تفسير من وحي القرآن - ج ٧

السيد محمد حسين فضل الله

ومن الممكن أن يكون هذا المعنى ، هو الذي أوجب اختلاف النداءات ، فهناك النداء الذي يبدأ بكلمة (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ، والنداء الذي يبدأ بكلمة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في ما يريده القرآن من الدعوة الى التقوى. فإن هناك أسلوبا يعمل على تحريك النفس الإنسانية على مشاعر الإيمان والتقوى في جانبها الإنساني ، ويقابل ذلك في اتجاه المؤمنين ، أسلوب آخر يخاطب به المؤمنين لاستثارة إيمانهم ، وتحويله إلى قوة فاعلة حية لا تتجمد في المشاعر ، ولا تغيب في أجواء التجريد ؛ للتأكيد على تزاوج الإيمان والعمل في علاقة الإيمان بالفكر والشعور بالعمل في خط الحركة. وفي هذا الجو يستطيع الداعية المسلم أن يفرّق في أسلوبه العملي الذي يريد من خلاله استثارة الآخرين بطريقة النداء ، بين ما يرتبط بالجانب الإنساني الذي يخاطب به جميع الناس ، وبين ما يرتبط بالجانب الإيماني الذي يخاطب به المؤمنين ؛ فلا يخلط بينهما ، حين يفرض فيه التفريق ؛ لأن لذلك دخلا كبيرا في واقعية الأسلوب ومرونته وفاعليته. وربما كان من المفيد ـ في هذا المجال ـ أن لا يشعر بالحرج ، إذا احتاج إلى تجاوز صفة الإيمان في خطابه ، والتأكيد على الصفة الإنسانية ، تبعا لاختلاف المواقف والأشخاص ، لأن ذلك لا يعني إغفالها ، بل يعمل على إغنائها بعنصر إيجابي جديد.

* * *

مدلول التقوى في التربية الإسلامية

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) التقوى هي الدعوة التي يدعو الله إليها عباده في أغلب الآيات ، لممارستها كأسلوب تربويّ في نطاق العمل الإنساني من خلال مراقبة الله والإحساس العميق بوجوده. والفرق كبير بين أن تقول لإنسان ما : اعمل كذا ، وبين أن تدعوه إلى العمل تحت شعار التقوى.

٢١

فالأسلوب الثاني يربط العمل بالله في دوافعه وخطواته ونتائجه ، في حين لا يمثل الأسلوب الأول إلا التأكيد على طبيعة العمل ؛ مما لا يحقّق للإنسان عمقا وحبا للعمل ، بينما يتحقق ذلك من خلال الفاعلية الروحية للتقوى في الحياة. وهذا ما يستهدفه الإسلام في تخطيطه لبناء الشخصية الإسلامية ، في تشريعه الذي يريد أن يجعل من التزام الإنسان بأحكام الله ، حركة يومية تجدّد في داخله الإحساس الدائم بحضور الله ومسئوليته في إطاعة أوامره ونواهيه ، لئلا يكون هناك خلل في داخل الشخصية بين طبيعة الإيمان والعمل ، بل على العكس من ذلك ، يقوم كل منهما لدعم الآخر.

هذا ما يجب أن يركزه في أسلوب التربية للمؤمنين ، لا سيما العاملين منهم ، من أجل الابتعاد عن الجفاف الروحي الذي قد يعانيه المؤمن من جرّاء التأكيد على جانب العمل بعيدا عن روحية التقوى. وقد يكون لذلك قيمة أخرى تربوية ، وهي الحفاظ على حيوية الكلمات القرآنية وتحريكها في حياة الناس ، وتحويلها إلى طاقة فاعلة تمد الإنسان بالتجدد والحركة ، وإبعادها عن المفاهيم الضيقة التي ربما تختزنها في الممارسات المتخلفة ، التي يمارسها المؤمنون في بعض مواقع التخلف ومراحله ، كما حدث لكلمة «التقوى» التي أخذت معنى تقليديا يجعلها من الكلمات المحبوسة في نطاق الأعمال العبادية والأخلاق الفردية ، بعيدا عن حياة الناس العامة. وفي هذا الإطار التربوي ، تبقى الكلمات علامة على الشخصية الإسلامية ورمزا من رموزها ، في حركة تأثر وتأثير في الواقع الداخلي والخارجي للإنسان.

* * *

والتقوى ـ في ما نفهمه ـ هي الإسلام بمعناه الحيّ المتحرك. فقد يمكن لقائل أن يقول : إنها التلخيص العملي لكلمة الإسلام ، لأنها تشمل الجانب الفكري الذي يمثل العمق الداخلي ، والجانب العملي الذي يمثل

٢٢

الحركة الخارجية له ؛ وذلك بأن تنطلق في فكرك وعملك وعاطفتك وعلاقتك وتعاملك مع الآخرين ، من خلال رضا الله في أمره ونهيه في عملية التزام وانضباط ؛ «فلا يفقدك الله حيث أمرك ، ولا يجدك حيث نهاك» ؛ وأن تملك إرادتك في مواقع حركة المبادئ في الحياة ، بين يدي ربّك ، فلا تسقط التزاماتك أمام ضغط شهواتك ومطامعك.

وقد يكون في اختيار كلمة «ربّكم» بدلا من كلمة «الله» ما توحيه الكلمة الأولى من معنى التربية ، التي تجعل من التقوى وجها من وجوه التربية ، يلتقي فيه الإنسان بالله من موقع النمو العملي للشخصية ، وما يستتبعه ذلك من التركيز على نوعية العلاقة بين الإنسان وربه ؛ فليست هي مجرد صلة تنتهي بانتهاء عملية الخلق ، بل هي علاقة متصلة بوجود الإنسان في نموّه الجسدي والعقلي والروحي والعملي. فإذا انسجم الإنسان مع ذلك ، من خلال ما أودعه الله من عقل وأرسله إليه من وحي ، انطلقت التربية في نطاقها الطبيعي. أما إذا تمرّد ، وانطلق مع شهواته ، وترك نداء العقل ؛ كانت النداءات الإلهية في أجواء الترغيب والترهيب له بالمرصاد ، يقرّبه من الجنّة وتبعده عن النار ؛ وكانت الاختيارات بالابتلاءات والصدمات تنتظره في كل مجال ، لترجعه الى عقله وربه.

* * *

ما معنى النفس الواحدة؟

(الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هذه هي الصفة التي يثيرها القرآن أمام التصور الإنساني ، ليتصوره من موقع ارتباطه الوثيق به في عملية الوجود ، مما يجعله يعيش الشعور بالله ، في كل نبضة من نبضات قلبه ، وفي كل خلجة من خلجات مشاعره ، وفي كل حركة من حركات جسمه ، وفي كل

٢٣

مظهر للحياة ، فيمتلئ إحساسا بالله ، كلما تعاظم إحساسه بالحياة ، حيث يجد الله في ذلك كله ، لأنها وجدت به ومنه ، واستمرت من خلاله ، وتستمر بقدرته.

ولكن كيف كانت هذه النفس الواحدة؟ ربما يلوح من بعض المفسرين أن ذلك إشارة إلى الحقيقة الواحدة التي تتمثل في الذكر والأنثى ، لأن الله ـ حين خلقها ـ أبدعها على أساس الزوجية ، فليس هناك ـ حسبما تدل عليه الآية ـ حديث عن آدم في ما يمثله كشخص ووجود عينيّ. وقد لا يكون هذا بعيدا عن جو الآية ، ولكن قد يبتعد عن ظاهرها اللفظي ، فإنّ الظاهر أن الحديث لم يكن عن طبيعة الوجود الإنساني ، بل هو عن بدايته وطريقة استمراره ؛ فهناك مخلوق أول ، خلقه الله في البداية كجسد ، وأودع فيه روحا من روحه. وفي هذا الجو كانت الزوجية طبيعة ذاتية في هذا المخلوق ، ولا بد أن تكون الإشارة في هذا الى آدم وحواء ، على أساس أنهما خلق الله المباشر الذي كان القاعدة الأولى التي انطلق منها التكاثر ؛ وهو ما توحيه فقرة (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) ؛ فإنّ القضية لو كانت كما ذكره ذلك البعض ، لما كان هناك مكان لهذه الفقرة التي تتحدث عن عملية التكاثر من موقع الوحدة.

(وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) كيف نتصور عملية الخلق هذه؟

جاء في بعض الآثار المروية ، أن حواء خلقت من ضلع آدم ، ويدخل البعض في حساب أضلع المرأة وأضلع الرجل ، بعد أن أكد البعض الفكرة بهذه الآية ، على أساس أن المراد من كلمة (زوجها) حواء ؛ ويذهب آخرون إلى أن كلمة الزوج لا يراد منها ذلك ، لأنها تطلق على الذكر والأنثى ، فيقال : فلان زوج فلانة ، كما يقال : فلانة زوج فلان. وبهذا لا يكون المراد من النفس الواحدة آدم ومن زوجها حوّاء. ولكننا استظهرنا من الآية ذلك ،

٢٤

باعتبار أنها واردة في مقام تسلسل الخلق ، دون أن يتم الخلق من ضلع آدم ، فإن الآية لا تدل عليه ؛ بل يمكن أن يتجه النظر نحو الجزء المتبقي من الطينة التي خلق منها آدم. وقد ورد ذلك في حديث عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام في ما رواه في تفسير الميزان ، عن نهج البيان للشيباني ، عن عمرو بن أبي المقدام ، عن أبيه قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام : من أي شيء خلق الله حواء؟ فقال عليه‌السلام : أي شيء يقولون هذا الخلق؟ قلت يقولون : إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم. فقال : كذبوا ، أكان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟ فقلت : جعلت فداك ، من أي شيء خلقها؟ فقال : أخبرني أبي عن آبائه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين ، فخلطها بيمينه ، وكلتا يديه يمين ، فخلق منها آدم وفضلت فضلة من الطين ، فخلق منها حوّاء (١).

ومما يؤكد ذلك أن الله تحدث في آيات أخرى عن الموضوع بطريقة الجمع ، مما يدل على أن المراد من خلق الزوج من نوعه ومن عنصره الأصلي وذلك في قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) [الروم : ٢١] ، وفي قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [النحل : ٧٣] ، فإن من المعلوم من خلال طبيعة التعبير ، أن المراد منه أن الله خلق لكل إنسان من داخل نوعه زوجا ، لا من بعض أعضاء جسده. والله العالم.

هذا في جانب ، وفي جانب آخر فإننا قد نستوحي من عنوان «النفس الواحدة» الرفض القرآني لكل جوانب التمييز العنصري والعرقي واللوني واللغوي والجغرافي ، فإن هذه العناصر المتنوعة لا تمثل عمقا في إنسانية

__________________

(١) ـ الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ـ ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م ، ج : ٤ ، ص : ١٥١.

٢٥

الإنسان المتمثلة في نفس واحدة ، بل هي من الأمور الطارئة في حركة وجوده في خط التنوع الذي يمثل قدرة الله على تنويع الشيء الواحد بألوان وخصائص متعددة ومن دون أن يفقد في تنوعه هذا طبيعته الأصيلة.

وفي ذلك فلا مجال لأن يرى الناس في هذه الخصائص مميزات وأمجادا وعناوين للتفاضل ، فهي ليست خصائص الوجود في العمق ، بل هي من خصائص الشكل والامتداد.

* * *

الشيخ محمد عبده في موضوع النفس الواحدة

جاء في تفسير المنار ـ كما نقله صاحب التفسير الكاشف ـ أنه نقل عن أستاذه الشيخ محمد عبده ، أن الله تعالى قد أبهم أمر النفس التي خلق الناس منها ، وجاء بها نكرة ، فندعها نحن على إبهامها. وما ورد في آيات أخرى من مخاطبته الناس بقوله : (يا بَنِي آدَمَ) لا ينافي هذا؟؟ رأي لا يرفع الإبهام ولا يعدّ نصا قاطعا في كون جميع البشر من أبناء آدم ، إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجّهه إليهم في زمن التنزيل ، هم من أولاد آدم ، وقد تقدم في تفسير قصة آدم في أوائل سورة البقرة أنه كان في الأرض قبله نوع من هذا الجنس ، فسدوا فيها وسفكوا الدماء.

ولكننا نلاحظ على هذا الرأي ، أن الحديث القرآني عن «بني آدم» لم يكن مختصا بزمن التنزيل ، بل هو شامل للإنسان كله كما في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الأعراف : ١٧١] وقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٧٠] وقوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) [الأعراف : ٢٧] فإن هذه الخطابات أو الأحاديث لم

٢٦

تتوجه إلى الناس في زمن الدعوة ، بل هي موجّهة للإنسان كله ، الأمر الذي يوحي أن هذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض هو ابن آدم ، وليس ابن نفس أخرى.

ولا ينافي ذلك ورود بعض الروايات (١) الدالة على وجود مخلوقات مشابهة لهذا الإنسان قبل وجود آدم ، لأن الظاهر ـ على تقدير صحة الرواية ـ أنّ هذا النوع انقرض ولم يعد له دور في الأرض ، ولذلك جعل الله الإنسان الجديد الذي بدأه بآدم خليفة له في الأرض.

وقد تحدثنا في تفسير سورة البقرة أن حديث الملائكة عن مخلوق أرضي يفسد في الأرض ويسفك الدماء لا يدل على وجود تجربة إنسانية سابقة ، فهناك احتمال آخر في التفسير.

* * *

كيف بدأ التكاثر الإنساني؟

(وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) ربما يستظهر من هذه الآية الفكرة التي تقول : إن مصدر التوالد في النوع الإنساني هما آدم وحوّاء ، وليس هناك أي عنصر آخر غير إنساني ، كما تحاول بعض الروايات الإيحاء به ، من أن بداية التناسل في الطبقة الثانية كانت من حورية أو جنية تزوج إحداهما بعض أولاد آدم ، وتزوّج الأخرى بعض آخر. فقد يستفاد من الآية أنه لو كان هذا صحيحا ، لقال : وبث منهما ومن غيرهما. ولكن هذا الاستظهار غير دقيق ،

__________________

(١) جاء في كتاب التوحيد للصدوق نقلا عن تفسير الميزان عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في حديث قال : لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم ، بلى والله ، لقد خلق ألف ألف آدم ، أنتم في آخر أولئك الآدميين. تفسير الميزان ، ج : ٤ : ص : ١٥٠ ـ ١٥١.

٢٧

لأن هذه الفقرة تتحدث عن انطلاق التناسل منهما ، باعتبارهما المصدر الأول ، من دون تعرّض لما حدث بعدهما في خصوصية التزاوج ؛ فلا ظهور لها من هذه الجهة نفيا أو إثباتا.

وربما يتساءل البعض ما إذا كان من الممكن إثارة هذا الموضوع من زاوية أخرى ، غير جهة الاستظهار من الآية ، وهي أن بداية التناسل في الطبقة الثانية ، إذا كانت إنسانية بجميع عناصرها ، كانت القضية منطلقة من زواج الأخ بأخته؟ وهذا أمر مرفوض في الشرائع السماوية ، بل ربما يحاول البعض أن يعتبر الموضوع غير وارد حتى لدى الحيوانات.

والجواب على ذلك :

أن قضية شرعية أية علاقة زوجية وعدم شرعيتها خاضعة لحركة التشريع من ناحية التحليل والتحريم ، من دون أية عوامل ذاتية أو فطرية. وفي ضوء ذلك ، ترتكز الحالة النفسية المضادّة على عناصر التربية ، في ما يلتقي عليه الناس من قيم سلبية مستندة إلى التشريع.

وإذا درسنا طريقة التشريعات السماوية ، فإننا نرى هناك قضايا محرّمة في الشرائع السابقة ، جاءت الشرائع اللاحقة بتحليلها ؛ كما يوحي بذلك ما نقله الله لنا عن عيسى عليه‌السلام ، في قوله الذي نقله القرآن عنه : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [آل عمران : ٥٠] ، وربما كانت هذه الأمور على العكس من ذلك ، في طروء التحريم بعد التحليل ؛ ولعلّ الأساس في هذا الاختلاف هو انطلاق الأحكام من المصالح والمفاسد المحدودة بحدود الزمان والمكان ، والظروف الموضوعية المحيطة بالمسألة المتغيّرة ، تبعا للعوامل المتنوّعة المؤثرة. وهذا هو الذي انطلق منه مبدأ النسخ في التشريع ، في داخل الشريعة الواحدة أو في نطاق الشرائع المتعددة.

٢٨

وفي هذا الجو ، لا نجد هناك مانعا من أن يكون الله ـ سبحانه ـ قد أحلّ للطبقة الأولى من أولاد آدم أن يتزوجوا من بعضهم البعض ، وذلك من أجل الانطلاق بعملية التناسل في نطاقها الطبيعي ، بعيدا عن أية مفسدة في ذلك ، لأن النظام الأسري الذي يفرض بعض الحواجز النفسية في قضية تزاوج الإخوة والأخوات ، لم يكن قد انطلق بعد في حركة الحياة العامة ، لأن المجتمع الذي يعتبر هذا النظام جزءا من حركته ، لم يكن قد ولد بعد ، ثم جاء التحريم بعد ذلك ، لأن المصلحة الداعية إلى التشريع قد انتهت عند هذا الحدّ ، وأصبحت القضية تتحرك في أجواء المفسدة الملزمة ، التي تفرض التشريع المضادّ للحكم بالحلّيّة ، لذلك يمكن اعتبار النظام الاجتماعي ، الذي ربطه التشريع بنظام الأسرة ، قاعدة للحكم بالتحريم الذي قد يراد منه خلق حاجز نفسيّ يمنع الأخ من الزواج بأخته ، ويخلق حالة شعورية مضادة في ما يتعلق بالعلاقات الجنسية بينهما ، مما يمكنهما من العيش في ظل بيت واحد بشكل طبيعي ، من دون خوف من الحالات السلبية في هذا النطاق. ولم يقتصر الأمر على ذلك ، بل تعدّاه إلى التشريع المتحرك في نظام تحريم الزواج بالمحارم. وإذا كان هذا الفهم هو التفسير الطبيعي للموضوع ، فليست هناك مشكلة نبحث لها عن حل.

وقد أكّد هذا المعنى الحديث الوارد عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، في ما رواه الطباطبائي في كتاب الميزان عن الإمام علي بن الحسين ، زين العابدين عليه‌السلام في حديث له مع قرشي ، يصف فيه تزويج هابيل بلوزا أخت قابيل ، وتزويج قابيل بإقليما أخت هابيل. فقال له القرشي : فأولداهما؟ قال : نعم. فقال له القرشي : فهذا فعل المجوس اليوم ، قال : فقال : إن المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله. ثم قال له : لا تنكر هذا ، إنما هي شرائع الله جرت ، أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلّها له؟ فكان ذلك شريعة من

٢٩

شرائعهم ، ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك (١).

* * *

مناقشة نظرية داروين في أهل الإنسان

وقد يثأر في هذا المجال نقطة ثانية ، وهي أن الإنسان لم يخلق إنسانا سويا كاملا ، بل خلق في البداية حيوانا ، ثم مر في مراحل تطورية ، حتى أخذ حجم إنسانيته ومعناها ، على أساس قاعدة التطور التي قررها داروين في نظريته في (أصل الأنواع) التي حاول أن يؤكد فيها شمول النظرية لأبعد من موضوع الإنسان.

* * *

ولكننا نرفض ذلك ، من خلال وجهة النظر الإسلامية التي يمثلها القرآن الكريم ، استنادا إلى مداليل ظهور هذه الآية وغيرها من الآيات المتحدثة عن بداية الخلق ، في ما حدثنا الله عنه من خلق آدم الذي هو الأب الأول للنوع الإنساني ، في الصورة الكاملة ، من حيث الخلق والعقل والإدراك والمسؤولية التامة عن أعماله ، مما يوحي بأن إنسانيته كانت متأصلة في حركة وجوده منذ البداية. ولهذا كانت هذه النظرية منافية للنصوص الدينيّة القرآنية ، ولما ورد في السنة الشريفة ، وما اشتملت عليه من حديث بداية الخلق. هذا من ناحية إسلامية.

__________________

(١) تفسير الميزان ج : ٤ ، ص : ١٥١ ـ ١٥٢.

٣٠

أما من الناحية العلمية الموضوعية ، فقد لا يكون هذا التفسير هو المجال الطبيعي لمناقشتها ، ولكن هناك جانبا لا بد أن نثيره هنا ، وهو أن هذه النظرية قد ارتكزت على أساس التجربة المحدودة التي لا تتسع لكل النماذج الإنسانية ، بل تقتصر على نماذج معينة لا يصح معها تعميم الاستنتاج وإطلاقه. ونضيف إلى ذلك أن هذه التجربة لا تنحصر في تفسير واحد ، بل ربما تتسع لأكثر من ملاحظة أو تفسير يبتعد بها عن مجرى النظرية.

وربما تحدّث بعض الباحثين عن وجود نماذج سابقة في الزمان ، تكشف عن أقدمية الإنسان عن المدى الذي تمثله نماذج داروين ، مما يعني أن عملية الاستنتاج لديه لا تخضع لحسابات دقيقة. ومهما اختلفت الفروض ، فإنّ هناك حقيقة أساسية في ذلك كله ، وهي أن النتائج الحاصلة في هذه النظرية لا تعتبر حقائق علمية ، بل هي فرضيّات ظنية تخضع للحدس والتخمين ، لأنها لا تمنع الاحتمالات المضادة ، من خلال طبيعة التجربة ، أو من خلال الحلقات المفقودة في حركة التجربة ، ولذلك ، فإنّها لا تمثل أساسا علميا في مقابل الوحي الإلهي الذي يمثل الحقيقة الدينيّة.

* * *

العلاقة بالأرحام في الإسلام

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) وجاءت هذه الفقرة آمرة بالتقوى ، تأكيدا للخط الذي يريد الله لعباده السير عليه وينهجوا نهجه. وربما كان في إلحاق كلمة الجلالة ، بقوله (الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) إيحاء بالصلة الوثيقة التي تربط الإنسان بالله ، من جهة مناشدة الآخرين له

٣١

ومساءلتهم إياه بالله ، في ما يطلبونه من حاجات وما يبتغونه من قضايا ، مما يعني مزيدا من الحضور الممتد في وعي الإنسان ، ومن الشعور العميق بمسؤوليته تجاهه ، حتى أن الناس يتوسلون إليه باسمه ، ويستنجحون طلباتهم من خلاله ، الأمر الذي يقتضي المراقبة والمحاسبة التي تقود إلى الانضباط في الانطلاق بالإرادة في خط رضاه. فإذا كانت المساءلة بالله مظهرا للتعظيم ، فإن طاعته وتقواه تعتبر مظهرا أقوى وأكثر تأكيدا.

أما كلمة : (وَالْأَرْحامَ) ، فقد وردت فيها القراءة بالكسر ، وذلك بأن تكون معطوفة على الضمير في كلمة «به» ، على أساس ما يتعارف بين الناس في قول بعضهم لبعض : «أنشدك بالله والرحم ...» ، بحيث تكون متعلقا للمساءلة والمناشدة ، كما كان الأمر كذلك بالنسبة الى الله. وذلك باعتبار أنهما أقرب شيء الى الإنسان ، فإن الله سبحانه هو الخالق ، والرحم هو القريب في النسب.

ولكن الطبري في تفسيره يقول : «وذلك غير فصيح من الكلام عند العرب ، لأنها لا تنسق بظاهر على مكني في الخفض إلا في ضرورة شعر ، وذلك لضيق الشعر ، وأما الكلام فلا شيء يضطرّ المتكلم إلى اختيار المكروه من المنطق والرديء في الإعراب منه. ومما جاء في الشعر من ردّ ظاهر على مكنيّ في حال الخفض قول الشاعر :

نعلّق في مثل السّواري سيوفنا

وما بينها والكعب غوط نفانف

فعطف «الكعب» ، وهو ظاهر ، على الهاء والألف في قوله (بينها) وهي مكنية»(١).

__________________

(١) الطبري ، محمد بن جرير ، جامع البيان ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١٤١٥ ه‍ ـ ١٩٩٥ م ، م : ٣ ، ج : ٤ ، ص : ٣٠٠.

٣٢

ويقول صاحب الميزان ، في هذا الاتجاه : «لكن السياق ودأب القرآن في بياناته لا يلائمانه ، فإن قوله : (وَالْأَرْحامَ) ، إن جعل صلة مستقلة للذي ، وكان تقدير الكلام : واتقوا الله الذي تساءلون بالأرحام ، كان خاليا من الضمير ، وهو غير جائز ، وإن كان المجموع منه ومما قبله صلة واحدة للذي ، كان فيه تسوية بين الله ـ عز اسمه ـ وبين الأرحام في أمر العظمة والعزة وهي تنافي أدب القرآن» (١).

وفي ضوء ذلك ، نلتقي بقراءة النصب في كلمة (وَالْأَرْحامَ) لنختارها باعتبار أنها هي الأرجح والأقرب ، وذلك في ما رواه الضحاك أن ابن عباس كان يقرأ (وَالْأَرْحامَ) على هذا القول : اتقوا الله في الأرحام فصلوها. وعن الربيع قال : (اتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) ، قال : يقول : واتقوا الله في الأرحام فصلوها (٢). وجاء في الحديث عن جميل بن دراج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن قول الله عزوجل : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) قال : هي أرحام الناس. أمر الله تبارك وتعالى بصلتها وعظّمها. ألا ترى أنّه جعلها معه؟» (٣).

* * *

السر في التأكيد على صلة الأرحام

وقد يتساءل الإنسان عن سر هذا التأكيد على الأرحام ، في ما يريد

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٤ ، ص : ١٤٢.

(٢) تفسير البيان ، م : ٣ ، ج : ٤ ، ص : ٣٠١.

(٣) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، م : ٢٦ ، ج : ٧١ ، ص : ٦٤ ، باب : ٣ ، رواية : ٣٦.

٣٣

القرآن أن يوحي به من الاهتمام بصلتها وعدم مقاطعتها واعتبار ذلك قيمة إسلامية. وربما يضيف البعض إلى ذلك أن هذا الاتجاه في العلاقات الإنسانية قد يفسح المجال للعصبية العائلية أن تولد وتتحرّك بما تمثله صلة الرحم من خصوصية شرعية ترقى إلى مستوى القيمة الإسلامية الكبيرة ، وقد يؤدي ذلك إلى المزيد من الانغلاق في داخل النطاق العائلي.

ولكن القضية ـ في ما نفهمه من حكمة التشريع ـ لا تتحرك في هذا الجو ، بل تبتعد عنه ابتعادا كليا ، لأنها تدخل في الفكرة الإسلامية التي تخطّط لتعميق العلاقات الإنسانية وامتدادها ، والعمل على التحرك من أجل تطويق الانفعالات السلبية التي تنمو في النفس ، من خلال حالة التماس المتواصل الذي تفرضه صلة القرابة ، مما قد يؤدي إلى تقاطع شديد وعداوة عميقة ، وذلك إذا حدثت بعض الأوضاع الشاذة في نطاق الأقرباء ، كما نشاهده كثيرا في المشاكل العائلية الصعبة التي تحدث بين ذوي القربى ، بالمستوى الذي يثير الحقد والبغضاء لمدة طويلة ، فأراد الإسلام أن يجعل لهذه العلاقة قاعدتها الروحية ، بالإضافة إلى القاعدة العاطفية الطبيعية التي تفرضها العوامل الذاتية المؤثرة في حركة المشاعر ، حتى يكون ذلك أساسا تربويا للانسجام في خط السيطرة على الأوضاع السلبية ، للحيلولة دون تدهور العلاقات الإنسانية ، لأن الإنسان الذي لا يقدر على امتصاص السلبيات في نوازعه ومشاعره مع الناس الذين يرتبط معهم بصلة الرحم ، فإنه قد لا يكون قادرا على مثل ذلك في علاقته بالناس الآخرين الذين لا يرتبط معهم بصلة في مثل هذا المستوى.

وربما كان هذا الأسلوب الإسلامي في رعاية العلاقات الإنسانية ظاهرة في التشريع ، في جميع الموارد التي تتمثل فيها العلاقات في نطاق التماس المتواصل ، على أساس الرحم تارة ، أو الجوار أخرى ، أو الإيمان في حركة

٣٤

العقيدة الواحدة ثالثة ، فقد نلاحظ أن الأحاديث الواردة في هذه المجالات تؤكد على التواصل حتى في حالات المقاطعة من قبل الآخرين ، وعلى الإحسان حتى في حالات الإساءة ، وعلى العفو والتسامح واللين حتى في مجالات الاعتداء.

وإذا كان هناك من يقول : إن هذه المبادئ تمثل الطابع العام للخلق الإسلامي وليست شيئا خاصا بمثل هذه العلاقات ، فإننا نجيب عن ذلك بالتأكيد على أصل المبدأ ، ولكن مع الملاحظة التالية ، وهي أن إثارة هذه المبادئ في حديث هذه الحالات كان بطريقة أكثر حسما وتأكيدا ، مما يوحي بأن القضية ترقى إلى ما لا ترتقي إليه الأمور الأخرى من الأهمية. فقد جاء في حديث صلة الرحم عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ـ في ما رواه السكوني ـ قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تقطع رحمك وإن قطعتك» (١). وجاء في كتاب الكافي ، عن عنبسة العابد قال : «جاء رجل فشكا إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أقاربه ، فقال له : اكظم غيظك وافعال ، فقال : إنهم يفعلون ويفعلون ، فقال : أتريد أن تكون مثلهم ، فلا ينظر الله إليكم» (٢). وجاء في الحديث عن أبي حمزة الثمالي قال : «قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام في خطبته : أعوذ بالله من الذنوب التي تعجّل الفناء ، فقام إليه عبد الله بن الكوّاء اليشكري فقال : يا أمير المؤمنين أو يكون ذنوب تعجّل الفناء؟ فقال : نعم ويلك ، قطيعة الرحم ، إن أهل البيت ليجتمعون ويتواسون وهم فجرة ، فيرزقهم الله عزوجل ، وإن أهل البيت ليتفرّقون ويقطع بعضهم بعضا ، فيحرمهم الله وهم أتقياء» (٣).

وهكذا نجد أن القضية لا تتحرك من موقع الاختناق في أجواء العصبية

__________________

(١) البحار ، م : ٢٦ ، ج : ٧١ ، باب : ٣ ، ص : ٨٨ ، رواية : ١٠٦.

(٢) الكليني ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، ج : ٢ ، ص : ٣٤٧ ، رواية : ٥.

(٣) البحار ، م : ٢٦ ، ج : ٧١ ، ص : ٨٩ ، باب : ٣ ، رواية : ١٠٧.

٣٥

العائلية ، بل تتحرك في آفاق التأكيد على أصالة العلاقات الإنسانية والعمل على تعميقها وامتدادها الأخلاقي في شخصية الإنسان المسلم ، فلا تخضع للأوضاع السلبية الطارئة في ما تفرزه التشنجات من سلبيات. أما حدود هذه العلاقات ومجالها الحركي وامتدادها في الخط الإنساني ، فتتكفل بها التشريعات الإسلامية التي تضع هذه العلاقات في نطاق التفاصيل الشرعية ، من حيث انسجامها مع الخطوط الأخرى التي تتحرك فيها العلاقات العامة ، كما نواجه ذلك في الخط الإيماني الذي يضع للإنسان المسلم الحدود الفاصلة لعلاقته بالمؤمنين والكافرين في ما يتحفظ به أو في ما ينطلق فيه ، وذلك ما يمثّل الضوابط الثابتة لحركة علاقة الإنسان بأرحامه.

* * *

نقطة منهجية في استخلاص المفاهيم القرآنية

وربما كان من الإخلاص للبحث ـ هنا ـ أن نشير إلى نقطة مهمة جدا في مجال استنباط المفاهيم الإسلامية من المصادر الشرعية في الكتاب والسنّة ، فقد لا يكفي في استخلاص المفاهيم من المصادر الإسلامية أن نأخذ حدودها من حديث واحد أو آية واحدة ، بل لا بد لنا من الدخول في عملية مقارنة بين الأحاديث أو الآيات التي يتعرض كلّ منها لجانب من جوانب الصورة ، لتكتمل الصورة من خلال الموازنة بين جوانبها. وقد وقع الكثيرون في الخطأ من خلال إغفالهم لهذا الجانب ، من خلال ما حاولوه من تحديد المفاهيم العامة في الإسلام ، كما نواجهه في الأبحاث التي تتحدث عن رفض الإسلام للدنيا من خلال أحاديث الزهد ، من دون ملاحظة للأحاديث أو الآيات التي تتحدث عن التشجيع الإيجابي لانطلاق الإنسان مع طيبات الحياة ولذائذها أو بالعكس ، مما يوحي بالبعد عن الصورة الواقعية

٣٦

للمفهوم التي تضع الزهد في نطاقه النفسي الذي يبتعد بالإرادة عن الخضوع للضغوط الشديدة الناشئة من قوة الرغبة ، وتضع الإقبال على الحياة في الموقع المتوازن الذي لا يفقد الحياة معناها الحسي في حساب القيمة الإسلامية ، ولا يدفعها الى الانسياق مع الهوى في اندفاع التيار.

وبكلمة واحدة ، إن الأسلوب الذي جرت عليه الآيات والأحاديث يرتكز على أساس القاعدة التي توحي بالفكرة في مجالها الذاتي في نص خاص ، ثم تضع لها الحدود والأجواء في نص آخر ، مما يفرض الموازنة الدائمة بين النصوص.

* * *

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي حفيظا يحفظ أعمالكم ويراقبها ويرصدها ، الأمر الذي يفرض عليكم الانطلاق في جو هذا الشعور من أجل الانضباط عند خط الله ، فلا تنحرفون عنه في أجواء الغفلة.

٣٧

الآية

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) (٢)

* * *

معاني المفردات

(الْيَتامى) : جمع يتيم من اليتيم وهو ـ كما قال الراغب ـ انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه ، وفي سائر الحيوانات من قبل أمه (١) ، وسماهم ـ في الآية ـ يتامى بعد البلوغ مجازاً ، باعتبار ما كان ، لإلفات النظر إلى مداراتهم ومراعاتهم ، لأنهم فقدوا الرعاية والحماية الأبوية.

(الْخَبِيثَ) : ما يكره رداءة وخساسة محسوسا كان أو معقولا ، وأصله الرديء الدّخلة الجاري مجرى خبث الحديد ، ويطلق على الحرام كما في الآية.

(بِالطَّيِّبِ) : أصله ما تستلذه الحواس وما تستلذّه النفس ، والطعام الطيّب في الشرع ما كان متناولا من حيث ما يجوز ، وبقدر ما يجوز ، ومن

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٥٧٥.

٣٨

المكان الذي يجوز ، فإنه متى كان كذلك كان طيّبا عاجلا وآجلا لا يستوخم ، وإلّا فإنه ، وإن كان طيبا عاجلا ، لم يطب آجلا ـ كما جاء في مفردات الراغب (١) ـ.

(حُوباً) : إثما ، يقال : حاب يحوبُ حوبا ، والاسم : الحوب. وتحوّب من كذا إذا تحرّج وتأثّم منه ، والحوبة : المسكنة والحاجة ، قال الراغب : وحقيقتها هي الحاجة التي تحمل صاحبها على ارتكاب الإثم (٢).

* * *

كيف نتصرف مع الأيتام في أموالهم؟

وهذه نقلة جديدة في أجواء العلاقات الإنسانية ، في ما يمارسه الإنسان من المسؤولية تجاه الأيتام الذين يمثلون الفئة الضعيفة التي تعيش ـ في ذاتها ـ معلّقة في الفراغ ، لأنها فقدت القوة التي تمنحها التماسك والثبات ؛ وذلك في ما يمثله الآباء للأبناء الصغار من معنى الرعاية والحماية والقوة ، في ما يغدقونه عليهم من حنان وعاطفة ، وما يحيطونهم به من عناية واهتمام ، فيصونونهم ـ بذلك ـ من كل عوامل الضعف والقهر المحيطة بهم.

وفي ضوء ذلك ، كان الإسلام حاسما في هذه المسألة التي لا تحتمل المساومة والتهاون ، لأنها تتعلّق بقضية الإنسان الضعيف في الأرض ، الذي أراد الله منحه من عوامل القوة ، فجعل كفالته مسئولية المجتمع ، وحمّل أفراده كل التبعات التي تترتب على ذلك ، وحذّرهم من الانسياق مع نوازع

__________________

(١) (م. س) ، ص : ٣٢١.

(٢) (م. ن) ، ص : ١٣٤.

٣٩

الطمع التي قد يثيرها الشعور بالأمن من العقوبة ، على أساس فقدان القوة الذاتية التي يستطيع اليتيم أن يدافع بها عن نفسه ، وانعدام القوة البديلة التي تتولى التعويض عن ذلك ، حتى لا يمتنعوا عن إعطاء الأيتام أموالهم الموجودة لديهم ، أو يستبدلوا بالجيّد الرديء ، وبالطيب الخبيث للحصول على بعض المنافع والامتيازات ، أو إضافة أموال الأيتام إلى أموالهم ببعض الوسائل غير الشرعية. واعتبر هذه الأعمال إثما كبيرا يستحق الإنسان عليه العقاب الكبير لدى الله.

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) الذين عاشوا في حضانتكم وولايتكم ، فكانت أموالهم في عهدتكم لأجل المحافظة عليها وتنميتها لتسلموها إليهم إذا بلغوا سن الرشد كما يسلّم كل أمين أمانته من دون تغيير أو تبديل (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ) ، والرديء ، (بِالطَّيِّبِ) من مال اليتيم لتجعلوه في حصّته تحت تأثير الادعاء بأن ذلك هو الذي يضمن مصلحته ، بلحاظ أن بقاءه قد يؤدي إلى ضياعه ، لأنه لا فرق بينه وبين الدليل. وهو كناية عن عدم التصرف فيه تصرفا يوجب نقصانه والإساءة إلى ماليته ، لأن الولي أمينٌ على مال اليتيم ، فلا بد له من مراعاة المصلحة في تصرفه عند استبداله بغيره ، فلا يأخذ الخسيس والرديء عوضا عنه ، (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ، أي لا تضمّوها إلى أموالكم ليكون المال كله لكم ، لأنها أمانة الله عندكم ، مما يجعل من ذلك خيانة للأمانة ، من دون فرق في ذلك بين حاجتكم إليها واستغنائكم عنها (إِنَّهُ كانَ حُوباً) ، أي إثما عظيما ، وربما كان في كلمة «الحوب» التي هي على حقيقتها ، كما قال الراغب : «الحاجة التي تحمل صاحبها على ارتكاب الإثم» ، ما يوحي بأن هذا السلوك الخياني ربما كان منطلقا من حاجة الولي القائم على مال اليتيم إلى الأخذ منه ، لأن ذلك هو الغالب في أمثال هذه الموارد ، وربما كانت الكلمة في استعمالاتها العرفية مجردة عن خصوصية هذا المعنى لتأخذ معنى الإثم بشكل مطلق ، والله العالم.

٤٠