما يعملون على تبرئة الأشخاص المرتبطين بهم بأية صلة عاطفية أو فكرية أو غير ذلك ...

ولا بد لنا ـ في الوقت ذاته ـ أن نثق بالله عند ما نسير على الخط المستقيم ، لنعرف أنه سينقذنا من ضررهم ، فلا يأخذنا الرعب والهلع من مكانتهم الاجتماعية ، في مواجهة كل خططهم الشيطانية بما يحفظ للعدل قوّته ودوره في حفظ مصالح الناس الحقيقية.

* * *

هل الآية دالة على العصمة بمعناها الفلسفي؟

جاء في تفسير الميزان ـ للعلامة الطباطبائي ـ أن الآية وهي قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) تدل على العصمة من حيث إنها توحي بأن الله سبحانه وهب نبيه العصمة ، وهي «سبب شعوري علميّ غير مغلوب البتّة ، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام

٤٥٤

الشعور والإدراك لتسرّب إليها التخلّف ، وخبطت في أثرها أحيانا ، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والإدراكات المتعارفة التي تقبل الاكتساب والتعلّم ، وقد أشار الله تعالى إليه في خطابه الذي خصّ به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه ، إذ لا ذوق لنا في هذا النحو من العلم والشعور ، غير أن الذي يظهر لنا من سائر كلامه تعالى بعض الظهور كقوله : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) [البقرة : ٩٧] وقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥] أن الإنزال المذكور من سنخ العلم ، ويظهر من جهة أخرى أن ذلك من قبيل الوحي والتكليم كما يظهر من قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) [الشورى : ١٣] وقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) [النساء : ١٦٣] وقوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [الأنعام: ٥٠] وقوله : (إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَ) [الأعراف : ٢٠٣]» (١).

ونلاحظ أن دراستنا للآيات المماثلة لهذه الآية توحي بأنّ المراد من العلم الذي لم يكن يعلمه ، هو ما قصه عليه من أخبار الأولين والكتاب والحكمة ، بحيث تكون جملة (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) بمثابة التفسير للجملة الأولى ، للإيحاء بأن ما أنزله الله عليه كان جديدا على وعيه العلمي ، وهذا هو ما جاء في قوله تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩] وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢] فإن الظاهر من الآيتين أنهما تتحدثان عن أن هذا

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٥ ، ص : ٨٠ ـ ٨١.

٤٥٥

العلم الذي وهبه الله لنبيه مما يتعلق بأنباء الغيب والكتاب والإيمان ، لم يكن مما يعلمه النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ذلك ، أمّا تفسير كلمة (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) بروح القدس التي تسدده وتعصمه عن المعصية والخطيئة ، فهو غير ظاهر من الآية ، لا سيما أن الله جعلها موضوعا لوحيه ، مما يدل على أنها من نوع المعرفة التي يلقيها الله بالوحي على نبيه من أمره الذي هو سرّه وشأنه. وعلى كل حال ، فإنه لم يأت بدليل على أن هذا العلم الذي علّمه الله لنبيّه من الأمور التي لا نفقهها ولا ندركها ، باعتبار أنها سرّ الله ، الذي يختلف عن الكتاب والحكمة إلا من جهة العطف بالواو الذي يدل على التغاير ، ولكنه ـ بقرينة الآيات الأخرى ـ ظاهر في العطف التفسيري لبيان نكتة مهمة ، وهي أن ما أوحى به الله إليه لم يكن معلوما عنده.

أمّا الاستدلال عليه بأن مورد الآية ، قضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحوادث الواقعة والدعاوي التي ترفع إليه ، برأيه الخاص ، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء ، وإن كان متوقفا عليها ، بل هو رأيه ونظره الخاص ؛ فهو غير دقيق ، لأن رأيه الخاص ليس حالة ذاتية تنطلق من علم غيبيّ خفيّ لا يعلمه أحد ، لأنه لا يحكم إلا بالوسائل الشرعية التي وضعها الله بين يديه مع مراعاة الخطوط التشريعية التي تمثل الأحكام المتصلة بالقضايا العامة والخاصة للناس ، وهذا هو ما نستوحيه من الحديث المأثور عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إنما أقضي بينكم بالبينات والإيمان وبعضكم ألحن بحجته من بعض ، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له به قطعة من النار» (١) ، مما يوحي بأن ما ذكره العلامة الطباطبائي حجة على اختلاف مدلول قوله تعالى : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) عن الكتاب والحكمة ، غير صحيح ، لا سيما وأننا نعرف أن القضايا التي يختلف فيها الناس تتحرك في دلائلها من خلال الواقع

__________________

(١) الوسائل ، م : ١٨ ، باب : ٢ ، ص : ١٦٩ ، رواية : ١.

٤٥٦

الخارجي الذي تتناثر فيه وقائع الأمور.

إننا نؤكّد عصمة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن دوره الرسالي الذي ينطلق من إرادة الله له تغيير الإنسان على أساس الحق ، لا يمكن أن يتناسب مع بناء شخصية الرسول على غير الحق ، بحيث يمكن أن يعرض لفكره ولعمله.

إن الرسول ليس مجرد مصلح ينطلق من ذاته ليخضع للخطأ والصواب ذاتيا ، بل هو الإنسان التغييري على قاعدة روحية الحق كله في الوعي والممارسة. أمّا الاستدلال عليها بهذه الآية ، فهذا مما لا نفهمه منها ولا دلالة للفظ في الآية عليها ، والله العالم.

* * *

٤٥٧

الآية

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١١٤)

* * *

معاني المفردات

(نَجْواهُمْ) : إسرارهم ، والنجوى المسارّة في الحديث ، وأصلها أن تخلو به في نجوة من الأرض. قال علي بن عيسى : النجوى هو الإسرار عند أهل اللغة ، وقال الزجّاج : النجوى في الكلام ما ينفرد به الجماعة أو الاثنان سرّا كان أو ظاهرا. ومعنى نجوت الشيء في اللغة : خلّصته وألقيته (١).

* * *

لا خير في كثير من نجواهم ...

لقد كانت حادثة السرقة ، التي تقدم الحديث عنها ، منطلقا للحديث عن

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ١٦٦.

٤٥٨

عدة مبادئ تتصل بخصوصياتها وترتبط بالقضايا العامة للناس ؛ ومن هذه المبادئ موضوع التناجي الذي يمثل الحديث بين شخصين أو أكثر ، والذي يأخذ طابع السريّة والتخفّي حذرا من اطلاع أحد آخر عليه. وقد جاءت هذه الآية لتتحدث عن الموضوع في مستوى القاعدة ، فأطلقت الحكم ـ في البداية ـ على سبيل العموم : (* لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ ...) ، لأن السرية في الحديث في المجتمع الذي يرتكز على أسس العصبية أو يخضع لبعض أعراف الجاهلية ورواسبها ، قد تلتقي غالبا بالأفكار الشريرة التي يخشى أصحابها من اطّلاع الناس عليها ، فيحاولون أن يستفيدوا من أجواء السرية التي تشعرهم بالأمن والطمأنينة في الحديث عن كل ما يريدون من أوضاع التآمر على الإسلام والمسلمين. أما الذين يفكرون بالخير ، فإنهم لا يخافون من تحمّل مسئوليته ، ولا يحاذرون من الإعلان عنه أمام الناس ، لأنه يلتقي بالجانب المشرق من حياة الأمة ، وبالأجواء الطاهرة من قضاياها وأمانيها. فليست هناك أية مشكلة طبيعية من هذه الناحية ، إلا في بعض الحالات التي يحتاج فيها الإنسان إلى الإسرار ، حذرا من أعداء الأمة الذين يريدون تعطيل فرص الصلاح والإصلاح للناس.

وهذا هو ما استثناه القرآن في قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ...). ففي موضوع الصدقة التي تمثل جانب العطاء المادي للفئات الكريمة المحرومة التي قد تجد حرجا كبيرا في الإعلان عن حاجتها من خلال إظهار التصدق عليها أمام الناس ، أو التداول في الدعوة إلى إعانتها بين الأغنياء ، قد تمس الحاجة إلى الإسرار بها والتناجي في شأنها حفظا لكرامة الفقراء. أما المعروف ، فهو العنوان الكبير لكل أعمال الخير التي يحبها الله للناس ، في ما أمر به ورغّب فيه ودعا إليه ، مما يفيد الفرد والمجتمع في ما يدخل في الممارسات الشخصية في شؤون الفرد الخاصة ، وفي ما يندرج في الأعمال الاجتماعية التي تتحرك في نطاق العلاقات

٤٥٩

الإنسانية ، أو الأعمال السياسية التي تبني للناس حكم العدل وتهدم حكم الظلم وتطور حياتهم نحو الأفضل ... فقد يكون التناجي بالقضايا المتصلة به والإسرار بخصوصياته وتفاصيله ، مما تدعو إليه الحاجة ، حفاظا على سلامة العمل ونجاح الخطة ، وذلك إذا كان التنفيذ خاضعا لخطّة معيّنة ، فإن أعداء المعروف ـ لا سيّما ما يتصل بالجانب السياسي منه ـ قد يعطلون الخطة التنفيذية إذا اطلعوا على أسرارها وأوضاعها. أما الإصلاح بين الناس ، فهو المبدأ الذي جعله الإسلام في مقدّمة النشاطات المهمّة التي أرادها الله من المسلمين ، حتى جاء الحديث الشريف عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام ...» (١) فقد تمس الحاجة إلى التحرك نحوه في نطاق المفاوضات السرية المعقّدة والمشاورات الخاصة الخفية ، من أجل أن تتجمّع كل خيوط الخطة في يد القائمين بالإصلاح ، حذرا من أن يمسكها أو يمسك بعضها الأشخاص الذين يكرهون ذلك ، بسبب عقدة ذاتية أو بسبب أطماع خاصة أو عامة ...

ثم تنطلق الآية في لفتة روحية تدفع الإنسان إلى أن يمارس هذه الأمور الثلاثة ، طلبا لما عند الله ورغبة في الحصول على رضاه ، لئلا يكون جهده ضائعا إذا سار فيها تبعا لنوازعه الذاتية ، فإن الله يعطي العاملين من أجله أجرا عظيما ... (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أما الذين لا يعملون له ، فليس لهم على الله شيء.

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ١٤ ، ج : ٤٢ ، ص : ١٤٨ ، باب : ١٢٧ ، رواية : ٥١.

٤٦٠